الغاز الطبيعي باعتباره سلعة إستراتيجية

بات التنافس على الغاز الطبيعي، وعلى ممراته الحيوية، وخطوط نقله إلى الأسواق الكبرى، جزءًا أصيلاً من صراع النفوذ، ومحاولات تعزيز المكانة الجيوسياسية للدول، والقوى المختلفة.
20111214104224525734_2.png

يبدو الغاز الطبيعي اليوم سيد المشاريع الكبرى، على مستوى الدول والأقاليم والتجمعات الإقليمية. وقد بات التنافس عليه، وعلى  ممراته الحيوية، وخطوط نقله إلى الأسواق الكبرى، جزءًا أصيلاً من صراع النفوذ، ومحاولات تعزيز المكانة الجيوسياسية للدول، والقوى المختلفة.

ومنذ تسعينيات القرن العشرين، تزايد الاهتمام، في أقاليم عدة من العالم، بأنابيب نقل الغاز، العابرة للدول والقارات، باعتبارها مشاريع ذات مضامين حيوية بعيدة المدى، وشكلاً جديداً من تقسيم العمل الدولي، ونوعاً من تأكيد النفوذ.

وإضافة إلى "حرب الأنابيب"، أضحت صناعة الغاز المسال ميداناً متقدماً للسباق بين دول وشركات عملاقة حول العالم. وبدت سوق هذا الغاز واعدة بسبب تنامي الطلب العالمي عليه.

أولاً: مؤشرات كلية: الاحتياطات والإنتاج والتصدير

هناك وفرة نسبية على صعيد الاحتياطات الدولية للغاز الطبيعي، إلا أن صناعة الغاز، إنتاجاً وتصديراً، لا تتناسب مع حجم هذه الوفرة.

يقدر حجم احتياطي الغاز الطبيعي في العالم بـ 187,1 تريليون متر مكعب عام 2010، ويسيطر الشرق الأوسط ومناطق الاتحاد السوفياتي السابق (بما في ذلك روسيا) على 72% من هذا الاحتياطي(1).

ووفقاً للمؤشرات المثبتة عام 2010، تحتل روسيا المرتبة الأولى على صعيد الاحتياطات المؤكدة من الغاز الطبيعي، بواقع 44,8 تريليون متر مكعب، تليها إيران بواقع 29,6 تريليون متر مكعب. وجاءت قطر في المرتبة الثالثة (25,3 تريليون متر مكعب)، والسعودية في المرتبة الرابعة (8 تريليون متر مكعب)، وتركمانستان في المرتبة الرابعة مكرر، باحتياطي مساو لاحتياطيات السعودية، والولايات المتحدة في المرتبة الخامسة ( 7,7 تريليون متر مكعب)، ودولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة السادسة (6 تريليون متر مكعب)، وفينزويلا في المرتبة السابعة (5,5 تريليون متر مكعب)، ونيجيريا في المرتبة الثامنة (5,3 تريليون متر مكعب)، والجزائر في المرتبة التاسعة (4,5 تريليون متر مكعب) والعراق في المرتبة العاشرة (4.1 تريليون متر مكعب)، وأستراليا في المرتبة الحادية عشر (3,2 تريليون متر مكعب)(2).

على صعيد الإنتاج، بلغ حجم الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي 3,19 تريليون متر مكعب عام 2010، مسجلاً زيادة قدرها 7,3% عن مستويات العام 2009(3). وتزايد الإنتاج بنسبة 44% خلال الفترة بين 1990 – 2010(4). ويُغطي الغاز الطبيعي في الوقت الراهن 23% من استهلاك العالم من الطاقة (5).

على مستوى الصادرات، شهدت تجارة الغاز الطبيعي نمواً نسبته 10,1% في العام 2010، مدفوعة بنمو صادرات الغاز المسال، التي ارتفعت بنسبة 22,6%، وكان لصادرات الشرق ألأوسط الدور الأساسي فيها، حيث حققت قطر نمواً في صادراتها بلغ 53,2% (6).

وتشكل تجارة الغاز المسال، في الوقت الراهن، 3,5% من إجمالي تجارة الغاز العالمية (7). وقد بدأت عمليات تسييل الغاز على صعيد عالمي قبل أكثر من خمسين عاماً، إلا أن دوره بدأ يتسع في السنوات الأخيرة (8).

ويوجد في العالم اليوم 101 ميناء لاستقبال الغاز المسال، و24 ميناء تصدير، وأكثر من 200 مخزن حاويات، يحفظ فيها هذا الغاز المسال إلى حين الحاجة لاستخدامه(9).

ولا توجد سوق عالمية موحدة للغاز حتى اليوم، وهناك أسواق إقليمية متفرقة، كما يباع الغاز بموجب العقود طويلة الأجل. ولهذا لا يمكن التنسيق بين المنتجين فيما يخص تحديد الأسعار، إلا في حالة  الغاز المسال. ويتم تسعير الغاز إما عبر عقود طويلة الأمد بين البائع والمشتري، وإما مباشرة من خلال السوق. وفي الحالة الأولى، يقوم بعض المنتجين بربط السعر بسعر النفط.

وفي الثالث والعشرين من كانون الأول ديسمبر عام 2008، تأسس "منتدى الدول المصدرة للغاز"، الذي جاء  كبديل لتجمع غير رسمي تشكل عام 2001 تحت الاسم نفسه.

ويضم المنتدى 12 دولة، هي: روسيا وقطر ومصر والجزائر وإيران وليبيا ونيجيريا وفنزويلا وبوليفيا وترينداد توباغو وغينيا الاستوائية وسلطنة عُمان. وتتمتع كل من النرويج وهولندا وكازاخستان ودولة الإمارات العربية المتحدة بصفة مراقب.

وتملك دول المنتدى مجتمعة ما يزيد على 70 % من احتياطات العالم من الغاز الطبيعي. ويبلغ إجمالي إنتاجها السنوي نحو 40% من الإنتاج العالمي. وتسيطر على نحو 38 % من الغاز المصدر عبر أنابيب، ونحو 85 % من صادرات الغاز المسال(10).

وقد نُظر للصيغة الراهنة لمنتدى الغاز على أنها طرح توافقي بين رؤيتين، دعت الأولى لمنظمة على غرار "أوبك"، يجري فيها تحديد حصص استخراج الغاز، حتى يكون بالمقدور رفع أسعاره. أما الرؤية الثانية، فقالت بالتركيز على تنفيذ مشاريع مشتركة في استخراج الغاز وصناعته، وطرق نقله إلى الأسواق الدولية.

وقد أشار المنتدى، في قمته الأولى، التي عقدت في الدوحة في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، إلى ضرورة الاعتراف بأهمية عقود الغاز طويلة الأجل، لتحقيق آلية متوازنة في تقاسم المخاطر بين المنتجين والمستهلكين (11).

وربما يكون بمقدور الدول الأعضاء في المنتدى التأثير جزئياً على الأسعار من خلال بحث توقيت وضع حقول الغاز الجديدة على الإنتاج.

ثانياً: موقع الشرق الأوسط من سوق الغاز الطبيعي

في العام 2009، بلغت احتياطيات الغاز الطبيعي العربية54,1  تريليون متر مكعب. وتراجعت حصة الدول العربية في احتياطي الغاز العالمي من 30,2 % عام 2008 إلى 28,9 % عام 2009  (12). وبلغت حصة هذه الدول 28,9% من إجمالي الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي عام 2009، كما شكلت حصتها نحو 14% من إجمالي الغاز المسوّق عالمياً، في العام ذاته(13).

وفي العام 2010، بلغ إنتاج الغاز الطبيعي في قطر 116,7 مليار متر مكعب، بزيادة قدرها  30,7% عن عام 2009(14). وبلغ هذا الإنتاج في السعودية، وفق مؤشرات العام 2010، ما مجموعه 83,9 مليار متر مكعب. وفي الجزائر 80,4 مليار، مصر 61 مليار، الإمارات 51 مليار، سلطنة عمان 27,1 مليار وليبيا 15 مليار(15).

وعلى مستوى استهلاك الغاز الطبيعي، بلغ هذا الاستهلاك 83,9 مليار متر مكعب في السعودية، 60,5 مليار في الإمارات، 45,1 مليار في مصر،28,9 مليار في الجزائر و20,4 مليار في قطر(16).

ومن المتوقع تراجع حجم الاستثمارات الرأسمالية المحتملة في الدول العربية خلال الفترة  2010- 2014 بنسبة15 % لتصل إلى 470 مليار دولار. ويُقدر حجم الاستثمارات  العربية المتعلقة بإدخال طاقة إنتاجية، وطاقات نقل جديدة للغاز الطبيعي، في الفترة ذاتها، بنحو60  مليار دولار، في حين تقدر الاستثمارات المخصصة لتوسعة الطاقات الحالية لمشاريع تحويل الغاز إلى سوائل، ولصناعة تسييل الغاز الطبيعي، وللمشاريع البتروكيماوية، التي تعتمد على الغاز، بحوالي 110 مليار دولار(17).

مشاريع الغاز الخليجية
على مستوى الدول العربية في الخليج، ثمة إدراك اليوم بأن معظم هذه الدول باتت تعاني عجزاً في تلبية احتياجاتها المحلية من الغاز الطبيعي، على الرغم من احتياطاتها الكامنة. وذلك ناجم في الغالب عن تأخرها النسبي في اعتماد مشاريع الاستكشاف والتصنيع.

كذلك، دخلت بعض الدول الخليجية في عقود طويلة الأجل مع شركات أجنبية، لتسييل الغاز وتصديره، دون أن تلحظ حركة نمو الطلب المحلي، مما جعلها تبحث عن مصادر  لاستيراد الغاز.

ويعد مشروع دولفين للغاز، الذي بلغت قيمته 6,2 مليار دولار، أول شبكة غاز طبيعي عابرة للحدود في دول مجلس التعاون الخليجي.

ويتم عبر هذا المشروع، نقل الغاز إلى محطة "رأس لفان" للمعالجة في شمال قطر، ثم تجري تصفيته ونقله، عبر خط أنابيب طوله 364 كيلومتراً، إلى محطة استقبال "الطويلة" في الإمارات العربية المتحدة. ومن هناك، يتم توزيعه إلى محطات توليد الطاقة وتحلية المياه، في الإمارات وسلطنة عمان.

وفي سياق واردات الغاز أيضاً، تقوم شركة "شل"، في الوقت الراهن، باستيراد الغاز المسال من روسيا عبر الناقلات، وإيصاله إلى  كل من دبي والكويت. ومن المقرر أن تقوم الشركة أيضاً بتوريد الغاز الروسي إلى البحرين (18).

من جهتها، تعتبر سلطنة عُمان دولة مستوردة ومصدرة للغاز الطبيعي في الوقت ذاته. وتمثل صناعة الغاز المسال واحدة من أبرز برامج التصنيع في السلطنة، وإحدى أهم مصادر الدخل فيها. وعلى صعيد الخطط المستقبلية، تعتزم شركة "برتش بتروليوم" استثمار 15 مليار دولار في مشاريع صناعة الغاز العمانية(19).

وفي السعودية، جرى تكريس الغاز الطبيعي لرفد صناعة البتروكيماويات العملاقة. وباتت مؤسسة سابك تنتج أكثر من 75 مليون طن سنوياً من صنوف المواد البتروكيماوية، كما أدت مشاريع حقن الغاز إلى زيادة الإنتاج النفطي إلى عشرة ملايين برميل يومياً، مع إمكانية الصعود إلى أكثر من 12 مليون برميل.

من ناحيتها، وضعت قطر ثقلها خلف مشاريع كبيرة لتسييل الغاز وبيعه عبر الناقلات إلى المستهلكين في أوروبا وآسيا.

 وفي العام 2011، رفعت قطر صادراتها من الغاز المسال إلى 77 مليون طن سنوياً. ويعني ذلك إنتاج 14 مليار قدم مكعب في اليوم. وتمثل هذه الكمية ما نسبة 30% من الطلب العالمي على هذا الصنف من الوقود الأزرق، الأمر جعل من قطر أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، فضلاً عن كونها أكبر مصدّر له.
وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 افتتحت قطر مشروعاً جديداً لتحويل الغاز إلى سوائل، بطاقة إنتاجية تبلغ 260 ألف برميل يومياً، مما يعني أنه الأكبر من نوعه على الصعيد العالمي(20).

وسوف ينتج المشروع الجديد زيت الغاز، والنافتا، والكيروسين، والبارافين ، والزيوت الأساسية لمواد التشحيم، وغاز البترول المسال والمكثفات والإيثان(21).

وعلى صعيد صادرات الغاز المسال، على وجه التحديد، سيكون التنافس الدولي القادم متمحوراً بين قطر وأستراليا.

ولا يتجاوز احتياطي الغاز الطبيعي لدى أستراليا 2,9 تريليون متر مكعب. وقد بلغ إنتاجها 50,4 مليار متر مكعب في العام 2010، مقارنة بـ 116.7 مليار متر مكعب هو حجم الإنتاج القطري في العام ذاته.  بيد أن أستراليا قررت البدء في تشغيل سبع محطات لإنتاج الغاز المسال خلال العقد الحالي.

وقد أنفقت أستراليا 200 مليار دولار في مشاريع قائمة، أو طور الإنشاء، لتطوير هذه الصناعة، آخرها مشروع تقوده شركة "شيفرون"، بقيمة 29 مليار دولار. وتصدّر أستراليا، في الوقت الراهن، 20 مليون طن من الغاز المسال سنوياً، مقارنة بـ 77 مليون طن لقطر، لكنها تستهدف الوصول إلى 100 مليون طن سنوياً بحلول العام 2020 (22).

وعلى الرغم من ذلك، فإن سبق قطر لإبرام اتفاقات إمداد طويلة الأجل، مع مستوردين رئيسيين في أوروبا وآسيا، من شأنه أن يحمي الإنتاج القطري.

على صعيد التجربة اليمنية، بدأت صنعاء في نيسان أبريل من العام 2010،  في تشغيل خط الإنتاج الثاني للغاز الطبيعي المسال، على خليج عدن، لترتفع بذلك طاقة البلاد الإنتاجية إلى 6,7 ملايين طن سنوياً.

وكان خط الإنتاج الأول قد بدأ في أكتوبر/تشرين الأول 2009، وغادرت أول شحنة من الغاز الطبيعي المسال اليمن في 7 نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته. وتبلغ احتياطيات اليمن المؤكدة من الغاز الطبيعي 500 مليار متر مكعب، وفقاً لمؤشرات العام 2010(23).

على الضفة الأخرى من الخليج، باشرت إيران عدداً من المشاريع الخاصة باستخراج الغاز الطبيعي، أبرزها تلك المتعلقة بحقل فارس الجنوبي في الخليج العربي.
وقد حاولت عدد من الشركات الدولية أخذ مواقع لها في صناعة الغاز الإيرانية، بعضها استمر، كما هو حال شركة النفط الصينية، وبعضها توقف في منتصف الطريق، كما هو حال شركات فرنسية وبريطانية، جراء خلافات ثنائية، أو ضغوط سياسية، أو الأمرين معاً.

وتنتج إيران 138,5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، وتستهلك 136,9 مليار متر مكعب(24)، جزء منه يأتي من تركمانستان، حيث تستورد منها طهران نحو 15 مليار متر مكعب سنوياً، تستخدم في تغطية احتياجات مدن الشمال الإيراني. 

 وفي أيار مايو من العام 2010، أعلنت إيران عزمها استثمار نحو 500 مليار دولار في قطاعي النفط والغاز خلال السنوات القادمة. وقالت إنها ستقوم باستثمار نحو 200 مليار دولار خلال خمسة أعوام، على أن يصل المبلغ إلى 350 مليار دولار في عقد من الزمن. وتخطط إيران لتصدير 90 مليار متر مكعب من الغاز المسال يومياً(25).

ويجسد حقل جنوب فارس في الخليج العربي أبرز رهانات إيران على صعيد صناعة الغاز. ولوقت طويل، ظل الرهان قائماً على تشغيل المراحل الأساسية، السادسة والسابعة والثامنة، من هذا الحقل، حيث تأخر العمل بسبب قلة الاستثمارات.

وحسب الخطط المعلنة، ستبدأ المرحلة الأولى للمشروعات الثلاثة المذكورة في هذا الحقل في إنتاج أربعمائة مليون قدم مكعب من الغاز يومياً. وستنتج المراحل الثلاث 104 مليون متر مكعب في اليوم.

على صعيد خطط تصدير الغاز، دخلت إيران في عدد من المشاريع مع الدول المجاورة في الخليج، إلا أن المشكلات السياسية ظلت تحول دون تنفيذها.

من جهة أخرى، بدأت إيران في بناء خط أنابيب بطول 1740 كيلومتر (داخل إيران وتركيا) لنقل الغاز الإيراني إلى المستهلكين في أوروبا مروراً بتركيا. وقد تقرر مبدئياً أن يمتد هذا الخط من تركيا إلى اليونان ليصل إلى إيطاليا، ثم إلى دول أوروبية أخرى، وجرى وضع خطط تمهيدية في إطار اتفاقية تركية إيرانية في العام 2007، إلا أنه لم تبرم بعد وثيقة نهائية بهذا الشأن.

وكانت تركيا قد أعلنت، من جهتها، عن خطط لإنتاج أكثر من عشرين مليار متر مكعب سنوياً من الغاز من حقل فارس الجنوبي الإيراني، وتصديره عبر أراضيها. ولدى تركيا في الوقت الراهن خطاً لنقل الغاز الإيراني، تستورد عبره 28 مليون متر مكعب يومياً.

وفي إطار مشاريع الغاز الإيرانية أيضاً، هناك ما يُعرف بخط (IPI) ، لنقل الغاز إلى الهند وباكستان. وقد تغيّر مسمى هذا الخط إلى (IP)، بعد انسحاب الهند منه. وطالبت باكستان، في تشرين الثاني نوفمبر من العام 2011، بزيادة حجم الغاز المقرر استيراده عبر هذا الأنبوب، من 21,5 مليون متر مكعب في اليوم إلى 30 مليون متر مكعب(26).

ثالثاً: حرب الأنابيب.. موقع الغاز في الجيوبوليتيك الدولي

على صعيد المشاريع الدولية لنقل الغاز الطبيعي، من مكامنه الرئيسية إلى المستهلكين في الأسواق المختلفة، يُمكن الوقوف على عدد من الخطط الجاري العمل بها، وتلك التي لا تزال قيد التخطيط.

بعض هذه الخطوط نفذتها روسيا لتعزيز موقعها في سوق الطاقة الأوروبي، على المدى البعيد. وبعضها  الآخر دعمه الأوروبيون والأميركيون للحد من هيمنة الروس على سوق الطاقة الأوروبي، كخيار إستراتيجي. 

وهناك مشاريع خطوط لنقل الغاز تبنتها الصين والهند وباكستان، في إطار مقاربات، تمتزج حساباتها الاقتصادية باعتباراتها السياسية والإستراتيجية بعيدة المدى.

خط السيل الشمال
على صعيد المشاريع الروسية، رمت روسيا بثقلها خلف عدد من الخطوط لنقل الغاز إلى شمال أوروبا وجنوبها، كما إلى منطقة البلقان وتركيا. وأبرز هذه الخطوط خطي "السيل الشمالي" و"السيل الجنوبي"، اللذين ينطلقان إلى أوروبا عبر بحر البلطيق والبحر الأسود، على التوالي.

يستهدف خط "السيل الشمالي" (Nord Stream) ضخ الغاز الروسي إلى دول شمال أوروبا، انطلاقاً من ألمانيا، حيث وجهته الأولى.

ويتشكل هذا الخط، الذي يبلغ طوله 1224 كيلومتر، من أنبوبين تبلغ الطاقة التمريرية لكل منهما 27,5  مليار متر مكعب من الغاز سنوياً (27).

وقد بدأ تدفق الغاز في الأنبوب الأول من الخط في السادس من أيلول سبتمبر 2011. وافتتح رسمياً في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2011. وقد بلغت كلفة الإنشاءات 12,4 مليار دولار(28). ومن المقرر ضخ الغاز في الأنبوب الثاني للخط في الربع الأخير من العام 2012.

وسوف تتمكن روسيا بعد ذلك التاريخ من نقل غازها إلى كل من الدنمارك وهولندا وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا وبولندا والتشيك، ودول أخرى انطلاقاً من ألمانيا، وسيوزع حينها الغاز على 26 مليون منزل في أوروبا.

وقد أثارت اتفاقية "السيل الشمالي" ردود فعل ساخطة في دول البلطيق، إذ رأت فيها صيغة جديدة "لمعاهدة مولوتوف – ريبنتروب" السوفياتية الألمانية لعام 1939.

خط السيل الجنوبي
وبموازاة خط "السيل الشمالي"، انطلقت مبادرة أنبوب "السيل الجنوبي" (South Stream) في حزيران يونيو 2007، كمشروع مشترك بين شركتي (ENI) الإيطالية وغاز بروم الروسية، لنقل الغاز الروسي إلى جنوب ووسط أوروبا عبر البحر الأسود(29).

ويبلغ طول هذا الخط 900 كيلومتراً، وتصل طاقته التمريرية 63 مليار متر مكعب سنوياً. ومن المقرر انجازه قبل نهاية العام 2013 (30). وهو يمثل المشروع الروسي المنافس لخط "نابوكو".
 
خط نابوكو والخطوط التركية
 مشروع "نابوكو" هو مبادرة أوروبية تهدف لكسر الهيمنة الروسية على سوق الوقود الأزرق في القارة القديمة، من خلال تشييد أنبوب لنقل الغاز من منابعه في آسيا الوسطى والقوقاز باتجاه الأسواق الأوروبية، بعيداً عن الأراضي الروسية، التي لا تزال تمثل ممراً قسرياً له.

ومن المتوقع أن تستورد أوروبا بين 80 – 90% من حاجاتها من الغاز بحلول العام 2030.

وخلال أزمة الغاز، التي نشبت بين روسيا وأوكرانيا في شتاء العام 2006، والتي أحدثت ضجة إعلامية وسياسية في أوروبا، شاع على نحو واسع مصطلح الاستخدام السياسي للغاز، وأن روسيا لديها سلاح فعّال للضغط على الغرب. وبالتالي لا بد من تقليص الاعتماد الأوروبي على الوقود الأزرق الروسي.

وعلى خلفية ذلك التطوّر، قررت المفوضية الأوروبية تبني مشروع نقل الغاز من آسيا الوسطى والقوقاز إلى أوروبا عبر تركيا، من خلال خط أنابيب عرف بخط "نابوكو"(31).

وعلى الرغم من ذلك، فإن ما حدث حتى الآن قد كشف عن انقسام أوروبي حيال روسيا. وقد تأكد هذا الانقسام في دعم المفوضية الأوروبية، وعدد من أقطار أوروبا، لمشروع نابوكو، في الوقت الذي ساهمت دول أوروبية أخرى، في مقدمتها إيطاليا، في خط "السيل الجنوبي"، الذي شيّد بهدف التصدي لخط نابوكو، وإزالة مبرراته الاقتصادية.

وذلك فضلاً عن تبني ألمانيا لخط "السيل الشمالي"، فيما يشبه تحالف غير منطوق به بين الروس والألمان.

وفقاً للخطط المعتمدة، يقضي مشروع نابوكو، بمد خط أنابيب ينطلق من ثلاث دول في آسيا الوسطى، هي كازاخستان فأوزبكستان فتركمانستان ، ثم يمتد غرباً في قاع بحر قزوين حتى أذربيجان. ومنها إلى جورجيا، ثم تركيا. ويواصل الخط بعد ذلك مساره إلى بلغاريا ورومانيا وهنغاريا والنمسا.

وفي الثامن من يونيو/ حزيران 2011، جرى توقيع اتفاقية عبور خط نابوكو في أراضي الدول الأوروبية الأربع سابقة الذكر، إضافة إلى تركيا (32).

كذلك،  أعلنت كل من مصر والعراق عزمهما المشاركة في مشروع نابوكو، ودخلت بغداد في مفاوضات تمهيدية بهذا الشأن. وكانت إيران قد أعلنت هي الأخرى عن رغبتها في الانضمام إلى هذا المشروع.

وفي التاسع من آب أغسطس من العام ذاته، أعلن  نابوكو، بأن عملية تشييد الخط سوف تبدأ في العام 2013، وأن أول شحنة غاز سوف تتدفق فيه  في العام 2017، وستكون من حقل غاز شاه دينز (Shah Deniz) في أذربيجان(33). ويعني هذا التصريح أن  دول آسيا الوسطى لن تكون ضمن الانطلاقة الأولى لمشروع نابوكو.

وتبلغ الطاقة التمريرية الكلية المستهدفة من خط نابكو 31 مليار متر مكعب سنوياً، من الغاز الطبيعي. وتصل التكلفة الإجمالية المقدرة للإنشاءات ثمانية مليارات يورو.

وخط نابوكو هو أكبر خط من بين ثلاثة خطوط  من المقرر أن تصدّر الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى والقوقاز، وربما الشرق الأوسط، إلى الأسواق الأوروبية عبر تركيا.

والخطان الآخران، هما خط (ITGI) وخط (TAP).

سوف ينقل (ITGI) الغاز الأذربيجاني إلى تركيا واليونان وإيطاليا. أما (TAP)، فهو الخط العابر للبحر الأدرياتيكي.

ويتوقع أن يبدأ العمل في تشييد (TAP) اعتباراً من العام 2012 على أن يكتمل في العام 2017. وسوف تضخ أذربيجان 50 مليار متر مكعب في هذا الخط بحلول العام 2025(34)

 وفي الوقت الراهن، تصدر أذربيجان الغاز الطبيعي إلى تركيا عبر خط باكو – تبليسي – أرض روم. وتصدر النفط إلى أوروبا عب خط باكو – تبليسي – جيهان(35).

بقى أن نشير، على صعيد المقاربة الأوروبية،  إلى أنه بموازاة اهتمام  أوروبا بأوراسيا، تزايد اهتمامها في الوقت ذاته بالجزائر كمصدر للغاز الطبيعي من شأنه الحد من الاعتماد على الروس.

وهنا، دعم الأوروبيون خط "ميدغاز" لنقل الوقود الأزرق الجزائري إلى إسبانيا، والذي قد يمتد منها لاحقاً إلى مناطق أوروبية أخرى. كذلك، تبنى الأوروبيون "الخط العابر للصحراء"، الذي سينقل إلى أوروبا الغاز النيجيري عبر الجزائر.

وتغطي الجزائر 20% من واردات أوروبا من الغاز الطبيعي(36)

الخطوط الصينية والباكستانية
وإضافة لمشاريع نقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، برز مشروع كبير لنقل الغاز من تركمانستان إلى كل من أفغانستان وباكستان والهند، عبر خط أنابيب، يُعرف بخط (TAPI).

 وقد وقعت الاتفاقية الحكومية الأساسية، الخاصة بهذا الخط في العاصمة التركمانستانية، في كانون الأول ديسمبر من العام 2010، من قبل رؤساء تركمانستان وأفغانستان وباكستان ورئيس الوزراء الهندي. وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وقعت باكستان وتركمانستان اتفاقية البيع والشراء، في إطار هذا المشروع(37).

ويبلغ طول خط (TAPI) 1680 كيلومتر، وبطاقة تمريرية قدرها 3,2 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي يومياً .

وستتوزع حصص الدول المعنية على النحو التالي: أفغانستان 500 مليون قدم مكعب، باكستان 1,325 مليار قدم مكعب والهند 1,325 مليار قدم مكعب.

وقدرت تكلفة تشييد هذا الخط  بـ 7,6 مليار دولار، وسوف يجري تمويله من البنك الآسيوي للتنمية. ومن المقرر أن تنتهي أعمال التشييد بين عامي 2013 – 2014(38).
 
ويحظى هذا الخط بدعم الولايات المتحدة، باعتباره بديلاً عن مشروع مماثل كانت إيران تعتزم إقامته مع الدول الثلاث.

وفي إطار الخطوط الآسيوية أيضاً، افتتح رسمياً، في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2009، خط أنابيب الغاز الطبيعي بين الصين وآسيا الوسطى، الذي يبلغ طوله 1833 كيلومتراً. وسيتيح هذا الخط تصدير 40 مليار متر  مكعب من الغاز الطبيعي إلى الصين على مدى 30 عاماً. ومن المقرر أن يبلغ طاقته التمريرية الكاملة في العام 2012 (39).

ويبدأ الخط عند الحدود بين تركمانستان وأوزبكستان، ويمر بالأراضي الأوزبكية والكازاخية، قبل أن يصل إلى منطقة شينغيانغ في شمال غربي الصين. ومن هناك، يمتد الخط داخل الصين، بطول 8704 كيلومتراً حتى هونغ كونغ.

واتفقت الصين مع تركمانستان على استيراد 30 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز لفترة 30 عاماً. 

وفي خطوة حملت كثير من الدلالات، قررت تركمانستان في 24 تشرين الثاني نوفمبر 2011، رفع حجم الغاز المصدّر إلى الصين عبر خط الأنابيب سابق الذكر إلى 65 مليار متر مكعب سنوياً، بهدف مواكبة طلبها المتزايد على الطاقة (40).

وقد تنهي مثل هذه الخطوة احتكار روسيا في مجال نقل الغاز التركماني إلى الأسواق الخارجية، حتى من دون تحقق الحلم الأوروبي بتشييد خط عبر بحر قزوين لرفد مشروع نابوكو. ليس هذا فحسب، بل إن الروس نظروا للخط التركماني الصيني على أنه مكيدة دبرتها بكين لتطويق نفوذهم في آسيا الوسطى.

وما يُمكن قوله خلاصة، هو أن الإمساك بزمام  الغاز الطبيعي، وخطوطه وممراته، قد بات جزءاً أصيلاً من معايير القوة الجيوسياسية في عالم اليوم. ويُعد الطلب على هذا الوقود الأسرع نمواً بين صنوف الطاقة المختلفة. وقد باتت أسواقه، تخرج من نطاقها الثنائي والإقليمي التقليدي، لتأخذ طابعاً دولياً، أكثر ارتباطاً بمعايير السوق، وذلك بفعل تنامي حصة الغاز المسال، في إجمالي تجارة الغاز العالمية.
______________________
عبد الجليل زيد المرهون-باحث وخبير إستراتيجي متخصص في شؤون النظام الإقليمي الخليجي

مصادر
1-  Global natural gas reserves increased by 0.5 trillion cubic meters (+0.3%) to 187.1 trillion cubic meters, bp.com, 2011, at:
http://www.bp.com/sectiongenericarticle800.do?categoryId=9037178&contentId=7068624  
2-  BP Statistical Review of World Energy, June 2011,at: إضغط هنا.
3-  Ibid.
4- JAD MOUAWAD, Natural Gas Now Viewed as Safer Bet, The New York Times, March 21, 2011,at:
ttp://www.nytimes.com/2011/03/22/business/global/22gas.html?scp=13&sq=Natural…;
5-  Providing an Efficient, Economical Energy Source, chevron.com, August 2011, at: http://www.chevron.com/deliveringenergy/naturalgas/?gclid=CIGtx4nRzqwCFQVTfAodEwjbpA
6-  Natural gas trade movements, bp.com, at:  
http://www.bp.com/sectiongenericarticle800.do?categoryId=9037182&contentId=7068644 
7-  Ibid.
8- Liquefied Natural Gas, chevron.com, August 2011, at: http://www.chevron.com/deliveringenergy/naturalgas/liquefiednaturalgas/
9- Ibid.
10-  Daniel Fineren,Gas exporters meet as crisis threatens demand, Reuters, November 10, 2011,at: http://af.reuters.com/article/commoditiesNews/idAFL5E7MA0V920111110?sp=true, Key leaders absent as gas summit seeks higher prices, Reuters, November 15, 2011,at: http://af.reuters.com/article/energyOilNews/idAFL5E7MF30220111115?sp=true
قطر تدعو لمعادلة أسعار الغاز والنفط في أول قمة لمنتدى الغاز، أ ف ب، 15 تشرين الثاني نوفمبر 2011
http://www.france24.com/ar/node/740227
11-  Ibid.
12-  صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2010، الفصل الخامس: التطورات في مجال النفط والطاقة، أبوظبي، 2010
13-  المصدر نفسه.
14-  BP Statistical Review of World Energy, June 2011, Op.Cit.
15-  Ibid.
16-  Ibid.
17-  صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2010، مصدر سبق ذكره.
18-  شل تستورد الغاز الطبيعي من روسيا لتغطية احتياجات الكويت ودبي والبحرين، جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 5 شباط فبراير 2011.
19-  BP plans big Oman gas investment, tradearabia.com, October 23, 2011, at:  http://www.tradearabia.com/news/ogn_206974.html 
20-  محمد أفزاز، قطر تدشن أكبر مشروع للغاز عالميا، الجزيرة نت، 22 تشرين الثاني نوفمبر 2011.
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/B8CCFE32-DE8B-4698-8609-9C2FD573DD61.htm 
21- المصدر نفسه.
22- Australia posed to enter golden age of gas, UPI, November 1, 2011,at: http://www.upi.com/Business_News/Energy-Resources/2011/11/01/Australia-posed-to-enter-golden-age-of-gas/UPI-93431320167130/
23- BP Statistical Review of World Energy, June 2011, Op.Cit.
24- Ibid.
25 -BENOÎT FAUCON And SPENCER SWARTZ, Iran Curbs LNG-Export Ambitions, The Wall Street Journal, AUGUST 12, 2010, at: http://online.wsj.com/article/SB10001424052748704216804575423212231718960.html
26- Pakistan Wants More Gas from Iran, lngworldnews.com, November 20, 2011, at: http://www.lngworldnews.com/pakistan-wants-more-gas-from-iran/
27- The Pipeline, nord-stream.com, 2011, at: http://www.nord-stream.com/pipeline
28- Nord Stream Pipeline Inaugurated – Major Milestone for European Energy Security, nord-stream.com, at:
http://www.nord-stream.com/press-info/press-releases/nord-stream-pipeline-inaugurated-major-milestone-for-european-energy-security-388/ 
29- What is South Stream?,south-stream.info,2011,at: http://south-stream.info/index.php?id=2&L=1
30- Ibid.
31 -JAMES KANTER, European Natural Gas Pipelines Plagued by Uncertainties, The New York Times, June 13, 2011,at:
http://www.nytimes.com/2011/06/14/business/energy-environment/14pipeline.html?ref=naturalgas&gwh=7597D5CB2A99069CF1B467D03C1F52B3
32- Nabucco support agreements signed by transit countries, News.Az, (Azerbaijan) June 8, 2011, at: http://news.az/articles/economy/38040  
 
33- Nabucco director 'confident' gas will flow in 2017, News.Az, August 9, 2011, at: http://news.az/articles/economy/42159
34- Turkey, Azerbaijan start working on new gas pipeline project, TODAY'S ZAMAN, November 17, 2011, at: http://www.todayszaman.com/news-263088-turkey-azerbaijan-start-working-on-new-gas-pipeline-project.htm
35- Ibid. 
36 - FRANCIS GHILÈS, Algeria: A Strategic Gas Partner For Europe, Journal of Energy Security, FEBRUARY 19, 2009, AT: http://www.ensec.org/index.php?option=com_content&view=article&id=176:algeria-a-strategic-gas-partner-for-europe&catid=92:issuecontent&Itemid=341
37 - TAPI gasline: Pakistan signs GSPA with Turkmenistan, The Daily Times, November 15, 2011, at: http://www.dailytimes.com.pk/default.asp?page=2011%5C11%5C15%5Cstory_15-11-2011_pg1_4
38- Ibid.
39 - ANDREW E. KRAMER, New Gas Pipeline From Central Asia Feeds China, The New York Times, December 14, 2009,at: http://www.nytimes.com/2009/12/15/world/asia/15pipeline.html, Zhou Yan and Wang Qian, Turkmenistan to expand natural gas supply to China, China Daily, November 25, 2011,at: http://www.chinadaily.com.cn/bizchina/2011-11/25/content_14159921.htm
40- Ibid.