الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: تركيا نموذجًا

يقدِّم الملف نتائج دراسات المرحلة الثالثة من المشروع البحثي المشترك بين مركز الجزيرة للدراسات وجامعة كامبريدج، والتي تناولت "الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: تركيا نموذجًا"، باستقصاء العلاقة التبادلية بين ديناميات الانتقال وبنية المنظومة الإعلامية ووظيفتها.
8fa1ff4bdf754d5bba3e442967b31e00_18.jpg
مناقشة نتائج الدراسات التي أعدها الفريق البحثي حول الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: الحالة التركية نموذجًا (الجزيرة، أرشيف)

تُعَدُّ هذه الدراسات، التي تتناول "الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: تركيا نموذجًا"، جزءًا من المشروع البحثي المشترك بين مركز الجزيرة للدراسات وجامعة كامبريدج، وتعرض نتائج البحوث الأصلية التي أُنْجِزَت في إطار المرحلة الثالثة من المشروع حول تأثير الانتقال السياسي في الإعلام بتركيا والعلاقة التبادلية بينهما. ويتضمن هذا الملف سبع دراسات فضلًا عن مقدمة تتناول قضايا مختلفة في سياق هذه العلاقة؛ أعدَّها أكاديميون وباحثون مختصون في علوم الإعلام والاتصال. 

ركزت المرحلة الأولى من المشروع البحثي، والتي انطلقت في العام 2013، على وسائل الإعلام في تونس، من خلال استقصاء التغيرات والتحولات التي شهدتها المنظومة الإعلامية التونسية بعد الثورة. وتُوِّجَت مخرجات تلك المرحلة بنشر بحوثها في مجلة دراسات شمال إفريقيا (The Journal of North Africa Studies) التي تصدرها جامعة كامبريدج بعنوان "Media in Political Transition, Focus on Tunisia"، ثم في كتاب أصدره مركز الجزيرة للدراسات باللغة العربية بعنوان "الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: الحالة التونسية نموذجًا". وتناولت المرحلة الثانية أيضًا "الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: الحالة المغربية نموذجًا" في العام 2016، وركزت على إشكالاته البنيوية والهيكلية والوظيفية. 

يهدف المشروع انطلاقًا من الحالات الثلاث (تركيا والمغرب وتونس) إلى دراسة مقارِنة لأنظمة الإعلام في البلدان المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط باعتماد المداخل البحثية الآتية: البنية والوظيفة والوكالة، ومعالجة الموضوعات المرتبطة بحرية الإنترنت والمراقبة، والخطاب السياسي، واستخدام وسائل الإعلام الاجتماعي، وقضايا الجندر (النوع) على شاشة التليفزيون وفي الحياة العامة، والكفاءة المهنية والحزبية للقطاع، وظهور وسائل الإعلام الإسلامية، والمنافسة الداخلية بين النخب السياسية للاستفادة من وسائل الإعلام. وبالنظر إلى تركيا والمغرب، فهناك صورة أكثر اكتمالًا في الوضوح من حيث الكيفية التي استجاب بها الإعلام الحكومي في المنطقة للتوترات السياسية والتحولات الجديدة في الخطاب الشعبي ردًّا على الأحداث التي وقعت عامي 2011 و2013. 

واستنادًا إلى فرضية أن كلًّا من هذه المداخل ينطوي على الآخر، وأن الثلاثة تتفاعل مع بعضها البعض بشكل مستمر، فقد ركَّز المشروع على تفكيكها كمجالات متفرقة للبحث حتى نفهم كيف ولماذا تطورت هذه المحاور وأصبحت على ما هي عليه. وفي الوقت نفسه، يحاول البحث أن يفهم كيف يسهم هذا الترابط بين المحاور المذكورة في الوصول إلى نتائج خاصة بشأن علاقة الإعلام بالسياسة في مرحلة ما بعد 2011.

في هذا الملف، الذي يتناول حالة الإعلام التركي خلال مرحلة الانتقال السياسي، تشير الدراسة التي أعدتها الباحثة الرئيسية ومديرة المشروع، روكسان فارمان فارمايان، والباحث، علي سوناي، من جامعة كامبريدج، ومراد أقصر، الأستاذ المحاضر بجامعة أولستر، وهي بعنوان "بنية الإعلام التركي في السياق القانوني والسياسي: نموذج القيم والتفاوض على المركز الاجتماعي"، إلى المراحل الانتقالية والتحولات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها تركيا في التاريخ الحديث، واستيلاء الحكم العسكري بشكل متكرر على السلطة، ثم العودة إلى شكل من أشكال الحكم الديمقراطي. وكانت التجربة تتأثر طوال الوقت بالحريات المدنية الملهمة في الاتحاد الأوروبي والممارسات الدينية العامة وكذلك عمليات التحديث والتحرير الاقتصادي. وقد لعب الإعلام كوسيلة لنقل الصور الثقافية والهويات الوطنية دورًا مهمًّا في هذا المسار ورغم ذلك ظلت الحكومة تفرض كامل سيطرتها عليه. وتقترح الدراسة بحث وضع وسائل الإعلام وسيطًا استراتيجيًّا في العلاقات الاجتماعية وفضاء أيديولوجيًّا للقيم العامة.

وترصد دراسة آيش تونش، أستاذة في نظم الاتصال الإعلامي بجامعة إسطنبول بيلجي، بعنوان "كل شيء يتحول: تحليل عام للمشهد السياسي التركي من منظور نظام إعلامي هجين"، التغيرَ التدريجي الذي عرفه الإعلام التركي؛ حيث شهدت سوق الإعلام عملية تحول منذ العام 2002، من الأحزاب السياسية إلى مؤسسات الدولة، ومن الكيانات الثقافية إلى الهويات الإثنية، ومن المنظمات العسكرية إلى منظمات المجتمع المدني؛ حيث عمل تحول تركيا على تقوية بعض اللاعبين والتخلص من آخرين. كما تناولت الباحثة تأثير المحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت في 15 يوليو/تموز 2016، على المشهد الإعلامي والسياسي التركي، وركَّزت على الدور المتغير للصحف وقنوات التلفاز، فضلًا عن مهنة الصحافة. وأجرت الباحثة لقاءات معمَّقة مع قادة الرأي المعروفين، والساسة المحليين، والإعلاميين المخضرمين، وجمعيات الصحافة، وممثلي وسائل الإعلام لأغراض هذا البحث، وخَلُصَت إلى تحليل وظائف القطاع الإعلامي التي تتقاطع عند ما تعتبره "المحسوبية، والميول الاستبدادية، وقواعد السوق الرأسمالية". 

وبحث علي سوناي، وهو باحث ضمن فريق المشروع البحثي المشترك بين جامعة كامبريدج ومركز الجزيرة للدراسات، في دراسته التي تحمل عنوان "الإعلام المحلي في تركيا: التطور الإذاعي في قونية"، التغييرات التي شهدتها تركيا في العديد من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2002. وربط الباحث خطوات التحرير الاقتصادي والسياسي بالعديد من القضايا التي ظهرت في السنوات الماضية، وأهمها: وجود الدِّين في المجال العام، والظهور المصاحِب للطبقة الوسطى المحافظة الجديدة وتأثيرها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في تشكيل حدود ما يجب التفكير به وقوله بشأن الهوية التركية. لقد أصبح الإعلام أحد مجالات التفاوض خلال هذه العملية التي ما زالت جارية. 

وفي هذا السياق، وبهدف فهم تطورات الإعلام الحالية، ركَّزت الدراسة على الإذاعة كمؤسسة في الهامش، وتساءلت عن الطريقة التي تعكس بها الإذاعة في وسط الأناضول، وهي منطقة ظهور البرجوازية المحافظة خلال العقود الماضية، هذا التحول. وتمحورت المقابلات والملاحظات على قونية، وهي مدينة مهمة سياسيًّا واقتصاديًّا ومركز لدعم حزب العدالة والتنمية. وقد تبيَّن من خلال العمل الميداني وجود سعي متزايد لتحويل الإعلام إلى تجارة والتركيز على المستوى المحلي الذي يؤثِّر على الإذاعات الموسيقية السائدة وفي نفس الوقت إعادة تشكيل طابع الإذاعات الإسلامية. 

وتناول إيركان ساكا، أستاذ الإعلام والاتصال في جامعة إسطنبول بيلجي، في دراسته بعنوان "الإعلام الاجتماعي في تركيا باعتباره فضاء للمعارك السياسية"، تفاعُلَ حزب العدالة والتنمية الحاكم مع احتجاجات جيزي بارك عام 2013؛ حيث بدا الحزب عقب الأحداث "جيشًا من المتصيِّدين السياسيين" لمواجهة الهيمنة المتزايدة لمتظاهري جيزي على وسائل التواصل الاجتماعي. واعتبارًا من ديسمبر/كانون الأول 2013، وأثناء التحقيق في الفساد، انهار التحالف القديم وتحولت العلاقة بين حركة فتح الله غولن وحزب العدالة والتنمية إلى عداوة صارخة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت حركة غولن في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بفعالية لإثارة المعارضة ضد الحزب الحاكم. وتم خلال الدراسة التأكيد بشكل خاص على دراسات الناشطية الرقمية، إضافة إلى الثقافات التشاركية واستخدام شبكات الإنترنت، كما ألقت نظرة على الاقتصاد السياسي للإعلام التركي بهدف تأطير الصراعات السياسية الحالية في التواصل الاجتماعي. 

ناقش الملف أيضًا اللوائح والبنية التنظيمية التي تشكِّل العلاقة بين الحكومة ووسائل الإعلام. وفي هذا السياق، أبرزت عائشة سيدا يوكسل، وهي باحثة بمركز دراسات إسطنبول في جامعة قدير هاس، في دراستها بعنوان "تمثيل الرعب والصراع العِرقي في الصحافة التركية: تحليل لعملية السلام في تركيا"، أن الإعلام التركي يُعدُّ واحدًا من أعمدة القومية التركية منذ فترة طويلة؛ حيث ينزع إلى تعريف الشعب التركي من خلال التهديدات المتوقعة داخليًّا وخارجيًّا. خلال التسعينات، وفي هذه الفترة الطويلة من الخطاب القوي، تم تصنيف "الشرق" ضمنيًّا مع الإثنية الكردية، بينما لازم تعريف حزب العمال الكردستاني بالإرهاب بشكل صريح. وركزت الدراسة على الفترة بين أبريل/نيسان حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2015، عند انخفاض التوتر بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني تزامنًا مع عملية السلام التي أُعلن عنها رسميًّا وأُطلع الجمهور التركي عليها من قِبل الحكومة التركية عام 2013. وقد رافق اندلاع المناوشات بين الطرفين، في عام 2015، تزايد مدِّ الحرب السورية وإعادتها لهيكلة الجانب الآخر من الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا والاستقطاب العميق في السياسة الداخلية حول حزب العدالة والتنمية وبين المعارضة عشية اقتراب الانتخابات الوطنية في يونيو/حزيران 2015. 

وبالتركيز على أربع صحف (يني شفق، ميليت، زمان، الجمهورية) المرتبطة بمختلف المواقف الأيديولوجية والعلاقات الاقتصادية بالحكومة المركزية تبيَّن الاختلاف في صياغة انخفاض التوتر والقضية الكردية داخل الإعلام الرئيسي المطبوع. إن عودة ظهور الخطاب عن الإرهاب، والصراع العِرقي في عام 2015، لا تسمح بمناقشة ما إذا كان هناك تصور متغير وتمثيل جديد للمسألة الكردية طويلة الأمد فحسب، بل تسمح أيضًا بمعالجة مسألة كيفية بناء الخطاب الإعلامي حول السلام. 

وفي دراسته لموضوع "التفاوض على القيم في صحافة الإسلاميين بعد 2013"، اعتبر ميشيل أنجلو جايدا، الذي يعمل أستاذًا ورئيسًا لقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة إسطنبول 29 مايو، أن هناك حدثين خلَّفا ضغطًا هائلًا ودفعا إلى تكييف صحافة الإسلاميين مع العلاقات المؤسسية، وهما: احتجاجات جيزي بارك وفضائح فساد ديسمبر/كانون الأول 2013. وبحثت الدراسة بعضًا من تفسيرات كُتَّاب الأعمدة الصحفية الرئيسية للحدثين في ثلاثة من أهم صحف الإسلاميين خلال الفترة ما بعد يونيو/حزيران 2013. كما حلَّلت على وجه التحديد فترة وجود نجوم الأعمدة الصحفية، أمثال: فهمي كورو (يني شفق) وإبراهيم كاراجول، وعلي بولاج (زمان)، أثناء احتجاجات ميدان جيزي وبعد خروج فضائح الفساد إلى العلن، وتوضِّح المناهج والفهم المختلف لهؤلاء الصحفيين للأحداث، وكيفية تكوين الرأي الإسلامي. كما ألقت الضوء أيضًا على الدور الذي لعبته المخاوف وعدم الثقة بالنفس في حياة شرائح مختلفة من الشعب. علاوة على هذا، فإن النظرة العامة على ملكية الصحف إلى جانب إجراء لقاءات مع الكتَّاب ستساعد على فهم ضغوط العلاقات المؤسسية فيما بين السياسة، والمجتمع المدني، والإعلام والاقتصاد. 

وتناولت ياسيم بورول سيفين، أستاذة الإعلام والسينما والتليفزيون في جامعة إسطنبول بيلجي، وهاندي إسلين ضيا، زميلة باحثة في جامعة كوازولو ناتال بدوربان، في دراسة مشتركة بعنوان "فهم تركيا الجديدة من خلال عيون النساء: السياسات الجندرية في البرامج الحوارية التركية"، التغييرات المهمة التي أجراها حزب العدالة والتنمية، عقب فوزه بالانتخابات الثانية عام 2007، في برنامج الحزب واستراتيجيته؛ حيث تحولت تركيا بعد ذلك إلى فضاء وظيفي ومجال خطاب جديد، يسمَّى "تركيا الجديدة". لم يحدد هذا الشعار تعريفًا للديمقراطية فحسب، بل أثار قضية المساواة بين الجنسين، ومكانة المرأة. 

وفي أثناء هذه الفترة بدأت الحكومة التركية تعبِّر بحرية عن خطابها الأبوي. ولأن الإعلام أداة هيمنة قوية؛ حيث تتنافس الجهات السياسية الفاعلة لإثبات تأثيرها، فإن تحليل ما يقال أثناء النهار يظهر على شاشات التليفزيون، ويعكس صناعة أدوار مماثلة بين الجنسين داخل المجتمع التركي. وقدمت الدراسة تحليلًا لأحد البرامج الحوارية النهارية الأكثر شعبية في تركيا التي تقدمها سيدا سايان. وتقوم فكرة برنامجها الحواري الشعبي على ضيوف وستوديو مباشر على الهواء ويتم اختبار الجمهور فيما يتعلق بالتعبير عن القضايا المتعلقة بالسياسة بين الجنسين. ومن خلال استخدام تحليل الخطاب، والقضايا المشتركة للحلقة، تمت دراسة الأدوار المنسوبة إلى كل من الرجال والنساء، وردود الفعل من أفراد الجمهور. وشمل التحليل المزيد من الردود من مختلف المنظمات النسائية والناشطات على محتوى برامجها على وسائل الإعلام الاجتماعي، وحسب ما يتم تغطيتها في الإعلام الرئيسي بشكل عام.

للاطلاع على بحوث الملف الذي نُشر على صفحة موقع مركز الجزيرة للدراسات باللغة الإنجليزية (اضغط هنا)