التحديات الإستراتيجية للفكر الصهيوني

تعاني إسرائيل من تناقضات عميقة في إدراكها الاستراتيجي، فأمنها يعتمد على مبدأ القوة العسكرية الذي تتآكل فعاليته وجدواها السياسية، وتحالفاتها الخارجية تضعف لأن العالم يزداد انفتاحا وهي تزداد انطواء.
26 فبراير 2012
6aed8b9cd72146638e77af2d67fef20a_18.jpg
التحديات الإستراتيجية للفكر الصهيوني [Al Jazeera]

بينما تنشغل دول العالم كافة في وضع إستراتيجيات لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحتملة لتطورها ولشبكة علاقاتها الداخلية والخارجية؛ فإن إسرائيل تنفرد بشكل دائم بقضية "الوجود في حد ذاتها"؛ إذ لا تربط إسرائيل بين التطورات الكبرى في شبكة الحياة الدولية وبين انعكاساتها على الأنساق الفرعية في الدولة والمجتمع، بل تقفز إلى أثر ذلك على "بقائها ووجودها كدولة"؛ فالعالم مشغول بالنمو والتطور بينما تنشغل إسرائيل بالبقاء؛ ومن المؤكد أن عمق القلق على الوجود أكبر كثيرًا من عمق القلق على النمو والتطور، فيترتب على ذلك المبالغة إلى حد الإفراط في تضخيم نتائج أي تطور في الساحة الداخلية أو الإقليمية أو الدولية؛ فالنمو الطبيعي للسكان الفلسطينيين، أو العلاقة السورية مع كوريا الشمالية، أو التطور في العلاقات الدولية الإيرانية، أو زيادة نسبة التعليم في مصر، أو امتلاك باكستان للأسلحة النووية، أو علاقات حزب الله مع مسلمي العالم، أو التصالح بين السنة والشيعة، أو فوز الإخوان المسلمين في بلد معين وغيرها، كلها ظواهر لا تنظر لها إسرائيل كظواهر طبيعية بل كتهديد لوجودها وبقائها، ويكفي العودة لرسالة الدكتوراه التي كتبها رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق يهوشفاط هاركابي عن التوجهات العربية تجاه إسرائيل عام 1974 لإدراك عمق هذه المشكلة(1).

من ناحية أخرى، فإن إسرائيل تفترض أن تتبنى الدول الأخرى نظرتها إلى أية تطورات داخلية أو إقليمية أو دولية، وتراها من نفس منظارها القائم على فكرة الوجود والبقاء، فالوحدة بين أي بلدين عربيين أو حتى التكامل بينهما تراه إسرائيل تطورًا يحمل في ثناياه خطرًا على وجودها، وتفترض أن ترى بقية دول العالم هذا التطور من نفس المنظور حتى لو كان هذا التطور في مصلحة تلك الدول الأخرى.

وفي المرحلة الأخيرة، مع بداية 2012، ثمة ثلاث ظواهر عززت "عقدة" الأمن في إسرائيل، وهي انهيار مسار التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي، وبروز مؤشرات على بداية ضعف في المكانة الأميركية في النظام العالمي، ثم النتائج المحتملة للربيع العربي على خريطة العلاقات الإقليمية.

ونظرًا لعدم محدودية عناصر تهديد البقاء في المنظور الإسرائيلي، فإننا سنتوقف عند أبرزها في الفكر الصهيوني.

التحدي الأول: التهديد الأمني

سيطر على أدبيات الدراسات الإستراتيجية حتى منتصف ستينيات القرن الماضي مفهوم ضيق للأمن تمثل في "تحجيم أو إلغاء الخطر الخارجي"، وتمحور المفهوم -إلغاء الخطر الخارجي أو تحجيمه- حول طبيعة التفاعل مع بيئات الدولة الثلاث:

البيئة المحاذية (الدول ذات الحدود المشتركة مع الدولة).

البيئة الإقليمية (الحيز الجغرافي الذي تشكَّلت تقاليد تفاعلها التاريخي معه). 

البيئة الدولية (حيث تفيض علاقة الكيان السياسي مع ما تبقى من العالم).

وسُخِّرَ البناءُ الداخلي عبر الآلة العسكرية لتحقيق نمط محدد لهذا التفاعل، وتكثَّف مفهوم القوة حول هذا المعنى أو حول ما أسماه جنتز (Gentz) بالثقل المعادل.

وقد نشأت الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر في فترة ضغط من البيئات الثلاث على الجيتو اليهودي، فتعزز الإحساس أكثر بعقدة الأمن كاستمرار لنفس العقدة التي تعود جذورها إلى فترة باركوخبا (132-135م)؛ وتكثفت مشاعر القلق الأمني مباشرة بعد تأسيس إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني بفعل ثلاثة عوامل:

 

الثقافة الاستيطانية القائمة على القوة (وهي ذات الثقافة في المجتمع الأميركي وجنوب إفريقيا في فترة الحكم العنصري). والملاحظ أن توالي الانتصارات الصهيونية في الميدان العسكري على العرب حال دون تنامي القوى المعتدلة؛ لأن البيئة الإقليمية الصراعية لا تضغط باتجاه الاعتدال، بل إنها عززت داخل إسرائيل تمدد الاتجاه المتشدد المؤكد على فكرة القوة في أوصال المجتمع الصهيوني وانحسرت قوى الاعتدال الصهيونية. 

ضغوط العقل الباطن الجمعي الصهيوني المشكَّل من إحساس بالاغتصاب لممتلكات الغير.

 الموروث التاريخي كتراث يهودي أو كخبرة تاريخية.

 

غير أن التحولات الكبرى، التي أصابت بنية المجتمع الدولي، امتدت آثارها إلى مفهوم الأمن، الذي أصبح مفهومًا شموليًّا وغير مقتصر على مفهوم العراك العضوي ولا على البيئة الخارجية فقط، وهو ما نجد صداه في كتاب شيمون بيريز عن الشرق الأوسط الجديد؛ حيث يقول: "إن منظورنا الجديد للأمن في المنطقة ليس محصورًا في البعدين الجغرافي والطبوغرافي، وعلينا إعادة النظر في مفهومنا للحرب كوسيلة للعلاقات الدولية"، ويؤكد عوزي برعام الفكرة ذاتها بتحديده لمعنى الأمن بالقول بأن "الأمن الحقيقي هو الأمن الاقتصادي".

ومع التحول في مفهوم الأمن، من التهديد العضوي إلى المشاركة في الاعتماد المتبادل بين الكيانات السياسية في التوجهات الدولية، تغيرت الوظيفة الإقليمية للقوى الإقليمية المركزية من منظور القوى القطبية الدولية، وهو ما استشعرته إسرائيل، فأكدت على وظيفتها في إطار الشرق الأوسط الكبير والصغير من خلال العمل على تحويل الصراع العربي-الصهيوني من صراع صفري إلى صراع غير صفري كإستراتيجية أمنية جديدة.

لكن إسرائيل بحكم ضيق مفهوم الأمن الإستراتيجي عندها، بقيت عاجزة عن التحلل من الأبعاد التقليدية للأمن، وتركزت هواجسها حول ثلاثة جوانب:

أ- الديموغرافيا(2): النظرة الصهيونية تقوم على أساس أن النمو الديموغرافي الفلسطيني بوتيرته الأسرع من وتيرة النمو اليهودي -رغم الوتيرة السريعة في الوسط اليهودي الأرثوذكسي- سيؤدي إلى تهديد الهوية القومية للدولة اليهودية، وقد تبدأ آثار ذلك بالتجسد مع عام 2025، والمعالجة الأمثل لذلك هي في "تهجير الفلسطينيين" ولو على مراحل إلى خارج فلسطين، غير أن هذا التهجير أصبح أقل يُسرًا مما سبق، وهنا يبرز المأزق الأول لنظرية الأمن الإسرائيلي؛ فالنقاء العِرقي هو الحل الأمني الأمثل، لكن تجسيد هذا النقاء أصبح أمرًا شبه متعذر، رغم أن اليمين الإسرائيلي يراهن على رخاوة البيئة الإقليمية وقابليتها للتكيف مع التهجير، كما أن 66% من يهود إسرائيل يؤيدونه.

ب- العمق الإستراتيجي(3): يشير العسكريون الإسرائيليون إلى أن عمق الدولة الإستراتيجي هو 40 كيلومترًا، وهو عمق لا يسمح بأي انسحاب إسرائيلي لحدود عام 1967. ورغم أن التطور التكنولوجي في مجال الأسلحة -لاسيما في قطاع تكنولوجيا الصواريخ- قلَّص إلى حد بعيد من أهمية العمق الإستراتيجي؛ فإن إصرار نتنياهو على الاحتفاظ بتواجد عسكري على نهر الأردن، وجعل حدود الدولة الفلسطينية خارج جدار الفصل العنصري، يؤكد استمرار هيمنة المفهوم التقليدي للأمن على التفكير الإستراتيجي لدى قطاع من المفكِّرين وصنَّاع القرار الإسرائيليين.

غير أن قطاعًا آخر من الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي مسكون بمسألتين، هما: مواجهة أنساق سياسية ما دون الدولة (التنظيمات الفلسطينية وحزب الله، وما قد ينشأ مستقبلاً) من ناحية، ومشاعية التكنولوجيا التي قد تصل بتطورها إلى أيدي تنظيمات قادرة على ابتزاز قوى دولية من ناحية ثانية(4).

ذلك يعني أن المأزق الإسرائيلي من هذه الناحية يتمثل في أن الانسحاب يُفقد الدولة عمقها الإستراتيجي بالمنظور القديم، وعدم الانسحاب يزيد من المساحة المتاحة أمام التنظيمات المسلحة لممارسة نشاطها الذي يمكن أن يتطور تكنولوجيًّا إلى حد بعيد، ولعل مثال تنامي القدرة العسكرية -ولو أنها ما تزال رمزية- لحماس في قطاع غزة مؤشر على الوجه الآخر للمأزق الإسرائيلي.

ورغم إستراتيجيات الدفاع الإسرائيلي لمواجهة التطور التكنولوجي (مثل القبة الحديدية لمواجهة الصورايخ من غزة أو من لبنان أو غيرهما)، إلا أن مبدأ التطور التكنولوجي بحد ذاته سيجعل الطرف الإسرائيلي أسير القلق الأمني إلى الأبد، وهو ما سيحُول دون توجهه السلمي لأي سبب آخر، فتدوم دورة الصراع، ولكن لا يمكن لدولة أن تحتمله إلى الأبد.

وعند محاولة إحدى الدراسات الإسرائيلية صياغة مفهوم إستراتيجي للأمن استنادًا لتصورات فريق بحث إسرائيلي ضم عشرين عضوًا، يظهر العامل التقني والتعليم كأبرز محددات هذا المفهوم، فمن أصل 53 محدِّدًا لمفهوم الأمن الإسرائيلي مستقبلاً، كانت النتيجة أن من بين أهم عشرة محددات كان خمسة منها ذات صلة بالتعليم والبحث العلمي، كما أن المحددين الأول والثاني لهما علاقة بالتعليم والبحث العلمي وهما الأكثر وزنًا والأكثر إجماعًا بين فريق البحث؛ ما يعني أن التطور التكنولوجي والمعرفي هو الأساس الذي تبني عليه إسرائيل إستراتيجيتها الأمنية بغرض ضمان البقاء في بيئة إقليمية ودولية لا تراها إلا "غير موثوق بها". وسنكتفي بذكر أهم عشرة محددات كما يتضح من الجدول التالي(5):

المتغير درجة التوافق عليه بين الباحثين % وزن المتغير في تشكيل مفهوم الأمن: مهم جدًّا(1)، مهم (2)، مهم نسبيا(3)، غير مهم(4)
التفوق العلمي على دول الجوار مجتمعة 95 1,10
التعليم لُبّ التخطيط الاستراتيجي 75 1,10
استقلالية إسرائيل في مجال الماء والطاقة 80 1,15
انتشار السكان في حواف الدولة، وخلق مراكز أمنية في الحواف. 80 1,15
توحيد القيم التعليمية لكل قطاعات السكان. 70 1,25
تطوير النقب. 75 1,35
ارتكاز التعليم على حكم القانون. 75 1,35
تعميق العلاقات التجارية مع الجوار لجعل تكلفة الحرب عالية على دوله. 75 1,40

ج- الحليف الدولي: يشير تاريخ الحركة الصهيونية منذ مؤتمراتها الأولى إلى أن مبدأ الاتكاء على سند دولي شكَّل ظاهرةرئيسية في سلوكها السياسي، غير أن وظيفة الحليف الدولي ليست ضمانا لأمن إسرائيل (فإسرائيل لا تثق بأية ضمانات دولية، ناهيك عن أن سجل الضمانات الدولية للدول الصغرى ليس سجلاً مشجعًا)، وإنما أن يندرج منظور الحليف الدولي في إطار المنظور الإسرائيلي للأمن وليس العكس.

ومع تزايد نقد قطاعات دولية عديدة للسلوك السياسي الإسرائيلي في مجال الأمن الدولي، بدأت إسرائيل تدرك أن الحليف الأميركي قد لا يبقى مستقبلاً على موقفه، فمثلما بدأ التغير النسبي يعتري الموقف الأوروبي (قارن الموقف الأوروبي الحالي والموقف الأوروبي في فترة العدوان الثلاثي عام 1956)، فإن الموقف الأميركي قد يتسلل له التغير كذلك، وهو ما تشير له ظواهر كثيرة لاسيما في أوساط قطاعات في النخبة الأميركية (مثل ظهور مجموعة  J Street اليهودية عام 2008، كتابات جيمي كارتر، ودراسة اللوبي اليهودي لستيفن والت وميرشايمر ومقالات كوردسمان عن إسرائيل كعبء إستراتيجي.. الخ)(6).

إن ظهور بعض الملامح على بداية تراجع المكانة الأميركية على المستوى الدولي، يجعل إسرائيل أقل اطمئنانًا لتطورات الواقع الدولي على المدى البعيد، كما أن تلكؤ الولايات المتحدة في تبني إستراتيجية هجومية ضد إيران يعمِّق الهواجس الإسرائيلية ويجعل صانع القرار الإسرائيلي أكثر ميلاً لإستراتيجية ضمان الأمن بقدرات ذاتية لاسيما التسلح النووي، وهو ما يدل على بُعد نظر صهيوني بدأ عام 1957 على يد شيمون بيريز بالتعاون مع الاشتراكيين الفرنسيين.

ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن إسرائيل لن تنظر إلى أي تطور دولي لاسيما في المستوى الإستراتيجي إلا من منظور أمني، وهو أمر يصطدم مع تحولات عميقة تصيب شبكة العلاقات الدولية، وتدفع نحو تحولات في مفهوم الأمن من جديد وبشكل لا يتسق بالقدر الكافي مع المنظور الإسرائيلي كما سأُوضح لاحقًا، ففكرة القوة تسيطر على التفكير الإستراتيجي الصهيوني، رغم أن أضعف الحلول قدرة على البقاء هي الحلول القائمة على القوة كما يقول الإستراتيجي المعروف ليدل هارت.

التحدي الثاني: تطورات النظام العالمي

دون الدخول في تفاصيل التطورات المعاصرة للعلاقات الدولية، فإن مجموعة من المؤشرات لها صلة بمستقبل إسرائيل على المستوى الإستراتيجي بعيد المدى، ويمكن تلخيصها في الآتي:

أ‌- مكانة الدولة

يتفق منظرو العلاقات الدولية على أن مزاحمة عدد من الفاعلين الجدد للدولة في وظيفتها، شكّل أحد أبرز تطورات العلاقات الدولية المعاصرة، فرغم النجاح الحالي لإسرائيل في نسج شبكة من العلاقات الدولية، إلا أن تقاليد الدولة في التراث اليهودي تقاليد فقيرة، فالمجتمع اليهودي عرف تقاليد الأقليات معرفة جيدة عبر تاريخه، لكنه لا يمتلك تراثًا في مجال العلاقات الدولية، ويكفي أن نشير إلى أن العلاقات المعاصرة تستند لمبدأ المساواة بين الجماعات السياسية المتعددة والمتنوعة، وهو ما يتجسد في منظومة حقوق الإنسان، لكنه لا يتسق مع فكرة "الشعب المختار"، ويتعزز هذا الخلل بأن كافة العقائد والأديان بل والأيديولوجيات منفتحة لانضمام الآخرين لها خلافًا للدين اليهودي الذي يُعد دينًا مغلقًا، ويتعزز ذلك بالدعوة حاليًا ليهودية الدولة، وهو أمر مفارق لتوجهات المنظومة القيمية الإنسانية المعاصرة، فجميع التيارات الفكرية والأيديولوجيات والأديان الرئيسية التي عرفتها الخبرة الإنسانية منفتحة لعضوية أي فرد من أي مكان، ما يعني أن التيارات الأيديولوجية والأديان غير مرتبطة "بشعب" أو "إقليم" محدد باستثناء الأيديولوجيا القومية، غير أن مع تراجع (وليس اختفاء) مكانة الدولة كوحدة للتحليل في العلاقات الدولية تراخى إلى حد معين ذلك الترابط بين القومية وإقليم الدولة، ويزداد ذلك التراخي بتزايد التطور والرقي في المستوى الثقافي، كما نرى بعض تجسداته في النموذج الأوروبي من خلال القبول "بإضفاء الجنسية" أو المواطنة على الآخرين المنتمين لأصول قومية أخرى؛ مما يعني التحول التدريجي في المنظومات العقائدية والأيديولوجية نحو "أفق عالمي"، بينما الأمر في اليهودية خلاف ذلك، فهي نظام اجتماعي مغلق، يمنع الفكر الصهيوني، بفعل انغلاق قاعدته المجتمعية، من القدرة على المساهمة الإستراتيجية في رؤية عالمية تتجاوز الزمان والمكان إلا إذا تخلى عن ركائزه، لكنه في المقابل سيفنى إن تخلى عنها.

فإذا أضفنا لذلك كله تراجع الوظيفة التقليدية للدولة المعاصرة، وتمركزها بشكل متزايد حول الوظيفة القسرية كما يقول جيمس روزينيو (الأمن الداخلي والأمن الخارجي)، فإن ذلك يعزز من تكثيف البعد الأمني بمدلوله العضوي في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي.

ب- التكتلات الإقليمية

 يشكِّل بناء التكتلات الإقليمية -كمرحلة وسطى بين الدولة وبين العولمة- توجهًا تؤكده المؤشرات الكمية، وهو ما يطرح على إسرائيل مشكلة تحديد الإطار الإقليمي الذي يمكن لها أن تحقق من خلاله رؤيتها الإستراتيجية القائمة على البقاء والوجود، وهنا ستجد نفسها أمام خيارين للتعامل مع هذه الظاهرة:

  1. أن تندمج في كتلة إقليمية بالمعنى التقليدي، وليس أمامها في هذه الحالة إلا المنطقة العربية أو أوروبا، لكن لكل منها مأزقها، فالاندماج أو التكامل في المنطقة العربية (شرق أوسط جديد، أو نموذج البينولوكس.. الخ) يعترضه إرث تاريخي ومعاصر مشحون بأوزار الصورة اليهودية في الذهن العربي، رغم أن في هذا الخيار ما يغري، إذْ إن التكامل مع المنطقة العربية يضمن لإسرائيل موقعًا قياديًّا؛ ألم يخاطب بيريز العرب مرة بقوله: "جربتم القيادة المصرية للمنطقة طويلاً، فجرِّبونا ولو لفترة". أما الاندماج أو التكامل مع أوروبا سيجعل من إسرائيل طرفًا تابعًا (في مواجهة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا.. الخ) في عملية صنع القرار، وفي ذلك خطورة تكمن في تكييف المفهوم الأمني الإسرائيلي لمفهوم أوروبي لا يقوم على قلق "الوجود والبقاء".
  2. أن تندمج في تكتل لا يقوم على أساس "إقليمي"، أي تكتل "عبر إقليمي" على غرار تكتل البريكس (BRICS) مثلاً، وهو أمر لا يبدو متاحًا في الظروف الراهنة، كما أن توفره يُشترط فيه -في المنظور الإسرائيلي- تكيف توجهاته مع التوجه الأمني الصهيوني.


ج- العلمنة

شكَّلت العلمانية تطورًا مهمًّا في الفكر الإنساني، غير أن تطبيقاتها تباينت من مجتمع لآخر. وعند تتبع مسايرة الفكر الصهيوني الإستراتيجي لهذا التطور، نجد أنه انطوى تاريخيًّا على تجربتين للتجديد:

 

  1. الأولى: تمثلت في التكييف التلمودي للنصوص الدينية من خلال شروحات رجال الدين اليهود؛ حيث كان للحاخامات دور بارز في مراقبة تطور الواقع المادي والبيئة العامة التي تحيط باليهود، ثم إعادة صياغة "فهم" النصوص بما يتناسب مع الواقع.
  2. أما التجربة الثانية فتمثلت في المشاركة اليهودية –وبنسبة تفوق إلى حد بعيد عددَهم- في تطور الفكر السياسي والاجتماعي والطبيعي.. الخ، العالمي، أي أنهم ساهموا في التجديد المعرفي بشكل واضح (ماركس،فرويد، آينشتاين، توفلر... الخ).

 

غير أن اللافت للنظر أن الذين ساهموا من اليهود في الفكر الإنساني كانوا هم الأقل اقتناعًا أو مشاركة –بشكل عام- في الفكر الصهيوني أو حتى قبوله، كما أن الفكر الصهيوني نجح في تجديد رؤيته للكون والآخر، ولكنه لم يتمكن من تجديد رؤيته لذاته، وهو ما عبَّر عنه هاركابي بقوله: "إن مجرد الاقتناع بأن الأيديولوجية الصهيونية يجب أن تُجدَّد لن يتسبب في نهضتها، لكن النقد الذاتي الجماعي يمكن أن يساهم في سد الفراغ الأيديولوجي.. وربما يبدو النقد الذاتي مدمرًا؛ فإذا انهار المشروع الصهيوني فإن اللوم من وجهة نظر عالم النفس الإسرائيلي تامارين يقع على عاتق الدين اليهودي لدوره في الكارثة لأنه زكَّى عدم النقد". ويبدو أن الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي يكشف عن نفسه في التناقض الجذري بين توجه مكرس لصياغة إسرائيل باعتبارها جيتو بالمعنى المادي والروحي، وتوجه يسعى لإقامة مجتمع منفتح يسعى للتكامل مع الحضارة الإنسانية المعاصرة، غير أن رصد تنامي التيارين يكشف عن أن البيئة العالمية تزداد انفتاحًا (ولو بمعاناة شديدة)، بينما التيار المنغلق يتنامى في المجتمع الصهيوني، وهو ما يمهِّد لتصادم لاحق بين الجانبين، وتبدو ملامح ذلك في التشخيص الذي قدَّمه أمنون روبنشتاين للوضع داخل إسرائيل، بالقول: "إن هناك غروبًا للفكر البراجماتي والواقعي ونمو ظاهرة المسيحانية الدينية الجديدة، والهروب إلى أحضان الأرثوذكسية القديمة وظاهرة الأنا النفعية، وتزايد رجال الورع الذاتي حاملي شعار "العالم كله ضدنا"".

إن المشكلة الأساسية في الفكر الصهيوني العلماني أنه أقل اتساقًا معرفيًّا من الفكر التقليدي أو اليميني أو الديني اليهودي؛ فالثاني يرى الصهيونية واليهودية مجرد نتاج طبيعي للتراث التاريخي والديني اليهودي، بينما العلماني (حوالي 20% من المجتمع) يرى أن تكون إسرائيل دولة "يهودية بدون الدين اليهودي"، وهو ما يجعل مفهوم القومية للشعب الإسرائيلي كما يرى ليبوفيتش "ليس له أية دلالة إلا في الإطار السلطوي الذي تعيش فيه الجماهير اليهودية وهو دولة إسرائيل"، ويرى كذلك "أن إسرائيل إطار سياسي تتقرر حدوده بحسب ضرورات الواقع القائم فعلاً وبحسب الحاجيات والإمكانيات القائمة فعلاً".

إن ذلك يعني أن النظرية الصهيونية تبقى أسيرة "الميتانظرية" حيث تمتزج الأسطورة بالحس التاريخي والإحساس بالتميز، مع الإشارة إلى أن مستقبل إسرائيل يعتمد بشكل قليل على الأيديولوجية، ورغم ذلك فإن الفكر الصهيوني بقي حتى الآن مستندًا إلى وَهْمٍ يتمثل في أن المعايير اليهودية تمتلك القوة السياسية النهائية، وأن معايير العالم المعاصر ونظمه ما هي إلا معايير نسبية ومحدودة طالما أن النظام العالمي في النهاية سوف يكيف نفسه حسب معايير النظام اليهودي الذي يعبِّر عن مشيئة العناية السماوية.

من جانب آخر، انطوى النظام الدولي على متغيرين أساسيين، هما: القوة (معبَّرًا عنها اقتصاديًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا) من ناحية، والمعنى (تقديم رسالة فكرية للعالم) من ناحية ثانية، ويبدو أن التفكير الإستراتيجي الصهيوني نجح في البعد الأول (القوة) وفشل تمامًا في الثاني (المعنى) نظرًا لعمق ثقافة الجيتو، وأية محاولة فكرية صهيونية لبناء المعنى العالمي سيجعلها شيئًا آخر غير الصهيونية (وقد سعت حركة الهسكلاه -التنوير- في القرن الثامن عشر للتقريب بين الثقافة اليهودية وثقافات الشعوب الأخرى إلا أنها فشلت بسبب معارضة قوية لها من داخل مجتمعها)، ولعل نتائج كافة استطلاعات الرأي العام تشير إلى تآكل الصورة الإيجابية لإسرائيل في الذهن العالمي (فشل المعنى) كما يوضح الجدول التالي(7):

 

المصادر
 وهو ما يعني أن الفجوة بين إسرائيل والعالم قد تتسع ما لم يتسق العقل الصهيوني مع تيارات التطور الإنساني، وهو أمر لا تحققه الدبابات والقبب الحديدية، بل يحققه تقديم "المعنى"، ولعل نهاية تهكم ستالين في مواجهة انتقادات البابا له بالتساؤل: كم دبابة يمتلك البابا؟ تشير إلى أن المعنى كان أقوى من الدبابة، فبقي البابا وطويت دولة ستالين.
_________________________

وليد عبد الحي-خبير الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية

1- Harkabi, Y.. Arab Attitudes to Israel. Transaction Publishers,1974.

2-http://yalejournal.org/2010/07/the-demographic-security-dilemma-2/

4- Israel Studies Forum, Volume 23, Issue 1, Summer 2008
5-Avner Golav(et,al)-A National Security Doctrine for Israel,IDC Herzliya.2010.pp.47-50
6-Haim Malka-Crossroads:  The Future of the US –Israel  strategic Partnership,CSIS,Washington,2011.pp.99-101.

نبذة عن الكاتب