العلاقات التركية الإيرانية في ضوء تفاعلات الربيع العربي

إن الموقف الحالي لحكومتي إيران وسوريا تجاه الثورة السورية سيدفع بالمجتمع الدولي نحو زيادة عزلة النظامين، وربما تدخل العلاقات التركية الإيرانية، التي كانت تلعب دوراً مهما في تخفيف حدة توتر العلاقات الإيرانية-الدولية، مرحلةً جديدة بعد تعرضها لنكسة بسبب اختلاف المواقف تجاه سوريا.

2011912111226307734_2.jpg

يتناول هذا التقرير تأثير الدور الإيراني، الذي يتماشى مع أهداف المحور الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في ضوء ما تشهده الدول العربية من التحركات الشعبية المستمرة إلى الآن وخاصة في سوريا، وذلك من خلال تحليل يأخذ بعين الاعتبار التأثير الإيراني، في ظل المواقف التركية مع اختلاف الدورين التركي والإيراني حيال مشهد الربيع العربي، وما مدى انعكاس ذلك الاختلاف على العلاقات التركية الإيرانية؟ وكيف سيؤثر ذلك على مستقبل المنطقة؟

إن التحولات الثورية التي تشهدها المنطقة منذ مطلع العام الجاري أثرت وبشكل مباشر على اندلاع الاحتجاجات في البلاد العربية، والذي ما زال يؤثر بدوره وبشكل جاد على علاقات الدول المذكورة مع دول الجوار، وعلى علاقاتها مع الدول غير العربية التي ترتبط بعلاقات إستراتيجية مع تلك الدول العربية الأنفة الذكر، ومثلما أثرت الثورات الشعبية على علاقات تلك الدول العربية بتركيا وإيران فإنها تؤثر على العلاقات الثنائية بين الدولتين.

تركيا تبذل جهوداً كبيرةً من أجل تخفيف حدّة دوامات الخراب الناجمة عن رياح ثورة الربيع العربي التي عصفت بالمنطقة، كما أنها تسعى جاهدة لإحلال الأمن والسلام في المنطقة. لكن كيف ترى إيران التي باتت قوة رئيسية التطورات المتسارعة في المنطقة؟ وما هي الحملات التكتيكية التي ستقوم بها على رقعة الشطرنج؟ وما مدى تأثير تلك الحملات على التطورات في المنطقة؟

وللإجابة على تلك الأسئلة التي تثير قلق واهتمام كل من يهتم بالمنطقة سنقوم بدراسة تحليلية لكل منها تحت العناوين الرئيسية الأربعة التالية:

سياسة إيران الخارجية
تسعى إيران منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 بقيادة آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال سياستها الخارجية إلى الانفصال عن التبعية للغرب وإلى الابتعاد عن الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اتجهت في إطار سياسة تصدير الثورة نحو الخليج العربي والشرق الأوسط بهدف أن تكون قوة إقليمية في المنطقة. كما سعت في عهدي خاتمي ورفسنجاني إلى إعادة النظر في سياستها مع الغرب ومع الولايات المتحدة الأمريكية بهدف الامتثال للقانون الدولي، ومع ذلك فقد تأزمت علاقات إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع الاتحاد الأوروبي مرة أخرى في عهد أحمدي نجاد باتخاذه محور الشرق بدلاً عن محور الغرب باعتباره هدفاً أساسياً لسياسته الخارجية.

رغم الانتكاسات التي عرفتها سياسة إيران الخارجية وما واجهها من عقبات، فإنه يجب القول: إن إيران حافظت على ديمومة عناصر حياديتها، وكان هدف إيران في إستراتيجية سياستها الخارجية خلق هذه الديمومة ورسم خطوط لها طويلة الأمد، ويتضح من سياسة إيران على المدى المتوسط والطويل، إنها معتمدة على محاور الحيادية لتكون هدفها المستقبلي. وقد أظهر الرئيس خاتمي في سياسته الخارجية توافقا وانسجاما مع الغرب من خلال الناقشات الدائرة في إطار حوار الحضارات. ورغم أنه كان يظهر ليبرالية أكثر من أي رئيس إيراني آخر، فانه لم يتوان في صرف مبالغ أكثر من غيره للتسليح العسكري، ونلاحظ أن جميع رؤساء إيران كانوا متناغمين مع رجال الدين لمتابعة البرنامج النووي الممتد من زمن الشاه وكذلك متابعة سياسة الخميني المناوئة لإسرائيل.

ومن عناصر استمرارية سياسة دولة إيران، وربما الأهم من بينها: سعي إيران أن يكون لها "دور إقليمي فاعل". ابتداء من الخميني ورفسنجاني، ومرورا خاتمي حتى أحمدي نجاد فقد ظل الهدف الرئيسي لرؤساء وزعماء الدين هو الرقي بإيران حتى تتربع على عرش الدولة القائدة في جغرافية الشرق الأوسط.

إن المستجدات والمتغيرات التي نشهدها اليوم في منطقة الشرق الأوسط والتي أطلق عليها اسم "الربيع العربي" لا توفر لإيران مجالات واسعة للمناورة من الناحية الجيوسياسية، خصوصا في ضوء سياسة إيران الخارجية القائمة على مبدأ تصدير الهوية العرقية والمذهبية (التشيع).

كما هو معروف فإن إيران تستخدم مؤسسات لخدمة أهدافها الجيوسياسية المذهبية. وتعتبر مدينة قم في إيران إحدى أهم مراكز الوحدة الفكرية والروحية ضمن هذا السياق، وفي الآونة الأخيرة أصبحت مدينة قم تتصدر مكانة بارزة في إيران تضاهي مكانة مدينة النجف في العراق بعد أن أصبحت قبلة ومركزا لتلقي العلوم لأهم رجال الدين الشيعة. ويعتبر الحرس الثوري الإيراني، الذي يقوم بتوفير الحماية لبعض الجماعات في المنطقة، وسيلةً أخرى تستخدمها إيران لخدمة سياستها. إذ يقوم الحرس الثوري الإيراني بتزويد بعض الجماعات الإسلامية التي تربطها بإيران علاقات مصالح مشتركة، وأخرى من الشيعة بالعتاد والأسلحة والتدريبات العسكرية اللازمة، وخصوصا في بعض مناطق الشرق الأوسط التي تتزايد حدة الاشتباكات المسلحة فيها.

الهلال الشيعي.. وموقع سوريا منه

يمكن القول إن مشروع الهلال الشيعي من أهم أركان السياسة الخارجية لإيران تجاه المنطقة. وبعد التدخل الأمريكي في العراق برزت الطائفة الشيعية كأقوى كتلة سياسية مسيطرة على الساحة، وأما في لبنان فقد رفعت حرب حزب الله مع إسرائيل عام 2006 مكانة وسمعة حزب الله الشيعي في البلاد؛ بالإضافة إلى ذلك فقد ساهمت تلك التطورات في تعميق الفصل بين السنة والشيعة في لبنان. وفي هذا الشأن أشار عدد كبير من الدراسات الأكاديمية إلى خطورة الموقف، ومثال على تلك الدراسات ما تناوله الكاتب جامايجاماي حاقاني في كتابه تحت عنوان: “Shia Crescent: Emergence of World War 3”أي "الهلال الشيعي: ظهور الحرب العالمية الثالثة".(1)

وفي تلك الفترة نشر العديد من المقالات وكان موضوعها الرئيسي: الصراع السني الشيعي بقيادة إيران. وفي الآونة الأخيرة كان من بين أهم الاستراتيجيات التي أولتها إيران اهتماما أساسيا إستراتيجية بناء علاقات خاصة ومميزة مع العناصر الشيعية داخل البلاد العربية. ومثلما سعت إيران إلى اتّباع نهج منسق في تعزيز استراتيجياتها تلك، من خلال توظيف علاقاتها المذهبية مع الجماعات الشيعية في المنطقة كوسيلة لخدمة مصالحها الوطنية والدولية سعت تلك الجماعات الشيعية في دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط إلى إبراز هويتها الشيعية، سعياً منها لتطوير علاقاتها مع إيران بما يلبي مصالحها.

إن القيام بتحليل مفصل للجماعات الشيعية في كل دولة من دول الشرق الأوسط يتجاوز حدود هذه المقالة. إلا أنه، ومع وجود نسب كبيرة من الشيعة ببعض الدول مثل باكستان والهند والعراق، يمكن القول إن دولا مثل البحرين ولبنان واليمن والمملكة العربية السعودية تتواجد فيها الشيعة بنسب متفاوتة وتختلف من بلد لآخر. بالإضافة إلى ذلك، توجد بعض الطوائف المنشقة عن الطائفة الشيعية الاثنا عشرية (أكبر طوائف الشيعة) ولكنها تبقى مقربة منها لأنها منحدرة من نفس المصدر، مثل المذهب العلوي ومذهب النصيرية. وعلى وجه الخصوص، وبعد عهد الخميني وفرض ولاية الفقيه، بدأت تلك الطوائف بناء علاقات مميزة وخاصة مع شيعة إيران.

وهنا يمكننا القول إن عملية تشكيل الهلال الشيعي في منطقة الشرق الأوسط بدأت في ظل التأثير لإيران، نتيجة لظهور نشاطات مذهبية في بعض الدول العربية. وكذلك يمكننا القول إنه بعد الغزو الأمريكي للعراق بدأ ظهور هذا الهلال بشكل جاد في ظل التأثير الإيراني، ابتداءً من تولي الشيعة في العراق السلطة مع الأخذ بعين الاعتبار الحالة الشيعية بسوريا وبلبنان وبالبحرين وبإيران حتى باليمن حيث نرى بشكل واضح ظهور الهلال الشيعي. و في هذا السياق تعتبر سوريا أحد عناصر الضغط التي استخدمتها إيران بشكل مكثف لفرض سيطرتها على المنطقة.

شيعة سوريا (النصيريون)
يتفرع عن المذهب الشيعي عددٌ من الطوائف والفرق، والمعروف منها اليوم: الإمامية والإسماعيلية والزيدية والأهم من بينها كلها: الطائفة النصيرية. يعرف الشيعة في سوريا بالنصيريين، ويشكلون ثاني أكبر طائفة في سوريا بعد السنة حيث تبلغ نسبتهم اثني عشر بالمائة من السكان. تسكن أغلبية النصيريين في اللاذقية في سوريا ويتولون السلطة منذ وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم مع بداية سبعينيات القرن الماضي، ليكون بذلك أول رئيس في التاريخ السوري ينتمي إلى الطائفة العلوية (النصيرية). قام حافظ الأسد بتسليم المناصب الهامة والحساسة في الدول إلى شخصيات تنتمي إلى الطائفة العلوية، وذلك من أجل إحكام قبضته على الحكم وضمان استمراريته في السلطة؛ ففي عهد الأسد شغل النصيريون أعلى المناصب القيادية في الجيش والقوات العسكرية الخاصة وفي جهاز الاستخبارات، وبذلك أحكم قبضته على قيادة الجيش، لكن السياسة السورية الداخلية والخارجية تخشى الإفصاح عن الهوية النصيرية، معتبرةً ذلك أحد المحرمات المحظور التحدث عنها.

وفي الحقيقة انتهج حافظ الأسد سياسة براغماتية على الرغم من كثرة تكرار الخطابات المنادية بالقومية العربية. واستمر بشار الأسد في الحفاظ على هذا التقليد باتباعه سياسة والده، وفي هذا السياق انتهجت سوريا وعلى مدى ثلاثين عاماً سياسة خارجية مقربة من إيران، وذلك لوجود مصالح مشتركة بين البلدين خصوصا فيما يتعلق بالشأن العراقي والإسرائيلي. قدمت سوريا الدعم لإيران خلال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، وذلك بسبب العداء الذي وقع آنذاك بين سوريا وحزب البعث الحاكم في العراق. وعلى الرغم من كون الغرب والعالم العربي ضد إيران في حربها على العراق، فقد ساهم تقديم سوريا الدعم لإيران أثناء تلك الحرب في إظهار سوريا كحليف استراتيجي لإيران في المنطقة.

وبعد انتهاء الحرب الإيرانية العراقية واصلت سوريا علاقاتها الطيبة مع إيران. ومثلما ذكرت مسبقاً فإن السبب الرئيسي وراء ذلك هو أن إيران تنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على أنهما عدو واحد، بالإضافة إلى وجود مصالح مشتركة بين البلدين(2).

واتبعت سوريا سياسة موازية للسياسة الإيرانية،خصوصاً فيما يتعلق بالشأن الإسرائيلي، وذلك لوجود مصالح مشتركة بين البلدين سوريا وإيران. وفيما بعد ذلك وقف شيعة لبنان إلى جانب هاتين الدولتين. وكما ذكرنا في السابق، فإن علاقة إيران بالشيعة في المنطقة تحتاج إلى بحث آخر.

الربيع العربي والسياسة الإيرانية

مع انطلاق الربيع العربي من تونس فمصر فاليمن، وبعد وصول الثورة إلى ليبيا، ظلت إيران تراقب مسيرة هذه الثورات عن قرب، ومما لا شك فيه أنه من الممكن القول إن تسارع تطورات الأوضاع في المنطقة دفع إيران إلى توسيع نطاق تأثيرها الإقليمي ونفوذها في المنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار الطموحات الإيرانية بإقامة الهلال الشيعي في المنطقة.

ومع قرار الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب من العراق، شعرت إيران بالسعادة الشديدة لتأثير الأخطاء الأمريكية المرتكبة في العراق في دفع شعوب المنطقة إلى الإطاحة بحكوماتها. إن الإطاحة بحكومة مبارك الموالية لإسرائيل يعتبر تطوراً شديد الأهمية بالنسبة لطهران، خصوصاً أن مصر كانت تتحرك في ظل الإدارة الأمريكية وتعد من أقوى دول المنطقة. كما تقوم إيران بتوفير الدعم اللازم لوصول الحركات الشعبية دول الخليج التي توجد فيها نسبة معتبرة من الشيعة. ولذلك فإن أغلب حكومات الخليج العربي ترى في إيران تهديداً لها، فضلا عن العلاقات الوثيقة التي تربط الولايات المتحدة الأمريكية بدول الخليج العربي والتي تلقي بظلالها على العلاقات الخليجية الإيرانية. تحتضن البحرين القاعدة الأمريكية الخامسة، بالإضافة إلى التواجد العسكري الأمريكي المكثف في دول الخليج. وقد أثار قلق إيران قيام مجلس التعاون الخليجي بتعزيز علاقاته الإقليمية والإستراتيجية مع دول خارج المنطقة، وذلك من أجل خلق نوع من التوازن في منطقة الخليج العربي، خصوصاً بعد تزايد النفوذ الإيراني في السنوات الأخيرة. لهذا السبب انتقدت طهران بشدة قيام كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية بإرسال قوات عسكرية إلى البحرين للمساعدة في إخماد حركة الاحتجاجات الشعبية الشيعية في البحرين، كما أصدرت إيران بيانًا تضمن تهديداً وانتقادًا شديد اللهجة للحكومة السعودية لقيامها بقمع مواطنيها الشيعة.

وفيما يتعلق بآخر تطورات الأوضاع في سوريا، فقد اتخذت إيران موقفا مختلفا تمامًا، إذ لم تبد إيران أي ردّة فعل تجاه محاصرة حكومة الأسد للمدن السورية، واقتحام الدبابات شوارع المدن لقمع الاحتجاجات الشعبية، وإطلاق النار على المتظاهرين وقتل الآلاف من المدنيين. بل على العكس تماماً فقد أبدت انتقادها لدول استنكرت هذه الحملات اللاإنسانية مثل تركيا، معتبرةً ذلك تدخلاً في شؤون سوريا الداخلية. والسبب الكامن وراء هذا الموقف المختلف، هيمنة النصيريين الذين تبلغ نسبتهم اثني 10% من إجمالي سكان سوريا، على النظام في سوريا، بالإضافة إلى العلاقة الإستراتيجية الوثيقة التي تربط النصيرين بإيران. وقد ساهم دعم إيران للحكومة السورية، على الرغم من الأعمال الوحشية اللاإنسانية المرتكبة في سوريا، في تصعيد حدة التوتر بين السنة والشيعة في المنطقة.

ويمكن تفسير موقف إيران تجاه الحركات الشعبية المعارضة لحكومة النخبة النصيرية في سوريا، بحرصها على حماية أهدافها المتعلقة بالمحور الشيعي، وتسعى الحكومة السورية الحالية إلى تطوير علاقاتها مع إيران التي من شأنها أن ترقى إلى مستوى التحالف الاستراتيجي. ومن المتوقع أن يتم تشكيل حكومة سورية جديدة تكون فيها الطائفة النصيرية أقل نفوذاً، وذلك بعد إزاحة بالحكومة الحالية. ومعنى ذلك أن النفوذ الإيراني في سوريا سيتعرض لضرر كبير، خصوصا وأن العلاقات الإيرانية السورية تعتبر من أفضل العلاقات بين إيران والعالم العربي، وبدوره سيؤدي ذلك إلى حد كبير إلى إضعاف جسور التواصل بين إيران وشيعة لبنان. وقد أدى الدعم الذي تقدمه إيران لحكومة الأسد إلى تعثر مساعي الشعب لتشكيل حكومة ديمقراطية ممثلة له، مما سيؤدي إلى تصعيد حدة التوتر المذهبي السني- الشيعي في المنطقة.

اعتبر الزعيم الديني في إيران علي خامنئي الحركات الاحتجاجية في سوريا مختلفة عن الحركات الشعبية في باقي الدول العربية، وأشار إلى أن تطور حركة الاحتجاجات في سوريا كانت بدعم أمريكي- إسرائيلي(3).

ومن الملاحظ أن إيران تبذل قصارى جهدها لمنع سقوط نظام الأسد ولوقف عملية تصفية القيادات النصيرية؛ فوفقاً لما أفاده الموقع الإلكتروني الإيراني المعارض صوت الحرية الأخضر (Green Voice of Freedom) فقد بدأت إيران في الأسابيع الأخيرة إلى جانب الدعم المعنوي، بإمداد سوريا بالسلاح والعتاد وبالعناصر المدربة والمحترفة. ووفقا لما تداولته بعض الصحف، فقد قامت طهران بتوزيع السلاح على العائلات النصيرية، كما أنها قامت بتزويد نظام الأسد بجهاز مراقبة متطور يساعد السلطات السورية في تعقب وكشف المعارضين. كما تمكنت الحكومة السورية من كشف هوية عدد كبير من المعارضين، بفضل أجهزة المراقبة المتطورة التي أرسلتها إيران لسوريا، وتجلى ذلك في بعض ما عرضته الأخبار السورية من كشف السلطات السورية عن عدد كبير من المعارضين وإلقاء القبض عليهم. ويؤكد نفس الموقع أن إيران أرسلت جماعات أمنية مدربة أشرفت على تقديم دعما تقنيا وتدريباً احترافياً لقوات الأمن السوري(4).

وقد أوردت صحيفة واشنطن بوست في صفحتها الإلكترونية في عددها الصادر بتاريخ 28 أيار/مايو 2011 أن إيران قدمت دعما تقنيا ولوجستيا لنظام الأسد لقمع المظاهرات المعارضة في سوريا، ووفقا لما زعمته الصحيفة في خبرها المذكور؛ فقد قامت إيران بتزويد قوات الأمن السوري بهراوات وخوذات تستخدم عادة لمكافحة الشغب وغيرها من وسائل السيطرة على المظاهرات الاحتجاجية، وأشارت الصحيفة نقلاً عن مسؤولين أمريكيين، إلى قيام إيران بإرسال مدربين محترفين ومستشارين لتعليم قوات الأمن السوري تقنيات استخدمتها حكومة طهران في مواجهة احتجاجات عام 2009.(5)

وتناقلت بعض الصحف في الآونة الأخيرة أنباء عن قيام طهران برفع مستوى الدعم التقني وبتوفير عناصر من الحرس الثوري الإيراني لدعم حكومة دمشق في مكافحة الحركات الاحتجاجية الجماعية المناهضة لنظام الأسد.

كما أصدرت بعض الدول الغربية تصريحات مباشرة تشير على الدور الذي لعبه خبراء الأمن الإيراني في قمع الاحتجاجات السورية، واتخذت قرارات بشأن فرض عقوبات على سوريا: فقد أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قراراً بتجميد أرصدة وأملاك من دعموا النظام في مواجهة الاحتجاجات في سوريا. وقد أعلن الاتحاد الأوروبي في بيان له ضلوع جهاز الأمن الإيراني في عمليات القتل والاعتقالات التعسفية التي تعرض لها المتظاهرون في سوريا، كما أصدر قرارا ًبفرض عقوبات على عدد من الشخصيات الإيرانية. وأصدر الاتحاد الأوروبي كذلك قراراً يقضي بتجميد أرصدة وأملاك كل من القائد الأعلى للحرس الثوري الإيراني، وقائد قوات القدس، ورئيس جهاز الاستخبارات الإيراني التابع للحرس الثوري، بذريعة دعمهم الحكومة السورية في عمليات القمع العنيفة ضد المتظاهرين في سوريا، وبفرض حظر سفر عليهم إلى دول الاتحاد الأوروبي.(6)

كما أعلنت لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة لمراقبة وتطبيق العقوبات المفروضة على إيران، قيام إيران بإرسال أغلب شحنات الأسلحة غير المشروعة إلى سوريا، وأن دعم إيران لنظام الأسد يصب في نفس الاتجاه ألا وهو تطوير سياستها في المنطقة لخدمة مشروع "الهلال الشيعي". وأعلنت العراق وقوفها إلى جانب الأسد الذي يتعرض إلى موجة من الاحتجاجات المناهضة للنظام، كما بعثت وعلى مختلف المستويات، رسائل تأييد لسوريا. وفي حين لم يصدر عن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أي انتقاد بشأن تدخل الجيش لقمع المظاهرات في سوريا، وارتفاع عدد المفقودين يومًا بعد يوم، بل إنه وصف هؤلاء المتظاهرين بالمخربين. واتهم بعض المسؤولين العراقيين المتظاهرين السوريين بأنهم أعضاء في تنظيم القاعدة، وبأنهم مدعومون من دول الخليج العربي ومن إسرائيل. كما اتخذ حزب الله اللبناني موقفًا مشابها للموقف العراقي، بشأن تطورات الأوضاع في سوريا؛ إذ وجه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله نداء للشعب السوري للوقوف بجانب حكومة الأسد، مدعياً أن المظاهرات الاحتجاجية هي جزء من مخطط إسرائيلي مدعوم من المملكة العربية السعودية.

سوريا والعلاقات التركية الإيرانية

أكدت تركيا منذ انطلاق الثورات العربية عن مساندتها للشعوب العربية بشكلٍ واضح، مؤكدة على حقيقتين اثنتين:

الحقيقة الأولى: أن المرحلة الجديدة التي تمر بها الدول العربية مرحلة صحية تماماً، وأن استمرار الأنظمة العربية الاستبدادية، التي هي من بقايا الحرب الباردة، في عملية الإصلاح والتغيير أمرٌ لا بدّ منه. وفي هذا السياق دعت تركيا على لسان رئيس الوزراء ووزير خارجية حكومة حزب العدالة والتنمية قادة الدول العربية أن يكونوا قادة الإصلاح والتغيير بدلا أن يقفوا في وجه رياح التغيير.

وفي هذا الإطار وقبل بدء الثورات العربية، حثّت تركيا سورية على إجراء إصلاحات شاملة، كما استمرت تركيا في تشجيع الحكومة السورية على القيام بجملة من الإصلاح، وخصوصا بعد اندلاع الثورات العربية، وشددت تركيا بين الحين والآخر على أن تحصل حركة الإصلاحات بشكل سلمي وسلس، معتبرة أن ذلك هو المبدأ الأساسي.

الحقيقة الثانية: مع توالي الأحداث فإن سوريا أصمّت أذنيها عن سماع النداءات تركيا، واستمرت في عمليات القتل وفي استخدام العنف والحملات العسكرية لإنهاك إرادة الشعب عوضاً عن إقناع الشعب من خلال القيام بإصلاحات جديدة. وقد أشارت تركيا بين الحين والآخر على الأخطاء المرتكبة من قبل النظام، كما واصلت تأكيدها على أن التغيير أمر لا بد منه. وفي الآونة الأخيرة، بات يتردد على مسامعنا كثيراً على لسان كل من رئيس الوزراء ووزير الخارجية التركيين بأن النصيحة لم تعد تجدي نفعاً بعد ما وصل الأمر إلى ما وصل إليه.

وفي هذه المرحلة لوحظت انقسامات عميقة بين السياسة التركية وبين السياسة الإيرانية حيث واصلت إيران موقفها المؤيد للنظام في سوريا والمغاير تماماً لموقفها من الثورات العربية الأخرى. إذ أعلنت إيران بكل وضوح عن علاقتها الإستراتيجية مع النظام السوري، ناهيك عن عدم معارضتها للمظالم التي يتعرض لها الشعب السوري، مستمرة في تقديم الدعم اللوجستي والعسكري لدعم حليفتها الحكومة السورية.

وعلى وجه الخصوص وبعد لقاء وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو بالرئيس بشار الأسد، الذي استمر ست ساعات ونصف، وعقده محادثات مع عدد من المسؤولين السوريين، فإن عدم تغيير سوريا سياستها الدموية لقمع المتظاهرين على الرغم من الوعود التي قطعتها الحكومة السورية لداود أوغلو، فقد اعتبرت تركيا أن ذلك الموقف دلالة على أنه لم يتبق ما يمكن قوله بين البلدين. إذ أن تركيا وبعد أن وجدت أنه لا جدوى من الحديث مع الحكومة السورية، بدأت في زيادة دعمها لتنظيمات المعارضة السورية والسماح لها بعقد لقاءات في تركيا من أجل عملية التغيير الديمقراطي. وبالإضافة إلى استضافة تركيا للاجئين السوريين منذ بدء هذه الحركات الاحتجاجية وحتى اليوم. وفي وقت قريب ربما سيتوجب على تركيا تطبيق عدد من الإجراءات المفروضة من المجتمع الدولي. وفي الآونة الخيرة نال الموقف التركي رضا بعض دول المنطقة العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.

وعلى الجانب الآخر أعلنت إيران في عدد كبير من المقالات الصادرة في الصحف اليومية قلقها وانزعاجها من الموقف التركي. وفي هذا السياق علّق الكاتب الإيراني المعروف في صحيفة نيويورك بوست والخبير في شؤون الشرق الأوسط أمير طاهري في مقاله المنشور تحت عنوان: "سوريا: تركيا في وجه إيران" على أن الاحتجاجات السورية أدت إلى "التناحر بين القوتين الإقليميتين تركيا ومنافستها إيران". وأكد الكاتب في مقاله على معارضة إيران لمخطط تصفية نظام الأسد، متناولاً بعض التفاصيل المتعلقة بالدعم الإيراني لسوريا. ويضيف الكاتب أن إيران لم تتخذ بعد قرارها النهائي بشأن سوريا حتى شهر يونيو/ حزيران الماضي، ولكن تصريحات الزعيم الديني علي خامنئي المؤيدة لنظام الأسد ألقت بثقلها على الساحة السياسية. ويتابع طاهري قائلا:

"أوردت صحيفة كيهان اليومية -التي تعكس وجهات نظر المرشد العام آية الله خامنئي- في أحد أخبارها الرئيسية الصادرة هذا الأسبوع، لن نسمح للمؤامرات التي تحاك ضد سوريا أن تنجح، ومن يتخذ من سوريا هدفاً له، إنما يستهدف بمخططاته تلك الثورة الإسلامية في إيران". وكذلك أضافت الصحيفة التحذير الآتي: "وعلى تركيا أن تعي جيداً بأن الجمهورية الإسلامية ستبذل ما بوسعها، مستخدمة كل إمكانياتها لإحباط كل المؤامرات التي تحاك ضد الحكومة السورية".

التهديد بإعادة نشاط الخلايا الإرهابية
تعقيباً على "التهديد" الوارد في صحيفة كهيان الإيرانية، وضحت صحيفة نيويورك بوست قائلةً: "يشير التهديد المبطن إلى أن إيران ستسعى إلى تفعيل نشاط الجماعات الإرهابية التي تحارب تركيا، وفي الحقيقة فإن إيران رفعت منذ هذه اللحظة الحظر على العناصر المسلحة لحزب العمال الكردستاني المعروف بـ(ب ك ك)".

مثل هذه التقييمات ومع أنها تبدو مجرد قراءات خارجية، فإنها كشفت استعداد إيران للتضحية بعلاقاتها الجيدة مع تركيا لسنوات طويلة، من أجل إنقاذ حليفها الإستراتيجي سوريا.

وكما يبدو فإنه على الرغم من الإقبال الكبير للشعب السوري على تركيا، فإن العلاقة بين النظام السوري وحكومة حزب العدالة والتنمية الممثلة للحكومة التركية تبقى على مستوى العلاقة التكتيكية.

وقد أكدت تركيا مجدداً وبشكل واضح موقفها الأساسي من الحركات الشعبية في سوريا، والمطابق لموقفها من الحركات الشعبية في دول أخرى في المنطقة، على الرغم من أنها تهدف إلى إقامة علاقات طيبة مع الأنظمة الحاكمة في دول المنطقة، إلا أنها لن تتراجع عن الوقوف إلى جانب شعوب المنطقة في سعيهم لتحقيق الديمقراطية.

وفي المرحلة المقبلة، سيتوجب على إيران اتخاذ قرار حاسم، وبما أن تركيا لن تغير موقفها، وستجد دعماً كبيرًا لها من لدن المجتمع الدولي والدول العربية على حدٍ سواء، فعلى إيران إما الضغط على سوريا لتحقيق انتقال سلس وسلمي للسلطة، أو أنها ستستمر في مواقفها الحالية، ضاربة عرض الحائط بتلك الشعارات التي طالما رددتها، فيما يتعلق بحريات الشعوب وبحقها في اختيار حكومة تمثلها.

وفي هذه المرحلة، إن قامت سوريا وإيران بدعم تنظيم (ب ك ك)، وبدعم العمليات التي تهدد أمن تركيا الحدودي وغيرها من الأساليب التكتيكية، رداً على موقف تركيا فإنهما في هذه الحالة سيعرضان أمن واستقرار المنطقة للخطر، وذلك لدخولهما في حالة صراع مع دولة قوية تعتبر من أهم دول المنطقة. وسيؤدي ذلك إلى خسارة كلا الدولتين لتركيا التي لطالما كانت تحميهما وتقف إلى جانبهما للحيلولة دون فرض عقوبات دولية عليهما، وإن أنكرتا تلك الحقيقة، فإنه لن يتبق لإيران وسوريا في المستقبل أي قوة إقليمية تحميهما من فرض مثل تلك العقوبات.

ومن جهة أخرى، سيبقى استخدام النظام السوري ورقة الطائفية بين الحين والآخر للتصدي للاحتجاجات الشعبية، بالإضافة إلى سيطرة الطائفة النصيرية على قيادة الجيش، أمرا يعزز نظرية إحكام النفوذ الإيراني على المنطقة، معتمدة بذلك على الأساس المذهبي. وتثير هذه العوامل مجتمعة قلق حكومات وشعوب الدول العربية ذات الأغلبية السنية في المنطقة. وفي المقابل فإن دولاً بما فيها العراق، ترفض لعب ورقة التحريض المذهبي وتفضل أن تبقى على مسافة واحدة ومتساوية من الطوائف الدينية المختلفة وتعتمد على إحلال الديمقراطية والاستقرار كمبدأ أساسي لها، مثل النموذج التركي ستحظى بدور أكثر فعالية في المنطقة وبقبول أكبر.

وبالتالي فإن الموقف الحالي لحكومة إيران وللنظام السوري بما يقومان به من أفعال تجاه الأحداث الأخيرة سيدفع ذلك المجتمع الدولي إلى زيادة عزلة كلّ من النظامين، وربما تدخل العلاقات التركية الإيرانية، التي كانت تلعب دوراً مهما في تخفيف حدة توتر العلاقات الإيرانية-الدولية، مرحلةً جديدة بعد تعرضها لنكسة بسبب اختلاف المواقف تجاه سوريا. وتركيا لن ترغب بعد اليوم في أن تقوم بدور الدولة الهادئة التي تخفف من حدة الأزمات التي تنشأ بين إيران والمجتمع الدولي.
_______________
كاتب ومحلل تركي

هوامش:

1 -( Helle Malmvig, The US and the Middle East from the War in Iraq to the War in Gaza, Royal Danish Defence College, Mart 2009, s. 20.) أي :( هيللي مالفينغ، الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط من الحرب على العراق إلى الحرب على غزة، كلية الدفاع الملكية الدانمركية، مارس2009، الصفحة:20.

2 - William L. Cleveland،
تاريخ الشرق الأوسط الحديث، Westview Press، 2009، الصفحات:405-406.

3 - http://farsi.khamenei.ir/news-content?id=12833, 07.09.2011).في حين زعمت وزارة الخارجية الإيرانية بأن الجماعات المتمردة في سوريا على نظام الأسد مدفوعة من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ومعتبرة إياها "مجموعات إرهابية".( الهامش: http://www.reuters.com/article/2011/06/14/us-iran-syria-idUSTRE75D1Z820…, 14.06.2011.

4 - http:// en .irangreenvoice .com /article/2011/may/02/3095, 05.31.2011).

5 - http:/ / w w w . washingtonpost .com /world/national-security/iran-reportedly-aiding-syrian-crackdown/2011/05/27/AGUJe0CH_story.html, 05.28.2011.

6 - http:// w w w .guardian .co.uk/world/2011/jun/24/eu-targets-iran-syria-crackdown, 24.06.2011.

نبذة عن الكاتب