تونس ما بعد الثورة.. تحديات الداخل والخارج

نظم مركز الجزيرة للدراسات حفل توديع خاص بوزير الخارجية التونسي د. رفيق عبد السلام، الباحث الأول والرئيس السابق لقسم البحوث بالمركز، وذلك مساء الثلاثاء 28 فبراير/ شباط 2012 بمسرح الجزيرة. وخلال الحفل قدم الدكتور رفيق محاضرة بعنوان: تونس ما بعد الثورة.. تحديات الداخل والخارج.
5 مارس 2012
20123581546807734_20.jpg
د. رفيق عبد السلام (يسار) أثناء إلقاء محاضرته في حفل التكريم وبجانبه مدير مركز الجزيرة للدراسات د. صلاح الدين الزين (الجزيرة)

نظم مركز الجزيرة للدراسات حفل توديع خاص بوزير الخارجية التونسي د. رفيق عبد السلام، الباحث الأول والرئيس السابق لقسم البحوث بالمركز، وذلك مساء الثلاثاء 28 فبراير/ شباط 2012 بمسرح الجزيرة. وخلال الحفل قدم الدكتور رفيق محاضرة بعنوان: تونس ما بعد الثورة.. تحديات الداخل والخارج. وفي تمهيده للمحاضرة، ذكّر مدير مركز الجزيرة للدراسات د. صلاح الدين الزين بمكانة الضيف المكرم ودوره المميز في مركز الجزيرة للدراسات، كما أشار إلى التحدي الكبير والمهمة الصعبة التي ألقيت على عاتقه باعتباره أول وزير خارجية لحكومة منتخبة بعد الثورة التونسية.

التوافق السياسي شرط أساسي لما بعد الثورة

أكد د. عبد السلام في مستهل محاضرته أن الثورة التونسية اجتازت مرحلة الخطر بقدر من السلاسة ودخلت مرحلة التوافق الوطني بعيدا عن الفوضى والاضطرابات الشاملة. واستطاعت النخبة السياسية التونسية التوافق في ما بينها على مرحلة الانتقال الديمقراطي وهو ما أنتج انتخابات حرة ونزيهة أفرزت حكومة ائتلاف وطني ثلاثي يتكون من أحزاب الأغلبية (حركة النهضة، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات).

ويدل تشكيل هذا الائتلاف على أهمية التوافق السياسي والشراكة الحزبية في إدارة مرحلة ما بعد الثورة سواء في تونس أو في البلدان التي عاشت وتعيش أوضاعا انتقالية مشابهة، حيث حل التوافق الوطني محل حكم الحزب الواحد وحلت الشراكة محل التفرد. كما نشطت الحياة السياسية والحزبية في تونس بعد الثورة وشهدت حيوية غير مسبوقة حيث برز إلى الساحة أكثر من مائة تشكيلة حزبية. ومع تقدم التجربة الديمقراطية وترسخها، يتوقع أن يتقلص عدد هذه الأحزاب لتنتظم في عائلات سياسية وفكرية كبرى: إسلامية وقومية عربية ويسارية وليبرالية.

وخلافا لما كانت تقوم عليه شرعية النظام السابق من عنف وإكراه فإن شرعية الحكومة الجديدة في تونس مستمدة من الاختيار الشعبي العام الذي ترجمته انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2012، ومن سياسة التوافق التي قامت عليها مؤسسات النظام السياسي الجديد بمراكزه الثلاث: المجلس التأسيسي، رئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة.

ومما ساعد تونس على هذا الانتقال السلس، وجود نظام إداري راسخ تمكن من تحقيق التواصل في سير مؤسسات الدولة وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين في أصعب الظروف. إذ من المعروف أن الثورات عندما تندلع في الكثير من البلدان ينهار النظام وتنهار معه كل الأوضاع الإدارية والمؤسسات الخدمية، فـ"الثورة تولد مجنونة" -كما يقال- إلا أن ذلك الجنون لم يحدث في تونس، ما جعل البلاد تعبر تلك المرحلة بأقل كلفة وبأقل الأضرار وهي تتجه الآن إلى استعادة وضعها وأخذ مكانها الطبيعي.

التحديات الداخلية.. ارتفاع سقف المطالب ومحدودية الإمكانات

لعل من أبرز التحديات الداخلية التي تواجهها تونس سقف التوقعات الشعبية الذي يعتبر عاليا جدا.. فقد أفصحت الثروة عن مطالب شعبية لدى مختلف القطاعات الاجتماعية إلا أن بعض من يرفعون تلك المطالب يعتقدون أن الحكومة تملك مفاتيح الحل السحري لجميع المشاكل وفي أقرب الآجال... فالشعب يريد توفير الوظائف والخدمات وهو أمر يصعب تحقيقه في هذه المرحلة نظرا لمحدودية الإمكانات وما ورثته البلاد من أزمات اقتصادية واجتماعية إلى جانب تصدع علاقة المواطن بالدولة وفقدان الثقة بين الطرفين.

ويعتبر المشكل الاقتصادي أحد التحديات الخطيرة خصوصا وأن الفوارق الاقتصادية متسعة جدا بين مدن الساحل السياحية المتطورة، وبين المدن الداخلية المهمشة والحريصة على تدارك ما فاتها خلال فترة حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وكذلك خلال الحقبة البورقيبية، وهو اختلال لا يمكن تداركه إلا بتضاعف الجهود وتكاملها بين جميع الأطراف.

وتشكل البطالة تحديا لحكومة ما بعد الثورة في تونس كما أكد ذلك د. عبد السلام، فإيجاد وظائف لجميع العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات وحملة الشهادات العليا الذين يبلغ عددهم زهاء المائتين والأربعين ألفا لا يمكن تحقيقه في وقت قياسي. ويظل سقف توقعات هؤلاء الخريجين عاليا جدا، ولن يكون ممكنا الاستجابة إلى كل مطالبهم في الوقت الراهن وإنما يحتاج الأمر إلى بعض الوقت، علما وأن الحكومة تبذل جهودا كبيرة في هذا الصدد.

ولا يقل التحدي السياسي والأمني أهمية عن التحدي التنموي. فالمعادلة بين الحرية المطلوبة وبين عدم الانزلاق إلى الفوضى تمثل تحديا ضاغطا. ومع أن تونس تمكنت من استعادة قدر كبير من استقرارها السياسي والأمني، إلا أن الخشية من غياب الحد الفاصل بين ممارسة الحرية وغياب سلطة القانون وبين الفوضى يظل أمرا واردا.

ومن أبرز ملامح التحدي السياسي في تونس وما أفرزته الثورة من تدافع سياسي، احتماء جماعات اليسار الراديكالي الصغيرة بالاتحاد العام التونسي للشغل ومحاولة حشر الحكومة في الزاوية على الرغم من أن اتحاد الشغل في تونس مؤسسة عريقة بتقاليدها النضالية. فهذه الجماعات تعمل على إرباك الحكومة من خلال كثرة المطالب التي ترفعها تحت غطاء الاتحاد، مما تولدت عنه سلسلة من الإضرابات والتحركات الاحتجاجية التي تسعى الحكومة إلى معالجتها وفق القانون دون الوقوع في ممارسة القمع.

ومن بين التحديات التي عادت إلى الساحة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 تحدي الاستقطاب الإيديولوجي الثنائي بطرفيه من دعاة الأسلمة والعلمنة. وقد دعا د. عبد السلام في محاضرته إلى ضرورة تجاوز هذا الاستقطاب الثنائي خصوصا وأن المادة الأولى من الدستور (دستور 1959) تنص على أن تونس دولة حرة مستقلة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها. فهذا النص يكفي في حد ذاته لتثبيت هوية هذا البلد وتحديد مقوماتها. وتونس اليوم تسعى لكتابة دستور جديد يقوم على التوافق ومن شأنه أن يخرج البلاد من دائرة الاستقطاب ويصون مكتسبات تونس الديمقراطية. وأكد المحاضر في هذا الصدد على أن الحكومة الراهنة لا يمكنها التراجع عن مكاسب المرأة، وإن كان هناك من مراجعة لمجلة الأحوال الشخصية فلن تكون إلا في اتجاه تعزيز تلك المكاسب وتوسيعها. وأشار إلى أن المجلس التأسيسي يضم نحو 50 امرأة وهي نسبة مرتفعة مقارنة بأغلب المؤسسات التمثيلية في العالم العربي. ومن غير المستبعد أن تشغل المرأة في المستقبل وظيفة رئيس الجمهورية في تونس، وهو أمر طبيعي حسب ما ورد على لسان د. عبد السلام.

التحديات الخارجية.. تعميق العلاقات بالدوائر الجغرافية التي ننتمي إليها

تونس دولة محكومة بجملة من الدوائر الجغرافية التي لا بد وأن تكون حاضرة في نظرتها الاستراتيجية وفي تحركها الدبلوماسي. فمحيطها الطبيعي والجغرافي والسياسي يدفعها إلى التحرك في نطاق الدائرة المغاربية والدائرة المتوسطية والدائرة العربية والدائرة الإفريقية بما يخدم مصالحها ويحقق التوازن في علاقاتها الخارجية.

فعلى المستوى المتوسطي لا بد لتونس من علاقة فاعلة مع أوروبا حيث يستأثر الاتحاد الأوروبي بنحو 80% من مبادلاتها التجارية. أما الجوار المغاربي فيفرض عليها علاقات خاصة ومتميزة باعتبارها أحد مكونات الاتحاد المغاربي الذي أعيد النقاش بشأنه خلال الأسابيع القليلة الماضية التي نشطت فيها الدبلوماسية التونسية والتي توجت باجتماع لوزراء خارجية الدول المكونة للاتحاد والتحضير لعقد قمة مغاربية قبل نهاية العام الجاري. أما على الصعيد العربي، فقد خلقت الثورة التونسية حالة ثورية عربية أطاحت بعدد من الأنظمة ودفعت أنظمة أخرى إلى إجراء إصلاحات سياسية. كما أحيت الحديث عن التكامل العربي وعن إقامة سوق عربية مشتركة.

وفي معرض حديثه عن العلاقات بإفريقيا، أشار د. عبد السلام إلى أن علاقات تونس ببعدها الإفريقي تراجعت بشكل ملحوظ في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الذي لم يول هذه العلاقات ما تستحقه من الاهتمام. فتونس ما بعد الثورة تعتزم بعث الروح في علاقاتها الإفريقية والتحرك الدبلوماسي النشط في هذا الاتجاه.

الجغرافيا السياسية... عالم متداخل ومفتوح

أكد د. عبد السلام على أن الجغرافيا السياسية تركت بصماتها واضحة على الثورة التونسية وما أعقبها من ثورات عربية في كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا. فتداعيات الثورة في تونس لامست بشكل مباشر وفاعل أوضاع دول عربية أخرى، وهو دليل واضح على مدى تداخل الجغرافيا السياسية للعالم العربي وانعكاس ذلك على عمق الروابط بين الشعوب العربية على عدة أصعدة من أبرزها المخيال الجمعي المشترك واللغة والتاريخ والدين. لقد غيرت الثورة التونسية الكثير من المعطيات في العالم العربي، فهي لم تكن حدثا محليا بل تبيّن أنها حدث عربي وإقليمي بامتياز خاصة بالنظر إلى تشابه الأزمات والمشكلات التي توحد البلاد العربية رغم اختلاف الخصوصيات من بلد لآخر.

ولعل أبرز رسالة حملتها الثورة التونسية للعرب هو أن التغيير أصبح ممكنا ولم يعد أمرا مستحيلا. فقد تمكن الشعب التونسي ومن بعده شعوب عربية أخرى من الإطاحة بعدد من الأنظمة الاستبدادية كما دفعت بأنظمة أخرى إلى إدخال إصلاحات سياسية تفاوتت أهميتها حسب السياقات القطرية. كما أطاحت الثورة بمقولة لطالما رددتها وتذرعت بها الحكومات الاستبدادية وهو أن لا بديل عنها سوى العنف والفوضى الشاملة.

لقد فتحت الثورة التونسية باب الأمل واسعا أمام الشعوب العربية وكرست شعار "الشعب يريد" الذي استلهمته من البيت الشهير لشاعر تونس أبي القاسم الشابي "إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر". كما غيرت جملة من المفاهيم التي صاغها وكرسها الفكر الاستشراقي، من أبرزها أن العرب بطبيعتهم مصابون بإعاقة ثقافية مزمنة، تمنعهم من تقبل قيم الحداثة والديمقراطية. فقد تبين أن هذا الاعتقاد غير صحيح، وأن مقولة "الاستثناء العربي" مقولة متهافتة، فالشعوب العربية، مثلها مثل غيرها من شعوب العالم، توّاقة للحرية والكرامة والعدالة، وأن الطغاة "ليسوا قدرها المقدور".

نبذة عن الكاتب