لغز لبنان: استيلاد قانون انتخابي لا طائفي بقوى طائفية

يقف لبنان وسط مفارقة: فهو يسعى هذه الأيام إلى صياغة قانون انتخابي ينزع عن الدولة الطابع الطائفي لكن من خلال التوافق بين القوى السياسية الطائفية، والنتيجة هي التعارض بين مصلحة لبنان مع مصالح القوى الطائفية المهيمنة.
20131311181363734_20.jpg
توزيع الطوائف الرئيسية في لبنان (الجزيرة)

بحسب الدستور اللبناني والتعديلات التي أُدخلت عليه، لاسيما في اتفاق الطائف العام 1989، تجري انتخابات المجلس النيابي، الذي يضم 128 عضوًا نصفهم من المسيحيين ونصفهم الآخر من المسلمين، كل أربع سنوات. وتنقسم المقاعد داخل الطائفة المسيحية على الشكل التالي: 34 مقعدًا للموارنة، 14 للروم الأرثوذكس، 8 للروم الكاثوليك، 5 للأرمن الأرثوذكس، وواحد لكل من الأرمن الكاثوليك والإنجيليين والأقليات المسيحية. أما داخل الطائفة المسلمة، فتنقسم المقاعد كالتالي: 27 لكل من السنة والشيعة، 8 للدروز، ومقعدان للعلويين.

وللتذكير فإن الدستور اللبناني القائم منذ الاستقلال في العام 1943، بالإضافة إلى "الميثاق الوطني" الذي يُعتبر بمثابة دستور غير مكتوب، ناهيك عن البيان الأول لحكومة الاستقلال وبيان الحكومة التي تلتها... إلخ، يؤكد على أن الطائفية السياسية مؤقتة، بل إن إلغاءها "سيكون ساعة مباركة من عمر الوطن"، بحسب ما ينص البيانان المذكوران. وقد أوصى اتفاق الطائف، الذي جاء ليُنهي حربًا أهلية دامت خمسة عشر عامًا، بتشكيل لجنة وطنية لدراسة إلغاء الطائفية السياسية وسمح، في الانتظار، بتوزيع وظائف الفئة الأولى في الدولة والمناصب السياسية الكبرى بطريقة طائفية. لكن إلى اليوم لم يتم تشكيل هذه اللجنة ولم تُلغ الطائفية بل إنها تتفاقم وتزداد حدة لتطول التعيينات الإدارية والأمنية والسياسية كلها، من أدناها إلى أعلاها مرتبة، وتقوم الاستقطابات على أسس مذهبية ضيقة. وأضحت الانتخابات النيابية من المناسبات الوطنية الكبرى التي تتجلى فيها هذه الاستقطابات في أبشع مظاهرها الطائفية-السياسية.

واليوم، يقف لبنان على عتبة انتخابات تشريعية، في نهاية الربيع المقبل2013 ، وهو يفتقد إلى قانون انتخابي متفق عليه رغم أن المدة المتبقية تكاد لا تكفي لإعلان الترشيحات والاستعداد لمعركة انتخابية تتمتع بقدر أدنى من الديمقراطية. وقد تم تشكيل لجنة نيابية مصغرة (على أساس طائفي!) برئاسة النائب روبير غانم، تعقد اجتماعات مكثفة متواصلة، منذ الثامن من يناير/كانون الثاني الماضي (2013 )، بغية استيلاد قانون انتخابي يحظى بتوافق بين القوى الأساسية وأكثرية نيابية (خمسين في المئة زائد واحد من أعضاء البرلمان)، تمهيدًا لعرضه على جلسة عامة تُعقد خصيصًا لإقراره، قبل مباشرة وزارة الداخلية الإجراءات العملية لإدارة الانتخابات. هذا مع العلم بأن الحكومة اللبنانية كانت قد أقرت مشروعًا يقوم على النسبية، وتقسيم لبنان إلى 13 دائرة انتخابية، لكنه يفتقر إلى الأغلبية النيابية الضرورية ليتحول إلى قانون؛ لذلك وُلد ميتًا، كما غيره من الاقتراحات التي تم تداولها.

وهكذا فإن على المسؤولين اللبنانيين، المنكبّين في هذه الأوقات على البحث عن قانون انتخابي توافقي، البرهنة على قدرتهم على تحمل المسؤولية من دون وصاية سورية؛ ففي السابق، كانت قوانين الانتخابات تأتي معلَّبة من دمشق وتكاد لا تخضع لنقاش داخلي لبناني. اليوم، يقيم كل طرف حساباته على أساس مستقبل النظام السوري، وبالتالي يرفض أي قانون انتخابي يؤدي إلى خسارته ولو لمقعد واحد في الانتخابات المقبلة. والمشكلة أن كل مشاريع القوانين المتداولة تسمح لكل الأطراف بتوقع النتائج وإجراء حسابات الربح والخسارة، وبالتالي تأييدها أو رفضها انطلاقًا من هذه الحسابات.

انتخابات 2005 و2009 ما بين الوصاية والنفوذ

شكّل اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط2005 منعطفًا كبيرًا في تاريخ لبنان المعاصر، وكانت له تداعيات خطيرة مباشرة، منها الانقسام الحاد ما بين حركتين وُلِدتا كنتيجة لهذا الاغتيال، هما 8 و14 آذار، بالإضافة إلى خروج القوات السورية من لبنان تحت ضغوط دولية وشعبية داخلية. وكانت ولاية المجلس النيابي قد انتهت ولابد من إجراء انتخابات جديدة في غياب قانون متفق عليه وفي ظل حكومة مستقيلة (حكومة الرئيس عمر كرامي) تحت ضغط التظاهرات الشعبية المعادية لسوريا وحلفائها. وبسبب الخوف من الفراغ الدستوري في أجواء شديدة التشنج، وافق الجميع على إجراء الانتخابات بناء على قانون العام 2000 المسمى "قانون غازي كنعان" ( قائد جهاز الاستخبارات السورية في لبنان الذي كان قد فرضه وقتها). وشاء الحرص على السلم الأهلي أن يتشكل تحالف انتخابي (وليس سياسيًا بالطبع) رباعي بين حزب الله-حركة أمل وتيار المستقبل-القوات اللبنانية. أفضت هذه الانتخابات إلى فوز حركة 14 آذار بأغلبية برلمانية ثم تشكيل حكومة تشارك فيها المعارضة بنسبة الثلث. وقد انفرط عقد التحالف الرباعي بمجرد انتهاء الانتخابات، ليتشكل تحالف (وثيقة تفاهم) بين حزب الله والجنرال ميشال عون في العام 2006.

في ربيع العام 2005، جرت هذه الانتخابات النيابية، الأولى من نوعها، بعد الخروج السوري من لبنان، لأن الإرادة الدولية والإقليمية شاءت أن تجنّب لبنان الوقوع في محظور الفراغ الدستوري، ولأن اتفاقًا سوريًا-سعوديًا (ما يُعرف بالـ"س- س") قام على المحافظة على توازن ما بين النفوذين السوري-الإيراني من جهة والسعودي-الأميركي من جهة أخرى؛ ما يؤجل البحث في تطبيق القرار 1559 ومصير سلاح المقاومة. ولم تكن لقانون الانتخابات الأهمية المركزية في ظل الاتفاق الدولي-الإقليمي، لاسيما وأن الاتفاق الدولي الرباعي كان عليه إنتاج مجلس يحفظ مثل هذا التوازن. وهذا ما حصل بالفعل.

أحداث كثيرة جرت في العامين 2006 و2007 (حرب يوليو/تموز، استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس السنيورة احتجاجًا على توقيعها البروتوكول القاضي بتشكيل محكمة دولية للتحقيق بجريمة اغتيال الحريري، فراغ حكومي ثم نيابي ثم رئاسي بسبب العجز عن انتخاب رئيس جديد بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، اضطرابات واعتصامات وتوترات وضعت البلاد على فوهة بركان...)، وصولاً إلى عملية حزب الله العسكرية في بيروت، ردًا على قرار حكومي في مايو/أيار2008، أفضت إلى تدخل فوري دولي وإقليمي (فرنسا، تركيا، إيران، السعودية، قطر، سوريا...) قاد الزعماء اللبنانيين المتصارعين إلى الدوحة حيث توصلوا إلى ما بات يُعرف بـ"اتفاق الدوحة"، والذي تضمن بنودًا تتعلق بالانتخابات النيابية والرئاسية وتشكيل حكومة لبنانية. وقد استعان لبنان بقانون دارت بموجبه انتخابات العام 1960، بعد إدخال تعديلات طفيفة عليه. وقتها، كانت العودة إلى الوراء للاستعانة بقانون، عفا عليه نصف قرن من الزمن، ضرورية بسبب الظروف التي لم تكن تسمح بالتفاوض على قانون جديد. "قانون الستين" هذا يقوم على الاقتراع الأغلبي والدوائر الواسعة، فيكرّس زعامة "أمراء الطوائف" وظاهرة "المحادل" بحسب تعبير الرئيس نبيه بري؛ إذ يؤمّن فوز لوائحهم بكامل أعضائها. وتم الاتفاق على أن قانون الستين لن يكون صالحًا للانتخابات المقبلة في العام 2013، إنما الضرورة فرضته لمرة واحدة، وأن على الحكومة اللبنانية المقبلة صياغة قانون عصري جديد لانتخابات تؤمّن تمثيلاً صحيحًا للشعب اللبناني.

أتت انتخابات العام 2009 بأغلبية طفيفة لحركة 14 آذار التي شكّلت حكومة برئاسة سعد الحريري مع احتفاظ قوى 8 آذار بثلث مقاعدها زائد واحد؛ الأمر الذي سمح لها بفَرْط عقد الحكومة، بإيعاز من الرئيس بشار الأسد، في خريف العام 2010، بسبب خلافه مع السعودية والرئيس الحريري. ثم تمكنت قوى 8 آذار من تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي، في فبراير/شباط2012، بعد انضمام وليد جنبلاط إليها، والذي أمّن لها الغالبية النيابية المطلوبة لنيل الثقة. تمكنت هذه الحكومة، بعد مفاوضات ونقاشات مستفيضة، من الاتفاق على قانون جديد للانتخابات يقوم على الاقتراع النسبي وتقسيم لبنان إلى 13 دائرة انتخابية، لكنها لم تتمكن من إرساله إلى المجلس للمصادقة عليه بسبب رفض كتلتي جنبلاط والمستقبل له. وإذا كانت هذه الحكومة قد تبنت رسميًا سياسة النأي بالنفس إزاء الأحداث السورية، فإن أيًا من مكوناتها، كما من خصومها، لم يلتزم هذه السياسة؛ إذ بات واضحًا أن حزب الله منخرط عمليًا إلى جانب النظام السوري وتيار المستقبل إلى جانب المعارضة السورية، كما أن وليد جنبلاط يجاهر بالعداء للنظام السوري مع تأييده لحزب الله وسلاح المقاومة.

إذن، على خلفية هذه التطورات الإقليمية الخطيرة يجري البحث عن قانون للانتخابات النيابية، يحظى بالغالبية البرلمانية المطلوبة وبالتوافق بين الأقطاب الأساسيين. صعوبة الأمر أن الأغلبية البرلمانية لا تحمي البلد من تبعات رفض طرف أساسي قد يقاطع الانتخابات مدعومًا من حليف إقليمي فاعل، فيدخل البلد في فترة مضطربة لسنوات عديدة مقبلة لا قدرة له على تحمل نتائجها السياسية والأمنية والاقتصادية. وبما أن أحدًا لن يقبل بقانون يجعله من الخاسرين، فإن المطلوب قانون على قاعدة "رابح -رابح" المعروفة، وهو ما تنكبّ عليه المفاوضات العسيرة التي تسابق الزمن في هذه الأيام المصيرية.

انتخابات 2013 من دون وصاية أو نفوذ

يمكن القول: إن انتخابات العامين 2005 و2009، وإن جرت في غياب الوصاية السورية إلا أن نفوذ سوريا بقي عن طريق حلفائها بدليل قيامهم بإسقاط حكومة سعد الحريري (عبر استقالتهم منها وهم يشكّلون ثلثها زائد واحد) بطلب من بشار الأسد. لكن انتخابات العام الجاري تتم في غياب الوصاية والنفوذ السوريين، نتيجة الأحداث الدامية التي تهدد وجود النظام السوري نفسه، والذي بات أحوج إلى حلفائه منهم إليه.

كثير من المقترحات تم التداول فيها. والهاجس المسيطر هو صحة التمثيل المسيحي؛ إذ يتذمر المسيحيون، في الموالاة والمعارضة، من أن غالبية نوابهم يتم انتخابهم بأصوات غير المسيحيين. ومردّ ذلك إلى أن نسبة الناخبين المسلمين تزيد قليلاً عن الستين في المئة، في حين تقل نسبة المسيحيين عن الأربعين في المئة، وهؤلاء، في نسبة كبيرة منهم، منتشرون في مناطق تغلب فيها الديمغرافيا المختلطة مذهبيًا إلى حدّ ما.

عدا نظام الانتخابات النسبية الذي أقرّته الحكومة، تقدمت القوات اللبنانية مع حزب الكتائب باقتراح النظام الأكثري، مع تقسيم لبنان إلى خمسين دائرة انتخابية. هذا النظام، في رأيهم، هو الأقرب إلى التمثيل الصحيح لأنه في الدوائر الصغرى يصوّت الناخبون لمرشحين يعرفونهم عن قرب. لكن معارضي هذا القانون يأخذون عليه أنه يشجع المال الانتخابي ونفوذ العائلات وأصحاب النفوذ، ويحبذ التقوقع والانقسامات في وطن يحتاج إلى الانفتاح بين مكوناته المختلفة، عدا كونه مخالفًا لاتفاق الطائف. لم يحظ هذا المشروع بموافقة عون وجنبلاط، فوُلد ميتًا، عدا أنه أُهمل من قبل مقترحيه أنفسهم، الذين ذهبوا إلى تأييد مشروع تقدّم به نائب رئيس الوزراء السابق إيلي الفرزلي باسم نواب عقدوا اجتماعات سُميت بـ"اللقاء الأرثوذكسي". هذا المشروع، احتل الحيز الأكبر من المناقشات، في حين أن غيره مرّ تقريبًا مرور الكرام.

يقول هذا المشروع بإجراء الانتخابات على قاعدة النسبية، ولبنان كله دائرة انتخابية واحدة، ولكن يقوم كل مذهب بانتخاب ممثليه في البرلمان. يحل هذا المقترح مشكلة التمثيل المسيحي ويفرض التنافس بين أحزاب سياسية على مستوى الوطن كله وليس الدوائر الصغرى أو الكبرى. ويبرره إيلي الفرزلي بالقول: "الثنائية السنية-الشيعية في البلد تستلذ باستيلاد النواب المسيحيين من كنفهما، وهذا الوضع يخالف الدستور (...) هل يدفع المسيحيون ثمن انتشارهم في لبنان؟ الواقع السني ينتج نوابه 100?، والواقع الدرزي ينتج نوابه 100?، والواقع الشيعي ينتج نوابه 100?؛ فلماذا ممنوع على المسيحيين هذا الأمر؟". وقد حظي هذا المشروع بتأييد كل القوى المسيحية، مثيرًا خلافات داخل حركة 14 آذار، التي علّقت اجتماعاتها مؤقتًا، بسبب رفض كتلة المستقبل له. وحتى حزب الله أيده إكرامًا للحليف العوني. وهذا يعني أنه المشروع الوحيد الذي يحظى بأغلببية برلمانية ساحقة، رغم عدم ميثاقيته وإمكانية تسببه بتصدع وتفسخ ميثاقي، على ما يصّرح النائب بطرس حرب مدعومًا من رئيس الجمهورية ميشال سليمان. أما الجنرال ميشال عون، الذي يعتبر أن هذا المشروع يعطي لكل ذي حق حقه، فقد شنّ حملة مركزة على منتقديه.

من المنتقدين كان رئيس حزب المستقبل سعد الحريري، الذي وصفه بالـ"قنبلة الموقوتة"، وفؤاد السنيورة رئيس كتلة المستقبل، الذي تساءل: "كيف سيستقر لبنان في ظل محاولة إقرار قانون يحوّله قبائل طائفية ومذهبية متناحرة؟ فهل الأطراف الذين يؤيدون مثل هذا القانون يريدون الاستقرار في لبنان؟". وفي رأيه، يشكّل هذا الاقتراح مقدمة لتقسيم وشرذمة لبنان والإطاحة بصيغة العيش المشترك. كذلك رئيس الوزراء ميقاتي، الذي اعتبر أن هذا "القانون يقوم على أساس قسمة اللبنانيين على قواعد الطائفية والمذهبية ويعيد إحياء طموحات لا يريدها اللبنانيون، وهي الفيدرالية، وأي خرق لاتفاق الطائف يعيد عقارب الساعة إلى ما قبل الطائف بكل تجليات الفترة البائدة، وقد يؤدي في ظل الجو الإقليمي المشحون والجو المذهبي المتصاعد إلى ما هو أخطر".

بدوره، اعتبر النائب في كتلة المستقبل أحمد فتفت أن "ما يجري في قوانين الانتخاب هو مؤامرة من حزب الله للسيطرة على البلد عبر وضع يده على مجلس النواب (...). إن أي نظام نسبي يسمح لحزب الله بأن يضع يده على البلد وأن يلغي الآخرين ويستولي على كل مقومات البلد السياسية (...)، وبموجب الطائف تُجرَى الانتخابات النيابية على أساس المحافظة وليس الدائرة الواحدة (…)، وبموجب مقدمة  الدستور لا فرز بين اللبنانيين على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم (…)، وهنا خطورة ما يطرح". وذكّر فتفت بأن "من وضع اليد على المسيحيين هو من وضع قانون انتخابات العام 2000، وقد أسماه الفرزلي، في عام 2008، "قانون المؤامرة" على المسيحيين وهو على حق. هذا القانون وضعه غازي كنعان وقد صوتنا ضده وقتها في حين صوّت الفرزلي معه، أي أن الفرزلي هو من تآمر على المسيحيين وقتها". وختم فتفت "في مجلس النواب هناك 24 نائبًا مسيحيًا منتخبًا من غير المسيحيين، وكذلك هناك عشرون نائبًا مسلمًا منتخبًا من غير المسلمين، وهذا هو العيش المشترك، وكل الحديث عن أن قانون الستين هو قانون هيمنة طائفة على طائفة كلام غير صحيح، والدور المسيحي موجود بأكمله". للتذكير، فإن ميشال عون هدد بأن الانتخابات لن تُجرَى على أساس هذا القانون، ولو تطلب الأمر تأجيلها.

اقترح سامي الجميل المشروع الأرثوذكسي على قاعدة الأغلبية وليس النسبية، فرُفض اقتراحه على الفور.كما تقدم النائب السابق ناجي البستاني بمشروع يقضي بتقسيم لبنان إلى 34 دائرة انتخابية، أي ما يُوفّق بين اقتراح الخمسين دائرة وقانون الستين. أما النائب أكرم شهيب، من كتلة جنبلاط، فدعا إلى تطبيق الطائف، الذي يقول بإجراء انتخابات خارج القيد الطائفي، مع تشكيل مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف. وهذا ما أيدته كتلة المستقبل، لكن رفضه فورًا كل المسيحيين.

أما وليد جنبلاط، رئيس جبهة النضال، فلا يناسبه إلا قانون الستين، الذي يؤمّن له المحافظة على حصته. وهناك من يشك في أنه يمارس لعبة إضاعة الوقت ليصبح هذا القانون أمرًا واقعًا. وكونه "بيضة القبان" في المجلس الحالي؛ فإنه قادر على الإطاحة بأي مشروع لا يحظى باتفاق بين كل مكونات 8 و14 آذار. وإذا حصل مثل هذا الاتفاق، فإنه سيكون الخاسر الأكبر في التشكيلة النيابية المقبلة.

انتخابات أو لا انتخابات؟ وبأي قانون؟

من نافل القول أن من يرفض هذا المشروع أو ذاك، فإنما يفعل لأنه يجد نفسه خاسرًا فيه، فيحشد الذرائع والحجج الدستورية ضده. ومن يحبّذ مشروعًا، فليس إلا لأنه يظن نفسه رابحًا فيه، وعندها ليس من العسير إيجاد الحجج القانونية والدستورية والوطنية لمصلحة المشروع. لقد شاءت الجغرافيا البشرية أن يطمئن الثنائي الشيعي حزب الله-أمل على وضعه في كل المشاريع المقترحة تقريبًا، لأنه موجود في مناطق ذات أغلبية شيعية كاسحة لمصلحته. وهذه ليست حال أولئك المنتشرين في مناطق تتواجد فيها أقليات مذهبية وسياسية أخرى، يضطرون للتعامل معها تحالفًا أو تنافسًا، وبالتالي يتوقف حجمهم النيابي على قانون الانتخاب وتقسيم الدوائر.

أدت المشاريع المقترحة إلى التقريب بين خصوم والتفريق بين حلفاء، وفشلت في تحقيق التوافق المطلوب. والشيء المؤكد أن الرئيس بري لا يستطيع تحمل مسؤولية الدعوة إلى جلسة عامة لإقرار قانون تعتبره طائفة كبرى غير ميثاقي أو مخالفًا للطائف. والقانون المثالي هو الذي يحترم الميثاق والطائف ويشوبه الغموض لجهة توقع نتائج الانتخابات سلفًا، والعمل جارٍ للعثور على مثل هذا القانون في وقت بات مداهِمًا وسط تمني السفراء الأجانب، المعنيين بالشأن اللبناني، أن تجري الانتخابات في مواعيدها الدستورية.

لذلك توجهت الأنظار صوب إحياء مشروع قانون سبق وتقدمت به لجنة برئاسة وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس، يخلط ما بين النظامين النسبي والأكثري (50? لكل منهما)، لكن بعد إدخال تعديلات عليه لجهة عدد المقاعد المنتخبة بالنظام الأكثري، وتلك المنتخبة بالنسبي، مع تعويض الخاسرين المفترضين عبر تحالفات انتخابية -وليست سياسية بالضرورة- مع خصوم في هذه الدائرة أو تلك. دون أن ننسى "الجيريمندر"، أو المقص لتقطيع الدوائر على طريقة تقسيم قالب الجبنة، إرضاءً للمتوجسين من هذا المشروع والذين بدأوا يوجهون اليه سهام الانتقاد.

ورغم أن ثمة من يعتقد أن الجدل "البيزنطي" الانتخابي ليس إلا مضيعة للوقت في انتظار التطورات السورية، إلا أن من المؤكد أن المسؤولين اللبنانيين جادون في التوصل إلى صيغة مرضية. وقد وجّه رئيس الجمهورية ميشال سليمان، الذي يؤيد قانون النسبية الحكومي، انتقادات علنية مباشرة إلى وزراء الجنرال عون الذين تبنوا هذا القانون في الحكومة وخرجوا يسوّقون لمشاريع غيره خارجها، وأطلق صرخة بالقول: "من المعيب جدًا ألا نستطيع إنجاز قانون انتخاب للمرة الأولى من دون وصاية خارجية". فالفشل يحمل مخاطر جمة؛ إذ إن البرلمان الجديد هو من سينتخب رئيس الجمهورية الجديد في العام المقبل، والفراغ قد يجعل من لبنان "دولة فاشلة" مع الآثار المترتبة على اقتصاده واستقلاله واستقراره، وهذا ما لا يريده الداخل ولا الخارج القريب والبعيد.

في نهاية الأمر، لا يمكن لأحد أن يلغي أحدًا في لبنان بمعزل عن نتيجة الانتخابات؛ فالبلد محكوم بمعادلة "لا غالب ولا مغلوب" وببدعة الديمقراطية التوافقية؛ حيث لا يمكن تطبيق الديمقراطية العددية بسبب العصبيات الطائفية والمذهبية. ما يعني أن نتائج الانتخابات ربما تساوي، هذه المرة أيضًا، بين الغالب والخاسر فيها من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية، كما حصل في السنوات الماضية، وهو الحل الأمثل للنأي بالبلد عن أتون الحرب السورية؛ فمنذ اللحظة يعلن حزب الله أن نتائج الانتخابات لن تغير شيئًا في موازين القوى، وستبقى معادلة "الجيش والشعب والمقاومة" قائمة، وسوف يتبناها البيان الوزاري للحكومة المقبلة كما فعلت سابقاتها. وقد ذكّر السيد حسن نصرالله بأن سفراء الدول الكبرى، المعادية لحزبه، سارعوا ليطلبوا من حكومة ميقاتي (التي يقال بأنها حكومة حزب الله) عدم الاستقالة غداة اغتيال الجنرال وسام الحسن في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2012. حتى إن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند جاء خصيصًا إلى بيروت ليؤكد على ضرورة تجنّب أي فراغ دستوري في هذه الأيام الصعبة. وهذا يعني أن الرعاية (حتى لا نقول الوصاية) الإقليمية والدولية ستكون جاهزة لمساعدة اللبنانيين على الخروج من المأزق عند الحاجة. فهل يثبتون هذه المرة أنهم لم يعودوا بحاجة إليها؟
______________________________________
غسان العزي - باحث في الشؤون اللبنانية

نبذة عن الكاتب