حديث حول سد النهضة بأثيوبيا

كان السودان ولا زال يلعب دورا محوريا في إرساء قواعد التعاون بين دول حوض النيل لموقعه الاستراتيجي حيث تلتقي عنده جميع روافد النيل الواردة من الهضبة الاستوائية والأثيوبية. ويحرص السودان على التعاون بين دول حوض النيل وتربطه علاقات طيبة خاصة مع دول الجوار
201311785518987734_20.jpg
المصدر [الجزيرة]

مقدمة

ينبغي أن أقدم لهذا الحديث في إيجاز تطور التجربة الإنسانية في إدارة علوم الأنهار والتحديات التي تواجه تطور التعاون بين دول حوض النيل.

فمنذ بزوغ فجر التاريخ قامت معظم الحضارات الإنسانية على ضفاف الأنهار والتي عرفت بالحضارات الهيدروليكية؛ حيث اعتمدت التركيبة الاجتماعية والاقتصادية على الإنتاج الزراعي، وشهدت تلك الفترة بدايات التدخل الإنساني في الأنهار بإقامة السدود وتحويل مياهها الى المنخفضات المجاورة لها. وكما ازدهرت تلك الحضارات وانتفعت بمياه تلك الأنهار للوفاء بالحاجات الإنسانية فقد اندثرت في أحيان كثيرة بسبب الفيضانات العالية أو حدوث شح في إيرادها في سنين الجفاف أو انحراف الأنهار عن مسارها نتيجة الإطماء. وقد سعى الإنسان وعمل فكره في ترويض تلك الأنهار والسيطرة عليها تجنبا لمخاطرها. ونهر النيل زاخر بهذه التجارب الإنسانية والتي بدأت من أسفل الوادي قبل آلاف السنين وامتدت إلى أعاليه في الهضبة الأثيوبية والهضبة الاستوائية وبالغرائز الإنسانية ابتدعت المجتمعات النيلية سبل عيشها ورتبت حياتها مع النهر وفق طبيعته وتفهم أسراره وبنت تقاليدها وثقافاتها على مر الأيام والسنين.

لقد استنبط الإنسان عبر تطوره التاريخي الكثير من الأطر القانونية والإدارية لاستغلال مياه الأنهار ووضع العديد من السوابق للتعاون بين الدول التي تشترك في نهر واحد (الأنهار الدولية) إلا أن التقدم ظل بطيئا رغم مجهودات كثيرة بذلت بواسطة الأجهزة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية. والسبب الرئيسي لهذا البطء يرجع أساساً لطغيان المسألة السياسية على كل اعتبار التي تتعلق بالسيادة ووحدة الأراضي القطرية (Sovereignty and Territorial Integrity) والطبيعة البشرية ورواسب كثيرة خلفها التدخل الأجنبي الذي حدث في دول العالم الثالث.

 

التحديات التي تواجه التعاون بين دول حوض النيل

في أعقاب الغزو الأوروبي نشأت بعض الأطر القانونية لتحديد مناطق نفوذ التدخل الأجنبي والتي ورثتها دول حوض النيل بعد استقلالها وأدت إلى تراكم كثير من الحساسيات وعدم الثقة فيما بينها ووقفت حائلا دون التعاون بين دول حوض النيل وعند استقلال السودان عام 1956 بدأ التفاوض بين السودان ومصر حول مسألة مياه النيل وتوصل الطرفان إلى اتفاقية 1959 وأدت هذه الاتفاقية بدورها إلى خلق حساسيات بسبب انفراد الدولتين بتقسيم مياه النهر بينهما عند أسوان في غياب بقية دول الوادي. وفي عشية استقلال دول شرق أفريقيا في مطلع السينيات بدأت مفاوضات فنية غير رسمية بين هذه الدول والسودان ومصر لمحاولة تعديل الأطر القانونية التي خلفها التدخل الأجنبي، وبموجب هذا التفاوض نشأ تعاون لإجراء دراسات هيدرومترولوجية لدراسة الميزان المائي لحوض البحيرات الاستوائية لتحديد نصيب دول الحوض الاستوائي بمشاركة كافة الدول النيلية في الحوض الاستوائي، وبمشاركة أثيوبيا كعضو مراقب بمعاونة البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. وحظي هذا التعاون بدعم سياسي كبير من كافة قادة دول حوض النيل في ذلك الحين، وفي حفل افتتاح هذا العمل بعث رؤساء هذه الدول برسائل يدعمون التعاون والعمل المشترك في حوض النيل والتحذير من العمل الانفرادي، وهم بالترتيب من أعلى الوادي رئيس كينيا جومو كنياتا, ورئيس تنزانيا جوليوس نيريري، ورئيس وزراء أوغندا ملتون أبوتي، ورئيس مجلس السيادة بالسودان اسماعيل الأزهري، ورئيس مصر جمال عبد الناصر. وكان الامبراطور هيلاسيلاسي من أهم بناة الوحدة الإفريقية ومبشراً بنهضة افريقيا. كانت هذه تجربة ناجحة كسرت الحساسيات بين الدول النيلية وفتحت الباب على مصراعيه للتعاون.

في ظل الحرب الباردة روجت بعض الدوائر المعادية لإفشال وهدم أي تعاون بين الدول النيلية، وتطور التعاون إلى قيام مبادرة حوض النيل في عام 1999 والتي تهدف إلى التعاون بين كافة دول الحوض في تنمية الموارد المائية بصفة مستمرة وعادلة لتحقيق الرفاهية والأمن والسلام لمجتمعات الحوض كافة وضمان التعاون المشترك في إدارة الموارد المائية وتهدف كذلك إلى التكامل الاقتصادي ومحاربة الفقر بين دول الحوض، وقد كانت هذه بداية طيبة لدول الحوض والتي شارك فيها المانحون من الدول الغربية بقيادة البنك الدولي.

وفي إطار هذه المبادرة تقدمت دول النيل الشرقي وهي أثيوبيا والسودان ومصر بمشروع لتجارة الطاقة الكهربائية فيما بينها وقد أجريت دراسة جدوى للمفاضلة بين إنشاء سد على النيل الأزرق او إنشائه في منطقة دال في شمال السودان. وقع الاختيار على قيام السد في النيل الأزرق داخل الحدود الأثيوبية جنوب الحدود السودانية، وقد شملت الدراسة خطوط نقل الطاقة بين الدول الثلاث. وقد انهارت هذه المبادرة بعد أن كان الأمل كبيرا في ترسيخها للنهوض بالمجتمعات التي تعيش في هذا الحوض.

مشروع سد النهضة

في أعقاب انهيار مبادرة حوض النيل خرجت أثيوبيا بمشروع سد النهضة الذي يخالف تماماً المشروع الذي توافقت عليه الدول الثلاث, وبدأت في تنفيذه دون إخطار مسبق للدول في أسفل الوادي ونشأت زوبعة إعلامية أثارت الكثير من القلق والتوتر. في هذا الجو المشحون دعت أثيوبيا مصر والسودان لتكوين لجنة خبراء دوليين وتضم خبراء من الدول الثلاث لمراجعة تصميم المشروع وتوفير المعلومات بشفافية لتلافي الآثار السالبة على الدولتين والخاصة بسلامة المشروع والكيفية التي سوف يدار بها؛ مما يؤدي إلى إزالة التوتر والقلق وبناء الثقة بين الدول الثلاث.

وقد تقدمت اللجنة بتقريرها النهائي إلى حكومات الدول الثلاث مشفوعا بعدد من التوصيات فيما يخص سلامة المشروع، وموارد المياه، والدراسات الهيدرولوجية، والأثر البيئي والاقتصادي المترتب على إدارة وتشغيل الخزان. وبدأت كل دولة في دراسة هذا التقرير والتوصيات التي خرجت بها اللجنة. وينبغي على الدول الثلاث دراسة هذا التقرير والتوافق على الإجراءات والتدابير اللازمة في تحقيق الأهداف التي تسعى لها أثيوبيا من هذا المشروع وضمان معالجة أي آثار سالبة على الدول خلف السد وإزالة كل أثار التوتر والقلق بينهم وان تقود مبادرة افريقية خالصة لمعالجة الانهيار الذي طرأ على مبادرة حوض النيل.

السياسات السودانية تجاه بناء سد النهضة

كان السودان ولا زال يلعب دورا محوريا في إرساء قواعد التعاون بين دول حوض النيل وذلك بناء على موقعه الاستراتيجي في الحوض حيث تلتقي عنده جميع روافد النيل الرئيسية الواردة من الهضبة الاستوائية والأثيوبية. ويحرص السودان حرصا شديدا على التعاون بين دول حوض النيل. وتربطه علاقات طيبة خاصة مع دول الجوار مصر وأثيوبيا.

وفي ختام هذا الحديث أسوق المثل السوداني "العترة تصلح المشي" ونسأل الله العلي القدير أن تزول الخلافات الطارئة حول مبادرة حوض النيل وترسيخ التعاون بين الدول النيلية لتحقيق الأهداف النبيلة والمصالح المشتركة بينها والتي تسعى لها بقيادة دول النيل الشرقي أثيوبيا والسودان ومصر.
__________________________________________________
* يحيى عبد المجيد، مهندس مستشار/يحيى عبدالمجيد احمد – خبير المياه وزير الري الأسبق بالسودان والأمين العام لمؤتمر الأمم المتحدة للمياه ماردلبلاتا – الأرجنتين 1977وعضوة منبر الكبار بمبادرة حوض النيل (Elderly Forum)