الأزمة المالية ومستقبل النظام الرأسمالي

ليست هذه هي المرة الأولى التي يؤدي فيها وقوع أزمة مالية إلى إثارة الشكوك فى صلاحية النظام الرأسمالى وكفاءته، وفيما إذا كانت الأزمة دليلا جديدا على فساد الرأسمالية، أو بداية النهاية لهذا النظام.







جلال أمين


لم يكن غريبا أن تؤدي الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة إلى فتح باب النقاش حول مستقبل الرأسمالية. ليست هذه هي المرة الأولى التي يؤدي فيها وقوع أزمة مالية إلى إثارة الشكوك في صلاحية النظام الرأسمالي وكفاءته، وفيما إذا كانت الأزمة دليلا جديدا على فساد الرأسمالية، أو بداية النهاية لهذا النظام.


كان من الطبيعي أن ينشط أعداد الرأسمالية، بمجرد وقوع الأزمة للتعبير عن شماتتهم في النظام الرأسمالي وأن يقولوا ما معناه "ألم نقل لكم؟" كما كان من الطبيعي أن ينهض أنصار الرأسمالية فيقدموا حججا للتدليل على أن ما حدث هو أبعد ما يكون عن بداية النهاية للرأسمالية، وأن النظام الرأسمالي، رغم كل ما حدث، أفضل النظم المتاحة, ولابد أن يستمر.





يقول الأستاذ ميرون "فى بلد مفرط فى الليبرالية لا يوجد بنك احتياطى فيدرالي"، هذا البنك الذى ارتكب فى نظر ميرون أخطاء أدت إلى الأزمة الحالية
بل لم أجد غريبا أن ينهض أستاذ مرموق في جامعة هارفارد، ليذهب إلى أبعد من هذا، فهو لا يكتفي بالقول بأن ما حدث ليس دليلا على فشل النظام الرأسمالي، بل يقول إنه دليل نجاحه، إذ أن ما حدث لم يكن بسبب ترك قوى السوق الحرة أكثر من اللازم، أو ما يسمى بتخفيض درجة تدخل الدولة (Deregulation)، بل على العكس من هذا تماما، إن ما حدث كان نتيجة لتدخل الدولة بدرجة أكبر من اللازم في حرية السوق، وإنه لو كانت الرأسمالية أطلقت فعلا من كل قيد لما حدثت الأزمة.

يقول الأستاذ جيفرى ميرون إن الأزمة المالية الحالية جاءت كنتيجة مباشرة لتدخل الدولة في الولايات المتحدة "بتشجيع مالكي العقارات على أخذ القروض، وتشجيعها البنوك التجارية والاستثمارية وغيرها على منح هذه القروض".


إن الولايات المتحدة، في نظر الأستاذ ميرون، بعكس ما يقول خصوم الرأسمالية، لم تتبع سياسات مفرطة في تحررها من تدخل الدولة، لا خلال العشر سنوات الأخيرة ولا خلال القرن الماضي كله، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت البنوك، عندما تمر بفترة من نقص السيولة، قد امتنعت عن السداد، ولقالت لأصحاب الودائع "معذرة، لا يمكنكم الحصول على نقودكم كاملة الآن". وفى هذه الحالة يمكن للنظام المصرفي أن يتفادى "السقوط بالجملة".


يقول الأستاذ ميرون "في بلد مفرط في الليبرالية لا يوجد بنك احتياطي فيدرالي"، هذا البنك الذي ارتكب في نظر ميرون أخطاء أدت إلى الأزمة الحالية، كما حدث عندما تسبّب في استمرار معدل الفائدة منخفضا لمدة أطول من اللازم، "نافخا" بذلك فقاعة العقار التي كانت ذات دور رئيسي في اضطرابات السنتين الأخيرتين.


وإجمالا، يقول الأستاذ ميرون "في البلاد المفرطة في الليبرالية، يجازف الأفراد وأصحاب الأعمال، ويفكرون مليا في عواقب مجازفتهم وطبيعة المخاطر المحترقة باستثماراتهم. فقد يجنى البعض منهم الكثير من مجازفاتهم الذكية، لكن البعض الآخر قد يخسر، وهكذا يأخذون من أرباحهم زمن الرخاء ما يعوضون به خسارتهم زمن الشدة و الأزمة".


هذه الفقرة الأخيرة من حديث جيفرى ميرون تبين بوضوح الفارق الحقيقي بين نظرتين أساسيتين إلى الرأسمالية ومدى صلاحيتها للاستمرار.





حتى لو بدا وكأن كلا من النموذجين الرأسمالي القح والاشتراكي القح ممكن التطبيق في الواقع لفترة ما، فإنه يتضح عاجلا أو آجلا عدم قابلية أى منهما للاستمرار
فأنصار الرأسمالية الذين ينادون ناقصي درجة من الليبرالية بضرورة إفساح مجال أكبر لحرية السوق والمنافسة، وخصوم الرأسمالية الذين ينادون بضرورة تدخل الدولة لتصحيح أي خطأ قد يحدث في نظام السوق الحرة، بل ولمنع حدوثه ابتداء، يشتركان، رغم تعارضهما الحاد، في خصلة مهمة واحدة: وهى أن كلاّ منها يتبنى نموذجا عقليا مجردا، قد تتسق عناصره، بل وقد يبدو كالبناء الجذاب المتكامل بسبب هذا التناسق، ولكنه غير واقعي، بمعنى تعارض كل منهما مع بعض الخصائص الثابتة في المجتمع الإنساني، والتي ترفض الرضوخ لمتطلبات أي من هذين النموذجين العقليين.

وحتى لو بدا وكأن كلا منهما ممكن التطبيق في الواقع لفترة ما، فإنه يتضح عاجلا أو آجلا عدم قابلية أي منهما للاستمرار. بعبارة أخرى، إن كلا النموذجين، الرأسمالي القح والاشتراكي القح، يتعارضان مع بعض السمات الأساسية في الطبيعة الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، ومن ثم لا بد أن تنتج عن كل منهما، لو قدر لهما التطبيق الكامل، أضرارٌ اجتماعية ونفسية فادحة، وهذا السبب وحده يمنع بالضرورة من تحقق هذا التطبيق الكامل في الواقع، أو على الأقل يمنع استمراره طويلا.


فلنأخذ أولا نموذج النظام الاشتراكي القح، أو نظام التدخل الصارم من جانب الدولة في كل كبيرة وصغيرة من جوانب النشاط الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية. هذا النموذج يتجاهل أكثر من اللازم قوة الدافع الموجودة لدى كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة سواء اتفقت أو تعارضت مع مصلحة المجموع.


هذا الدافع القوى، والذي مجّده آدم سميث، ليس هو بالطبع الدافع الوحيد، ولكنه دافع موجود بقوة تفوق ما يريد النموذج الاشتراكي الاعتراف به. فإذا كان آدم سميث قد أخطأ في المبالغة في الاعتقاد بالانسجام بين هذا الدافع لتحقيق المصلحة الخاصة وبين تحقق المصلحة العامة، فإنه لم يخطئ في تأكيد أهمية هذا الدافع في تفسير كثير من التصرفات الاقتصادية وربما معظمها.


لقد بالغ الاشتراكيون بلا شك في قدرة الدولة على تحريك المشاعر الفردية بمجرد الاعتماد على إثارة الشعور بالولاء للمجموع، وبمنحه النياشين وشهادات الاعتراف بمساهمته في تحقيق المصلحة العامة، وبالغوا في تجاهل رغبة الفرد في التميز عن غيره، وقوة روح المنافسة بين الناس وما يمكن أن ينتج عن هذه الرغبة في التميز وعن هذا الميل إلى المنافسة من آثار طيبة على المجتمع ككل.


ولكن ليس هذا هو وجه التعارض الوحيد بين النموذج الاشتراكي القح والطبيعة البشرية. فشعور الفرد بالولاء للمجتمع ككل ليس فقط أضعف -في معظم الأحوال- من دافع تحقيق مصلحته الشخصية، بل هو أضعف أيضا -في معظم الأحوال- من شعوره بالولاء لأسرته الصغيرة. وقد تجاهل النموذج الاشتراكي هذا أيضا، فافترض سهولة التفريق بين الفرد وأهله، إذا تطلبت ذلك مصلحة المجتمع ككل، بل وشجع أحيانا على تنكر الفرد لأهله استناداً إلى مبررات موهومة تتعلق بالصالح العام.


والنظام الاشتراكي يعطى الدولة قوة كثيرا ما تفوق قدرة الأفراد على الاحتمال، ومن ثم يحرمهم من حريات أساسية وغريزية بالطبيعة على كل فرد، مهما كانت قوة الأسباب الداعية إلى التضحية بها.


أضف إلى هذا وذاك ميل الإنسان الطبيعي إلى التغيير وممارسة التجارب الجديدة وحيه للتنوع والابتكار. إن هذا الميل أيضا سمة لصيقة بالطبيعة الإنسانية التي ليس من السهل كبتها و إجبار الفرد على التخلي عنها.





النظام الاشتراكي يعطى الدولة قوة كثيرا ما تفوق قدرة الأفراد على الاحتمال، ومن ثم يحرمهم من حريات أساسية وغريزية بالطبيعة
نعم، إن إشباع الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن.. الخ، أكثر أهمية من إشباع هذه الرغبة في التغير والتنوع، ولكن لا بد من الاعتراف بأن هذه الرغبة الأخيرة كثيرا ما توجد حتى في ظل الحرمان من بعض الحاجات الأساسية، ومن ثم لا يجوز دائما التعلل بإشباع الحاجات المادية الأساسية تزداد بلا شك أهمية إشباع هذه الرغبة في التجديد.

إن أوجه التعارض هذه بين متطلبات النموذج الاشتراكي القح وبعض سمات الطبيعة الإنسانية، كانت مسئولة بلا شك عما أصاب الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية التابعة له من ضعف في العقدين أو الثلاثة السابقة لسقوط الاشتراكية، وسهلت بلا شك مهمة المعسكر الرأسمالي في التعجيل بإسقاطه.


من ناحية أخرى، نحن نخطئ أيضا إذا اعتقدنا أن النموذج الرأسمالي القح لا يتضمن بدوره أوجه تعارض أساسية مع الطبيعة الإنسانية. فالإنسان كما يحتاج إلى التغيير والتجديد، يحتاج إلى توفير قوته الأساسي وقت عياله، و إلى مسكن لائق بالآدميين، وإلى وظيفة مستقرة يطمئن بها إلى مستقبله ومستقبل أولاده.


ولا يجوز التحجج بميل الإنسان إلى تجديد ما يستهلكه من سلع، وحقه في ممارسة الاختيار بين أصنافها المتنوعة كتبرير لإهمال إشباع حاجات الإنسان المادية الأساسية، ولحرمانه من الحد الأدنى من الاستقرار والاطمئنان إلى المستقبل.


والنظام الرأسمالي، إذا ترك له الحبل على الغارب، يهدد بطبيعته هذه الأهداف الأساسية. إن شريعة النظام الرأسمالي القح هي شريعة الغاب، المنتصر فيها هو الأقوى، وليس بالضرورة الأفضل أو الأجمل، والضعيف فيها مهزوم مهما كانت جدارته الأخلاقية أو الجمالية.


والطبيعة الإنسانية ليست، فيما أظن، بهذه الدرجة من القسوة، فهناك حدود لما يمكن أن يتحمله الفرد، وكذلك أي مجتمع إنساني، من ظلم القوى للضعيف، بل إن نشأة المجتمع الإنساني في الأصل، واختراع الدولة في أبسط صوره، كانتا لمنع هذا النوع من الظلم، ولتوفير حد أدنى من حماية الضعيف من بطش القوى.





شريعة النظام الرأسمالي القح هي شريعة الغاب، المنتصر فيها هو الأقوى، وليس بالضرورة الأفضل أو الأجمل، والضعيف فيها مهزوم مهما كانت جدارته الأخلاقية أو الجمالية
لهذا السبب لم يعرف التاريخ ، فيما أظن، أي مثال واقعي للنظام الرأسمالي القح. فالدولة كانت تتدخل دائما في ظل النظام الرأسمالي بدرجة أو بأخرى. ومجرد الاعتراف بمسئولية الدولة عن "استتباب الأمن" أو عن "حماية النظام العام"، يتضمن اعترافا بدور للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية أكبر مما يظن أيضا النموذج الرأسمالي القح.

هذا النموذج لم يوجد إلا في أذهان بعض المفكرين، وحتى الرجل الذي ينسب إليه أكثر من غيره الدفاع عن ترك نظام السوق حرا وتخفيض دور الدولة إلى الحد الأدنى (آدم سميث) كان يعترف في كتابه، من حين لآخر، بدور مهم للدولة، إما لتحقيق الأمن القومي، أو لمنع الاحتكار، أو حتى لمنع انتشار البطالة.


إذا كان الأمر كذلك، فإن الخلاف بين أنصار الاشتراكية (كنموذج مثالي) وأنصار الرأسمالية (كنموذج مثالي أيضا) هو في الحقيقة خلاف أكاديمي أكثر منه خلافا حول تقييم الواقع أو طرق التعامل معه بسياسة واقعية.


ودعوة الأستاذ جيفرى ميرون إلى إطلاق عقال الرأسمالية إلى أبعد حد ممكن دعوة خيالية، لا تعبّر عن حقيقة تاريخية ولا عن مستقبل ممكن التحقيق. كما أن دعوة خصوم الرأسمالية إلى تطبيق نظام اشتراكي من النوع الذي حلم به الاشتراكيون على مر العصور، لمجرد أن النظام الرأسمالي قد دخل مرة أخرى في أزمة شديدة، ليست إلا واحدة في سلسلة من أزمات متكررة، هي أيضا دعوة حالمة لا يؤيدها لا التاريخ ولا النظرة الواقعية للمستقبل.


الراجح أن الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة لن تسفر عن أكثر من نظام مختلط، مثلما كان النظام قبلها مختلطا، بين الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة. لابد أنها ستسفر عن درجة من تدخل الدولة أكبر مما كان سائدا قبل الأزمة (فهذه في رأيي ورأي كثيرين ضرورة تفرضها مطالب اقتصادية واجتماعية قوية، ولابد أن درجة التدخل المطلوبة تختلف من دولة لأخرى، بحسب مرحلة نموها الاقتصادي، ومدى عمق مشاكلها الاجتماعية والطبقية، ومدى طموحها إلى تحقيق تقدم اقتصادي سريع.


ولكن ليس هناك ما يدل على أن الأزمة الحالية، مهما كانت شدتها، سوف تطيح بالنظام الرأسمالي إلى الأبد، ولا حتى لفترة طويلة من الزمن، إذ ليس في الأفق ما يدل على الإطلاق، أن الطبيعة الإنسانية قد تغيرت أو يمكن أن تتغير إلى هذه الدرجة.
_______________
كاتب مصري