طهران وواشنطن: ما هو أبعد من الاتفاق النووي

يُقدم مركز الجزيرة للدراسات هذا الملف الذي يُعِين الباحث والمتابع على الإلمام ببعض جوانب العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وإشكاليات هذه العلاقة وآفاقها المستقبلية من خلال المحاور التالية: أولًا: إيران ما بعد الاتفاق النووي: الأولويات والتوجهات، ثانيًا: الاتفاق النووي: نجاحات وإخفاقات.
52294f855c6e40fab1f28c707498c97c_18.jpg
(الجزيرة)

محرر الملف: فاطمة الصمادي،باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات

   

بينما كانت حدَّة التنافس تتصاعد في الانتخابات الأميركية، بدا لافتًا أن مرشد الثورة الإسلامية، علي خامنئي، لم يتوقف كثيرًا عند استطلاعات الرأي الأميركية بشأن المرشح الأوفر حظًّا، وتجاهل تقدم هيلاري كلينتون في هذه الاستطلاعات مؤكِّدًا أن  دونالد ترامب سيفوز   لصراحته و"شعبويته ".  يخرج هذا الحدس أو التنبؤ من  دائرة غياب الثقة التي لازمت  تقييم خامنئي للاتفاق النووي  ومدى التزام الولايات المتحدة الأميركية ببنوده سواء في فترة الرئيس السابق، باراك أوباما، أو مستقبلًا مع، دونالد ترامب.  

لا يقتصر ملف العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية على الاتفاق النووي، لك نه سيكون العنوان الذي سيتصدر ويحكم مسار العلاقة وإشكالياتها خلال السنوات القادمة، فقد برز تطبيق الاتفاق النووي، وما رافق ذلك من عقبات، إشكاليةً رئيسيةً في العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، في تصريحات وتعليقات صنَّاع القرار الإيرانيين، وفق دراسة حلَّلت جميع التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين بشأن السياسة الخارجية خلال العام 2016 والربع الأول من العام 2017، وبلغ عددها 1403 تصريحات.  

شكَّلت هذه القضية العنوان الأبرز في التصريحات الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأميركية تلاها القدرات العسكرية الإيرانية ثم موضوع الإرهاب والصراع في المنطقة، وهنا نتوقف عند القدرات العسكرية الإيرانية؛ حيث أظهر المسؤولون الإيرانيون في تصريحاتهم التي صدرت عقب الاتفاق النووي حساسية عالية وتحسبًا رافقهما توجس من ضغوط تجبر إيران على الدخول في عملية تفاوضية جديدة عنوانها هذه المرة ليس القدرات النووية بل برنامج إيران الصاروخي. تحدثت التصريحات الإيرانية عن مستقبل مع الولايات المتحدة الأميركية يقوم على التوتر والصراع بنسبة تصل 49%، فيما رجَّح 34% منها حدوث تسويات وحلول سياسية، وتحدث 10% منها عن مستقبل يقوم على حدوث مواجهة مسلحة.  

وفي الربع الأول من العام 2017، فإن المستقبل القائم على التوتر والصراع ظل طاغيًا على تصريحات المسؤولين الإيرانيين فيما يتعلق بالعلاقة مع واشنطن بنسبة وصلت إلى 64%، فيما تراجع الحديث عن مواجهة مسلحة إلى 3%، وأيضًا تراجع الحديث عن مستقبل يقوم على حلول سياسية وتسويات إلى 26% مقارنة بالعام 2016.  

وإذا ما توقفنا لوهلة أمام الدولة التي حلَّت ثانية  بعد الولايات المتحدة الأميركية التي حلَّت في المرتبة الأولى من حيث عدد التصريحات الصادرة عن المسؤولين في طهران نجد أنها العربية السعودية، مع نتائج تعطي مؤشرات كبيرة على أن التوتر والصراع سيحكم مستقبل العلاقة، ولن يكون الحديث الأميركي بإحياء العلاقة مع الحلفاء التقليديين، بعيدًا عن العلاقة مع السعودية وتوظيف العلاقة لـ "لجم إيران" ، مما يرفع حدة التنافس الإقليمي ويذكي جذوة الصراع، ولعل المحاولة السعودية للعودة إلى الساحة السياسية العراقية تأتي تحت مظلة خطة أميركية لاستهداف النفوذ الإيراني في العراق.  

مرَّت السياسية "الترامبية" تجاه الاتفاق النووي، بمراحل بدءًا من حملته الانتخابية وتهديده بتمزيق الاتفاق النووي ، وكذلك ما صدر عن مستشاريه بشأن الاتفاق من تصريحات أكدت أن ترامب سيدعو إلى إجراء تغييرات على نص الاتفاق، وصولًا إلى مصادقة ترامب على استراتيجية جديدة مع إيران ، تشتمل على "إبطال نفوذ إيران المزعزِع للاستقرار واحتواء نهجها العدواني"، لكن المؤكد أن تمزيق الاتفاق لم يكن سوى شعار انتخابي. 

وفيما كان ترامب حائرًا فيما يفعله أمام " أغبى صفقة على الإطلاق"، كما يصف الاتفاق النووي ، فهم الإيرانيون سريعًا ضرورة التحرك بفاعلية لمدِّ جسور قوية للعلاقة مع أوروبا وتعزيز العلاقة مع روسيا والصين كآليات للوقوف في وجه التصعيد الأميركي، ويبدو أن إيران حققت نجاحًا على هذا الصعيد، وقد يكون الجسر الذي بنته توتال الفرنسية مع إيران، في صفقة هي الأهم منذ توقيع الاتفاق، مفتوحًا ليعبر عليه كثير من الشركات الأوروبية نحو السوق الإيرانية، فيما يجاهد روحاني لجعلها سوقًا مناسبة للاستثمار الخارجي. 

وبينما كان العالم يحاول فهم الصخب اللفظي والتعميمات الكثيرة التي ترافق أحاديث ترامب، انشغل الإيرانيون في دراسة إمكانيات ومحددات العلاقة مع أوروبا، وحافظوا على تعاون جيوسياسي مع روسيا في عدد من الملفات الاستراتيجية، والتفتوا بشكل جيد لحاجة الصين المتنامية للطاقة.  

لقد طوى روحاني وفريق إيران المفاوض طريق الاتفاق التفاوضي بدعم من المرشد، الذي أكَّد أكثر من مرة أنه غير متفائل بهذا الخصوص، ولذلك، فإن التلويح بضرورة الدخول في عملية تفاوضية جديدة لن يكون مقبولًا بالنسبة لخامنئي، ومراكز صناعة القرار في إيران، وعلى رأسهم الحرس الثوري الذي دعم الاتفاق للإفلات من سطوة العقوبات التي طالت بيع النفط. لن يتفاوض الإيرانيون مجددًا لأن الرئيس الأميركي يريد ذلك فقط.  

مثل كل القضايا، لا تغادر المعالجة الإيرانية للمعضلات دائرة التهديد والفرص، وتتمثل الفرص بصورة أساسية في:

  • تراجع القدرة الأميركية على ضبط مسار التعامل مع إيران وايجاد ائتلاف دولي ضدها كما كان قبل الاتفاق، وقد اختبر العالم مع إيران عشر سنوات من العقوبات والتهديد، وتنظر الدول الأوروبية إلى الاتفاق كإرث لها، ولذلك فإن أطرافًا أوروبية مؤثِّرة لن تكون موافقة على إلغاء الاتفاق، وهو ما سيقود في المحصِّلة إلى تراجع التأثير الأميركي في مجمل العلاقات الدولية فيما يتعلق بإيران.
  • افتقاد ترامب لرؤية سياسية واضحة سيقلِّص من الدور الأميركي في ملفات مهمة بالنسبة لإيران كالملف السوري والملف العراقي.
  • تراجع صورة أميركا داخل المجتمع الإيراني، وهي الصورة التي شهدت تحسنًا كبيرًا عقب الاتفاق النووي، وهو ما يصبُّ في النهاية في صالح تيار سياسي داخل إيران وقف منذ البداية مُشَكِّكًا بجدوى الثقة في الطرف الأميركي.  

أما التهديد الأبرز بالنسبة لإيران فينصب في ثلاثة محاور:

  • استمرار الاتفاق النووي مع صعوبات وعقبات في طريق تطبيقة وعدم وفاء الإدارة الأميركية بتعهداتها. 
  • استمرار خطة فرض مزيد من العقوبات مع التركيز على البرنامج الصاروخي والإرهاب.
  • عودة التركيز على "الإطاحة بالنظام في إيران"، وبدلًا من مقولات دعم القوى المعتدلة واستخدام سياسات التغيير المستندة إلى (الدبلوماسية العامة، والنفوذ الاقتصادي والثقافي، وتغيير القيم الاجتماعية والسياسية)، سيتم استبدال ذلك بدعم جماعات تدعو إلى تغيير النظام بالقوة.  

في المحصلة، فإن إدارة المواجهة مع الولايات المتحدة، وكذلك قدرة واشنطن على"لجم" طهران، ترتبط بصورة عضوية بمدى مهارة إيران دبلوماسيًّا، وقدرتها على التحرك على صعيد العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، للتخفيف من الضغوطات المحتملة من قبل الإدارة الأميركية

لكن علينا أيضًا أن نتوقف عند السؤال التالي: إلى أي مدى تشكِّل ملفات، مثل: العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان، وكذلك أفغانستان ملفات مهمة بالنسبة للإدارة الأميركية، بحيث تصبح ملفات تعامل ومفاصلة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية؟  

إن الإجابة على هذه القضايا من الممكن أن تعطي مؤشرات على شكل وطبيعة العلاقة بين الطرفين، ضمن سيناريوهات متعددة.  

وعند بناء هذه المؤشرات والنظر في ركائزها، يبدو واضحًا أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لديه توجهات للحدِّ من نفوذ إيران، والسعي لعرقلة تطبيق الاتفاق النووي، واستهداف القدرات العسكرية الإيرانية وفي مقدمة ذلك برنامجها الصاروخي، مع ملاحظة الدعم الذي سيقدمه خصوم إيران في المنطقة، وهنا تبرز السعودية وإسرائيل، وقد يضمَّان إلى جانبهما أطرافًا عربية أخرى تبدو قلقة من النفوذ الإيراني.  

لكن إذا أراد ترامب أن يحقِّق شعاره فيما يتعلق بـ"مكافحة الإرهاب"، واستعادة الدور الأميركي في عدد من الملفات فستجبره الواقعية السياسة على الاقتراب من إيران التي اختبرت التعاون على هذا الصعيد مع إدارة أوباما.  

يُقدِّم مركز الجزيرة للدراسات هذا الملف الذي يُعِين الباحث والمتابع على الإلمام ببعض جوانب العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وإشكاليات هذه العلاقة وآفاقها المستقبلية من خلال المحاور التالية:  

أولًا: إيران ما بعد الاتفاق النووي: الأولويات والتوجهات

ثانيًا: الاتفاق النووي: نجاحات وإخفاقات