مصر: من الاختلالات الاقتصادية إلى الاختلالات السياسية

يراكم المثلث المشكل بمصر من رجال الأعمال والجيش وقوات الأمن الثروات بسياسات اقتصادية لا تلقي بالا لحقوق العمال المصريين، ويأخذ لنفسه حصة الأسد من الكعكة الاقتصادية، ولا يعطي المصريين إلا جزءا بسيطا منها.
20145219585932734_20.jpg
تعاني الطبقة العاملة في مصر الضعف والانقسام، كان لأجهزة الدولة نصيب في صنعهما (غيتي)

ملخص
مما لا شك فيه أن الوزن النسبي للقوى الرأسمالية الكبيرة اجتماعيًا وسياسيًا -ومن ثم اقتصاديًا- قد تزايد مع تزايد الدور السياسي الذي قامت به هذه القوى في التحضير للانقلاب من خلال ما تملكه من صحف وفضائيات، ومن خلال ما قدمته من دعم مالي لجبهة الإنقاذ ولحركة تمرد. ومن المتوقع أن يستمر الوزن السياسي للقوى الرأسمالية في التزايد مستقبلاً، وذلك مكافأة لها على ما تقدمه من دعم مالي وإعلامي لحملة الانتخابات الرئاسية لقائد الانقلاب.

ثمة عامل آخر يساعد في تنامي الوزن السياسي للقوى الرأسمالية في مثلث السلطة الذي تشكّل أحد أضلاعه، بينما يشكّل الجيش والأجهزة الأمنية ضلعيه الآخرين؛ وهذا العامل يتمثل فيما تعانيه الطبقة العاملة من ضعف وانقسام، كان لأجهزة الدولة نصيب في صنعهما، وفيما يتعرض له العمال من عنت وقمع عندما يهبّون للدفاع عن حقوقهم؛ فبينما تغدق السلطة الحاكمة المزايا الوفيرة على الطبقة الرأسمالية، فإنها لا تتورع عن توجيه الضربات للطبقة العاملة، وذلك بالتضييق على حقها في التظاهر والاعتصام والإضراب من أجل تحسين أوضاعها، وباستدعاء قوات الشرطة والجيش لفض الاحتجاجات العمالية بالقوة.

المقدمة

تفاقمت الاختلالات المزمنة للاقتصاد المصري منذ حدوث ثورة يناير/كانون الثاني بصفة عامة، ومنذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز بصفة خاصة؛ وهو ما أدى إلى تدهور ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية(1). وقد رافق هذا التدهور إصرار شديد من جانب السلطة الحاكمة على التمسك بسياسات عجزت عن تحرير الاقتصاد المصري من تخلفه وتبعيته على امتداد أربعة عقود، وهي سياسات اقتصاد السوق الحر المفتوح المعروفة بالليبرالية الاقتصادية الجديدة أو توافق واشنطن. ومن أبرز معالم هذه السياسات: تقليص الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة -لاسيما دورها في مجال الإنتاج والاستثمار الإنتاجي- والخصخصة، وإطلاق قوى السوق، وتحرير التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي من القيود الحكومية، واعتبار أن نمو الاقتصاد مرهون بنشاط الطبقة الرأسمالية على العموم، ومعقود على جهود نخبة كبار رجال الأعمال على الخصوص. وانطلاقًا من هذه العقيدة الاقتصادية، انحازت سلطة الانقلاب لجماعات رجال الأعمال، وهو ما أسهم في تنمية وزنهم في المعادلة السياسية وتقوية شوكتهم في المجتمع بوجه عام.

سراب البيزنس
فقد راحت السلطة الحاكمة تقدم لمجتمع "البيزنس" ما وصفته بالحزم التنشيطية أو التحفيزية التي تضمنت سداد المتأخرات المستحقة على الحكومة للمقاولين، وتنفيذ مشروعات البنية التحتية التي تساعد في تنشيط الطلب، وما إلى ذلك من المحفزات. كما سعت الحكومة إلى استمالة رجال الأعمال وتشجيعهم والبعد عن كل ما لا يحبذونه من إجراءات كفرض ضرائب أعلى على دخولهم أو إلغاء ما يحصلون عليه من دعم، لاسيما دعم الطاقة. وبدلاً من إلغاء دعم الطاقة الذي تحصل عليه الصناعات ذات الكثافة العالية في استهلاك الطاقة والذي يلتهم شطرًا ضخمًا من إجمالي اعتمادات الدعم، قررت الحكومة في 20 إبريل/نيسان 2014 رفع سعر الغاز الطبيعي المستهلك في المنازل بدعوى أن هذا سيوفر نحو مليار جنيه. وحسب تصريح المهندس مدحت يوسف النائب السابق لرئيس الهيئة العامة للبترول؛ فإن هذا القرار يجافي العدالة الاجتماعية لأنه يعني أن المواطن المصري يشتري الغاز بسعر أعلى كثيرًا مما يدفعه المستثمر الصناعي؛ إذ يتراوح سعر المليون وحدة حرارية من الغاز (أي: نحو 37.6 مترًا مكعبًا) بين ستة وتسعة دولارات للاستهلاك المنزلي، بينما يتراوح السعر بين ثلاثة وستة دولارات للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة والتي تصدّر منتجاتها بالأسعار العالمية(2). وفضلاً عن ذلك، فإن هذا القرار يجافي العدالة الاجتماعية من زاوية أخرى؛ فبينما زاد سعر غاز المنازل للشريحة متوسطة الاستهلاك بنسبة 100%، وللشريحة عالية الاستهلاك بنسبة 200%، فإن السعر قد ارتفع بنسبة 300% للشريحة الأقل استهلاكًا، وهي الأقل دخلاً بالطبع.

واستسلمت السلطة الحاكمة لضغوط القطاع الخاص، من أجل إعفائه من تطبيق الحد الأدنى للأجور، الذي جرى تطبيقه في الأجهزة الحكومية بعد الكثير من التسويف والمماطلة، وتفاديًا لتزايد الغضب الشعبي الذي كان قد أخذ في الظهور من خلال تزايد الإضرابات والاعتصامات العمالية، بل إن النظام الحاكم قد ذهب إلى مدى غير متصور في ترضية الرأسمالية المصرية والمستثمرين الأجانب، وذلك عندما أصدر رئيس الجمهورية المؤقت في 23 إبريل/نيسان 2014 قرارًا بقانون يحظر الطعن من طرف ثالث على العقود التي تبرمها الحكومة مع أي طرف، مصريًا كان أم أجنبيًا، وسواء أكانت تلك العقود متعلقة بالخصخصة أم ببيع أراضي الدولة أم بأعمال مقاولات أم غير ذلك. وبينما ابتهج أهل "البيزنس" بهذا التشريع، فإن قطاعات واسعة من المجتمع أبدت اعتراضها عليه، بمن في ذلك بعض أنصار 30 يونيو/حزيران-3 يوليو/تموز. وكان تبرير السلطة الحاكمة لهذا التشريع أنه يساعد في تحسين مناخ الأعمال، وإشاعة جو من الثقة واليقين والاطمئنان لدى المستثمرين؛ فكان هذا التبرير بمثابة عذر أقبح من ذنب. والذنب هو ما ينطوي عليه هذا الإجراء من انحياز صارخ لمصالح الرأسمالية المحلية والأجنبية، ومن تقنين للفساد وحماية للفاسدين والمفسدين، ومن انتهاك حق العمال ومؤسسات المجتمع المدني وعموم المواطنين في الدفاع عن المال العام؛ وهو الحق الذي يفترض أن دستور سلطة الانقلاب قد كفله، وإن بصيغة أضعف مما جاء في دستور 2012. ومما لا شك فيه أن الوزن النسبي للقوى الرأسمالية الكبيرة اجتماعيًا وسياسيًا -ومن ثم اقتصاديًا- قد تزايد مع تزايد الدور السياسي الذي قامت به هذه القوى في التحضير للانقلاب من خلال ما تملكه من صحف وفضائيات، ومن خلال ما قدمته من دعم مالي لجبهة الإنقاذ ولحركة تمرد، ثم من خلال الترويج لتظاهرات الثلاثين من يونيو/حزيران وللانقلاب العسكري على أنهما الثورة الحقيقية التي تعوض مصر عن ثورة يناير/كانون الثاني التي يُتهم الإخوان بسرقتها. ومن المتوقع أن يستمر الوزن السياسي للقوى الرأسمالية في التزايد مستقبلاً، وذلك مكافأة لها على ما تقدمه من دعم مالي وإعلامي لحملة الانتخابات الرئاسية لقائد الانقلاب؛ إذ ليس من الوارد أن يتنكر عبد الفتاح السيسي، بعد فوزه بالرئاسة، لمن ساندوا انقلابه ودعوا إلى ترشحه للرئاسة ودعموا حملته الانتخابية وصوروا للداخل والخارج أنه يمثل طوق النجاة الوحيد لمصر وللمصريين. والأمر المرجح أن يكافئهم السيسي على صنيعهم بصور شتى؛ وهو ما سوف يرسخ مراكز القوى التي يشغلونها حاليًا.

وثمة عامل آخر يساعد في تنامي الوزن السياسي للقوى الرأسمالية في مثلث السلطة الذي تشكّل أحد أضلاعه، بينما يشكّل الجيش والأجهزة الأمنية ضلعيه الآخرين؛ وهذا العامل يتمثل فيما تعانيه الطبقة العاملة من ضعف وانقسام، كان لأجهزة الدولة نصيب في صنعهما، وفيما يتعرض له العمال من عنت وقمع عندما يهبّون للدفاع عن حقوقهم؛ فبينما تغدق السلطة الحاكمة المزايا الوفيرة على الطبقة الرأسمالية، فإنها لا تتورع عن توجيه الضربات للطبقة العاملة، وذلك بالتضييق على حقها في التظاهر والاعتصام والإضراب من أجل تحسين أوضاعها، وباستدعاء قوات الشرطة والجيش لفض الاحتجاجات العمالية بالقوة واقتحام منازل قياداتها واعتقالهم، وبالملاحقات الأمنية للنشطاء في حركة النقابات المستقلة. والملاحظ أن يتعرض العمال لهذه الممارسات القمعية في الوقت الذي كان يشغل فيه منصب وزير القوى العاملة كمال أبوعيطة صاحب التاريخ المشرف في النضال العمالي والمعارضة السياسية، وأن تعجز عن إصدار قانون النقابات المستقلة حكومة الببلاوي التي شغل فيها د. أحمد البرعي منصب وزير التضامن الاجتماعي، وهو المشهور بدفاعه عن التعددية النقابي، وساهم بقسط وافر في صياغة المشروع اللازم لتقنين نشاط النقابات المستقلة.

ومما زاد الطين بلّة أن الحركة العمالية قد أصابها ما أصاب الحركات الثورية من تفكك وتشتت؛ وهو ما أضعف وزنها السياسي. ومن المؤسف أن القوى التي كانت تنتمي للحزب الوطني والتي سخّرت النقابات لخدمة نظام مبارك قد عادت للسيطرة على الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، وأن هذا الاتحاد قد ناصر الانقلاب وأعلن تأييده لترشح السيسي وتعهد بالمشاركة في حملته الانتخابية، بل إن هذا الكيان العمّالي قد صار ذراعا للسلطة عندما دعا العمال إلى الاستجابة لطلبها بوقف الأعمال الاحتجاجية، بدعوى تهيئة مناخ موات لعمل الحكومة والقطاع الخاص. كما تسهم السلطة في إضعاف الحركة العمالية من خلال دعمها لقيام هياكل عمالية ونقابية جديدة، تدين بالولاء للسلطة الحاكمة وتحث العمال على الامتناع عن التظاهر أو الإضراب. وكما سبق، فإن ما يصيب الحركة العمالية من ضعف يؤدي في الواقع إلى كسب تستفيد منه القوى الرأسمالية والحكومة في تقوية مراكزها.

رؤوس الجيش المتعددة

مثلما لعب الجيش دور المنقذ في المجال السياسي بالانقلاب العسكري الذي أطاح بالإخوان من مقاعد الحكم، فإنه قدَّم نفسه باعتباره المنقذ أيضًا في المجال الاقتصادي؛ وهو ما ساعد في تقوية نفوذه السياسي والاجتماعي. ولم يكن النشاط الاقتصادي للجيش أمرًا مستحدثًا، ولكن هذا النشاط قد شهد تمددًا كبيرًا بعد ثورة يناير. وقد اتخذ هذا النشاط صورًا شتى. منها أعمال المقاولات وبناء المساكن، وتشييد الفنادق والمنتجعات وتشغيلها، واستصلاح الأراضي واستزراعها، وتأسيس المتاجر، وبناء المصانع وتسويق منتجاتها، وشق الطرق وإقامة الجسور وترميم المساجد والكنائس. وللقوة الاقتصادية للجيش مظاهر متعددة، وقد كان من أبرزها بعد ثورة يناير تقديم الجيش مليار دولار إلى البنك المركزي لدعم الاحتياطيات التي شهدت تدهورًا خطيرًا أثناء فترة حكم المجلس العسكري.

وازداد التوسع في الأنشطة الاقتصادية للجيش بعد الانقلاب، لاسيما من خلال توسع العلاقات الاقتصادية مع الدول الخليجية التي ابتهجت بالانقلاب وسارعت لتقديم الدعم المالي له، وصار الجيش يتعاقد منفردًا على إقامة مشروعات سكنية وعمرانية انطلاقًا من أنه يملك الأراضي التي تقام عليها هذه المشروعات؛ وهي كانت أصلاً  أراض خصصتها الدولة للأنشطة العسكرية للجيش. وكان من المفترض أن تعود ملكية هذه الأراضي إلى الدولة، بعد أن أصبحت ضمن الحيز المعمور بالأنشطة المدنية، عقب انتقال الأنشطة العسكرية منها، ولكن الجيش ظل محتفظًا بها وراح يستثمرها بصور متعددة. ومن المشروعات التي أعلن الجيش عن تعاقده على تنفيذها مع شركة أرابتك الإماراتية مشروع المليون وحدة سكنية، ومنها المشروع الذي تعاقد الجيش مع شركة إعمار الإماراتية على تنفيذه في منطقة الجبل الأحمر بالقاهرة، والذي يشمل إقامة مول تجاري ضخم يضم مجموعة من أفخم المتاجر العالمية وبناء شقق سكنية وفيلات فاخرة وملاعب جولف وغير ذلك من ألوان الكماليات(3). ولم يتوقف الدعم الإماراتي للجيش وأنشطته الاقتصادية عند هذا الحد؛ بل أعلنت حكومة الإمارات أن مشروعاتها المستقبلية في مصر سوف تجرى من خلال تعاقدات مع الجيش باعتباره الجهة الموثوق فيها.

ولا يخفى أن النشاط الاقتصادي للجيش يوفر مزايا قيّمة للضباط، متمثلة في فرص عمل مجزية في المشروعات التي ينفذها، وفي إقامة وإدارة شركات تعمل من الباطن في تنفيذ ما يتعاقد جهاز الخدمات العامة التابع للجيش على تنفيذه من أعمال لصالح الجهات المختلفة في الدولة. ولكن للنشاط الاقتصادي للجيش دور لا يقل أهمية عن المنافع المباشرة لرجاله، ألا وهو أن هذا النشاط يشكّل مدخلاً مهمًا لدعم تحالف القوى الرأسمالية مع العسكريين اقتصاديًا، وكذلك سياسيًا؛ إذ إن كثيرًا من المشروعات التي يتولى الجيش تنفيذها يتم من خلال مقاولين من القطاع الخاص؛ وهو ما ينشئ شبكات للمصالح يستفيد منها العسكريون وجماعات أصحاب الأعمال بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وتعمل في نهاية المطاف على تقوية نفوذ هذين الطرفين في المجتمع المصري اقتصاديًا وسياسيًا.

والحاصل منذ الانقلاب -والمتوقع حصوله بكثافة أكبر مستقبلاً- هو ازدياد البعد العسكري للنظام الحاكم، وذلك من خلال الدور السياسي الذي يمارسه الجيش منذ ثورة يناير/كانون الثاني ولاحقًا منذ الانقلاب، والذي سوف يتكرس بتولي السيسي رئاسة الجمهورية، ومن خلال قطاع الجيش الاقتصادي متزايد الاتساع الذي سبق تناوله، والذي اعتبره أحد القيادات العسكرية المسؤولة عنه خطًا أحمر لا يجوز المساس به أو الانتقاص منه، ومن خلال تواجد الجيش في الشوارع وفي الكمائن الأمنية بدعوى دعم جهود جهاز الشرطة في حفظ الأمن ومساندته في ملاحقة المتظاهرين ومكافحة "الإرهاب". ومما يزيد من سطوة الجيش ومن وزنه في مثلث السلطة القائم ما حظي به من امتيازات في دستور 2014، وبخاصة جعل اختيار وزير الدفاع من حق المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتحصين منصبه لفترتين رئاسيتين، والإبقاء على سرية موازنة القوات المسلحة، والسماح للقضاء العسكري بمحاكمة المدنيين.

تبييض القمع

وفيما يتعلق بالضلع الثالث في مثلث السلطة، وهو قوى الأمن الداخلي؛ فالمطلب الذي طرحته ثورة يناير/كانون الثاني بتطهير الشرطة وإعادة هيكلتها قد توارى في سياق أحداث 30 يونيو/حزيران-3 يوليو/تموز، مثلما توارى مطلب تطهير القضاء. ومن الملاحظ أن الشرطة وجهاز أمن الدولة قد حظيا بما يشبه رد الاعتبار (ولم لا؟! فقد كان لهم ممثلون في تظاهرات 30 يونيو/حزيران)، وأنهما استعادا ما كان لهما من سطوة قبل ثورة يناير/كانون الثاني، وصارت التبريرات لعنف هذه الأجهزة وتجاوزاتها تُقدّم من بعض عناصر النخبة الثقافية والسياسية. وقد فرضت الممارسات القمعية نفسها من جديد وبأشكال غير مسبوقة كالمجازر التي وقعت أمام دار الحرس الجمهوري وقرب المنصة في طريق النصر، والتي توجت بالفظائع التي صاحبت فض اعتصام الإخوان ومناهضي الانقلاب والرافضين لحكم العسكر في ميداني رابعة والنهضة. ومع تواصل التظاهرات المعارضة للانقضاض على المسار الديمقراطي خلال الشهور العشرة الأخيرة تواصلت الملاحقات الأمنية والممارسات القمعية، وتكاثرت الشواهد على وقوع انتهاكات خطيرة لحقوق المتظاهرين والمعتقلين والمحبوسين احتياطيًا، وخاصة بعدما ألغت سلطة الانقلاب الحد الأقصى لمدة الحبس الاحتياطي؛ وهو ما جعله يتحول من إجراء احترازي إلى عقاب شديد حتى لمن لم توجه لهم تهم محددة. وأصبح لتقارير الشرطة ومباحث أمن الدولة سلطة حاسمة في كثير من القضايا، بما في ذلك قضايا قتل المتظاهرين منذ الأيام الأولى لثورة يناير/كانون الثاني، والتي صدرت فيها أحكام بالبراءة للمتهمين من رجال الشرطة، وذلك في تجاهل صارخ للتقريرين الصادرين عن لجنة تقصي الحقائق خلال الفترة 25 ديسمبر/كانون الأول 2010-11 يناير/كانون الثاني 2011 (لجنة المستشار عادل قورة) واللجنة المناظرة التي تقصت حقائق ما جرى خلال فترة حكم المجلس العسكري (لجنة المستشار محمد عزت شرباص).

ومن المؤسف أن تلتزم الكثرة الكثيرة من منظمات حقوق الإنسان المصرية الصمت إزاء الممارسات القمعية والانتهاكات لحقوق المعتقلين والسجناء، بينما تتوالي الاحتجاجات والإدانات من جانب منظمات حقوق الإنسان العالمية، بل إن بعض المنظمات المحلية -ومنها المجلس القومي لحقوق الإنسان- قد أنكر وقوع انتهاكات بعد زيارتها لبعض السجون، وذلك في تجاهل للشكاوى الكثيرة التي تسجل العديد من الانتهاكات. كما أصبحت هذه المنظمات تغضّ الطرف عن العصف بالحق في التظاهر، بل وعن عدم التزام الشرطة بتتابع الإجراءات المنصوص عليها لفض التظاهرات أو الاعتصامات غير المأذون لها في القانون الجائر لتنظيم التظاهر، والذي لا شك في تعارضه مع الدستور الجديد. ومن الغريب أن الكثير من نشطاء هذه المنظمات لم يجأر بالشكوى من انتهاكات حقوق المحتجزين في أقسام الشرطة والمعتقلين والسجناء إلا بعدما طالت هذه الانتهاكات بعض العناصر المحسوبة على القوى الثورية، بينما يلوذون بالصمت تجاه ما يعانيه آلاف المعتقلين والسجناء من التيار الإسلامي وغيرهم من مناهضي الانقلاب من انتهاكات مماثلة لحقوقهم.

وكأن أنصار الانقلاب قد نسوا أن ثورة يناير/كانون الثاني قد بدأت في اليوم المسمى بعيد الشرطة؛ وذلك احتجاجًا على عنفها وبطشها وتوحشها؛ فهم لم يكتفوا بالتنازل عن مطلب تطهير الشرطة والقصاص لحقوق من قُتلوا أو أُصيبوا من جانبها منذ ثورة يناير/كانون الثاني، وكذلك التنازل عن مطلب احترام حقوق الناس جميعًا بغض النظر عن مواقفهم السياسية وانتماءاتهم الحزبية، بما في ذلك الحق في التظاهر والاعتصام بالإخطار، والحق في التنظيم والتعبير عن الرأي ومخاطبة الرأي العام. بل إنهم راحوا يكيلون المديح للشرطة ويشيدون بجهودها في "مكافحة الإرهاب" وبالتزام رجالها بضبط النفس وبالمعايير الدولية، ويبرؤونهم سلفًا من أي تجاوزات لحدود مهامهم وصلاحياتهم. ولم تعد أحكام البراءة المتوالية للمتهمين من قيادات الشرطة ورجالها بقتل المتظاهرين تثير غضب قطاع واسع من النخبة أو حتى دهشتهم. وزادوا على ذلك بتنازلهم عن أحد المكاسب المهمة التي ناضل تيار استقلال الجامعات من أجلها، وهو استبعاد الحرس الجامعي التابع لوزارة الداخلية، وذلك بدعوة الشرطة للتواجد داخل الحرم الجامعي، ثم بترحيبهم بتقنين هذا الأمر بقرار من مجلس الوزراء وبحكم قضائي.

وتتجاهل السلطة الحاكمة وأجهزتها الإعلامية تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات بشأن المخالفات التي ارتكبتها أجهزة وزارة الداخلية، كالاستيلاء على أراضي الدولة بدون وجه حق وبعض صور إهدار المال العام. وإزاء تقاعس السلطة الحاكمة عن التحقيق في هذه المخالفات، اضطر رئيس الجهاز، المستشار هشام جنينة، إلى الدعوة لمؤتمر صحفي يحيط من خلاله الجمهور بهذه المخالفات ويبرّئ ذمته بعدم الاستسلام لتجاهل الحكومة والأجهزة الرقابية والقضاء لها وعدم اتخاذ إي إجراء لمحاسبة المسؤولين عن وقوعها. ولا شك في أن هذه المواقف من جانب السلطة ومن جانب عناصر كثيرة من المثقفين والسياسيين ومن الإعلاميين تشجع على استمرار الممارسات القمعية من جانب أجهزة الأمن، وتقوي نفوذ هذه الأجهزة في مثلث السلطة، كما أنها تشجع على استمرار النهج الأمني في التعامل مع الأزمة السياسية للبلاد.

هذا المثلث المشكل من رجال الأعمال والجيش وقوات الأمن يراكم الثروات بسياسات إقتصادية لا تلقي بالا لحقوق العمال المصريين، ويأخذ لنفسه حصة الأسد من الكعكة الاقتصادية، ولا يعطي المصريين إلا جزءا بسيطا منها.
____________________________
إبراهيم العيسوي - خبير اقتصادي وسياسي مصري

هوامش
1- أنظر في تفصيل ذلك تقرير المؤلف المعنون: "الاقتصاد المصري: تفاقم الاختلالات المزمنة" المنشور على موقع مركز الجزيرة للدراسات http://studies.aljazeera.net  في 21 أبريل/نيسان 2014.
2- أنظر جريدة الدستور في 24 أبريل 2014 من خلال موقعها: www.dostor.org 
3- راجع مقال محمد الشاهد على موقع جريدة الجارديان: www.theguardian.com  وعنوانه:”From Tahrir Square to Emaar Square”

نبذة عن الكاتب