إشكالية التدخلات الإقليمية والدولية في تجارب التحول الديمقراطية

ولربما من ضمن العوامل المهمة التي تجعل من التغيير أكثر صعوبة ما أظهرته حالتا بن علي ومبارك من صعوبة حصولهما على ملجأ سياسي، وتجميد أرصدتهما، وملاحقتهما جنائيًا. هذا درس تعلمه الحكام الآخرون في انعدام الخيار الآمن بعد مغادرة السلطة مما دفعهم دفعهم إلى الاستماتة ومقاومة التغيير حتى باللجوء إلى العنف.
20131241146196734_2.jpg

مقدمة

اندلعت في العقود الماضية موجة الديمقراطية في مناطق متعددة من العالم في أميركا اللاتينية؛ في أوروبا الشرقية والوسطى؛ في آسيا وإفريقيا. ووصلت أيضًا إلى تركيا، وباكستان، وألبانيا، وإندونيسيا في العالم الإسلامي، وليس ثمة بلد يشبه الآخر؛ إذ لكل مرحلة انتقال إلى الديمقراطية ظروفها الخاصة، فليس ثمة "نماذج" للتصدير أو مسارات لـ"التقليد" (1).

وقد مثَّل العام 2011 مفصلاً مهمًّا في التاريخ السياسي العربي المعاصر، فقد ظلت المنطقة الأقل تغيرًا في التحول الديمقراطي في العالم منذ الموجة الديمقراطية الثالثة التي بدأت في عام 1989، ولكن العام 2011 مثّل نهاية لهذه الاستثنائية الديمقراطية؛ فمنذ ديسمبر/كانون الأول 2010 وحتى اليوم شهدت العديد من الدول العربية خروجًا شعبيًا غير مسبوق للمطالبة -ليس فقط- بالإصلاحات السياسية والشفافية وحكم القانون، ولكن بتغيير الأنظمة.

بدأت هذه التحولات في عام 2002 بمبادرة الشراكة الأميركية-شرق الأوسطية لتعزيز الديمقراطية في الدول العربية، والتي وضعت قيودًا جديدة على الحاكم العربي، تبعتها تسريبات ويكيليكس التي أضعفت الشرعية السياسية للكثير من الأنظمة العربية، وأخيرًا وصلت ذروة هذه التحولات بتحذير الأنظمة من استخدام القوة المفرطة ضد المحتجين والإصرار على بقاء الفضاء الإلكتروني مفتوحًا (إنترنت، موبايل، ساتلايت). ومما يلفت النظر، برغم أن القوة المحركة لمثل هذه الاحتجاجات شعبية في الغالب، وبما أن الشعب العربي في الأغلب متقارب في الآمال والأهداف، فإنه من المثير للدهشة واللافت للانتباه عدم رفع أية شعارات داعية للوحدة العربية.

وقد أظهرت وقائع الربيع العربي مفاجأة للقوى الدولية، وبناءً على مراقبة سلوك هذه القوى تجاه ما يحدث في الدول التي اندلعت فيها ثورات ظهر في البداية حيادها مع مراقبتها لما يحدث حتى يتم الوصول إلى نقطة معينة في تغيير ميزان القوى على الأرض، حينها تغير هذا السلوك بالكامل. مثال على هذا، تغيُّر الخطاب السياسي الأوربي والأميركي تجاه كلٍّ من زين العابدين بن علي وحسني مبارك، حالما بدأت موازين القوى تتغير على الارض. وعلى العموم فإن من بين العوامل المحددة لتغير سلوك القوى العظمى مدى الأهمية الجيوبوليتيكية للدولة المعنية، وأيضًا مدى أهمية هذه الدولة للاستقرار الإقليمي، وأخيرًا قوة النظام واحتمالات مقاومته للثورة وبقائه. والملاحظة الأهم هي وضوح ازدواج موقف القوى العظمى تجاه التغيير بناء على مكان حدوثه ومدى مصالح القوى العظمى المرتبطة بنتائج هذا التغيير.

ولربما من ضمن العوامل المهمة التي تجعل من التغيير أكثر صعوبة ما أظهرته حالتا زين العابدين بن علي وحسني مبارك من صعوبة حصولهما على ملجأ سياسي بسرعة، وتجميد أرصدتهما، وأيضًا بدء ملاحقتهما جنائيًا في المحاكم الوطنية والدولية. هذا درس تعلمه الحكام الآخرون في انعدام الخيار الآمن بعد مغادرة السلطة مما دفعهم إلى الاستماتة ومقاومة التغيير حتى باللجوء إلى العنف وهو ما ظهر جليًا في الحالتين الليبية والسورية وإلى حدٍّ ما في الحالة اليمنية.

عوامل التحول الديمقراطي (العامل الخارجي)

تحت تأثير التحول الديمقراطي ومطالب الداخل وضغوط الخارج اضطرت الدول العربية إلى الدخول في مسار التحول الديمقراطي ولكن بطريقة بطيئة للغاية ومتعثرة (2). وهذا يطرح تساؤلاً حول الشروط التي تجعل الديمقراطية ممكنة وناجعة؟ ورغم وجود تفسيرات عدة حول الشروط التي تجعل الديمقراطية ممكنة، مثل توفر ظروف اجتماعية واقتصادية مثل الدخل الفردي، والتعليم المنتشر وتوسع مدنية المجتمع، والالتزام بقيم وأحكام الديمقراطية (3)، إلا أن ما يؤخذ على هذا الطرح تجاهل العامل الخارجي كمتغير سواء كعامل محفز أو مثبط لعمليات التحول الديمقراطي؛ إذ تتسم عملية الانتقال إلى الديمقراطية في كافة بلدان العالم بدرجة كبيرة من التعقيد، من ناحية، وبتعدد مساراتها والاختلاف البيّن في نتائجها، من ناحية أخرى. ويعتمد ذلك إلى حد كبير على مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي في البلد المعنيّ، وعلى الظروف الإقليمية والعالمية السائدة في اللحظة التاريخية التي يحدث فيها هذا التحول؛ ومن ثَمَّ، يمكن القول بأن خبرة بلد ما في التحول غير قابلة للنقل الميكانيكي والتطبيق في بلد آخر (4).

لقد كانت سياسة الولايات المتحدة، والغرب عمومًا، لا تعطي اهتمامًا لقضية الديمقراطية ونشرها في الدول النامية بقدر ما كانت تعطيه من اهتمام للاستقرار الذي يحافظ على مصالحها مما أكد الارتباط بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بالكثير من الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، بل أكثر من ذلك، حيث كان يظهر على الساحة كثير من التبريرات لتلك العلاقات. وكان لانهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية دور في دعم التحولات الديمقراطية، كما جرى في دول أوروبا الشرقية وكذلك في دول أميركا اللاتينية؛ حيث لم يعد هناك ما يخيف من تزايد نفوذ السوفيت ومعسكرهم في تلك الدول، لكن ما أحدث انقلابًا حقيقيًّا في الفكر السياسي السائد في الولايات المتحدة هو أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وكشفها لحقائق الأوضاع في الدول العربية والإسلامية التي تعاني من الشمولية مما يساهم في وجود عناصر متشددة تهدد المصالح الغربية (5). لذا ستحتل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية بين القضايا المطروحة على أجندة العلاقات الدولية منذ اتفاقية برلين سنة 1991 التي أنهت مبدأ عدم التدخل إلى مؤتمر فيينا 1993 الذي أقرّ خطة عمل لحماية حقوق الإنسان، مرورًا بالمحكمة الجنائية الدولية التي تختص بمحاكمة مقترفي جرائم حقوق الإنسان (6).

لقد بذلت تركيا جهودًا كبيرة في إقناع الغرب، والولايات المتحدة تحديدًا، بأن صعود تيار الإخوان المسلمين في الدول العربية ستكون له فوائد كبيرة، وأنه لا محل لتخوف الغرب منهم. وتقوم أطروحة تركيا على أن أنظمة الحكم العربية السابقة قد أثبتت فشلها السياسي والاقتصادي ونتائج ذلك مزيد من التطرف بين الشباب؛ مما سيقود إلى انفجار غير معروف النتائج. ولتفادي ذلك لابد من تشجيع المجتمع المدني وحمايته لإحداث التغيير والتحول الديمقراطي، ولأن الإخوان المسلمين هم الأكثر تنظيمًا فلا شك من تصدرهم لأية مساحة ديمقراطية. والإخوان المسلمون، وفقًا للطرح التركي، والذي يبدو أن الغرب قد اقتنع به، سيكونون الأقدر فكريًا ودينيًا على محاربة الإرهاب وسيكونون معادين لإيران وحلفاء للغرب. وفي نفس الوقت هناك تيار آخر نادى بإفساح المجال للإسلام السياسي لأن التركة السياسية والاقتصادية في الوطن العربي ثقيلة وبمثابة تحدٍّ لأي تيار سياسي واحتمالات الفشل أكثر من النجاح، وهذا سيُفقد التيار الإسلامي شرعيته ومصداقيته في الوطن العربي وهو الذي طالما نادى بأن الإسلام هو الحل، وفي النهاية سيلحق هذا التيار بالتيارين الاشتراكي والقومي في تراجع حضورهما وشعبيتهما في الوطن العربي.

إننا أمام نموذج مختلف للتحرر في الوطن العربي تقوده حركات سياسية ذات مرجعية دينية، وهو نموذج لا يعارض الديمقراطية جملة وتفصيلاً، فهو بقدر ما يوظفها في الصراع ضد الاستبداد والحكم الفردي، وفي إضفاء المشروعية على اختياراته المذهبية وسلوكياته السياسية بقدر ما لا يعتبرها المرجع الوحيد الذي يتم الاحتكام إليه. ولم تبد العديد من العواصم الغربية قلقها وتخوفها من استلام الإسلاميين للسلطة، فقد أكدت الولايات المتحدة رغبتها في التواصل والحوار مع جماعة الإخوان المسلمين، وعبّر آلان جوبيه وزير الخارجية الفرنسي عن استعداد بلاده للحوار مع حزب النهضة التونسي… إن هذه المواقف الايجابية تعني تحولاً فكريًّا عميقًا في الرؤية الغربية تجاه العالم العربي؛ إذ تعني تراجع مقولة صراع الحضارات، ليحل محلها توافق مصلحي، ورغبة في احتواء الحركات الإسلامية المعتدلة ما دامت لا تمس الأساس الاقتصادي والإطار المؤسساتي  للمنظومة الرأسمالية (7).

بعض تجارب التحول الديمقراطي العالمية، وأثر التدخلات الإقليمية والدولية فيها

باتت قضية التحول الديمقراطي خاصة في العالم العربي، إحدى أهم القضايا المطروحة على ساحة البحث الدولية والمحلية؛ ففي كل مرحلة من مراحل التطور السياسي في التاريخ المعاصر تبرز منطقة بعينها لتحتل أولوية معينة، وتصبح هي "النموذج"؛ فبنهاية الحرب العالمية الثانية، امتد النظام الديمقراطي ليشمل دول أوروبا الغربية كلها، كما أفسح المجال لتحول دول المحور المهزومة إلى الديمقراطية، وكانت حالتا ألمانيا واليابان هما الأبرز، وإن شكّلتا الاستثناء بحكم خضوعهما للتدخل الخارجي المباشر (8).

أما أثناء فترة الحرب الباردة، أي في السبعينيات من القرن الماضي، فقد امتد الأمر إلى دول جنوب أوروبا: إسبانيا، واليونان، والبرتغال، وأجزاء كبيرة من أميركا اللاتينية. وبعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي في 1991، امتد التحول الديمقراطي إلى أوروبا الشرقية. لقد كان لتجاور أوروبا الشرقية مع مثيلتها الغربية أثر في تسهيل انتشار ثقافة الحرية وحقوق الإنسان، والتي كان لها دور أساسي في تقويض دعائم الأيديولوجية الشمولية، فضلاً عن تقديم الاتحاد الأوروبي النموذج والدعم في آن واحد لمثل هذا التحول. ولذلك، كان التغيير في أوروبا الشرقية متدرجًا منذ توقيع اتفاقية هلسنكي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. واعتمد التحول الديمقراطي هناك على مجتمع مدني قوي تحرر بعد قمع أمني طويل، وإصلاحات داخل الأحزاب الحاكمة، ووجود قضاء مستقل وإعلام حر، ومعارضة تقريبًا موحدة متزامنة مع بروز جيل جديد من الناخبين مثلما تم من خلال الانتخابات كأداة للتغيير كما حدث في سلوفاكيا 1998، وأوكرانيا 2000، وفي صربيا 2000، وفي جورجيا 2003، وأوكرانيا مرة أخري 2004، حتى أُطلِق عليها "ثورات انتخابية"، لأن فوز المعارضة في الانتخابات شكّل البداية لعملية تغيير كبرى أفضت إلى الانتقال إلى الديمقراطية (9). ولا يعني ذلك تطابق جميع تلك الحالات، فقد اختلف الحال في بولندا والمجر وبلغاريا، ولكن العنصر اللافت هنا هو الانتشار الإقليمي للتحول الديمقراطي، وكذلك وجود عوامل دولية خارجية شديدة التأثير أيضًا ولا يمكن تجاهلها، تمثلت في مساندة الدول الغربية والولايات المتحدة بقوة لمثل هذا التحول، وأحيانًا بشكل عسكري من خلال حلف الأطلنطي، مثل الحملة العسكرية التي قادها الحلف ضد نظام سلوبودان ميليوسوفيتش في صربيا، ومثل دعم ما سُمِّي بالثورة البرتقالية في أوكرانيا (10).

وكذلك شهدت دول أميركا اللاتينية عددًا من التطورات السياسية والاقتصادية الإصلاحية وذلك بداية من العقد الأخير من القرن العشرين، وقد ساعد عدد من العوامل الداخلية والخارجية في حدوث هذا التحول، خاصة بعد بروز التيارات اليسارية في العديد من دول تلك المنطقة والتي وصلت إلى السلطة في غالبية بلدانها عن طريق آلية التداول الديمقراطي السلمي، وكذا تحول الولايات المتحدة إلى قطب عالمي سمح لها بتوسيع فضاء اهتماماتها ليشمل مناطق أخرى من العالم غير المنطقة اللاتينية (11). ومع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات شهد العالم تحول العديد من دوله خاصة تلك التي تنتمي للدول النامية ومنها دول أميركا اللاتينية إلى الأخذ بالديمقراطية والتعددية السياسية (12). وقد كان للمؤثرات الخارجية المرتبطة بالتحولات التي طرأت على المحيط الدولي والإقليمي بعد انتهاء الحرب الباردة الثانية وانهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا دور كبير في التحول الديمقراطي، وتعرضت هذه الأنظمة إلى ضغوط خارجية خاصة من قبل الولايات المتحدة بعد أن أصبحت القوة الكبرى المهيمنة على النسق الدولي لتتبنى هذه الأنظمة إصلاحات اقتصادية وسياسية. ومن المفارقات الغريبة ما طرحته تجربة أميركا اللاتينية، فباستثناء المكسيك، أصبح اليسار حاكمًا في منطقة كانت إلى عهد قريب محكومة من أنظمة عسكرية استبدادية حليفة للولايات المتحدة الأميركية.

مقارنة بين تجارب التحول الديمقراطي العالمية ومثيلاتها في العالم العربي

إن دور أوروبا فيما يتعلق بدمقرطة الجزء الأكبر من أميركا اللاتينية كان حاسمًا فى تطبيقه لأن إقامة النظم الديمقراطية فى هذه المنطقة شكّل مكسبًا بالغ الأهمية بالنسبة للعالم الغربى لأنه أعاد التوازن في اتجاه الأطلنطي في المجالات المالية والتجارية وفى مجال الديون، وفتح أسواق أوروبا للمنتجات القادمة من أميركا اللاتينية خاصة الزراعية منها والصناعية والمعادن.

ورغم بعض التشابه مع بعض التجارب العربية، إلا أن عوامل أخرى كثيرة تبقى مختلفة، منها الثقافة العامة؛ فأوروبا الشرقية في النهاية تتشارك مع أوروبا الغربية في أصولها الثقافية. أما العالم العربي-الإسلامي، فتظل له ثقافته الخاصة الممتدة عبر تراثه الطويل؛ فالديمقراطية هي وليدة الليبرالية الثقافية والحداثة، وتلك وإن كان العالم العربي قد عرفها -إما لفترات وحقب تاريخية معينة أو من خلال مساهمات فردية لكتاب ومفكرين رواد- فإنها ظلت حبيسة بحكم تجذُّر تراث مغاير لها. وحتى مفهوم الحرية ظل مثار جدل واختلاف في مرجعيته الثقافية العربية-الإسلامية عن مثيله في الليبرالية الحديثة (13).

ترتكز تجارب التحول الديمقراطي في أميركا اللاتينية على أربعة أنماط من التحول تمثلت في: أولاً: التنازلات التي تبدأ كخيار ذاتي لدى النخبة الحاكمة تقبل عليه لأنها تشعر بأنها لن تتمكن من ضمان استمرارها في الحكم ومصالحها المباشرة وغير المباشرة إذا لم تقدم تنازلات إلى المواطنين وإلى المعارضين تُفضي إلى انفتاح سياسي محدود وبطيء يفتح نافذة على الديمقراطية، وهذا ما حدث في البرازيل. ثانيًا: المفاوضات، ويتم الانتقال إلى هذه المرحلة عندما يشعر قادة النخبة الحاكمة أنه من الأفضل لهم الانسحاب من السلطة لكن في نفس الوقت تأمين الخروج عن طريق سلسلة من الاتصالات والمشاورات والاتفاقات، وهذا ما حدث في التشيلي و السلفادور. ثالثًا: الخروج من الحكم، ويتم تحت الضغوط الشعبية والمعارضة وبسبب التصدع داخل النخبة الحاكمة نفسها والانقسامات التي تدب بين أفرادها وفصائلها، وهذا ما حصل في الأرجنتين. رابعًا: التدخل الخارجي، وهذا ما تقوم به دولة أو مجموعة دول قصْد استبدال نظام أوتوقراطي بنظام آخر ديمقراطي كما حصل عندما جرى تغيير الحكومات في بنما وهايتي (14).

بالمقابل شهدت الدول العربية نماذج تغيير مختلفة قبل أن يتم تدشين الربيع العربي كنموذج جديد (15).

نماذج تغيير من الماضي

حقبة ما قبل الاستقلال

النموذج الثوري الإسلامي
إبان حقبة الإمبراطورية العثمانية كانت هناك ثمة جهود تسعى للإصلاح من داخل الدولة العثمانية "كدولة خلافة"؛ حيث إن مفهوم الدولة ليس له وجود في الفكر الإسلامي السياسي ولكن هناك مفهوم "الحكم" أو "السياسة الشرعية" بحيث يكون جوهر اهتمامه مبدأ الجماعة وإقامة العدالة القضائية وليس مبدأ الفردية والعدالة القانونية. وكانت تلك الجهود السابقة بزعامة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وركزت على وحدة الدين والأخلاق ضد القوى الغربية الاستعمارية.

النموذج الثوري القومي
بدلاً من تبني رابطة الدين والأخلاق، تبنى التيار العربي القومي الروابط اللغوية والثقافية والعرقية، وكانت الغاية إيجاد دولة قومية مستقلة. وكان من أبرز دعاة القومية العربية في بلاد الشام كل من قسطنطين زريق وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق وساطع الحصري، ومعظمهم مسيحيون؛ ولهذا السبب شعروا أن الأقلية المسيحية ذابت في المحيط الإسلامي الكبير، فكانت الدولة القومية العلمانية هي النموذج الأمثل للمواطنة المتساوية، وبالتالي دعا هذا التيار إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية. ولكن دعاة هذا الفكر لم يربطوا مفهوم الدولة بالمفهوم الغربي الليبرالي المبني على أساس القانون ومبدأ حقوق الفرد، بل بمفهوم إسلامي للحرية، وهو مفهوم تجريدي غيبي ومناهض لمفهوم الدولة. ولهذا السبب انتهى المطاف بالدولة القومية التي قامت لاحقًا إلى نظام استبدادي.

نموذج مُلّاك الأراضي والأرستقراطيين
إبان حقبة الاستعمار في المنطقة بعد تفكك الدولة العثمانية تزعَّم حركات الإصلاح عناصر مجتمعية لها علاقة بالقوى الاستعمارية كانت تستفيد منها؛ ولهذا تم تصميم إطار الإصلاحات القانونية والإدارية والزراعية والبنية التحتية تصميمًا يخدم مصالح تلك القوى الاستعمارية ويعزز من نفوذ النخبة المحلية.

حقبة ما بعد الاستقلال
اتسمت نماذج الإصلاح في دول حقبة ما بعد الاستقلال، سواء كانت جمهورية أو ملكية، بسمة مشاريع النخب. علاوة على ذلك، انتهجت عملية التغيير نهج التغيير من القمة إلى القاعدة، وتبنت السياسات الجماهيرية والشعبوية في تناقض إقليمي ودولي صارخ.

الأنظمة الثورية
تبنت الأنظمة الثورية ثلاث أدوات للتغيير، وهي:

  1. الإصلاحات الزراعية: لإضعاف موقف خصومهم من ملاك الأراضي والنخب التقليدية السابقة ومن أجل حشد الجماهير قدمت الأنظمة الثورية الجديدة إصلاحات زراعية؛ فتمت مصادرة الأرض الزراعية من أيدي ملاكها؛ ومن ثم إعادة توزيعها على عدد كبير من الفلاحين الذين كانوا سابقًا مجرد أيدٍ عاملة مُسْتَأجرة تعمل في تلك الأراضي. ورغم أن ذلك الإجراء من المنظور السياسي لقي ترحيبًا من قِبَلِ العامة إلا أن تقسيم الأرض إلى أسهم صغيرة عرقل عملية الإنتاج الشاملة وزراعة المحاصيل النقدية؛ ما أثر سلبًا على الاقتصاد الكلي ولم يحسّن من ناحية أخرى الحياة المعيشية للفلاحين الفقراء. 
  2. السياسات الجماهيرية: مع تدني مستوى شرعية الأنظمة الجديدة ومستوى المشاركة السياسية فيها اعتمدت تلك الأنظمة كثيرًا على اتخاذ إجراءات أمنية رجحت كفة الإجراءات الاقتصادية والسياسية، فمُنِعَتْ الأحزاب السياسية لصالح الحزب الحاكم الواحد الذي يشمل كل النشاط السياسي ومنظمات المجتمع المدني. وطال هذا أيضًا وسائل الإعلام والتربية والتعليم وكل مناحي الحياة لتبجيل النظام وتمجيد شخص الحاكم. وفي هذا المحيط تأسست الدكتاتورية وفُرض نظام الأمن البوليسي.
  3. التصنيع البديل للاستيراد: في ظل غياب الشرعية القانونية حاولت هذه الأنظمة خلق شرعيتها من خلال تحقيق الإنجازات؛ ولهذا أطلقت، على سبيل المثال: مصر وسوريا والعراق والجزائر، مشاريع الصناعة الثقيلة لتحل محل الواردات؛ فتم الاستثمار في هذه الصناعة بطريقة قد تكون أحيانًا مبالغًا فيها، وربما لم تأخذ الأسواق المحلية والخارجية بعين الاعتبار. وكانت نتائج هذه الإستراتيجية سلبية على الجودة وتنافس الصادرات وأهدرت موارد ضخمة، وأدت إلى توسع لا ضرورة له وتضخيم حجم القطاع العام.

الأنظمة الملكية
للبقاء في سدة الحكم تبنت الأنظمة العربية الملكية على سبيل المقارنة نماذج مختلفة من أجل التنافس مع الدول المجاورة. وهذا لا يعني أن بعض الأنظمة الجمهورية الغنية بالنفط لم تتبنَّ بطريقة ما نفس هذه النماذج، وكذلك بعض الدول غير النفطية التي شهدت اقتصادًا شبيهًا بالاقتصاد الريعي، أو الاقتصاد الريعي المعتمد. بيد أن الأنظمة الملكية بصورة متفاوتة تبنّت:

الإستراتيجية المعتمدة على المعادن والنظام الريعي: فدول مجلس التعاون الخليجي تعيش وضعين متضاربين؛ إذ تعتمد اعتمادًا كبيرًا على العالم الخارجي فتكون معرضة لتهديد العوامل الخارجية، ولكنها في نفس الوقت تتمتع في الداخل باستقلالية مطلقة. وهذه الظاهرة تعني أن الدولة في الخليج تمتلك إيرادات مالية مستقلة تمامًا عن حركة الاقتصاد الوطني من خلال الاعتماد الكبير على مادة النفط الذي يتم استكشافه وإنتاجه وتكريره وتسويقه من قبل الشركات الأجنبية. وبالتالي فإن المواطنين لا يمتلكون سلطة مقايضة مقابل سلطة الدولة، وهذا بحسب نظرية الريع المعروفة. أيضًا تتمتع الدولة باستقلالية مطلقة في التحكم بحجم ونوعية الأيدي العاملة من خلال الاعتماد إلى حد كبير على الأيدي الأجنبية. وبالتالي فإن المواطنين ليس لديهم صلاحية للقيام بتنظيم أنفسهم في جمعيات ونقابات عمالية أو أن يمارسوا ضغطًا كافيًا على الدولة عن طريق تنظيم الإضرابات العمالية. علاوة على ذلك، تتمتع الدولة باستقلالية مطلقة عن مواطنيها على مستوى شؤون الدفاع والأمن من خلال الاعتماد على قوى خارجية لتوفير الحماية. ونتيجة لذلك تبدو الدولة في موقف قوي جدًا أمام مواطنيها ولكن في موقف ضعيف أمام العالم الخارجي. وفي ظل بيئة كهذه ليس من المتوقع أن تتراجع الدولة القوية الحاضرة في كل مكان وأن تشجع العملية الديمقراطية في ظل غياب أو حضور مؤسسات مدنية وسياسية لا حول لها ولا قوة.

واليوم يمثل اضطلاع حركات الإسلام السياسي بالدور الرئيسي للمعارضة في أغلب التجارب العربية، إلى جانب استمرار تداخل الدين مع السياسة على أكثر من مستوى تتجاوز حتى حدود تلك المعارضة الدينية المسيسة، يمثل أمرًا مقصورًا على التجربة العربية؛ فالفصل بين الدين والسياسة هو جزء من الثقافة السياسية في أوروبا عمومًا غربية وشرقية كنتاج طبيعي لحركة الإصلاح الديني وعصر النهضة والتنوير الذي قاد أوروبا أو الغرب عمومًا إلى التقدم والديمقراطية. وبالتالي، فالصراع الدائر بين من يدافعون عن التحديث ومن يرفضونه، أو بين أصحاب الدعوة إلى "الدولة الدينية" والذين يتطلعون إلى "الدولة المدنية" هو أمر يختص به العالم العربي. يُضاف إلى ذلك ضعف المعارضة في الحالة العربية وعدم قدرتها على قيادة مثل هذا التحول إلى الآن؛ فالمعارضة العربية في الغالب مفككة ضعيفة، ولم تنجح أغلبها في أن تتحول إلى أحزاب جماهيرية من ناحية، ولا أن تتوحد على هدف واحد يفيد عملية التغيير من ناحية أخرى (16). في حين توحدت المعارضة في أوروبا الشرقية حول هدف واحد.

من الصعب أيضًا المطابقة بين العامل الخارجي أو دور البيئة الدولية في الحالتين الأوروبية الشرقية والعربية؛ ففي الحالة الأولى (أوروبا الشرقية)، كان للولايات المتحدة مصالح تجعلها تضع دعم التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية من الأهداف الرئيسية لإستراتيجيتها العالمية وأن تنفذ ذلك فعليًّا، وأن تستقبل الأخيرة هذا الدور من دون الدخول في جدلية "الداخل والخارج". وهي ليست الحالة العربية ولاشك بحكم الحساسية السياسية والتاريخية الشديدة من أي عنصر أو دور خارجي، فضلاً عن أن هذا الهدف تحديدًا -أي دعم التحول الديمقراطي- ليس جزءًا أصيلاً من الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط أو بالتحديد في العالم العربي-الإسلامي، مثلما كان حالها مع أوروبا الشرقية، مهما تكن الاستثناءات التي قد تعطي مؤشرات وقتية مختلفة في بعض المراحل السياسية (17).

دخلت التحولات التي شهدها العالم العربي منذ بداية الحراك الشعبي في تونس في ديسمبر/كانون الأول 2010 في مراحل متعددة. وبالرغم من حجم المؤثرات الداخلية لثورتي مصر وتونس، إلا أن التداخل الذي شهدته الأحداث في ليبيا ومن ثم اليمن وسوريا، ينقل الربيع العربي إلى مدار المؤثرات الخارجية التي باتت تشكّل العامل الأقوى في أحداث هذا الربيع وتؤثر على نتائجه. وفي حين يكتسب البعد الثقافي للتحولات في العالم العربي وجهة محددة تتميز بتصاعد الإسلام السياسي في الدول التي أنجزت انتخاباتها التشريعية وبثقل إسلامي مشهود في الدول التي لا تزال على لائحة الانتظار، فإن السياق الدولي الآخذ في الارتسام يحمل في طياته خفايا إستراتيجية تحكم حركة القوى الدولية الرئيسية التي رسمت أهدافها قبل الربيع العربي وبمعزل عن أحداثه، وفي الوقت ذاته لم تتوان عن إبداء جموح واضح نحو استغلاله. وفي مقالــة بعنــوان «روسيا والعالم المتغير» نشرتها في 27 فبراير/شباط 2012 صحيفة «موسكو فسكيينوفوستي»، يقول الرئيـــس الروسي فلاديمير بوتين: إن «سلسلة النزاعات المسلحة التـــي تبررها الأهداف الإنسانية تقوّض مبدأ السيادة الدولية الذي بقي مقدسًا عبر قرون، لذلك يتم تشكيل الفراغ في العلاقات الدولية»، و«هناك محاولات تقوم بها الولايات المتحدة بشكل منتظم لممارسة ما يُسمّى بـ «الهندسة السياسية» في مناطق وأقاليم تعتبر مهمة بالنسبة لروسيا تقليديًا». وحول الربيع العربي، اعتبر بوتين أن التدخل الخارجي أدى بأحداثه إلى أن تتطور في سيناريو "غير متحضّر". وبالتالي، فهذا الربيع العربي أعاد إدخال روسيا إلى الملفات الداخلية في المنطقة ورجّح مفهومها بالحاجة إلى تكريس المرجعية الدولية في الأمم المتحدة بعدما تجاوزتها الولايات المتحدة في حربي يوغوسلافيا 1999 والعراق 2003 وانفردت بسياسة التدخل الخارجي. ارتبطت نتائج الربيع العربي في بداياته بعوامل داخلية بحتة، فلقد دفعت التحركات الشعبية إلى حدوث فراغ سياسي وانكشاف الساحات المحلية أمام كتلتين أساسيتين: القوى الشبابية والمجتمعية الصاعدة من جهة والمؤسسة العسكرية من جهة ثانية؛ فحيث قام التوازن بينهما اقتصر التدخل الخارجي على المواكبة السياسية والمساعدة في إنجاز التحوّل، وذلك في حالتي مصر وتونس، وحيث اختل التوازن استوجب الأمر تدخلاً إقليميًا ودوليًا لدواعٍ إنسانية تتعلق بواجبات المجتمع الدولي في الحفاظ على السلم وحماية المدنيين كما في حالات ليبيا واليمن وسوريا (18).

ففي ليبيا وعلى عكس النجاحات التي حققتها التحولات الديمقراطية السلمية في تونس ومصر، لو لم يحصل تدخل خارجي لما نجحت الثورة في إزالة النظام. وقد وافق مجلس الأمن على قرار يفرض الحظر على الطيران الليبي وتوجيه ضربات جوية محددة ضد الجهاز العسكري الليبي، ومما لا شك فيه أن الإطاحة بنظام القذافي مثَّل ضرورة، ليس من أجل السماح بتأسيس نظام ديمقراطي في ليبيا فحسب، وإنما أيضًا من أجل منع هذا النظام من الإضرار بالثورتين اللتين تحدثان في تونس ومصر المجاورتين (19).

ومن الناحية العسكرية، يمكن القول: إنه كان من السهل نسبيًا أن تقوم البلدان الغربية بفرض منطقة حظر جوي أو تنفيذ ضربات جوية منتقاة ضد المنشآت العسكرية الليبية؛ غير أن القوى الغربية كانت واعية بأن هذا لن يضمن نصرًا فوريًا للثوار، وإنما سيسمح فقط بإعاقة الجهد الحربي للقذافي، وربما إسقاطه، وكل ذلك لا يعني بالضرورة نجاح الثورة في إرساء ديمقراطية مستقرة. كما أن القوى الغربية كانت حريصة على إظهار أن فعل إزاحة القذافي ينبغي أن يأتي قبل كل شيء من الشعب الليبي نفسه. وقد أدرك الغرب أنه من المهم أكثر من أي شيء آخر هنا أن لا تكون القرارات التي يتم اتخاذها بخصوص ليبيا غربية محضة، وإنما ينبغي أن تُشرك في المقام الأول دول العالم العربي وبقية المجتمع الدولي، وذلك لأن من شأن تدخل غربي خالص أن يُنظر إليه، عن حق أو عن باطل، باعتباره ضد مصلحة الشعب الليبي. وهو الأمر الذي سيذكِّر العالم على نحو أو آخر بحرب العراق الكارثية في عام 2003 (20). ومن المعروف أن روسيا والصين لم تكونا من البلدان المؤيدة للتصويت في مجلس الأمن الدولي؛ غير أن موقفهما لم يكن متصلبًا بخصوص هذا الموضوع وعرف تطورًا تبعًا للوضع في الميدان وللجهود الدبلوماسية التي بُذلت من أجل إقناعهما بالعدول عن معارضتهما.

كما كانت تركيا من أوائل الدول التي أيدت التحولات الديمقراطية في الدول العربية. وأعلن مسئولون أتراك مرارًا أن تركيا تتبنى موقفًا شفافًا في هذا الإطار، وهو الدعوة إلى إدخال إصلاحات ديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وتوسيع الحريات. وأن التغيير الذي حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا كان "يجب أن يجري منذ زمن طويل نظرًا للتهميش الطويل للديمقراطية، وعدم احترام حقوق الإنسان، وغياب الحريات الأساسية (21). وقد رفضت تركيا التدخل البري الدولي لحسم القتال لصالح الثوار الليبيين معلِّلة أن خطوة كهذه قد تؤدي إلى تقسيم ليبيا إلى دولتين إحداهما في بنغازي يسيطر عليها الثوار والأخرى في طرابلس تحت حكم القذافي، وكذلك خشية أن يكون التدخل مقدمة للاستيلاء على حقول النفط الليبية. إلا أن تركيا قصرت دورها في الاشتراك في العمليات الجوية فوق ليبيا على المشاركة في مراقبة السواحل الليبية لمنع تدفق إمدادات السلاح على ليبيا، وكذلك إيصال المساعدات الإنسانية إلى الشعب الليبي عبر مطار بنغازي بشرقي ليبيا؛ حيث قامت طواقم تركية بإدارة المطار لاستقبال المعونات ومواد الإغاثة الإنسانية (22).

لم تكن ثورة اليمن على الرغم من وضوحها مطلبيًّا وسياسيًّا أقل تأثيرًا في التغيرات الجيوستراتيجية من الحركة الاحتجاجيّة في البحرين؛ فقد حاولت المملكة السعودية الحفاظ على نفوذها في اليمن المتصل جغرافيًّا بدول مجلس التعاون، ولجم فاعلين إقليميين عن بلورة نفوذهم؛ فبدا الموقف الخليجي -باستثناء موقف قطر مع تبايناته- موحدًا ومتقدمًا بعد طرح المبادرة الخليجية؛ تلك المبادرة التي حدّدت لليمن مسار الانتقال الآمن، مقارنة بالهزات والاختلالات التي كانت محتملة في حال فشلها، وذلك بحكم الخصوصية القبلية للمجتمع اليمني. كما انطوت مجريات الثورة بشكلٍ طفيف على تنافسٍ جيوستراتيجي بين المملكة العربية السعودية وإيران التي بدأت تدخل إلى اليمن قبيل الثورة مع التمرد الحوثي. والحقيقة أنّ أيًّا منهما لم تقف مع الثورة في اليمن. لقد حتمت رياح التغير وجود تنسيقٍ خليجي، ونجحت المبادرة الخليجية في تقليص فرص النفوذ الجيوستراتيجي لإيران في خليج عدن والبحر الأحمر، من خلال تحالفها مع الحوثيين )ومؤخرًا مع الفئات الأكثر راديكالية في الحراك الجنوبي). كما لجمت دورًا تركيًّا حاولت أنقرة إنضاجه أثناء تأخر تنفيذ المبادرة الخليجية. إضافة إلى دور مجلس التعاون في دفع الجامعة العربية لاتخاذ موقف من نظام القذافي أثناء الثورة؛ بلورت هذه المبادرة دورًا متقدمًا ورياديًّا لمجلس التعاون الخليجي في الدائرة العربية (23).

كما يجب إيلاء انتباه خاص للرعاة الإقليميين ودورهم في تسهيل أو منع التحول الديمقراطي؛ فعلى سبيل المثال كان للسعودية دور حاسم في الضغط على النظام في اليمن لإحداث التحول سلميًا، وبالمقارنة فإن دور إيران يعزز من تعنت وصعوبة تغيير النظام السوري. لذا يجب تحليل رؤية وإدراك الرعاة الإقليميين لمسائل التغيير الإستراتيجي الذي سيحدث نتيجة عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة، وأثر ذلك على الصراع الإقليمي-الإقليمي وتغير موازين القوة. أيضًا كيف تنظر كل دولة إقليمية مؤثرة لأمنها القومي من خلال التحولات الديمقراطية حولها. إذًا باختلاف الدول الراعية، مثل (السعودية، تركيا، إيران)، واختلاف رؤاها تختلف النهايات. ومن الواضح في اليمن، على سبيل المثال، أنه لولا إجماع وتوافق الموقفين الإقليمي والدولي لما تم التغيير، أو لكان أكبر كلفة.

وللمقارنة في سوريا وأمام الحل العسكري الذي تبناه النظام السوري، بدأت المواقف الدولية تتفاعل، وبدأت الانقسامات تدب بين القوى الكبرى واللاعبين الإقليميين؛ فقد دفع تعاطف الرأي العام العربي مع الثورة، الجامعة العربية إلى لعب دور تحت عنوان "الوساطة" والإصلاح. ومع تفاعل دور الجامعة العربية في الثورة السورية مع الشارعين السوري والعربي، علت نبرة الخطاب الغربي داعية الأسد إلى التنحي. وتصاعدت اللّهجة الدبلوماسية التركية لتنهي فصلاً من التحالف بين تركيا وسوريا استمر ما يربو على ستة أعوام. أمام هذا الواقع الجديد جيوسياسيًّا، وقفت إيران إلى جانب النظام السوري سياسيا ولوجستيًا، فاتحة الباب لاستمرار الخلاف مع السعودية واستحداث آخر مع تركيا. أما روسيا، فقد قاربت الثورة في سوريا من منظور جيوستراتيجي بحت؛ إذ لا ترى روسيا في منطقة الشرق الأوسط مكانًا لتعظيم مصلحتها وأمنها القومي أكثر ما تراه في محيطها الإقليمي، ولاسيما بعض دول آسيا الوسطى. لكنها تعد سوريا من المناطق ذات الحساسية بالنسبة إليها؛ فهي ترى في موقعها الجيوسياسي موطئ قدم على شواطئ المتوسّط، يتيح منفذًا لأسطولها البحري في البحر الأسود في قاعدة "سيفاستوبول" إلى مياه البحر المتوسّط. بيد أنّ موقفها في سوريا جاء ضمن معطيات تتعدى هذا التفسير المبسط، ويتعلّق بانكفاء الولايات المتحدة عن التدخل المباشر ونزوع روسيا إلى استغلال هذا الانكفاء لتمنح نفسها دورا مقابلاً للإستراتيجية الأميركية. وقد رأت فيما جرى في ليبيا حدثًا معاكسًا لنزعة التطور هذه، ورفضت أن يحوله النّاتو إلى عملية تمدّد مجدّدًا، بعد أن سبق لها وقف هذا التمدّد في جورجيا. من هنا جاءت محاولة بوتين نفخ الحياة في سياسات الدولة العظمى بتوجهاتٍ ذات بعدٍ دولي خارج محيطها الإقليمي (24).

أما إيران، فقد تعاملت مع الثورات العربية بما يلائم مصالحها الوطنية، وتحالفاتها الإقليمية؛ حيث يولي النظام السياسي في إيران اهتمامًا بالغًا للسياسة الخارجية أساسًا، في غياب سياسة داخلية مركبة أو ديمقراطية. إيران التي تدعم المقاومة، بما فيها حركتي حماس والجهاد الإسلامي، اتبعت سياسة مذهبية في تعاطيها مع الثورات العربية؛ حيث حاولت تقديم نفسها على أنها حاملة لواء الدفاع عن الشيعة في الوطن العربي، مع أنهم عرب وليسوا إيرانيّين. وهي نزعة تراهن على تحويل التنوع الطّائفي العربي إلى ولاءاتٍ سياسية على أقل تقدير (25).

خلاصات وتوصيات

مثّل العام 2011 مفصلاً مهمًا في التاريخ السياسي العربي المعاصر، فقد ظلت المنطقة الأقل تغيرًا في التحول الديمقراطي في العالم منذ الموجة الديمقراطية الثالثة التي بدأت في عام 1989، ولكن العام 2011 مثّل نهاية لهذه الاستثنائية الديمقراطية، فمنذ ديسمبر/كانون الأول 2010 وحتى اليوم شهد العديد من الدول العربية خروجًا شعبيًا غير مسبوق للمطالبة -ليس فقط- بالإصلاحات السياسية والشفافية وحكم القانون، ولكن بتغيير الأنظمة.

وقد أظهرت وقائع الربيع العربي مفاجأة للقوى الدولية، وبناءً على مراقبة سلوك هذه القوى تجاه ما يحدث في الدول التي اندلعت فيها ثورات ظهر في البداية حيادها مع مراقبتها لما يحدث حتى الوصول إلى نقطة معينة في تغيير ميزان القوى على الأرض، حينها تغير هذا السلوك بالكامل. وعلى العموم من بين العوامل المحددة لتغير سلوك القوى العظمى مدى الأهمية الجيوبوليتيكية للدولة المعنية، وأيضًا مدى أهمية هذه الدولة للاستقرار الإقليمي، وأخيرًا قوة النظام واحتمالات مقاومته للثورة وبقائه. والملاحظة الأهم هي وضوح ازدواج موقف القوى العظمى تجاه التغيير بناء على مكان حدوثه ومدى مصالح القوى العظمى المرتبطة بنتائج هذا التغيير.

كما يجب إيلاء انتباه خاص للرعاة الإقليميين ودورهم في تسهيل أو منع التحول الديمقراطي؛ فعلى سبيل المثال كان للسعودية دور حاسم في الضغط على النظام في اليمن لإحداث التحول سلميًا، وبالمقارنة فإن دور إيران يعزز من تعنت وصعوبة تغيير النظام السوري؛ لذا يجب تحليل رؤية وإدراك الرعاة الإقليميين لمسائل التغيير الإستراتيجي الذي سيحدث نتيجة عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة وأثر ذلك على الصراع الإقليمي-الإقليمي وتغير موازين القوة. أيضًا كيف تنظر كل دولة إقليمية مؤثرة لأمنها القومي من خلال التحولات الديمقراطية حولها، إذًا بإختلاف الدول الرعاة الإقليميين، مثل (السعودية، تركيا، إيران)، واختلاف رؤاها تختلف النهايات.

تحت تأثير التحول الديمقراطي ومطالب الداخل و ضغوط الخارج اضطرت الدول العربية إلى الدخول في مسار التحول الديمقراطي ولكن بطريقة بطيئة للغاية ومتعثرة. وهذا يطرح تساؤلاً حول الشروط التي تجعل الديمقراطية ممكنة وناجعة. ورغم وجود تفسيرات عدة حول الشروط التي تجعل الديمقراطية ممكنة، مثل توفر ظروف اجتماعية واقتصادية كالدخل الفردي، والتعليم المنتشر، وتوسع مدنية المجتمع، والالتزام بقيم وأحكام الديمقراطية، إلا أنه في الحالة العربية وجدنا أن العامل الخارجي كعامل محفز أو مثبط لعمليات التحول الديمقراطي يمثل الدور الأكبر.

ورغم بعض التشابه مع بعض التجارب العربية، ارتكزت تجارب التحول الديمقراطي في أميركا اللاتينية على أربعة أنماط من التحول تمثلت في، أولاً: التنازلات التي تبدأ كخيار ذاتي لدى النخبة الحاكمة؛ ثانيًا: المفاوضات التي تقود لخروج النخبة الحاكمة من السلطة بطريق آمن؛ ثالثًا: الخروج من الحكم تحت الضغوط الشعبية؛ ورابعًا: التدخل الخارجي. وفي التجارب العربية، حتى الآن، حصل التغيير عن طريق الأنماط الثاني والثالث والرابع في كل من اليمن وتونس ومصر وليبيا على التتابع. إلا أن تغيير السلطة السابقة لم يترتب عليه انتقال ديمقراطي تام ولكن عوضًا عن ذلك الدخول في مرحلة تحول ديمقراطي قد تطول وتنجح وقد تنتكس.

كما وجدنا أن حركات الإسلام السياسي ومؤسسة الجيش قامت بالدور الرئيسي للتغيير في أغلب التجارب العربية، وذلك نتيجة هشاشة مؤسسات المعارضة السياسية وضعف المجتمع المدني. إلى جانب ذلك تميزت التجارب العربية باستمرار تداخل الدين مع السياسة على أكثر من مستوى تتجاوز حتى حدود تلك المعارضة الدينية المسيسة، وهذا أمر مقصور على التجربة العربية. وبالتالي؛ فالصراع الدائر بين من يدافعون عن التحديث ومن يرفضونه، أو بين أصحاب الدعوة إلى "الدولة الدينية" والذين يتطلعون إلى "الدولة المدنية" هو أمر يختص به العالم العربي.
__________________________________
أحمد عبدالكريم سيف - أستاذ العلوم السياسية المشارك بجامعة صنعاء، العميد المشارك بكلية اليمن لدراسات الشرق الأوسط، والمدير التنفيذي لمركز سبأ للدراسات الإستراتيجية

المصادر
1- بول سالم، الربيع العربي من منظور عالمي: استنتاجات من تحولات ديمقراطية في أنحاء أخرى من العالم، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
http://arabic.carnegieendowment.org/publications/?fa=view&id=45980 
2- السيد ياسين، صعود وسقوط نظرية التحول الديمقراطي
http://www.alraynews.com/PrintPaper.aspx?id=14071
3- نادية أبو زاهر، "قراءة في مقالة دانكوارت رستو–التحولات الديمقراطية تجاه نموذج ديناميكي"، الحوار المتمدن - العدد: 2093- 8/11/2007- 12:13.
4- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المنتدى الدولي حول تقرير موجز حول التجارب الدولية والدروس المستفادة والطريق قدمًا:
مسارات التحول الديمقراطي، يونيو/حزيران 2011، ص 6. www.cairotransitionsforum.info
5- عامر ذياب التميمي، الديمقراطية والمجتمعات المتخلفة، الرابط:
http://local.taleea.com/archive/column_details.php?aid=10&cid=1411&ISSUENO=1603
6- عصام العدوني، التحولات الراهنة وأسئلة الديمقراطية والتوافق، الرابط:
http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/6579
7- نفس المصدر السابق.
8- هالة مصطفى، "التحول الديمقراطي بين أوروبا الشرقية والعالم العربي"، الأهرام اليومي، 16 مايو/أيار 2010.
9- هالة مصطفى، "التحول الديمقراطي بين أوروبا الشرقية ..."، المصدر السابق.
10- حسين بهاز، التجربة الانتخابية والتحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية: دراسة حالة يوغسلافيا سابقًا وأوكرانيا، دفاتر السياسة والقانون، عدد خاص إبريل/نيسان 2011، ص 133-134. انظر أيضًا: نادين عبد الله، الانتقال الانتخابي للسلطة والتحول إلى النظام الديمقراطي في أوروبا الشرقية: صربيا وسلوفاكيا نموذجًا، المؤتمر السنوي الثاني لحالة الديمقراطية في مصر: كيف تصبح الانتخابات آلية للتداول السلمي للسلطة في مصر. القاهرة 4 - 5 يوليو/تموز 2010.
11- مساعيد فاطمة، التحولات الديمقراطية في أميركا اللاتينية: نماذج مختارة، دفاتر السياسة والقانون، عدد خاص إبريل/نيسان 2011، ص 211.
12- لمزيد من الأدبيات حول هذا الموضوع، انظر: مساعيد فاطمة، التحولات الديمقراطية في أميركا اللاتينية: نماذج مختارة، دفاتر السياسة والقانون، عدد خاص إبريل/نيسان 2011، ص 219-220، وعمرو عبد الكريم سعداوي، التعددية السياسية في العالم الثالث: الجزائر نموذجًا، السياسة الدولية، العدد 138، أكتوبر/تشرين الأول 1999، ص 58، ومحمد مصطفى، التحول الديمقراطي في نيجيريا إلى أين؟ السياسة الدولية، أكتوبر/تشرين الأول 1993، العدد 114، ص 204.
13- هـالة مصطـفى، نماذج التحول الديمقراطي في العالم جنوب وشرق أوروبا‏..‏ أيهما أقرب إلى التجربة العربية؟ مجلة الديمقراطية، مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية.
14- مساعيد فاطمة، التحولات الديمقراطية في أميركا اللاتينية ..، مصدر سابق، ص 224.
15- احمد عبدالكريم سيف، التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط: سيناريوهات محتملة، المقدمة إلى نـــــدوة "الثورة والانتقال الديمقراطي في الوطن العربي: نحو خطة طريق"، مركز دراسات الوحدة العربية، 6-8 شباط / فبراير 2012، تونس – الجمهورية التونسية.
16- هـالة مصطـفى، نماذج التحول الديمقراطي..، مصدر سابق.
17- حسين بهاز، التجربة الانتخابية والتحول الديمقراطي في أوربا الشرقية..، مصدر سابق، ص 163.
18- بهاء أبو كروم، الربيع العربي بين الإستراتيجيّتين: الأميركية والروسية، جريدة الحياة، 31 مارس/آذار 2012.
19- إسكالبو نيفاس، "التدخل في ليبيا... ضرورات ومحاذير"، الرابط:
  http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=58160
20- نفس المصدر السابق.
21- إيلاف، "تركيا تدعم التحولات الديمقراطيّة في العالم العربي"، الرابط:
http://www.elaph.com/Web/news/2011/3/642939.html
22- نفس المصدر السابق.
23- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، التّوازنات والتّفاعلات الجيوستراتيجيّة والثّورات العربيّة، سلسلة: تحليل سياسات، إبريل/نيسان 2102، ص 12.
24- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، التّوازنات والتّفاعلات الجيوستراتيجيّة والثّورات العربيّة، سلسلة: تحليل سياسات، إبريل/نيسان 2102، ص 14.
25- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، التّوازنات والتّفاعلات الجيوستراتيجيّة والثّورات العربيّة، سلسلة: تحليل سياسات، إبريل/نيسان 2102، ص 17.

عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف

نبذة عن الكاتب