حافة الانهيار: العراق يتأرجح بين سلطة توافقية وحرب أهلية

تمكنت فصائل مسلحة خلال أسبوع واحد من السيطرة تقريبا على كامل مناطق العرب السنة بالعراق، فاعتبرت قوى عراقية وأجنبية هذا التطور خطرا على مصالحها، وسارعت إلى التعامل معه حسب أجندات متباينة.
20 يونيو 2014
2014622112131611734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
خلال أسبوع واحد، تمكَّن عدد من الفصائل المسلحة من السيطرة على الموصل ثاني مدينة في العرق، نحو مليوني ساكن، وجزء كبير من محافظة نينوى، وتكريت ومناطق أخرى من محافظة صلاح الدين، وديالى في الشرق ومناطق في الشمال بالقرب من كركوك؛ فأصبحت كل منطقة العرب السُّنَّة تقريبًا بالعراق خارج سيطرة بغداد، تُضاف إليها مناطق سورية بين حلب والرقة ودير الزور؛ لأنها جزء من المناطق التي خضعت سابقًا لسيطرة الدولة الإسلامية، وكانت عاملاً مهمًّا في نجاح هذه العملية العسكرية؛ لأنها وفَّرت لهم العتاد الثقيل والتمويل.

مثّل هذا التطوُّر تهديدًا لعدَّة قوى؛ فرئيس الوزراء نوري المالكي بات يفتقد القوات المسلحة القادرة على استعادة المناطق التي خرجت من سيطرته، وإيران تخشى من سقوط حلفائها في بغداد، والنظام السوري يخشى من حصول الدولة الإسلامية على موارد إضافية تجعلها قادرة على التمدد في سوريا أكثر؛ وأميركا والقوى الغربية وروسيا والصين تخشى من قيام دولة جهادية بين العراق وسوريا تجذب إليها القوى الجهادية من مختلف بقاع العالم؛ فتوفِّر لهم التدريب والتمويل، وتعيدهم إلى بلدانهم لينفِّذوا عمليات مسلحة.

مقدمة

خلال أسبوع واحد، تمكَّن عدد من الفصائل المسلحة -متشكِّلة من قوات الدولة الإسلامية بالعراق والشام بقيادة أبو بكر البغدادي، وجيش الطريقة النقشبندية بقيادة عزت إبراهيم القائد السابق في الجيش العراقي أثناء حكم صدام حسين، وقوى تابعة للعشائر العربية السنية؛ مثل: مجلس ثوار عشائر العراق- من السيطرة على الموصل ثاني مدينة في العرق، نحو مليوني ساكن، وجزء كبير من محافظة نينوى، وتكريت ومناطق أخرى من محافظة صلاح الدين، وديالى في الشرق ومناطق في الشمال بالقرب من كركوك؛ فأصبحت كل منطقة العرب السُّنَّة تقريبًا بالعراق خارج سيطرة بغداد، تُضاف إليها مناطق سورية بين حلب والرقة ودير الزور؛ لأنها جزء من المناطق التي خضعت سابقًا لسيطرة الدولة الإسلامية، وكانت عاملاً مهمًّا في نجاح هذا العملية العسكرية؛ لأنها وفَّرت لهم العتاد الثقيل والتمويل.

عدَّة عوامل تُفَسِّر انهيار القوات العراقية السريع، ويمكن إجمالها في تناقص القوى الداعمة لرئيس الوزراء المالكي، وتنامي قدرة القوى الرافضة له، فالمالكي خسر مساندة القوتين الشيعيتين الرئيستين؛ وهما: المجلس الإسلامي الأعلى في العراق، وتنظيم مقتدى الصدر؛ لأنه جمع كل السلطات الرئيسية بين يديه؛ فصارت الأجهزة الأمنية جميعها تحت سلطته المباشرة وغير المباشرة، فاتهمه الصدر بالاستبداد وطالب بإزاحته، واتفق مع عمار الحكيم خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة على تشكيل جبهة تتصدَّى لبقاء المالكي في السلطة. وأثَّر هذا الموقف على تماسك القوات المسلحة العراقية؛ لأن عددًا كبيرًا منها يتشكَّل من عناصر كانت تابعة لميلشيات الصدر والحكيم، فباتت تُشكِّك في سلطة المالكي وتتردَّد في تنفيذ أوامره.

كان السخط في جانب العشائر السُّنِّيَّة على المالكي أكبر؛ لأنه تجاهل احتجاجاتهم السلمية؛ التي دامت نحو عام، واتهمهم في النهاية بإيواء الإرهابيين في ساحات الاعتصام، واستعمل القوَّة للقضاء على احتجاجاتهم، فأعلن الحرب على الفلوجة، وقصفها بالطائرات، والبراميل المتفجرة كما يفعل بشار الأسد في سوريا، وأمر باعتقال قيادات سنية مشاركة في الاحتجاجات؛ مثل الوزير رافع العيساوي؛ ويمثل الخيار الأمني مع المحتجين السُّنَّة حلقة في سلسلة من المواقف الإقصائية التي مارسها نوري المالكي نحوهم منذ مدَّة؛ فلقد تنكَّر للوعود التي قطعها الأميركيون للصحوات، الذين يُقدَّر عددهم بنحو 100 ألف مقاتل، فلم يدمجهم في القوات العراقية، وقطع رواتبهم، فلم يترك لهم خيارًا إلا الالتحاق بالقوى المسلحة؛ التي توفِّر لهم الموارد، وتسعى مثلهم إلى إسقاط نوري المالكي.

يُشارك الأكراد القوى السابقة في السعي للإطاحة بالمالكي؛ لأنه لم يفِ بحقهم من المخصَّصات المالية المنصوص عليها في الدستور، وتوعَّد بعقابهم وملاحقتهم قضائيًّا؛ لأنهم اتفقوا مع تركيا على الشروع في الاستثمار في قطاع الطاقة، وظلَّ يُماطل في تسوية وضع المناطق المتنازع عليها بين الجانبين.

تَوَافُق هذه القوى على مطلب الإطاحة بالمالكي جعل هامش مناورته ضيقًا، وفي المقابل اتَّسع هامش مناورة القوى المسلحة التي تسعى للإطاحة به، فاتحدت من جهة تقريبًا كل القوى السنية على خيار السلاح، وأعانهم حياد الأكراد؛ الذين لم يُسارعوا إلى نجدة المالكي؛ بل إنهم حصلوا على منطقة كركوك الغنية بالنفط؛ التي ظلَّ المالكي يُعارض سيطرتهم عليها من قبل، فلم يبق في مواجهتهم إلا قوات عراقية منكسرة المعنويات؛ لأن ولاءاتها متضاربة بين قوى شيعية متصدعة.

تتحكم في اتساع هذا الاجتياح العسكري عدَّة عوامل؛ فهو يتكون من قوى تحصر مطالبها في إطار الإقليم العراقي؛ مثل قوات العشائر، وعناصر الجيش العراقي السابق، وقوى وطنية أخرى قد تكون روحية؛ مثل: أتباع الطريقة النقشبندية، أو قوى سنية مقاومة، ويتكون -أيضًا- من الدولة الإسلامية؛ التي لا تعترف بالإطار الإقليمي، وتسعى إلى إقامة خلافة إسلامية؛ لكنها تحصر توسُّعها في المناطق التي يُسيطر عليها الشيعة، فلم تهاجم الأكراد، وأعطتهم الأمان؛ لأنهم في نظرها سُنَّة، علاوة على أن موارد الدولة الإسلامية محدودة، فعدد قواتها يتراوح بين 10000 إلى 20000 ألف، يتوزعون حسب تقديرات الإيكونوميست التقريبية بين 6000 في العراق ونحو 5000 في سوريا، فهي ليست كافية للسيطرة على مساحة أوسع، ثم إن تركيز الدولة الإسلامية ينصب حاليا على التحكم في طرق الإمداد نحو سوريا والمراكز الحيوية في العراق مثل مصفاة بيجي التي تنتج يوميا نحو 300 ألف برميل من النفط. هذه المحدِّدات تمنع الدولة الإسلامية من مهاجمة الأردن أو الكويت؛ لأنهم من جانب سُنَّة، ومن جانب آخر تخشى أن تُثير عداء العشائر السنية العراقية التي ترتبط بعلاقات حسنة مع السعودية حليف البلدين، ومن جانب ثالث تتشتت جهود الدولة الإسلامية في مناطق شاسعة.

على الرغم من هذه الاعتبارات، مثّل هذا التطوُّر تهديدًا لعدَّة قوى؛ فرئيس الوزراء نوري المالكي بات يفتقد القوات المسلحة القادرة على استعادة المناطق التي خرجت من سيطرته، وبات يخشى على بغداد من السقوط، والقوى الشيعية العراقية باتت تخشى وصول الاجتياح إلى مناطق يسكنها الشيعة أو أماكن مقدسة، وإيران تخشى من سقوط حلفائها في بغداد، وانقطاع الطرق المؤدية إلى سوريا؛ والنظام السوري يخشى من حصول الدولة الإسلامية على موارد إضافية تجعلها قادرة على التمدد في سوريا أكثر؛ وأميركا والقوى الغربية وروسيا والصين تخشى من قيام دولة جهادية بين العراق وسوريا تجذب إليها القوى الجهادية من مختلف بقاع العالم؛ فتوفِّر لهم التدريب والتمويل، وتعيدهم إلى بلدانهم لينفِّذوا عمليات مسلحة.

هناك قوى أخرى ترى هذا التطور يجمع بين الخطر والفرصة؛ فهو يخدم السعودية لأنه يضرب هيمنة إيران على العراق ويقطعها عن سوريا؛ لكن يهددها لأن الدولة الإسلامية تُعَدُّ في نشأتها فرعًا من تنظيم القاعدة؛ الذي يرفض الاعتراف بشرعية النظام السعودي، ونفَّذ عمليات مسلحة بالسعودية عدَّة مرَّات في السابق. وهو يخدم تركيا لأنه يكسر الهيمنة الإيرانية على العراق، ويشكل ضغطًا مستمرًّا على كردستان العراق وعلى الأكراد السوريين؛ لكن من جانب آخر يمثل تهديدًا؛ فالمسلحون اعتقلوا عددًا من الدبلوماسيين الأتراك بالموصل، وسيؤدي قيام دولة سنية إلى قيام دولة كردية بالعراق تكون سابقة قد يبني عليها أكراد تركيا.

هذه الأطراف ستتعامل مع هذه التطورات بأجندات مختلفة للقضاء على الخطر الذي يداهمها، وإضعاف خصومها، وتعظيم مكاسبها، ويمكن تقسيم استراتيجيات القوى المختلفة إلى ثلاثة سيناريوهات:

الرهان على الرد المسلح للحفاظ على الوضع، أو المشاركة السياسية للسنة في النظام العراقي مقابل الحفاظ على وحدة أراضي العراق، ومنح السنة إقليمًا مشابهًا لإقليم كردستان يحظى بحكم ذاتي، أو تقسيم العراق إلى ثلاث دول.

السيناريو الأول: العودة إلى الوضع السابق بالسلاح

يدعم هذا السيناريو رئيس الوزراء نوري المالكي؛ لأن خوف المكون الشيعي من الخطر السني الداهم يجعل كلاًّ من عمار الحكيم ومقتدى الصدر يتخليان مؤقتًا عن مطالبتهما بتنحي نوري المالكي، ويعطيان الأولوية لرصِّ الصفِّ الشيعي، فيظل المالكي رئيسًا للوزراء دون أن يتراجع عن سياساته الإقصائية؛ التي دفعت قطاعات عريضة من السنة إلى التشدد واليأس من جدوى المشاركة السياسية والمراهنة على السلاح، والقتال بجانب الدولة الإسلامية التي قاتلوها سابقًا حين شكَّلُوا الصحوات.

تُوَافِق إيران بشكل عامِّ على هذا السيناريو؛ فسارعت إلى مساندة الحكومة العراقية؛ لكنها لن تستطيع التدخُّل السافر بقواتها؛ لأنها تستفزُّ الدول السنية المجاورة، وتبدو الحكومة العراقية موجودة بفضلها فتستفزّ المشاعر الوطنية العراقية داخل الشيعة العراقيين أنفسهم، وستختار بدلاً من ذلك القيادة من الخلف، والعمل على توحيد الصف الشيعي العراقي؛ فإيران ستصرُّ على زوال هذا الكيان السني الذي تشكَّل في مواجهة الشيعة، وتوعد أحد مكوناته -الدولة الإسلامية- بالقضاء عليهم؛ ولن تقبل بقيام دولة سنية معادية تقطعها عن سوريا وحليفها حزب الله في لبنان؛ لكنها من جهة أخرى قد تضطر إلى إبعاد المالكي؛ لأنه عامل انقسام بين القوى الشيعية، وجعل القوى السنية المعتدلة تتشدَّد وتراهن على العمل المسلح، وتخشى من أن تؤدي دعوة المالكي إلى تشكيل ميلشيات شعبية مسلحة إلى تفاقم الاستقطاب الشيعي السني، فتتحوَّل إلى دولة طائفية تفتقد شرعية التحدث باسم المسلمين جميعًا، فتزداد عزلتها في العالم الإسلامي والمنطقة العربية.

علاوة على هذا الاختلاف، لا يمتلك المالكي حاليًّا القدرة العسكرية على استرداد المناطق المفقودة؛ فمعركة الموصل أظهرت ضعف الجيش العراقي؛ حيث تمكَّن نحو 800 مقاتل من مواجهة 30 ألف مقاتل عراقي، سارعوا إلى الفرار، وتركوا وراءهم عتادهم، فحصل المسلحون على أسلحة ودبابات، وعربات هامفي، ومروحيتين من نوع بلاك هوك، وأخذوا من مصرف الموصل 430 مليون دولار وسبائك ذهبية (1). وتُعَدُّ دعوته إلى تشكيل ميلشيات مسلحة اعترافًا بأن القوات المسلحة النظامية ليست قادرة على صدِّ الهجمات المتوقعة للمسلحين على مناطق حيوية مثل سامراء؛ التي يوجد بها مرقدا الإمامين الهادي والعسكري، أو تلعفر التي يوجد بها نحو 200 ألف شيعي فرَّ كثير منهم حين دخلها المسلحون؛ لكن استجابة القوى الشيعية لدعوة تشكيل ميلشيات سيجعل من جانب آخر المالكي ضعيفًا؛ لأن عددًا مهمًّا من تلك الميلشيات يدين بالولاء لقيادات ترفض بقاء المالكي؛ مثل: منظمة بدر التابعة للحكيم وسرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر؛ فالمالكي لن يكون بالضرورة فائزًا في هذا السيناريو؛ لأن إيران والقوى الشيعية قد تزيحه لإعادة ترميم البيت الشيعي.

يعيق نجاح هذه السيناريو الموقف الأميركي؛ الذي يخشى أن تؤدي مساندته للميلشيات الشيعية إلى تهديد مصالحه في العالم السني، وأن يكون شريكًا في حرب أهلية تقضي على أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين بالمناطق السنية؛ فتثير رفض الرأي العام الأميركي، ولن يكون بعدها راعيًا لأي مصالحة تُعيد تشكيل النظام السياسي العراقي، ويخشى الأميركيون من أن يساعد تسليحهم للمالكي بالمروحيات على استعمالها لاحقًا في إخضاع كردستان، ولعلهم أيضًا لا يثقون في أن العمل العسكري قد يجدي؛ فلقد هاجم المالكي منطقة الفلوجة منذ نهاية عام 2013 إلى اليوم بالطائرات والمدفعية؛ لكنه لم ينجح في إخضاعها. وسيجد الأميركيون مصلحتهم في حلٍّ سياسي يقوم على إدماج حقيقي للسنة في النظام السياسي العراق، ويتلخص تقريبًا في الشروط الثلاثة التي وضعتها هيلاري كلينتون -المرشحة الديمقراطية المحتملة للانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة- للتدخل الأميركي؛ وهي: تشكيل حكومة تضمُّ الجميع، تشكيل جيش يمثِّل مختلف المكونات، والتخلِّي عن سياسة الإقصاء التي انتهجها المالكي. وستضطر الولايات المتحدة إلى الاستعانة بحلفائها في المنطقة لتسوية الأوضاع بالعراق؛ لأنها منشغلة بتركيز قواتها بالمحيط الهادي، ومساعدة حلفائها الأوروبيين في أوكرانيا، وستعتمد على دولتين رئيستين؛ هما: السعودية، وقطر؛ لأنهما تتأثَّران بالأوضاع العراقية، وتمتلكان أدوات التأثير في مجريات الأوضاع هناك.

والمحصلة أن السعي إلى استعادة الوضع السابق بالميلشيات المسلحة سيؤدي إلى حرب أهلية طائفية ستزعزع المنطقة، وتجعل العراق دولة أخرى فاشلة تجذب الجهاديين من المتشددين السنة والشيعة للتقاتل، فتفر أعداد كبيرة من العراقيين إلى دول الجوار، حيث ظهرت بوادر ذلك في فرار نحو نصف مليون من سكان الموصل  إلى كردستان عقب سقوط مدينتهم بيد المسلحين، فيعمَّ الاضطراب المنطقة.

السيناريو الثاني: المشاركة والفيدرالية

تدعم السعودية خيار التشارك في السلطة من أجل الحفاظ على وحدة العراق، فدعا مجلس الوزراء السعودي إلى تشكيل حكومة وفاق وطني عراقية تتخلَّى عن سياسة الإقصاء التي مارسها نوري المالكي، فتثق القوى السنية المعتدلة من جديد في جدوى الحلِّ السياسي فتتخلَّى عن السلاح، وتبتعد عن الدولة الإسلامية التي تريد تقسيم العراق، وقد تشارك في وقت لاحق في إخراج الدولة الإسلامية من العراق؛ كما فعلت الصحوات من قبل. ويتوافق الموقف القطري مع الموقف السعودي في اعتبار المالكي المسؤول عن تردِّي الأوضاع؛ أي أن إزالته والتخلِّي عن سياسة الإقصاء سيكونان الحلَّ المناسب للأزمة العراقية، ويحقق هذا الخيار مصلحة تركيا؛ التي تريد عراقًا موحَّدًا ولو بحكومة ضعيفة؛ حتى لا يؤدي تقسيمه إلى تحوُّل إقليم كردستان إلى دولة مستقلَّة.

تمتلك السعودية ورقة مهمَّة لتسهيل تحقيق هذا السيناريو؛ وهي علاقتها المميزة بالعشائر السنية العراقية التي تشارك في القتال حاليًّا بجانب الدولة الإسلامية؛ لكن هذه القبائل السنية تتواجد -أيضًا- في أحزاب تتخوَّف منها السعودية؛ لأنها تنتمي إلى الإخوان المسلمين؛ مثل: الحزب الإسلامي العراقي، الذي انحدر منه طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية العراقية؛ لكن المالكي اتهمه بالإرهاب؛ فاضطر إلى مغادرة العراق، وستحتاج السعودية إلى قطر التي تمتلك علاقات مميزة بهذه القوى لتشكيل توافق سني يرضى بالمشاركة في الحكومة العراقية مقابل انفصاله عن الدولة الإسلامية، فتحقق الدولتان هدف إزاحة المالكي، والتأثير مستقبلاً في الحكومة العراقية من أجل تقييد النفوذ الإيراني.

يمكن أن تشارك إيران في هذا السيناريو؛ لأن خيار العمل المسلح لاسترداد المناطق السنية لا تمتلك الحكومة العراقية موارده الكافية، وقد ينزلق خيار تشكيل ميلشيات مسلحة إلى حرب طائفية تقضي على أي توافق سياسي في المستقبل؛ فتجد إيران أن الأفضل دعم خيار المشاركة السياسية للسنة؛ إلا أن نجاح هذا الخيار يحتاج إلى توافق القوى الإقليمية، وعلى رأسها توافق إيران والسعودية؛ لكن البلدان لم يتواصلا مع بعضهما منذ مدَّة طويلة، وتقف عدَّة عقبات في الطريق التقارب بينهما، فيمكن أن تكون قطر عامل تقريب وتسهيل للتواصل بينهما.

قد يتحوَّل خيار المشاركة إلى خيار الفيدرالية، فيكون تقاسم السلطة أكبر بين المركز ببغداد والمناطق السنية، ويسند هذا الخيار الدستوري العراقي الذي ينص على جوازه، وتتبنَّاه حكومة إقليم كردستان؛ التي تُحَمِّل سياسة المالكي الإقصائية سيطرة المسلحين على مناطق واسعة من العراق، ويمكن أن تُفَضِّل السعودية وقطر وتركيا هذا الخيار؛ لأنه من مصلحة السعودية وقطر قيام إقليم سني محاذٍ لسوريا؛ فيعزل بشكل كبير نظام الأسد عن الدعم العراقي الإيراني. وتُشَارِكهما تركيا جدوى هذا الخيار؛ لأنه يمنع كردستان من التحوُّل إلى دولة مستقلة.

يعتمد نجاح هذا السيناريو على تعاون سعودي قطري، يُوَسِّع نفوذهما بعد ذلك في سوريا.

السيناريو الثالث: التقسيم

تدعم هذا الخيار الدولة الإسلامية التي أعلن زعيمها أبو بكر البغدادي أن هدفه إقامة خلافة إسلامية، تكون منطقة العراق والشام مركزها الرئيسي، ثم تتوسع إلى باقي المناطق الإسلامية، وتقضي في طريقها على الشيعة؛ لكن القوى المسلحة العراقية المتحالفة معه لا تتقاسم الهدف نفسه؛ فجيش الطريقة النقشبندية يتشكَّل من عناصر من الجيش العراقي السابق ومن صوفية، ويجعل هدفه تحرير العراق من النفوذ الإيراني بعد أن دحر القوات الأميركية، فتنحصر أجندته في الاستيلاء على السلطة داخل إقليم العراق.

وتندرج كذلك مطالب العشائر في إنهاء الإقصاء الذي تمارسه عليهم الحكومة العراقية، ويرفضون تقسيم العراق، ولا يسعون إلى بسط سيطرتهم خارج حدود بلدهم. والواضح أن الجماعات السنية المسلحة تختلف في أجندتها السياسية، ولا يجمعها حاليًّا إلا السخط على الحكومة العراقية، وقد تتضارب مصالحهم إذا وجد طرفٌ منهم أن الأطراف الأخرى تمنعه من تحقيق أهدافه؛ فالعشائر العراقية أقرب إلى القبول بالمشاركة السياسية؛ لأنها كانت ممثلة من قبل فيها، وشاركت في تكوين الصحوات التي قاتلت القاعدة سابقًا؛ لكن مشاركة جيش الطريقة النقشبندية أصعب؛ لأنه يشترط إزالة آثار الاحتلال؛ بما فيها العملية السياسية التي أوصلت قوى شيعية حليفة لإيران إلى السلطة، أما الدولة الإسلامية فترفض نهائيًّا شرعية الحكومة العراقية والدولة العراقية، وتبتهج بنجاحها في إزالة الحدود بين العراق وسوريا؛ لأنه -برأييها- إنهاء لاتفاقية سايكس- بيكو التي قسَّمت العالم العربي بين القوتين البريطانية والفرنسية.

بالطبع يصبُّ خيار التقسيم في مصلحة إقليم كردستان؛ لأنه يحقِّق حلمه في الحصول على الاستقلال التام؛ لكنه يخشى من الردِّ التركي الرافض لهذا الخيار؛ حتى لا يؤدي إلى تشكيل نواة قد تجذب إليها المنطقة الكردية بتركيا، وتدعم إيران خيار رفض التقسيم؛ لأنه خطر على عراقيين شيعة متواجدين بمناطق سنية، وقد يجذب استقلال كردستان نحو المنطقة الكردية بإيران، وتشارك السعودية وقطر وأميركا والصين وروسيا هذا الرفض؛ لأنه يُهَدِّد من جانب الحدود القائمة، وسيسمح بقيام دولة يُشارك في قيادتها جهاديون سيجذبون القوى الجهادية إليهم؛ وقد يُشَكِّلُون سابقة تنتقل إلى دول أخرى.

الخاتمة

يبدو في مختلف السيناريوهات أن القوى التي ستُشَكِّل الأوضاع تَعتبر المالكي عقبة في طريق الحلِّ؛ إما لأنه في الحلِّ العسكري يعيق تشكل وفاق شيعي، أو يعيق تعاونًا كرديًّا، أو يمنع في الحل السياسي توسيع المشاركة السنية، ويُثير سخط حكومة كردستان، فتُرَجِّح هذه الاتجاهات رحيل المالكي، فيقلُّ عدد الداعين إلى الحلِّ العسكري، وتزداد حظوظ الداعين إلى حلٍّ سياسي، على رأسهم السعودية وقطر؛ لأن مخاطره وتكلفته أقل، ومنافعه تشمل الجميع بما فيها إقليم كردستان، ولا تتضرَّر منه إلا الدولة الإسلامية؛ التي ستعمل على إفشاله؛ لكنها ستفتقد الحاضنة الاجتماعية بالعراق والدعم الدولي بالخارج.

وكما كان الوضع في سوريا سببًا مباشرًا في نجاح الدولة الإسلامية في عملها العسكري بالعراق؛ فإن مختلف القوى الخارجية المؤثرة في سوريا -بما فيها إيران- ستستنتج أن استقرار الأوضاع في العراق يحتاج إلى تسوية للأزمة السورية حتى لا تجد القوى الجهادية حاضنة اجتماعية تستند عليها، فتتغير النظرة الإيرانية التي كانت تعتقد أن الدولة الإسلامية بسوريا تخدم بشكل غير مباشر نظام بشار الأسد؛ لأنها تجعل اتهامه للثوار بانتمائهم للقاعدة يجد قبولاً متزايد في الرأي العام الخارجي، علاوة على أن الدولة الإسلامية تقاتل في الأساس المعارضة السورية المسلحة، فتنهكها وتعيقها عن تركيز ضرباتها على نظام الأسد؛ لكن بمشاركة الدولة الإسلامية في السيطرة على المناطق السنية بالعراق باتت إيران ترى في التنظيم خطرًا داهمًا على مصالحها؛ هذا التطوُّر في العراق سيُقَرِّب وجهات نظر مختَلَف القوى الدولية نحو تسوية في سوريا، يكون هدفها الرئيس منع الدولة الإسلامية من أن تكون الفائز الأكبر في الصراعات الجارية بالمنطقة العربية.
__________________________________
الحواس تقية - باحث بمركز الجزيرة للدراسات

الهوامش
(1) http://www.theguardian.com/world/2014/jun/11/mosul-isis-gunmen-middle-east-states

نبذة عن الكاتب