تحول تاريخي: مشرق جديد يولد من تحت أنقاض القديم

الأزمة العراقية الراهنة جزء من أزمة عميقة تهدم نظام المشرق الذي تشكل منذ مئة عام، ولن ينفع أي حل جزئي معها إذا لم يكن جزءا من حل شامل يتوافق عليه أبناء المنطقة دون وصايات خارجية.
2014629101420455734_20.jpg
الصراعات تعيد رسم خرائط المنطقة المشرق (الفرنسية-أرشيف)

ملخص
لم يكن ثمة مؤشر أكثر دلالة على انهيار النظام الإقليمي، القائم منذ زهاء المئة عام في المشرق، من تطورات الوضع العراقي يوم العاشر من يونيو/حزيران 2014 والأيام القليلة التالية. في انهيار شبه شامل للجيش العراقي (الجديد)، المتمركز في المحافظات الشمالية، حيث فرّت فرق عسكرية بأكملها من معسكراتها ومواقعها، وتركت خلفها أسلحة ومعدات بكميات هائلة.

ما يثير القلق بالتأكيد، أن انهيار الدولة والنظام الإقليمي ينذر بتكاليف باهظة؛ سيما أن من الواضح أن ليس لدى أي من أطراف هذا الانهيار تصور لما يمكن أن ينير الطريق إلى المستقبل. في منعطف تاريخي أقرب إلى المنعطف الذي عاشه المشرق في الحرب العالمية الأولى، لا يبدو أن ثمة طرفًا يتمتع بالقوة أو الحكمة أو السلطة الأخلاقية الكافية لإدارة هذا الانهيار؛ وهذا ما يهدد بتفاقم حالة عدم الاستقرار، انتشار العنف، والانفجارات الطائفية والإثنية المتلاحقة.

مقدمة

لم يكن ثمة مؤشر أكثر دلالة على انهيار النظام الإقليمي، القائم منذ زهاء المئة عام في المشرق، من تطورات الوضع العراقي يوم العاشر من يونيو/حزيران 2014 والأيام القليلة التالية. في انهيار شبه شامل للجيش العراقي (الجديد)، المتمركز في المحافظات الشمالية، حيث فرّت فرق عسكرية بأكملها من معسكراتها ومواقعها، وتركت خلفها أسلحة ومعدات بكميات هائلة. مع نهاية 10 يونيو/حزيران، سيطرت على مدينة الموصل، جماعات مسلحة من الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وجنود الطريقة النقشبندية، الموالون لنائب الرئيس العراقي السابق، عزة الدوري، وثوار عشائريون سنّة، وضباط من الجيش العراقي السابق، وعناصر ممن تبقى من تنظيمات المقاومة العراقية ضد الاحتلال. في الأيام القليلة التالية، بسط الثوار العراقيون سيطرتهم على مدينة تكريت، وبلدات أخرى في محافظتي صلاح الدين والتأميم (كركوك)، وبدأت محاولة السيطرة على القطاع الشمالي من محافظة ديالى والمدخل الشمالي للعاصمة بغداد. في الوقت نفسه، أدى الانسحاب الملموس للقوات الحكومية من محافظة الأنبار إلى اتساع سيطرة الثوار العراقيين من أبناء المحافظة على المزيد من البلدات والمواقع. وقد أدى الفراغ العسكري والأمني إلى انتشار لقوات البشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان خلف حدود الإقليم، سواء في مدينة كركوك المتنازع عليها، أو في مناطق من محافظتي نينوى وديالى.

بذلك، اختفى تقريبًا الخط الفاصل بين العراق وسوريا منذ مطلع عشرينات القرن الماضي، بعد أن أصبحت قوى مسلحة وثوار وجماعات عشائرية، تنتمي لأصول فكرية وسياسية أو قبلية واحدة، تسيطر على جانبي الحدود. التوقعات المبكرة لاقتحام الثوار المسلحين مدينة بغداد لم تكن في محلها؛ فسقوط بغداد، على أية حال، ليس شأنًا سهلًا، سواء لحجم القوات التي يفترض أن تدافع عنها، أو لعمق الانقسام الطائفي في العراق. والأرجح أن بغداد في طريقها للتحول إلى ساحة تدافع أهلي مرير.

انهيارات متتالية

ثمة عدد من التفسيرات التي طُرحت لهذا الانهيار، يعكس أغلبها مواقف سياسية أو خلفيات دينية-طائفية وأيديولوجية معينة، ووُظّفت بالتالي للترويج لمواقف أصحابها السياسية. القول، مثلًا، بأن عشرات الآلاف من القوات الحكومية، جنودًا وضباطًا، التي فرّت من ساحة المواجهة في المحافظات الشمالية والغربية، كانت من السنّة، وأن انتماءها الطائفي منعها من مواجهة الثوار من أبناء الطائفة السنية، هو بالتأكيد نوع من الوهم. الحقيقة، أن ليس هناك وحدات عسكرية عراقية شيعية أو سنية خالصة، اللهم إلا قوات البشمركة التي لا تخضع لحكومة بغداد.

أغلب الجيش العراقي من الشيعة، وأغلب ضباطه من الشيعة، ولا يوجد قائد فرقة واحد من السنة العرب، كما أن الأغلبية العظمى لقوات الشرطة الاتحادية، التي فرت هي الأخرى من الموصل، هي من الشيعة؛ بل وعُرفت بممارساتها الطائفية في المدينة. أما القول بأن سيطرة الثوار المسلحين تمت بتواطؤ من حكومة إقليم كردستان، فلا يقل وهمًا. ينظر الأكراد إلى داعش، التي تمثل عماد القوة التي سيطرت على الموصل، نظرة عداء وتوجس لا تقل عن نظرة بغداد لها؛ ولكن ذلك لا يمنع انتهاز حكومة إقليم كردستان الفراغ الأمني والعسكري لتعزيز نفوذها في نينوى وكركوك وديالى. ما يبدو أقرب للواقع، وإن كان لا يمكن اعتباره تفسيرًا كافيًا، كان ملاحظة الارتباط بين الشأنين السوري والعراقي، وتأثر العراق بتطورات الأوضاع السورية.

الأهم، أن سلوك الجيش العراقي في الموصل لم يختلف عن سلوكه في أغلب المرات التي وجد نفسه فيها في ساحة قتال جادة. أظهرت قوات المالكي في الأنبار، حيث تدور معركة متواصلة منذ أكثر من خمسة شهور، فشلًا ذريعًا في مواجهتها مع ثوار العشائر وعناصر داعش. في الأسابيع والأيام الأولى من المواجهة، كان فرار الجنود والضباط من ساحة المعركة أمرًا معتادًا ومتكررًا، بيد أن قرب الأنبار النسبي من بغداد، سمح بإرسال تعزيزات مستمرة، ومنع الانهيار الكامل لعمليات الجيش في المحافظة. وحتى هنا، ما كان للقوات الحكومية أن تحافظ على مواقعها بدون مساندة مجموعات الصحوات العشائرية الموالية لبغداد. بعد حل الجيش العراقي الوطني في بداية الاحتلال، أُسس الجيش الجديد من عاطلين عن العمل وعناصر ميليشيا شيعية سابقة، والباحثين عن مهنة حكومية مؤمّنة. لم تنجح الحكومات العراقية المتعاقبة في تسليح هذا الجيش بعقيدة وطنية صلبة؛ وإن نجحت في شيء، فكان في تعزيز الطابع الطائفي للجيش.

أسس الأميركيون بلا شك دولة جديدة في العراق، ولكن العلاقة بين هذه الدولة والدولة الوطنية الحديثة هي علاقة مشوهة. باعتبارها دولة سيطرة طائفية، ينتشر في جنباتها الفساد، لم ينظر العراقيون مطلقًا، ولا حتى أبناء الطائفة الشيعية أنفسهم، لهذه الدولة بأي قدر من الاحترام والولاء. ولأن نظام الحكم الذي يقود هذه الدولة ارتبط من البداية بقرار خارجي، أكثر من ارتباطه بالإرادة الوطنية، أحاط الشك والريبة بمصداقية هذه الدولة.

ولم يتصرف رئيس الحكومة العراقية تصرف رجل الدولة، في تعامله مع انهيار الحكم والجيش في ثاني أكبر مدن البلاد، وعبر أربع محافظات رئيسية، تشكّل أكثر من نصف مساحة البلاد. كان بإمكان رئيس الحكومة العراقية الاعتراف بالفشل وتحمل المسؤولية، أو الإعلان عن حلّ حكومته والدعوة إلى تشكيل حكومة توافق ووحدة وطنية، تعيد للعراقيين الثقة بحكومتهم ودولتهم، وتعمل على مواجهة الأزمة، معززة بدعم شعبي وتفويض وطني، ولكنه لم يفعل. إلى جانب التقارير التي أفادت بطلب المالكي المساعدة الأميركية، والاستنجاد بالخبرة الإيرانية في مكافحة الشعوب الثائرة، شهد العراق تصعيدًا هائلًا في الخطاب الطائفي الشيعي، الذي صور الانهيار في الموصل وتكريت وكأنه حرب على التشيع والمراقد الشيعية. وفي مناخ غير مسبوق من تأجيج المشاعر والعصبيات البدائية، سارعت مراجع دينية إلى إصدار الفتاوى والدعوات للحشد الطائفي والدفاع عن حكومة، أقل ما يقال: إن العراقيين منقسمون حولها.

نهاية عصر

في ضوء الاضطراب البالغ في كافة أنحاء المشرق العربي، من ليبيا والسودان ومصر إلى اليمن والعراق وسوريا ولبنان، لم يعد من الممكن فهم حقيقة ما يجري في كل دولة على حدة بدون رؤية الصورة الشاملة. في هذه الصورة، ثمة حقيقتان لابد من أخذهما في الاعتبار: 

  • الأولى: أن حركة الثورة، التي تعصف بالمجال العربي كله تقريبًا منذ أكثر من ثلاث سنوات، لم تكن حول الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية، وحسب، بل وحول إخفاق النظام الإقليمي أيضًا. 
  • والثانية: أن جذور هذه الحركة تعود إلى بداية العقد الأول من هذا القرن، وليس اندلاع الثورة التونسية في ديسمبر/كانون الأول 2010.

كان فوز العدالة والتنمية في الانتخابات التركية نهاية 2002، وانهيار الدولة العراقية أمام الغزو الأجنبي، وحركة الاحتجاج المصرية في 2005، والانتفاضات العربية القصيرة والمتلاحقة في مواجهة الحروب الإسرائيلية على لبنان وقطاع غزة، التي لم تخل من توجهات سياسية واجتماعية داخلية كذلك، كلها مؤشرات على أن نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى قد وصل إلى نهاية الطريق. سواء للضغوط الخارجية، أو لفشل النخب المدنية والعسكرية الحاكمة، عجزت دول ما بعد الرابطة العثمانية عن الاستجابة لآمال الشعوب والقيام بواجباتها التي يفترض بنظام الدولة الحديثة القيام بها.

بدأت مؤشرات إخفاق الدولة العربية الحديثة في الظهور منذ نهاية الستينات، عندما أصبح واضحًا أن سياسة التنمية بقيادة الدولة، سواء في برامج اشتراكية أو شبه اشتراكية، لم تحقق النتائج المرجوة منها، وأن الأنظمة القومية العربية لم تستطع الوقوف أمام التوسع الإسرائيلي. ولكن الدولة نجحت نسبيًا، خلال العقدين التاليين، في تجاوز أزمة نهاية الستينات، مرة بتحقيق إنجاز محدود في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ومرة بتبني سياسة انفتاح اقتصادي تدريجي. هذا النجاح، على أية حال، كان محدودًا وقصيرًا، وسرعان ما أطلّت الأزمة برأسها من جديد بعد انهيار أسعار النفط في الثمانينات، وبروز طبقة من رجال الأعمال المرتبطين بأنظمة الحكم، هيمنت على الاقتصاد الوطني، وانفراط عقد تضامن السبعينات العربي.

ومنذ حرب الخليج الثانية في 1990–1991، بدا واضحًا أن الدولة العربية لم تعد قادرة على البقاء بدون احتكار الثروة والسلطة معًا، وهيمنة الأجهزة الأمنية. وفي تراجع لم يعد قابلًا للتوقف، أخذت أنظمة التعليم والصحة والخدمات العامة في الانهيار، وتصاعدت معدلات البطالة بصورة غير مسبوقة، وتحولت الدول العربية إلى أسواق هائلة للسلع الغربية والآسيوية، وانتشر الفساد في كافة جوانب أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، وضاقت مساحة السياسة والحريات لصالح قبضة أجهزة البوليس والأمن.

وقد سار إخفاق الدولة جنبًا إلى جنب مع إخفاق النظام الإقليمي؛ فعجزت منظومة الدول العربية، بعد عقود طوال على تأسيس جامعتها، عن بناء علاقات تعاون تعليمي واقتصادي وتنسيق تجاري، أو التوافق على حرية انتقال العمالة والسلع. ونظرًا لشعور الدولة العربية المستديم بالضعف، قوضت سياسة المحاور والصراعات البينية أية طموحات لإيجاد منظومة عربية واحدة. عاش الأردن حربًا أهلية في نهاية الستينات ومطلع السبعينات، ثم عاد لبنان إلى تقاليد انفجار حرب أهلية دورية كل عقدين أو ثلاثة عقود، وظلت الحرب الأهلية تخيم على السودان طوال نصف قرن، ومزقت الخلافات الإثنية والسياسية، والخلاف على مصير الصحراء الغربية، علاقات دول المغرب العربي. لم يستطع النظام الإقليمي إيجاد حل مرض للمسألة الكردية، ولا للتوترات العربية الداخلية ذات السمة الدينية أو الطائفية أو الإثنية.

في النهاية، لم تؤد إخفاقات الدولة والنظام الإقليمي إلى اندلاع حركة ثورة عربية وحسب، بل أدت هذه الحركة ، أيضًا، إلى تفاقم أزمتي الدولة والنظام. ليس العراق وحده من يقف على حافة الهاوية، بل معظم الدول العربية كذلك، ومن العبث البحث عمّا إن كانت سوريا قد أثّرت على العراق، أو أن البنية التي أُقيم عليها الأخير بعد الغزو والاحتلال كانت تنتظر شرارة الانهيار. الحقيقة، أن الانهيار الحثيث للوطنية العراقية ومؤسسة دولته لا يختلف كثيرًا عن انهيار سوريا ولبنان واليمن وليبيا، وتأزم مصر وتونس والجزائر. وليس ثمة تجل رمزي لانهيار نظام المئة سنة الإقليمي من اختفاء خط الحدود الفاصل بين سوريا والعراق، والتوسع المطرد لإقليم الحكم الذاتي الكردي.

المشرق الجديد

خلال السنوات القليلة الماضية، ونظرًا لاحتدام الصراع على روح المشرق ومقدراته الجيوسياسية، تراجع مفهوم سيادة الدولة الوطنية العربية بصورة غير مسبوقة، عندما أصبحت إيران لاعبًا رئيسًا في سوريا ولبنان والعراق، وتدخلت إيران ودول الخليج بصورة مباشرة في اليمن، وأصبح عدد من الدول العربية طرفًا في الحرب الأهلية السورية، ولعب بعض دول الخليج دورًا كبيرًا في الشأنين المصري والليبي الداخليين. ولكن كون هؤلاء اللاعبين جميعًا من الدول (state actors)، لم يُثر مثل هذا التداخل بين الدول والحدود جدلًا كبيرًا. الآن، يتحول الإقليم المشرقي إلى مسرح للاعبين من غير الدول (non-state actors)، مثل: داعش، وقوى الثورة السورية الأخرى، ومثل الحوثيين والبشمركة، مسرح لم يعد فيه لحدود الدول وادعاء سيادتها على أرضها وشعبها من معنى كبير.

سيكون من العبث محاولة التعامل مع أزمة العراق بمعزل عن أزمات دول الإقليم الأخرى وعن أزمة النظام الإقليمي ككل. ما يثير القلق بالتأكيد، أن انهيار الدولة والنظام الإقليمي ينذر بتكاليف باهظة؛ سيما أن من الواضح أن ليس لدى أي من أطراف هذا الانهيار تصور لما يمكن أن ينير الطريق إلى المستقبل. في منعطف تاريخي أقرب إلى المنعطف الذي عاشه المشرق في الحرب العالمية الأولى، لا يبدو أن ثمة طرفًا يتمتع بالقوة أو الحكمة أو السلطة الأخلاقية الكافية لإدارة هذا الانهيار؛ وهذا ما يهدد بتفاقم حالة عدم الاستقرار، انتشار العنف، والانفجارات الطائفية والإثنية المتلاحقة. ولكن، ومهما طالت هذه الحقبة من الارتباك والموت، فلابد أن تأتي لحظة يقتنع فيها أبناء هذه المنطقة من العالم، عربًا وتركًا وكردًا وإيرانيين، أن لابد من الجلوس للتوافق على نظام مشرقي جديد. بدون ذلك، فإن المشرق الجديد سترسمه إرادة القوى الخارجية، كما حدث عشية الحرب العالمية الأولى.
_____________________________
بشير م. نافع - مركز الجزيرة للدراسات