العلاقات الصينية-الإفريقية.. الفرص والتحديات: وجهة نظر صينية

يرى الصينيون أن النموذج الذي يقدمونه في علاقتهم بإفريقيا لا يحتمل إلا أن يكون الخيار الأنجح والأفضل خصوصا بعد أن تخلّت بكين عن الأيديولوجيا واستبدلتها بلغة الاقتصاد والمصالح، وبات النفط المحركَ الأساسي للدبلوماسية الصينية والضمان الرئيسي لحفاظ الاقتصاد الصيني على نموه كأسرع اقتصادات العالم.
2014419165759782734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
تتهم الدول الغربية الصينَ بأن استثماراتها ومعوناتها في القارة الإفريقية تفتقر إلى الشفافية خاصة أنها أصبحت المستثمر الرئيسي في دول مثل: أنغولا وزيمبابوي والسودان؛ وهي دول يتهمها الغرب بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، لكن الصين تعتبر تلك الاتهامات ذرائع لتشويه صورتها، وتحاجج بأن شعوب القارة تحتاج إلى التنمية أكثر من احتياجها لحقوق الانسان. وتقول الصين إن الوجود الغربي في إفريقيا والذي استمر لأكثر من أربعة قرون لم يجلب أي تطور أو تنمية لشعوب القارة بل زادها فقرًا على فقر وتجزئة وانقساما وتخلفًا. بينما حمل الوجود الصيني رغم حداثة عهده الكثير من المنافع والفوائد لدول وشعوب القارة بأسرها. وتضيف أن علاقتها مع إفريقيا هي خيار إفريقي أيضًا وأن إفريقيا هي التي جاءت إلى الصين. وفضلا عن العلاقات الاستثمارية أقدمت بكين على إجراءات عمقت علاقاتها بالقارة الإفريقية؛ منها: إعفاء إحدى وثلاثين دولة إفريقية من معظم الديون المستحقة عليها للصين، كما سعت بكين إلى لعب دور فعال من خلال المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية في معظم بؤر التوتر في القارة الإفريقية.

الصين وإفريقيا بين الأمس واليوم المنافع المتبادلة

اهتمام الصين بإفريقيا ليس وليد اللحظة الراهنة؛ فلقد جابت بواخر البحار الصيني المسلم "تشنغ خه" معظم السواحل الشرقية لإفريقيا منذ ستة قرون تحمل البضائع الصينية من الأواني الخزفية والأقمشة وتعود محملة ببعض المنتجات الزراعية الإفريقية، وأسست لعلاقات تجارية وثقافية وحضارية بين الجانبين.

وكذلك في العصر الحديث وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949؛ فإن المتتبع للعلاقات الصينية-الإفريقية طوال العقود الستة الماضية، سيلاحظ أن دخول الصين إلى إفريقيا جاء عبر البوابة المصرية في خمسينات القرن الماضي عندما كانت القاهرة آنذاك بؤرة حركات التحرر الوطني ومركزًا مهمًا في معادلة الاستقطاب الدولي. ومن مصر إلى الجزائر وغانا وموزمبيق وزامبيا وزيمبابوي وغيرها من دول القارة، لم يتوقف الدعم الصيني المعنوي والمادي ولم تتوقف شحنات السلاح الصيني إلى ثوار تلك الدول في سعيها للتحرر ومقاومة الاستعمار. وبعد ذلك شكّلت القارة الإفريقية مسرحًا واسعًا للتنافس والمزايدة العقائدية بين موسكو وبكين في أعقاب الخلاف الأيديولوجي الذي احتدم بين العملاقين الشيوعيين.

وبعد أن تخلّت بكين عن الأيديولوجيا وحلّت لغة الاقتصاد والمصالح، وبات النفط هو المحرك الأساسي للدبلوماسية الصينية والضمان الرئيسي كي يحافظ الاقتصاد الصيني على نموه كأسرع اقتصادات العالم. وبرزت الصين كقوة اقتصادية كبيرة كان من الطبيعي أن تسعى إلى توسيع علاقاتها الدولية والإقليمية، وأن تعود بكين لاكتشاف القارة السمراء من جديد وللبحث والتنقيب في أدغالها عن الذهب الأسود والموارد الطبيعية؛ فأراضي القارة التي قال عنها أحد ملوك أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية: "تعالوا نتقاسم الكعكة الإفريقية"، لا تزال تختزن ثروات هائلة تحتاجها الصين وتُسيل لعاب شركاتها. ناهيك عن أن السوق الإفريقية الكبيرة التي لا تضع شروطًا بيئية وتقنية وتطلب أسعارًا رخيصة تشكّل خيارًا مثاليًا للمنتجات الصينية.

قدمت الصين نفسها كأكبر دولة نامية عانت من ويلات الاستعمار الغربي تمامًا كما عانت الدول الإفريقية، وأعربت عن استعدادها والتزامها بالوقوف إلى جانب حركات التحرر الإفريقية ومساعدة الدول المستقلة لتدعيم استقلالها. وأبدت الصين اهتمامًا بإنشاء المشاريع الكبرى كخطوط السكك الحديدية (خط تنزانيا-زامبيا) وكذلك شق الطرق وبناء المستشفيات ومراكز المؤتمرات والصالات والملاعب الرياضية الكبرى، كما شيدت الصين أكثر من ألف مشروع حيوي في إفريقيا منذ ذلك الحين دون مقابل، وتلقى آلاف من الطلبة الأفارقة تحصيلهم العلمي في الجامعات الصينية، ومئات من الفرق الطبية الصينية عملت في المستشفيات الإفريقية وآلاف أخرى من الكوادر الإدارية والتقنية والفنية تلقوا ويتلقون تدريبات في المؤسسات الحكومية الصينية.

كما أقدمت بكين على إعفاء إحدى وثلاثين دولة إفريقية من معظم الديون المستحقة عليها للصين، وسعت إلى لعب دور فعال من خلال المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية في معظم بؤر التوتر في القارة الإفريقية.

وبدت الصين من خلال ما قدمته من نموذج جديد في التعامل مع دول القارة شريكًا مقبولاً لدى الحكومات الإفريقية؛ كون بكين لا تحاول التدخل في الشؤون الداخلية للدول ولا تربط مساعداتها بشروط سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية، كما أن استثماراتها لا تتجاهل قطاعات أساسية كالصحة والتعليم وبناء المرافق والبنى الأساسية. وذلك نموذج لم تألفه دول القارة خلال تاريخها الطويل من التعامل مع القوى الكبرى الأخرى. وشكّلت الصين بديلاً للغرب بالنسبة للعديد من الأنظمة الإفريقية، مثل: السودان وزيمبابوي التي تتعرض لعقوبات غربية ووجدت في بكين مظلة سياسية واقتصادية بل وأمنية تعتمد عليها اعتمادًا كاملاً في قضايا التسلح بينما اعتمدت دول أخرى مثل الكونغو وأنغولا والنيجر وغيرها على التمويل والقروض الصينية الميسّرة بدلاً من التمويل الغربي المشروط.

وفي نفس الوقت ما من شك أيضًا بأن خبرات الصين في تجربتها الاقتصادية الفريدة وتشابه نظامها السياسي مع الكثير من أنظمة الدول الإفريقية يمكن أن يشكّل نموذجًا تستفيد منه دول القارة في سعيها نحو التنمية دون تدخلات خارجية، ناهيك عن ثقل الصين الدولي وتنامي دورها باعتبارها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن. وتمتلك الصين حق النقض "الفيتو" القادر على عرقلة أي قرار يفرض عقوبات ضد أيٍّ من دول القارة؛ الأمر الذي بات يثير اهتمام بعض دولها التي تعاني من أزمات. ولعل استخدام الصين لحق النقض (الفيتو) أو التهديد باستخدامه تجاه قضايا إفريقية شكّل مظلة لحماية بعض الأنظمة في تلك القارة كما حدث مع زيمبابوي والسودان ودول أخرى.

على الجانب الآخر كانت السواعد الإفريقية السمراء في أروقة الجمعية العمومية للأمم المتحدة هي التي أعادت للصين مقعدها وطردت مندوب تايوان من المنظمة الدولية عام 1971؛ (حيث صوتت 26 دولة إفريقية لصالح الصين وهي ما يعادل ثلثي الدول المؤيدة). كما أن عشرات القرارات الدولية التي تنتقد سجل حقوق الإنسان في الصين وإصلاح النظام الدولي أو تلك التي تدعو لعودة انضمام تايوان إلى منظمة الأمم المتحدة جميعها تم إفشالها بأصوات معظمها إفريقية؛ حيث تشكل الأصوات الإفريقية ما يقارب من ربع أصوات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وباستطاعتها عرقلة أي قرار دولي لا يروق للصين سواء فيما يتعلق بتايوان أو بحقوق الإنسان، ناهيك عن أن دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وكذلك تحقيق حلم بكين باستضافة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008 كانت جميعها بفضل الأصوات الإفريقية أيضًا.

ونجحت الصين في إقناع الكثير من الدول الإفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان؛ حيث كانت إفريقيا تشكّل إحدى الجبهات الرخوة والتحديات الكبرى للدبلوماسية الصينية بوجود نحو 25 دولة إفريقية تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان حتى ثمانينات القرن الماضي، لم يتبق منها الآن سوى ثلاث دول هامشية.

إنها إذًا علاقة أخذ وعطاء ومنفعة مشتركة، وتلك هي الأسس المنطقية التي تُبنى أو يجب أن تُبنى عليها العلاقات بين الدول وفق رأي بكين؛ وهو نموذج جديد من العلاقات بين الدول النامية والقوى الكبرى وصفه بيان بكين الصادر عن القمة الصينية-الإفريقية عام 2006 بأنه "نموذج يقوم على أساس التكافؤ، والمنفعة المشتركة، واحترام التنوع الثقافي بين الدول بغضّ النظر عن حجمها، ويسعى إلى تنسيق المواقف في المحافل الدولية لإصلاح الأمم المتحدة والتأسيس لعالم أكثر عدلاً وبعيدًا عن هيمنة القطب الواحد".

هذه الأهمية والمصالح المتبادلة بين الصين وإفريقيا دفعت الجانبين إلى إنشاء منتدى التعاون الصيني-الإفريقي عام 2000، والذي شكّل قوة زخم ودفع جديدة للعلاقات الثنائية القائمة بين بكين وكل دولة على حدة، وكذلك إحدى الآليات المهمة في تعزيز العلاقات بين الصين ودول القارة مجتمعة.

فقد أصبحت الصين منذ عام 2009 أكبر شريك تجاري لإفريقيا وأكبر مستثمر خارجي وتجاوز عدد الشركات الحكومية الصينية في إفريقيا أكثر من 700 شركة، وقفز حجم التبادل التجاري بين الجانبين من عشرة مليارات دولار عام 2000 إلى أكثر من مائتي مليار دولار حاليًا. وبلغ حجم الاستثمارات الصينية المباشرة والمعلنة في دول القارة أكثر من 21 مليار دولار.كما أعلنت بكين عن تأسيس صندوق التنمية الصيني-الإفريقي بموازنة وصلت إلى خمسة مليارات دولار. مدعومًا بحزمة من البرامج والالتزامات الصينية تجاه الدول الإفريقية حتى عام 2015. فتعهدت بكين بتقديم عشرين مليار دولار للدول الإفريقية كقروض ميسرة في مجالات البنية الأساسية وإنتاج البترول والغاز، وبناء الطرق والسكك الحديدية والموانئ والمناجم وإنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة، والقطاعات الاقتصادية الأخرى، فضلاً عن برامج لتدريب ثلاثين ألف موظف إفريقي في مختلف المجالات، وتقديم نحو 18 ألف منحة دراسية مجانية للطلبة الأفارقة. وتعهدت بكين بأنها ستضخ تريليون دولار كاستثمارات وقروض تفضيلية خلال الفترة حتى عام 2025 وستستخدم نصفها في البنية التحتية لدول إفريقيا كالسكك الحديدية والطرق والموانئ. وكذلك نقل التكنولوجيا الصناعية الصينية إلى الدول الإفريقية.

تنامي الدور الاقتصادي للصين واتساع رقعة مصالحها في القارة الإفريقية أدى إلى تنامي دورها السياسي وتعيين مبعوث صيني خاص للشؤون الإفريقية وانخراط بكين في قضايا القارة ونزاعاتها (كالتوسط في الأزمة السودانية بين الخرطوم وجوبا أو كالتوسط الحالي في أزمة جنوب السودان بين أطراف الصراع)، وكذلك انخراط الصين في قوات حفظ السلام الدولية المرابطة في مناطق النزاع والتوتر في دول القارة لتصل مساهمتها إلى نحو أربعة آلاف عنصر وتصبح الدولة الأكبر في العالم من حيث المساهمة بقوات حفظ السلام. علمًا بأن بكين كانت ترفض بل تعارض من حيث المبدأ فكرة القوات الدولية بمجملها وتعتبرها تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول.

إفريقيا بين النموذجين الغربي والصيني

على الرغم من تأكيد الجانبين الصيني والإفريقي على أن تقاربهما لا يستهدف أي طرف ثالث إلا أن تنامي الوجود الصيني في قارة تختزن ثروات طبيعية هائلة يضخ قوة جديدة في جسد التنين الصيني الناهض لابد أن يثير قلق بعض القوى الدولية الكبرى ويشكّل تهديدًا مباشرًا لمصالحها التقليدية. وهنا يكمن مربط الفرس وراء استمرار الانتقادات الدولية (الغربية ) لعلاقة الصين بإفريقيا.

فقد كانت القارة السمراء -ولا تزال- بما تشكّله من مخزون هائل من الموارد الطبيعية والمواقع الاستراتيجية المهمة من أهم ساحات الصراعات والتنافس بين القوى الكبرى، وذلك ابتداء بقوى الاستعمار الأوروبي سابقًا مرورًا بالصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وصولاً إلى الوقت الحاضر مع بروز الصين وقوى جديدة كاليابان والهند كلاعبين جدد في التنافس على مصادر الطاقة. إنه النفط مرة أخرى إذًا وليس حقوق الإنسان.  

ظلّ التاريخ الاستعماري يشكّل عبئًا كبيرًا على العلاقات الأوروبية-الإفريقية، لكنه لم يكن كذلك أبدًا بالنسبة للعلاقات الصينية-الإفريقية. بل على العكس من ذلك تمامًا لم تكن الصين بعيدة عن دول القارة في صراعهم مع قوى الاستعمار من أجل التحرر والاستقلال، وشكّلت داعمًا رئيسيًا بالمال والعتاد لمعظم حركات التحرر الإفريقية، ودأبت الصين ووسائل إعلامها على استخدام تعابير ومصطلحات إيجابية في علاقاتها مع دول القارة، مثل: الصداقة والتعايش السلمي والتنمية المشتركة والمنفعة المتبادلة.. إلخ. بخلاف الأوصاف السلبية التي ما انفكت الدول الغربية ووسائل إعلامها تنعت إفريقيا بها، مثل: بؤر الحروب والصراعات والفقر والمرض والتخلف والفساد والحكم غير الرشيد.. إلخ.

 وعت الصين ببراغماتيتها المعروفة أن ما تحتاجه إفريقيا هو التنمية والشراكة وليس التنظير في القيم والأخلاق؛ ففي الوقت الذي قدمت فيه الصين مساعداتها بسخاء إلى دول القارة دون شروط مسبقة ودون تدخل في شؤونها الداخلية واعتبرتها أحد أوجه التعاون بين الدول النامية؛ ظلت الدول الغربية تحاول فرض نماذجها وقيمها في التنمية وتربط مساعداتها بمكافحة الفساد وتحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد؛ الأمر الذي أدى إلى نفور إفريقي من الدول الغربية مقابل قبول للصين.

ويبدو أن الغرب قد بالغ في اتهام الصين بتنفيذ ما يسميه "سياسة استعمارية جديدة" في إفريقيا؛ فالصين نفسها عانت من الاستعمار وويلاته لسنوات طويلة.

وفي الواقع، فإن ذلك الاتهام يعود إلى قلق بعض الدول الغربية من تنامي وتحسن العلاقات الصينية-الإفريقية والتي هي برأيهم تُشكّل تحديًا لمصالحهم في القارة السمراء، وأن التعاون الصيني-الإفريقي ربما سيعزز من دور بكين وتأثيرها في الشؤون الدولية؛ مما سيشكّل تحديًا للنظام السياسي والاقتصادي الدولي القائم بقيادة الغرب.

وتعتمد التجربة الصينية في إفريقيا على وضوح في الرؤية يستند على تواصل تاريخي وحضاري وتعززه مصالح استراتيجية تقوم على أساس المنفعة المتبادلة. وتمتلك الصين ميزة تنافسية في العلاقة مع إفريقيا، وهي أن الصين لديها قاعدة إنتاجية متنوعة، فهي تصدّر للدول الإفريقية العدد والآلات، والمنتجات الصناعية النهائية، فضلاً عن أعمال التنقيب والتكرير في مجال الصناعات الاستخراجية. ولعل من أهم خصائص الاستثمارات الصينية في إفريقيا تلبية احتياجات التنمية الاقتصادية الشاملة في إفريقيا، كما أن الصين تمتلك فوائض مالية ضخمة؛ فاحتياطيات النقد الأجنبي في الصين تصل إلى نحو أربعة تريليونات دولار، وبالتالي فهي تمتلك المقومات الصناعية والعلمية والمعرفية والمالية، ولذلك استطاعت الصين أن تجد لنفسها موطئ قدم داخل إفريقيا وأيضًا منافسة أميركا وأوروبا في مناطق نفوذهم التقليدية.

ومن الواضح أن الصين باتت تجد فرصًا مناسبة لتحويل بعض من احتياطيات النقد الأجنبي إلى استثمارات في إفريقيا؛ مما يساعد بكين على الخروج من تحت وطأة تخفيض قيمة العملة، أو تراجع معدلات الفائدة عليها، بتحويل تلك الثروة إلى أصول استثمارية في إفريقيا، فتتحقق للصين قوة أكبر من حيث توزيع ثرواتها على أكبر رقعة ممكنة في العالم، وليس فقط في أميركا وأوروبا.

وسائل الصين في إفريقيا

تتلخص طبيعة الدبلوماسية التي انتهجتها الصين مع إفريقيا بحكمة صينية قديمة أو ما قاله الفيلسوف الصيني لاوتزى لأحد مريديه الذي جاءه طالبًا النصح في منهج الحياة والسلوك مع الآخرين؛ ففتح الحكيم العجوز فمه وسأل تلميذه: هل ترى لساني يا بني؟ أجاب التلميذ: بالطبع أراه يا سيدي. ثم عاد الحكيم ليسأل من جديد: وهل ترى أسناني؟ أجاب التلميذ بخجل: كلا، لا أرى أسنانك؛ فقد ذهبت بها السنون. وهنا قال الفيلسوف الحكيم: "تلك هي طبيعة الأشياء يا بني". وهنا يكمن أصل الحكمة فاللسان بقي لمرونته أما الأسنان فسقطت لصلابتها.

وهنا يبدو واضحًا أن "دبلوماسية اللسان" أو ما تسميه الصين "الدبلوماسية المرنة" هي التي أدت إلى نجاح الصين في تحقيق الكثير من الانجازات وإلى تنامي الوجود والنفوذ الصيني في القارة السمراء بشكل ملحوظ، وبات يؤثر بل ويغيظ الكثير من القوى المعروفة بنفوذها التاريخي في القارة الغنية بمواردها الطبيعية.

ما من شك بأن التشابه بين طبيعة النظام السياسي الصيني ونظيره لدى الدول والأنظمة الإفريقية وكذلك الخطاب الإعلامي والسياسي الصيني الذي ركز على الصداقة والتعاون والتنمية والمنفعة المتبادلة قد أغرى الدول الإفريقية، وساهم إلى حد كبير في تحقيق النجاحات الهادئة والكبيرة التي أحرزتها بكين في علاقاتها مع الدول الإفريقية. لكن في نفس الوقت فإن ذلك أثار زوبعة شديدة من الانتقادات والاتهامات عن تنامي الدور والنفوذ الصيني واعتباره "استعمارًا اقتصاديًا جديدًا" أو "أعباء إضافية" على الاقتصادات الإفريقية الناشئة نتيجة القروض الكبيرة والميسرة التي تقدمها بكين لدول القارة، بما فيها تلك التي تُتهم أنظمتها بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان.

على الرغم من رحيل الكثير من رموز الجيل الأول للقادة الأفارقة الذين ارتبطوا بالصين من خلال وقوفها إلى جانبهم ومساندتهم إبان قيادتهم لحركة التحرر الوطني وبعد ذلك في تأسيس دولهم وترسيخ حكم أنظمتهم إلا أن الجيل الجديد من القادة والمسؤولين ليسوا غريبين عن الصين وثقافتها؛ فإن كثيرين منهم قد تلقوا تعليمهم الأكاديمي في الجامعات والمعاهد الصينية أو خضعوا لدورات تدريبية في مؤسساتها، وقد نجح بعضهم بالوصول إلى مراتب قيادية عليا في بلاده كما هي الحال مع الرئيس الإثيوبي الجديد موراتو الذي تلقى تعليمه الأكاديمي وتخرج في جامعة بكين في ثمانينات القرن الماضي. وبذلك تكون الصين قد نجحت بإيجاد "لوبي" من المسؤولين والبرلمانيين والأكاديميين ورجال الأعمال المرتبطين بها ثقافيًا وحضاريًا ويمكن أن يشكّلوا لها جسرًا وسندًا لتعزيز وجودها وتنامي نفوذها اقتصاديًا وسياسيًا في دول القارة.

وعت بكين دور الثقافة في تعزيز العلاقات بين الشعوب والدول فلم تعد تكتفي باستقبال الطلبة الأفارقة في جامعاتها بل سعت خلال السنوات الأخيرة إليهم في عقر دارهم وأقدمت على افتتاح العشرات من "مراكز كونفوشيوس الثقافية" في العواصم والمدن الإفريقية. كما عززت من طواقمها الإعلامية في دول القارة، بل إن بعض وسائل إعلامها المقروءة والمسموعة والمرئية أطلقت خدمات بث باللغات المحلية لبعض الدول الإفريقية. كما أطلقت خطوط الطيران الصينية رحلات مباشرة إلى بعض العواصم الإفريقية تحمل على متنها ملايين السياح الصينيين الذين تزداد أعدادهم بوتيرة متسارعة.

لاحظت بكين البيئة الجغرافية والميزات الطبيعية والتركيبة التنموية للاقتصادات الإفريقية التي تعتمد في الكثير منها على الزراعة فقامت بإنشاء 21 مركزًا للتقنيات الزراعية ورفدته بالخبراء والتقنيات مما ساهم على سبيل المثال في دولة كالسودان برفع إنتاج القطن من 4 قناطير إلى 14 قنطارًا وكذلك الذرة والقمح، وتحسين جودة الانتاج مما أكسب الدول الإفريقية قدرات تنافسية.

في محاولة منها لخلق توازن في الميزان التجاري بين الجانبين أقدمت بكين على إعفاء جمركي تام لنحو 554 منتجًا إفريقيًا لدخول الأسواق الصينية، من ضمنها بالنسبة للسودان مثلاً الصمغ العربي والقطن والسمسم الذي وصل حجم صادراته إلى الصين إلى نحو 70 ألف طن أي ما يعادل 150 مليون دولار.

مستقبل الوجود الصيني في إفريقيا

يزداد التنافس الدولي على إفريقيا ويكتسب أبعادًا استراتيجية جديدة؛ فهي تخترن حوالي 12% من احتياطي النفط العالمي، ونحو 10% من إجمالي احتياطيات الغاز الطبيعي العالمي. ناهيك عن الموارد الطبيعية التي يزخر بها باطن القارة. ولم تعد القوى المتنافسة محصورة بالقوى التقليدية بل دخلت قوى صاعدة جديدة إلى المنطقة كالصين والهند واليابان. وباعتبار الصين قوة صاعدة جديدة كان من الطبيعي أن تصبح الساحة الإفريقية تجسيدًا للمشروع الاستراتيجي الصيني، أو جزءًا مما بات يُسمى "الحلم الصيني"، وتدرك بكين جيدًا أن العالم سيحكم عليها من خلال علاقاتها الدولية وبالتحديد منها علاقاتها مع إفريقيا، ولذلك تسعى جاهدة لإنجاح هذه التجربة وتقديمها كنموذج  يقوم وفق رؤية بكين على أساس الاحترام والمساواة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

تُتهم الصين بأن استثماراتها ومعوناتها في القارة الإفريقية تفتقر إلى الشفافية خاصة أنها أصبحت المستثمر الرئيسي في دول مثل: أنغولا وزيمبابوي والسودان؛ وهي دول يتهمها الغرب بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان لكن الصين تعتبر تلك الحجج ذرائع لتشويه صورتها، وتحاجج بأن شعوب القارة تحتاج إلى التنمية أكثر من احتياجها لحقوق الانسان، وتقول: "إن الوجود الغربي في إفريقيا والذي استمر لأكثر من أربعة قرون لم يجلب أي تطور أو تنمية لشعوب القارة بل زادها فقرًا وتجزئة وتخلفًا". بينما حمل الوجود الصيني رغم حداثة عهده الكثير من المنافع والفوائد لدول وشعوب القارة بأسرها. وتضيف أن علاقتها مع إفريقيا هي خيار إفريقي أيضًا وأن إفريقيا هي التي جاءت إلى الصين؛ فقد شارك في القمة الصينية-الإفريقية عام 2006 في بكين نحو 48 رئيس دولة وحكومة في أكبر حدث دبلوماسي شهدته البلاد في تاريخها المعاصر؛ وهذا دليل -وفق رأي بكين- على أن إفريقيا هي التي اختارت "الرقص مع التنين الصيني" بعد أن ملّت "الرقص مع ذئاب" أتت على القطيع كله ولم تُخرج القارة من أزماتها وهمومها الكثيرة بل زادت من حدتها.

وترى بكين أن غياب التنمية في بعض الأقاليم والمناطق هي السبب المباشر في التوترات والأزمات التي تعاني منها بعض دول القارة ولهذا بدأت العمل على حث الحكومات ومساعدتها في تأمين تنمية متوازنة إلى حد ما بين الأقاليم باعتبار ذلك هو السبيل الأفضل للحفاظ على الأمن والاستقرار الاجتماعي الذي أصبح أيضًا مطلبًا صينيًا لحماية مصالحها واستثماراتها.

تسعى الصين إلى تنويع مصادرها من الطاقة وتعتمد في ثلث وارداتها النفطية على إفريقيا، ويشكّل السودان مثلاً أكبر قاعدة إنتاج صينية خارج أراضيها، وأصبحت أنغولا تصدّر نحو مليون وربع المليون برميل نفط يوميًا إلى الصين.

وإن كان للتواجد الصيني في إفريقيا سمات ودلالات اقتصادية خلال الفترة الماضية، فإن الفترة المقبلة ستشهد توظيفًا سياسيًا للصين في مشروعها كقوة دولية قادمة في مواجهة القوى القائمة. وتهدف إلى تأسيس بُعد صيني عالمي مؤثر في مسار السياسة والاقتصاد العالميين.

ما من شك بأن الصين نجحت إلى حد كبير في تغيير قواعد "لعبة التنمية والنفوذ" في إفريقيا بعد عقود من هيمنة القوى التقليدية الغربية. وستواصل بكين بلا شك محاولاتها لتحسين قدرة الدول الإفريقية على التنمية المستقلة والشاملة ومساعدتهم على إنشاء نظم متكاملة في صناعات النفط الحديثة كما حدث في السودان. وإنشاء مناطق التعاون الاقتصادي والتجاري كما حدث في زامبيا، موريشيوس، نيجيريا، مصر، إثيوبيا وبلدان أخرى، وعلى تنمية البنية التحتية من خلال مشاريعها المشتركة كبناء المستشفيات والمساكن والصالات الرياضية ومد الطرق والجسور والسكك الحديدية وبناء السدود ومحطات الطاقة التي تساهم بوضوح في تحسين مستويات المعيشة للسكان المحليين. وكذلك التركيز على الصناعات كثيفة العمالة لخلق فرص عمل والحد من البطالة؛ فعلى سبيل المثال ووفقًا لإحصاءات رسمية استطاعت الاستثمارات الصينية في زامبيا على سبيل المثال عام 2010 توفير 15000 وظيفة عمل محلية في البلاد، كما أصبحت الصين أكبر مستثمر في أوغندا حيث وفرت أكثر من 5500 فرصة عمل في 32 مشروعًا. وبخلاف الشركات الغربية فقد نجحت الشركات الصينية بالصمود أمام تأثيرات الأزمة المالية العالمية ولم تسرّح عمالها المحليين، بل زادت من وتيرة استثماراتها مما أشاع أجواء من الارتياح منحها المزيد من الثقة والمصداقية أمام الرأي العام المحلي، وباتت تفرض على شركاتها ما تسميه بقانون المسؤولية الاجتماعية للسكان المحليين كالاهتمام بتقديم خدمات الصحة والتعليم إلى جانب زيادة نسبة العمالة المحلية. كما ألزمت بكين شركاتها بتقديم ضمانات بيئية على أسس علمية وذلك بعد الانتقادات البيئية الشديدة التي اتُهمت بها شركات التنقيب عن النحاس الصينية في زامبيا.

شكّلت نظرية "تتبع التنين" التي تبناها الكثير من الشركات العالمية خاصة من الدول النامية والاقتصادات الصاعدة حافزًا لهذه الشركات بزيادة استثماراتها في إفريقيا؛ فقد ساد اعتقاد بأنه حيث توجد الصين فإن ذلك يعني الاستقرار والأمان في الاستثمار؛ فارتفعت بذلك الاستثمارات العالمية المباشرة من 90 مليار دولار إلى 880 مليار دولار، وأصبح الاستثمار الخارجي المورد الأساسي للتنمية الإفريقية.

من شأن كل ما تقدم أن يشكّل ضمانات للصين حول مستقبل وجودها في القارة الإفريقية لكن في نفس الوقت فإن مسار ومصير هذه التجربة لن يكون بالطبع مفروشًا بالورود؛ حيث برزت تحديات جديدة أمام بكين لم تعتد عليها من قبل؛ فمع اتساع رقعة مصالح الصين ونفوذها في القارة الإفريقية وجدت بكين نفسها مضطرة للانغماس في وحول وأدغال القارة ونزاعاتها المسلحة؛ فقد تكررت عمليات اختطاف الرعايا والمواطنين الصينيين أو مهاجمة المصالح والمواقع والمنشآت الصينية في بعض بؤر التوتر كان أخطرها في إقليم أوغادين عام 2002 عندما سقط 9 صينيين قتلى واختطاف مجموعة أخرى تم إطلاق سراحهم لاحقًا، وحادثة أخرى مماثلة في كردفان عام 2007، وحادثة ثالثة في أكتوبر/تشرين الأول 2007 اختُطف فيها 9 صينيين سقط 4 منهم قتلى. كل ذلك فرض على الصين اتخاذ إجراءات عملية للتعامل مع مثل هذه التحديات الناشئة كتشكيل إدارات وفرق خاصة في وزارة الخارجية الصينية. وتعزيز مشاركتها في قوات حفظ السلام الدولية حيث بلغت نسبة قواتها المرابطة في إفريقيا حوالي 80% من مجمل قواتها في مختلف مناطق العالم. كما زادت من نسبة مشاركتها العسكرية في مكافحة عمليات القرصنة في خليج عدن حيث يمر نحو 1300 سفينة بضائع صينية تعرض نحو 20% منها لعمليات قرصنة خلال عام 2008 وحده، واضطرت لأول مرة إلى إرسال سفن وقطع عسكرية خارج أراضيها لإجلاء أكثر من ستة آلاف عامل من ليبيا خلال ثورة فبراير/شباط.

ومع بروز مثل هذه التحديات الجديدة أمام الصين في ظل عدم امتلاكها لوجود عسكري ولوجيستي دائم في إفريقيا بدأت الصين تفكر جديًا بضرورة حصولها على موطئ قدم وعلى قواعد وموانئ؛ وهذا ما بدأت التفاوض حوله مع حكومة سيشل.

ويبدو أن الصين وضعت نصب عينيها أن النموذج الذي تقدمه في علاقتها مع إفريقيا هو نموذج لا يحتمل أن تكون نتيجته سوى خيار واحد لا بديل له وهو النجاح.
_____________________________________
د. عزت شحرور-متخصص في الشأن الصيني ومدير مكتب الجزيرة في بكين