مؤشرات ودلالات امتعاض أوروبا من انفراد أميركا بالتسوية

ثمة بوادر لا تخلو من دلالة تشير إلى امتعاض أوروبي من الانفراد الأميركي في معالجة موضوع التسوية بين حكومة الكيان الصهيوني وسلطة رام الله.
fb8fd955686e4df98f5e9916811e2029_18.jpg
(الجزيرة)

منير شفيق

ثمة بوادر لا تخلو من دلالة تشير إلى امتعاض أوروبي من الانفراد الأميركي في معالجة موضوع التسوية بين حكومة الكيان الصهيوني وسلطة رام الله.

وقد تبدّت هذه البوادر من خلال غياب وزيرة خارجية الإتحاد الأوروبي كاترين أشتون عن حضور قمة إطلاق المفاوضات المباشرة في واشنطن. وهي مناسبة يفترض بأوروبا أن تكون في مقدّمها لا أن تتغيّب عنها. وذلك للأهمية التي يضعها الاتحاد الأوروبي لمشاركته في عملية التسوية المذكورة.

عندما سئلت أشتون عن سبب غيابها جاء جوابها خشناً يتضمن انزعاجاً من الترتيبات الأميركية لقمّة إطلاق المفاوضات الثنائية، قالت أشتون "اخترت ألاّ أكون في الصف الثاني في حديقة البيت الأبيض وأن أكون في صلب محادثاتنا مع الصين في بكين، والتي تشكل فرصاً مهمة وذات دلالة".

الإدارات الأميركية تركت لأوروبا دور المساهم في دفع الأموال بعد إتمام صفقة التسوية أو في أثناء ذلك، وليس دور الشريك. لأن الدور هنا سيعكس مستقبل دورها على مستوى ما يسمّى (زوراً) بمنطقة الشرق الأوسط

يبدو من هذا التصريح أن إدارة أوباما تتعامل مع أوروبا في الموضوع الفلسطيني كما سبق وتعاملت معها إدارتا كلينتون وبوش الابن وقبلهما إدارة بوش الأب، فلا بدّ من أن يُذكر، بهذه المناسبة، أن الإدارات الأميركية تركت لأوروبا دور المساهم في دفع الأموال بعد إتمام صفقة التسوية أو في أثناء ذلك، وليس دور الشريك الذي يواكب العملية مواكبة تليق بالدور الأوروبي أو بما تراه أوروبا من دور لها في تلك العملية. لأن الدور هنا سيعكس مستقبل دورها على مستوى ما يسمّى (زوراً) بمنطقة الشرق الأوسط.

كانت موازين القوى وشعور أميركا بالتفوّق الكاسح داخلها يسمحان بتعامل الإدارات الأميركية سابقاً على تلك الطريقة (العنجهية) مع الدور الأوروبي. وقد وصل الأمر بأحد أعضاء الوفد الأميركي في مؤتمر ميونيخ للأمن العالمي في شباط/فبراير عام 2002 أن ردّ في إحدى اللقاءات الجانبية على الاحتجاج الأوروبي المتعلق بالدور الأوروبي قائلاً: "نحن نعدّ الطبخة ونرتب المائدة وسنترك للأوروبيين جلي الصحون".

ولكن موازين القوى الراهنة في عهد إدارة أوباما تستدعي تغيير تلك المعادلة أو في الأقل التخفيف من العنجهية الأميركية السابقة، والتي أثبتت فشلها في التطبيق العملي ولا سيما في مرحلة إدارة جورج دبليو بوش في عهدها الأول 2001-2005.

إن ما أصاب إدارة أوباما ومن قبلها إدارة بوش الابن في عهدها الثاني من تراجع في موازين القوى العالمية والإقليمية عندنا، وما تعانيه من أزمة مالية وانقسامات داخلية ومن تتالي حالات الفشل والإخفاق في مشاريع التسوية التي حملها ميتشل حتى الآن، تفترض إعادة النظر في تقاليد الإدارات الأميركية السابقة بخاصة، بل مع مختلف القضايا بعامة. ولكن يبدو أن الأقوياء المتسلطين قد يفقدون من قوتهم وقدراتهم عملياً إلاّ أنهم لا يتنازلون عن غرورهم وعنجهيتهم. الأمر الذي يسهم في ارتكابهم المزيد من الأخطاء. ذلك لأن الغرور والعنجهية لا يساعدان على إجراء تقدير موقف صحيح لموازين القوى ولكيفية إدارة الصراع. وبهذا يتفاقم ارتكاب الأخطاء فالفشل.

صدرت تصريحات أوروبية حملت دلالة خاصة في معالجة هذا الإشكال الذي عبر منه غياب أشتون عن قمة واشنطن المذكورة. لقد صدر الأول عن وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير انتقد فيه غياب أشتون وأكد على ضرورة حضور أوروبا لإشعار الأميركيين أنهم ليسوا الوحيدين الذين سيجدون حلولاً ملائمة.

وصدر التصريح الأوروبي الثاني عن وزير خارجية لوكسمبورغ الذي رفض اعتبار طوني بلير ممثلاً لأوروبا في الرباعية وأكد على ضرورة التمثيل الأوروبي وأن تكون أوروبا "لاعباً قوياً جداً" وعدم إشعار الأميركيين "أنهم اللاعبون الوحيدون".

أما وزير خارجية فنلندا ألكسندر ستاب فقد دافع عن موقف أشتون مؤكداً أنها اتخذت القرار الصائب.

التبعية الأوروبية للسياسات الأميركية من شأنها أن تزيد أميركا ضعفاً وتزيد أوروبا ضعفاً في وضع دولي أخذ الغرب بمجمله يفقد سيادته العالمية الذي تمتع بها لعدّة قرون

إذا كان تصريحا كل من وزير خارجية فرنسا ولوكسمبورغ قد انتقدا غياب أشتون إلاّ أنهما دعما موقفها، بصورة غير مباشرة، بالتأكيد على الدور القوي الذي يجب أن يكون لأوروبا، وعلى إشعار الأميركيين أنهم ليسوا الوحيدين في عملية التسوية.

باختصار يدلّ هذا الجدال الأوروبي-الأوربي على أمرين: الأول تجاهل إدارة أوباما إعطاء دور بارز لأوروبا كشريكة في عملية التسوية. الأمر الذي يدّل على سوء تقدير لوضعية أميركا الضعيفة في ميزان القوى بل حتى لضعفها أمام نتنياهو واللوبي الصهيوني الأميركي. مما يفترض استعانة أكبر بأوروبا.

والثاني يشير إلى ما أصاب السياسات الأوروبية لا سيما الفرنسية والألمانية من افتقار لدرجة من الاستقلالية التقليدية عن السياسات الأميركية حتى بالتفاصيل الثانوية. الأمر الذي سمح لإدارة أوباما الضعيفة أن تتعامل معهما بعنجهية ولا تحسب لتجاهل أوروبا حساباً. فأوروبا في عهدَيْ ميركل وساركوزي وبيرلسكوني فقدت دورها الذي عارض حرب العدوان على العراق، ناهيك عن دور فرنسا الديغولي وأميركا في عز قوتها وسطوتها.

هذه التبعية الأوروبية للسياسات الأميركية من شأنها أن تزيد أميركا ضعفاً وتزيد أوروبا ضعفاً في وضع دولي أخذ الغرب بمجمله يفقد سيادته العالمية الذي تمتع بها لعدّة قرون. ولهذا لا مفرّ من أن تدخل أوروبا في جدال مع نفسها تحت عنوان: أين الدور الأوروبي؟ أين أوروبا؟ بل أين الغرب؟  

_______________

باحث في الشؤون الاستراتيجية