اتفاق دايتون للسلام: ماذا تحقق؟ وما المُنتظر؟ (4/4)

يتناول هذا الجزء الرابع والأخير من هذه الدراسة بحث النتائج التي أفرزتها اتفاقيات دايتون للسلام في ذكراها العشرين. ويرى الكاتب أن اتفاق السلام، وإن كان قد حقق وقف العدوان الصربي على جيرانهم البوشناقيين، فإنه أصبح عاملا معرقلا لتطور البوسنة والهرسك نحو استكمال طريقها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
20151126155053402734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
يُخصَّص هذا الجزء الرابع والأخير من هذه الدراسة لبحث النتائج التي أفرزتها اتفاقيات دايتون للسلام في ذكراها العشرين. ويرى الكاتب أن اتفاق السلام، وإن كان قد حقَّق وقف العدوان الصربي على جيرانهم البوشناقيين، فإنه أيضًا قد بات عاملًا معرقِلًا لتطور البوسنة والهرسك نحو استكمال طريقها نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وبناء دولة مؤسسات ديمقراطية ونظام سياسي واجتماعي متعدد الأعراق والأديان والثقافات. ويخلص الكاتب -بعد نقاش مطوَّل لسلبيات الاتفاق وتداعياته الإشكالية على المشهد السياسي الداخلي وأدوار القوى الدولية الكبرى ومصالحها المتضاربة في البوسنة- إلى الدعوة إلى ضرورة تجاوز الاتفاق واستبدال دايتون 2 به، يكون أكثر تعبيرًا عن حاجة الدولة وشعوبها إلى دستور جديد متحرر من قيود اتفاقيات دايتون للسلام ومتطلعًا إلى مستقبل تقرره مختلف شعوب البوسنة والهرسك بعيدًا عن كل حسابات القوى الخارجية، العدوة منها والصديقة.

وينتهي الكاتب إلى أن استمرار الوضع في البوسنة والهرسك على ما هو عليه من الانقسام الإثني وانسداد أفق العمل السياسي وتأخر انضمام البلد إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، فإن حتمية نشوب صراع آخر مسلح، قد تبدو أكثر من وشيكة.

ما الذي تحقق؟(1)

لقد كان تقدير التصور العام، الذي نُظر من خلاله إلى العدوان على البوسنة والهرسك، أن ما جرى فيها ليس سوى حرب أهلية وصراع إثني داخلي بين الشعوب الأصلية الثلاثة في البوسنة والهرسك: البوشناق والصرب والكروات. وهذا كان الخطأ الرئيسي والسبب المباشر وراء حالة انعدام الثقة وغياب التفاهم بين البوشناقيين، من ناحية، وبين الصرب والكروات من ناحية أخرى، بمعنى، أنه من الضروري التأكيد في هذا السياق على أن البوشناق، وعلى عكس الصرب والكروات الذين قدموا إلى البلقان مع موجة هجرة السلافيين الجنوبيين خلال النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، كانوا هم السكان الأصليين في منطقة البلقان، وبصفتهم تلك، فهم السكان الأصليون الوحيدون في البوسنة والهرسك.

لقد أظهر مسار تلك الحرب العدوانية جنوحًا واضحًا لاحتلال البوسنة والهرسك من أجل دمجها في بوتقة يوغسلافيا، أو -صربيا الكبرى- وإبادة الأمة البوشناقية باعتبارها الأمة الوحيدة الأصيلة والأكثر عددًا من بين الشعوب الكبرى الثلاثة في البوسنة والهرسك. كان التعبير عن هذه النية علنيًّا في أكتوبر/تشرين الأول 1991 داخل مبنى البرلمان البوسني على لسان رادوفان كارادجيتش، الذي كان يرأس الحزب الصربي الديمقراطي. وكما هو معروف، فإن هذا المخطط تم إجهاضه بفضل اتفاق دايتون للسلام.

وبعد عشرين عامًا من إمضاء اتفاق دايتون، فثمة عدة أسباب تدعونا إلى تلخيص نتيجته في سؤال وحيد: ما الذي حقَّقه فعلًا اتفاق دايتون للسلام؟

خلال العقدين الماضيين تحققت سبعة أهداف مهمة: 

  1. وضعت الحرب أوزارها، لكن الدولة لا تزال في وضع المحمية.
  2. تم استعادة الوضع الرسمي للبوسنة والهرسك، باعتبارها دولة ذات سيادة، على الرغم من الطريقة الغريبة وغير المحايدة المتَّبعة في مفاوضات دايتون. 
  3. تمت المصادقة على الدستور باعتباره جزءًا لا يتجزأ من اتفاق دايتون للسلام، الذي كان بمثابة الأساس لتنظيم البوسنة والهرسك داخليًّا، كدولة تتضمن كيانين ومؤسسات مركزية.
  4. تأسس نظام حماية حقوق الإنسان بما يتوافق والمعايير الدولية، وتم ضمان حمايتها عن طريق ترسانة من القوانين.
  5. التزام المجتمع الدولي بدعم إعادة اللاجئين إلى أماكن سكناهم داخل الكيانين في البوسنة والهرسك، ومساعدة الحكومة في توفير الشروط الضرورية لهذه العملية. 
  6. كان تنفيذ اتفاق دايتون للسلام -ولا يزال- يرتكز على مبدأ التدخل الحاسم لقوى المجتمع الدولي بشقيه العسكري والمدني.
  7. القوات العسكرية هي قوات حلف الناتو، في حين يُمثِّل القواتِ المدنية الممثلُ السامي للمجتمع الدولي، الذي هو في نفس الوقت السلطة العليا المخوَّلة بتفسير وتنفيذ اتفاق دايتون للسلام.

فيما يتعلق بالسؤال حول ما الذي جلبه اتفاق دايتون للسلام للبوسنة والهرسك؟ فيمكننا إيراد تقييمين مُهيمِنيْن على النقاشات النظرية حول القضية:

يرى الرأي الأول أن اتفاق دايتون للسلام حلَّ قضية الحرب من خلال إيقافها، وأنه أوجد الأسس التي على أساسها ستتمكن البوسنة والهرسك من إعادة بناء تكاملها الداخلي، وبناء مؤسسات ديمقراطية، وتعزيز السلام والتقدم نحو التكامل الأورو-أطلنطي.

أمَّا الرأي الثاني، فيقول: بما أن اتفاق دايتون للسلام قد قسَّم البوسنة والهرسك على أساس إثني، الذي بات هو المبدأ المهيمن في التنظيم الداخلي وتسيير مؤسسات دولة البوسنة والهرسك، فإن بناء مجتمع ديمقراطي مدني أصبح أمرًا مستحيلًا.

كذلك، وبما أنها مقسَّمة سياسيًّا إلى 13 برلمانًا وحكومة ( 10 كانتونات، كيانين ودولة داخل الدولة) ما يعني أن حجم إدارة الدولة قد تضاعف ثلاث عشرة مرة، فإن البوسنة والهرسك أصبحت دولة غير قابلة لأداء وظائفها، بالإضافة إلى الارتفاع الكبير في تكلفة تسيير جهازها الإداري-السياسي؛ حيث يذهب ثلثا إجمالي إنتاجها الداخلي لسداد رواتب الموظفين الإداريين.

سمح الجدل الذي أثاره النقاش حول الرأيين المتضادَّيْن المبيَّنيْن أعلاه بظهور فكرة تنادي بالتخلي عن، أو على الأقل، تعديل وتطوير اتفاق دايتون للسلام من أجل توفير الأسس الضرورية لإنشاء نظام تسيير فعَّال لأجهزة الدولة، كما هي حال الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن هذه الفكرة تظلُّ بعيدة عن تحقيق الإجماع حولها سواء أكان على مستوى المجتمع الدولي أم على المستوى السياسي الداخلي في البوسنة والهرسك.

بالإضافة إلى التوافق العام على أن برنامج إعادة المواطنين المهجَّرين ما زال بعيدًا عن التحقق على واقع الأرض بطريقة مُرضية، فإنه علينا أن نضع في أذهاننا أن أغلب اللاجئين العائدين لا يتوفرون على الأسس الاقتصادية التي تسمح لهم بالعيش الطبيعي، وخاصة داخل المدن. كما أن ضعف الواقع الاقتصادي غير المشجِّع يؤثِّر في تزايد موجات الهجرة، وخاصة في صفوف الجيل الشاب، إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، وبلدان ما وراء البحار.

حقيقة أن ما يزيد عن 150 ألفًا من الشباب البوسني الذين أنهوا تعليمهم الجامعي قد غادروا البوسنة والهرسك في الفترة ما بين 1996-2003، وأن تلك الأعداد قد بلغت اليوم 300 ألف مواطن، أغلبهم من حَمَلَة الشهادات الجامعية العليا، تدل على أن هذه العملية تهدد بجدية، ليس فقط الوضع الديمغرافي بل أيضًا مستقبل البوسنة والهرسك.

اتفاق دايتون وتركيا(2)

كان البيان الرسمي الصادر أثناء زيارة الممثل السامي للبوسنة والهرسك، فالنتين إينسكو، إلى تركيا، في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2010، أي بعد 15 عامًا من إمضاء اتفاق دايتون للسلام، يتفق تمامًا مع العمل الدبلوماسي على الأرض.

كما سبق وقلنا، فإنه بالرغم من تغير الظروف بعد 15 عامًا من التوصل إلى اتفاق دايتون، فإن تركيا بذلت جهودًا مكثفة لمساعدة مواطني البوسنة والهرسك "حتى لا يعيش أبدًا محنة أخرى" كتلك التي مَرَّ بها إلى اليوم.

تسهم تركيا، بشكل مباشر، في جهود تطبيع العلاقات داخل المنطقة بواسطة إنشاء آليات التشاور الثلاثية التي وُضعت من أجل ذلك الغرض: تركيا- البوسنة والهرسك- صربيا، وتركيا- البوسنة والهرسك-كرواتيا. كما تم التأكيد في ذلك البيان على أن تركيا تعتبر البوسنة والهرسك دولة جارة وقلب البلقان، وأنها تُولي أهمية بالغة لاستقلالها وسيادتها ووحدتها الترابية ونموها ورفاهية شعبها، وأنها تدعم بقوة سعي البوسنة والهرسك لأن تكون دولة مستقرة، فعَّالة وديمقراطية، وتدعم تطلعها لأن تكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وأن تستكمل الخطوات الضرورية المؤدية إلى ذلك.

خمس سنوات منذ صدور ذلك البيان، وبمناسبة مرور 20 عامًا على اتفاق دايتون للسلام، لا يزال نفس النهج الدبلوماسي يطبع المقاربة التركية لهذه القضية الساخنة(3).

هذه المرة، يتقارب الموقف الرسمي التركي علنًا مع موقف الولايات المتحدة الأميركية. بمعنى، أنه فيما يتعلق بالجدل القائم حول مكتب الممثِّل السامي في البوسنة والهرسك، وفي حين يصرُّ الاتحاد الأوروبي على الضرورة الملحَّة لإغلاق ذلك المكتب القوي وتعويضه بممثليَّة خاصة تابعة للاتحاد الأوروبي، فإن تركيا تتبنى نفس وجهة نظر أميركا القائلة بأن "الظروف لم تتهيأ بشكل كامل بعدُ لإنهاء المهمة". وبالرغم من أن هذا الموقف حول مستقبل الهيئة الدولية الحاكمة في البوسنة والهرسك قد وضع تركيا في مواجهة مع الاتحاد الأوروبي، إلا أنه بكل تأكيد قرَّب تركيا أكثر من الولايات المتحدة الأميركية.

يريد الاتحاد الأوروبي إغلاق مكتب الممثِّل السامي، لأنه يؤمن بحقيقة أن هذا المكتب، وخلال العقد الماضي، كان يمثِّل بوضوح حجرة عثرة رئيسية أمام استعادة الحياة الطبيعية لدولة البوسنة والهرسك وأمام تقدم الديمقراطية في البلد. أمَّا تركيا، مدعومة من طرف الولايات المتحدة الأميركية، فترى أن الظروف لم تنضج بعد بالشكل المطلوب لإنهاء مهمة تلك المؤسسة الدولية المكلفة بمراقبة تنفيذ الجوانب المدنية من اتفاق دايتون الذي أنهى الحرب الإثنية الداخلية في البوسنة والهرسك. وكان دبلوماسي تركي قد صرَّح إلى صحيفة حريات اليومية الناطقة بالإنجليزية بما يلي: "نحن لسنا ضد إغلاق مكتب الممثل السامي بشكل قاطع، لكن علينا الانتظار أكثر حتى تنضج الظروف لفعل ذلك". لم تعطِّل تركيا القرار الصادر عام 2007 والقاضي بإغلاق مكتب الممثل السامي، لكنها أبدت تحفظات رسمية حوله، وأضاف المتحدث التركي الرسمي: "قلنا: إن القرار يجب أن يُراجَع وفقًا للظروف التي يعيشها البلد، وكذلك في ضوء ما تمر به المنطقة عمومًا".

وكان الجدل حول قضية إدخال تعديلات راديكالية على مضمون وطريقة تنفيذ اتفاق دايتون قد انطلق قبل 15 عامًا خلت.

ووفقًا لإحدى التوصيات التي تم التوصل إليها في ختام أحد المؤتمرات المخصَّصة لدراسة هذه القضية جاء فيها: "إن رئاسة المجلس المشرف على تنفيذ السلام، وهو الهيئة الدولية المشرفة على عملية السلام، خلص إلى أنه على مكتب الممثِّل السامي أن يُغلق أبوابه في الثلاثين من يونيو/حزيران 2008، وأن يتم تعويضه بممثل خاص للاتحاد الأوروبي (EUSR)".

مجلس تنفيذ السلام المؤلَّف من 55 دولة ووكالة، وتركيا وأميركا عضوان فيه، يدعم بقوة التوصيات الداعية إلى إغلاق مكتب الممثل السامي في أقرب فرصة ممكنة.

"طالما تواصل وجود مكتب الممثل السامي، فإنه لن يكون بإمكان البوسنة التقدم نحو عضوية الاتحاد الأوروبي"، هذا ما قاله جيرالد كناوس، رئيس المبادرة الأوروبية لتحقيق الاستقرار، وهي مؤسسة بحثية، مقرها برلين، تعمل على قضايا جنوب شرق أوروبا وتركيا والقوقاز والقضايا المتعلقة بمستقبل توسع الاتحاد الأوروبي، "إنه من الخطورة بمكان أن تبقى البوسنة عالقة إلى الوراء؛ فهذا قد يُعطي إشارة خاطئة إلى البوسنيين" يُضيف كناوس.

يعتقد الاتحاد الأوروبي أن البدء في عملية الانضمام سيجعل البوسنة أكثر قدرة على القيام بكامل مسؤولياتها في الإشراف على قضاياها بنفسها؛ فبالمقارنة مع وضعها الذي كانت عليه خلال فترة التسعينات، فإن البوسنة اليوم تبدو بعيدة عن استعادة حالتها الطبيعية، يقول متخصص أوروبي آخر في قضايا البوسنة والهرسك: "ثمة أزمة سياسية خطيرة، وعملية صناعة القرار السياسي في طريق مسدود".

ويضيف كناوس، في سياق مناصرته لإغلاق مكتب الممثل السامي، أنه يؤمن بأن بدء عملية المحادثات على طريق انضمام البوسنة والهرسك إلى الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يشجِّع كل الجماعات الإثنية في البوسنة والهرسك على تعاون أفضل فيما بينها. وهو ما ردَّ عليه أحد الدبلوماسيين الأتراك بالقول: "إن الاتحاد الأوروبي يدرك تمامًا ضرورة لفت النظر إلى التداعيات السلبية التي قد تترتب على تخلف البوسنة عن ركب المنضمين إلى عملية توسعة الاتحاد الأوروبي".

تُمثِّل البوسنة والهرسك حالة معقَّدة بالنسبة لأنقرة، فمن ناحية، تعتقد تركيا أن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يمكنها تسريع عودة الأمور إلى طبيعتها في البوسنة، لكن من ناحية أخرى، فإن كثيرين يعتقدون بأن المخاطر مرتفعة جدًّا "ما الذي يمكن أن يحدث لو عاد الصراع إلى السطح من جديد؟ إننا سنعود حينها إلى المربع الأول" يقول الدبلوماسي التركي. "إن هذه دولة خارجة من صراع وهي في مرحلة انتقال. هناك مخاطر من عودة اندلاع الحرب مرة أخرى؛ ماذا سنفعل حينها؟ سيكون للمثل الخاص للاتحاد الأوروبي سلطات أقل من سلطات مكتب الممثل السامي".

فيما يتعلق بإشاعات إمكانية اندلاع الحرب من جديد، يعتقد كناوس أنها ليست سوى إشاعات. وقد انتهى آخر اجتماع لمدراء مجلس القيادة من دون اتخاذ قرار ملموس حول توقيت إغلاق مكتب الممثل السامي. "طالما تمسكنا بقول لا، فإن الإغلاق لن يحدث. هذا إضافة إلى أننا مدعومون من قبل الولايات المتحدة الأميركية" يقول الدبلوماسي التركي. ويرد كناوس: "إن الولايات المتحدة الأميركية لا تفهم كيف أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بإمكانه أن يعزِّز مفهوم الدولة في البوسنة!". 

الخلاصة

الاستنتاج الوارد في التصريح الأخير الذي أدلى به كناوس بأن الولايات المتحدة الأميركية لا تفهم كيف أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بإمكانه أن يعزِّز مفهوم الدولة في البوسنة، هو بكل تأكيد استنتاج خاطئ.

بالطبع، أميركا تفهم أهمية الاتحاد الأوروبي بالنسبة لتعزيز مفهوم أية دولة أوروبية، وبشكل أكثر، بالنسبة لمفهوم الدولة في البوسنة والهرسك، إلا أن أميركا تتبع أجندتها الخاصة التي تفرضها عليها مصالحها وأهدافها الاستراتيجية الخاصة. ولأسباب معينة، رأت حكومتها أن إغلاق مكتب الممثِّل السامي يتعارض، في هذا الوقت، مع أجندتها ومصالحها، وأن أجندتها تلك لا تتضمن بند إغلاق مكتب الممثِّل السامي، بل على العكس من ذلك تمامًا، فإن خطتها تقضي بتكليفه بالمزيد من الأعمال.

ثمة حالتان كانتا دائمتَي الحضور بشكل مقلق على امتداد عشرين عامًا الماضية من عملية تنفيذ اتفاق دايتون للسلام. واحدة هي، أنه وبالرغم من أن اتفاق دايتون أحلَّ السلام، لكنَّه في جوانب عديدة، يجد نفسه في تعارض مع معايير القانون الدولي السارية. ومن وجهة النظر هذه، فإن اتفاق دايتون للسلام يمثِّل شرعنة العدوان العسكري الذي قادته دولة بغرض حلِّ المؤسسات وتقسيم نفس تلك الدولة إداريًّا. أمَّا الثانية، فإن القرار الذي سعى إلى تحويل جمهورية البوسنة والهرسك رسميًّا إلى هيكل سياسي وهمي من خلال إلغاء وصف "الجمهورية", هو في حدِّ ذاته سابقة خطيرة في السياسة الدولية(4).

علاوة على تكلفتها العالية، فإن اتفاق دايتون جعل من الصعب إدارة مؤسسات الدولة وعطَّل الحياة الطبيعية. لقد بات واضحًا بجلاء استحالة تطور المجتمع المدني طالما ظلَّ النظام السياسي المفروض والدستور يدفعان نحو التقسيم الصارم للمجتمع البوسني على أساس إثني. إن الإشاعات السارية التي وردت على لسان الدبلوماسيين حول "أن الحرب ستندلع من جديد" قد تكون بالفعل مجرد إشاعات، لكن إذا أراد أحدهم التسبب في خلق صراع جديد في البوسنة والهرسك، فإن أفضل طريقة لفعل ذلك ستكون في توظيف التوترات الإثنية القائمة في المنطقة في المستقبل. إن إطالة عمر السياسة القائمة على تقسيم الشعب إلى كيانين على أساس إثني، كما هي الحال خلال عشرين عامًا الماضية، سيجعل من الصعب جدًّا تجنُّب حتمية نشوب صراع في قادم الأيام.

لقد أضفى اتفاق دايتون الشرعية بل وكافأ أيضًا أكثر الاعتداءات فظاعة، بقراره منح المعتدي نصف أراضي البوسنة والهرسك، ولنكون أكثر تحديدًا مُنح المعتدي 49% من الأراضي. كما أن تداعيات الاتفاق طالت أيضًا الاقتصاد فأثَّرت فيه سلبًا؛ حيث أقصى الاتفاق بصرامة أية إمكانية للوحدة السياسية بين الكيانات، وبذلك جعل من المستحيل تحول البوسنة والهرسك إلى مجتمع مدني يرتكز على المساواة بين جميع أفراده بقطع النظر عن أصولهم العِرقية. وقد ظلت دولة البوسنة والهرسك بأكملها، ولوقت طويل جدًّا، في حالة مراهَقَة، محرومة من حقها في اتخاذ قرارها السياسي بنفسها، وخاضعة بالكامل لقرارات المجتمع الدولي.

الشلل الاقتصادي وانعدام الفرص وقلة الحماسة وعدم وضوح معالم المستقبل والانهزامية والقبول بالفساد، الذي أصبح من مظاهر الحياة، وانعدام الثقة في المؤسسات السياسية وغياب عنصر احترام الذات، بالإضافة إلى تضاعف أعداد المهاجرين في صفوف الشباب، تمثِّل كلها إمَّا أعراضًا أو ردود فعل على حياة امتدت أكثر من عشرين عامًا في مجتمع منقسم على ذاته وخاضع لمراقبة الأجانب.

لقد بات من الضروري استبدال اتفاق دايتون بدستور جديد بمساعدة من المجتمع الدولي. لكن، ومع ذلك، فإن هذا العقيد، إدوين لاركين، وفي رداء كبير الخبراء، خلُص وبشكل قطعي إلى أن السبب الرئيسي وراء عدم استفادة البوسنة والهرسك من اتفاق دايتون للسلام وتنفيذ جوهره، يعود إلى فشل مواطني البوسنة والهرسك في التوصل إلى توافق داخلي بينهم باعتبارهم أمة واحدة، وأكَّد على أنه: بدلًا من ذلك، فإن نفس العقبات التي تقف أمام البلد لا تزال قائمة، وهي ذاتها التي كانت أصل نشوب الصراع: حكومة منقسمة، انقسام إثني، وفساد مستشرٍ.

كيف يمكن تفسير هذه الممارسات لتبرير الظلم الذي سُلِّط على كامل الأمة البوشناقية؟ واقعيًّا، الإجابة واضحة: حرمان البوسنة والهرسك من أن تكون دولة ذات سيادة فعلية وحقيقية.

قد يكون ذلك هو الثمن الذي دُفع إلى صربيا، وربما أيضًا، إلى كرواتيا على حساب البوسنة! إن تأجيل مسألة وحدة الدولة عن طريق إلغاء الكيانات كما خُطِّط له في دايتون، قد يكون فيه إشارة إلى أن المجتمع الدولي، أو جزء منه، لا يزال يتعاطى مع توظيف مطامع صربيا في بسط هيمنتها المطلقة واحتلال أراضي البوسنة والهرسك، وأن تلك المطامع لا تزال قائمة ويحفزها بعض اللاعبين الذين تقوم وعودهم على ما يتمتعون به من سلطات تسمح لهم بإعطاء كل ما يمكن أن يُطلَب منهم.
_______________________________
د. فريد موهيتش، محاضر لمادة الفلسفة بجامعة القديسيْن: سيريل وميثوديوس بالعاصمة المقدونية سكوبيا، ورئيس الأكاديمية البوشناقية للعلوم.

ملاحظة: النص بالأصل أُعِدَّ لمركز الجزيرة للدراسات باللغة البوسنية، وترجمه إلى العربية الباحث المتخصص في شؤون البلقان د. كريم الماجري.

المراجع والهوامش
1 For the systematization of the general aspects concerningthe problems of the political pluralism in the light of Dayton Peace Agreement, this section partly is the result of discussion with the text by Prof. Mirko Pejanovic on http://www.ifimes.org/en/7986-the-dayton-peace-agreement-and-the-development-of-political-pluralism-in-bosnia-and-herzegovina#sthash.qki4GNqD.dpuf See more at: http://www.ifimes.org/en/7986-the-dayton-peace-agreement-and-the-development-of-political-pluralism-in-bosnia-and-herzegovina#sthash.qki4GNqD.dpuf
2 Main source: No: 255, 21 November 2010, Press Release Regarding the Dayton Peace Agreement (DPA) and Visit of High Representative of Bosnia and Herzegovina Mr. Valentin Inzko to Turkey
3 See the Press Release issued on Monday, October 26, 2015 20:13.
4 Although the text of the Constitutional Charter includes three unilateral declarations, on behalf of the Republic of Bosnia and Herzegovina, according to which: "The Republic of Bosnia and Herzegovina approves the Constitution of Bosnia Herzegovina at Annex 4 to the General Framework Agreement”, and while The Constitution of Bosnia and Herzegovina, as designed by Dayton peace Agreement, was negotiated at international level expressis verbis by The Republic of Bosnia and Herzegovina with on one side two insurrectional groups and on the other a group of foreign States (italics F.M.), still this fact was totally ignored in final Agreement! From here on, the prefix “Republic” definitely disappears from the name of newly created state as legal subject without any explication.

نبذة عن الكاتب