السياسة الخارجية الإندونيسية ودورها الإقليمي في الأمن والسياسة

تقوم سياسة إندونيسيا الخارجية على إحداث توازن في علاقاتها بين شرق آسيوي وغرب أميركي وأوروبي، وتتمحور جهودها الدبلوماسية جغرافيًا حول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان)، وتجهد لإنهاء التوتر بين أعضاء آسيان فيما يخص نزاعهم مع الصين في بحر الصين الجنوبي.
20146285046189734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
تحظى إندونيسيا بأهمية جيوسياسية واقتصادية ودينية سكانية؛ فهي أكبر دول جنوب شرق آسيا والعالم الإسلامي، وتقوم سياستها الخارجية وأولوياتها الدبلوماسية على إحداث توازن في علاقاتها بين شرق آسيوي وغرب أميركي وأوروبي، وتتمحور جهودها الدبلوماسية جغرافيًا حول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان)، وتحاول تحقيق إجماع على إنهاء التوتر بين أعضاء آسيان فيما يخص نزاعهم مع الصين في بحر الصين الجنوبي. ومع انتخاب رئيس جديد لإندونيسيا في شهر يوليو/تموز المقبل فإن أمامها فرصة للاستفادة من استمرار النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي ونهضة التصنيع العسكري لتقوية مكانتها الإقليمية والانطلاق بدبلوماسيتها إلى آفاق أوسع تتجاوز محيط منطقة آسيان إلى مناطق أخرى لتكون من "الدولة الصاعدة" في آسيا.

ينطلق الحديث عن السياسة الخارجية الإندونيسية من طبيعتها الأرخبيلية المتشكلة من أكثر من 17500 جزيرة، فهي الدولة الـ15 من حيث المساحة في العالم، وباحتساب مياهها هي السابعة مساحةً؛ فمساحة بحار إندونيسيا هي 5.7 مليون كم مربع، وتشكّل 75% من مساحتها الكلية. ومن مياهها يمكن تصور المحيط الجيوسياسي، فمن بين جزرها تمر ما نسبته 40% من حركة التجارة العالمية، وامتدادها البحري جعلها تتعامل مع دول جنوب شرق آسيا إلى جانب دول عظمى ليست بعيدة عنها كالصين والهند ودول المحيط الهادي وعلى رأسها أستراليا، ولكل من هذه الدول سياساتها الخارجية وطموحاتها في إندونيسيا أو مصالحها التي تمر عبر مياهها.

ولا تقتصر أهمية المياه الإندونيسية على كونها الدولة الأكثر إحاطة جغرافيًا بمضيق ملقا -بالتشارك مع ماليزيا وسنغافورة- فحتى لو أراد البحارة تفادي مضيق ملقا، فإن البدائل إندونيسية بامتياز، وهي: الساحل الغربي لسومطرا ثم المرور عبر مضيق لومبوك، ومن هناك خياراتهم تتوزع بين مضيقي كاريماتا وبحر ناتونا الموصلين ببحر الصين الجنوبي، أو مضيق مكاسر وبحر سولاويزي، وغير ذلك من الممرات التي تتخلل الجزر الإندونيسية، وتشهد تلك المضايق مرور أكثر من75 ألف سفينة سنويًا(1)، متجاوزة العدد الذي يمر بقناتي السويس وباناما، وهو ما ينعكس على ثلاثة محاور مهمة رئيسية:

  1. الأهمية الاقتصادية: تشهد منطقة شرق آسيا نماء اقتصاديًا يزيد من إسهامها في الاقتصاد العالمي جاوز الثلث في السنوات الماضية، وحظ شرق آسيا من التجارة العالمية يصل إلى 40% مقارنة بـ 37% لأوروبا و20% للولايات المتحدة، وهذا ما يجعل المضايق الإندونيسية مثار اهتمام استراتيجي وجيوسياسي للولايات المتحدة والصين، وكأن صراعًا صامتًا يدور في هذه البحار بين القوى العظمى، حتى وصف الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون المنطقة بأنها "واعدة وأكثر مناطق العالم حيوية بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية"، وحدد دونالد رامسفليد وزير الدفاع الأميركي السابق كلامه أكثر بالقول بأن "نجاح آسيا يعني الكثير بالنسبة لأمن ورفاهية أميركا"(2)، وهذا ما يفسر مراقبة واشنطن للتوسع الصيني الاقتصادي والعسكري في دول وبحار آسيان.
  2. النفط والغاز العربي وآسيا: ليس ملفًا اقتصاديًا مجردًا ولذا يُنظَر إليه كمتغير أو عامل جيوسياسي واقتصادي في الوقت نفسه، فلأن شرق آسيا أسرع المناطق نموًا في العالم، ولقلة ما تنتجه من نفط وغاز فإن هذا أدى إلى تزايد الطلب على النفط والغاز من المنطقة العربية، الذي تمر شحناته عبر مضيق ملقا والبحار الإندونيسية الأخرى وصولاً إلى بحر الصين، وتستهلك دول شمال شرق آسيا وحدها (الصين واليابان وكوريا الجنوبية) أكثر من 13 مليون برميل نفط يوميًا(3)، وقد دفع تعطش دولة كالصين إلى النفط لأن تدفع بشركاتها النفطية نحو الدول المنتجة لتكون على مقربة من الاستكشافات النفطية، بدلاً من دول جنوب شرق آسيا التي لا تنتج ما يكفيها من نفط وغاز وستظل تعتمد على الممرات البحرية في استيرادهما، وهذا ما يجعل دولة كاليابان وهي ثاني أكبر مستورد للطاقة تهتم بالتعاون مع إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة لتأمين مضيق ملقا وغيره من الممرات التي تمر من خلالها شحنات النفط والغاز القادمة من السعودية والكويت وقطر والإمارات وإيران. 
  3. البعد العسكري: تسعى إندونيسيا ودول آسيان إلى ضمان بقاء منطقتهم خالية من الأسلحة النووية أو أسلحة الدمار الشامل وبعيدة عن أي صراع إقليمي أو دولي، وتعلم دول آسيان أنها محاطة بدول تمتلك ترسانات من الأسلحة قد تهدد أمن وسلامة المنطقة في حالة حدوث صراع ما، وفي المقابل تريد الصين تأمين الممرات البحرية التي تعتمد عليها في تجارتها العالمية وهي تتمدد في ذلك حتى المحيط الهندي قريبًا من خليج البنغال. وليس بعيدًا عن هذا الهدف تهتم الولايات المتحدة بتأمين الخطوط البحرية التي تخدم مصالحها الاقتصادية وأسطولها العسكري الذي يعتمد على المياه الإندونيسية بشكل أساس، كما يهم الولايات المتحدة تأمين حلفائها الآسيويين من أية مخاطر، وعلى رأسهم: اليابان وكوريا الجنوبية ثم الفلبين وتايلاند. في هذا الإطار وجدت إندونيسيا نفسها مطالّبة بل وفي أمَسّ الحاجة إلى إحداث نهضة تصنيعية عسكرية لمواجهة هذا التدافع الدولي من خلال مياهها ولتأمين حدودها وجزرها، وشهدت السنوات العشر الأخيرة بداية نهضة ثانية للتصنيع العسكري الداعم لما تتطلبه جغرافية إندونيسيا البحرية من إمكانات، لمراقبة الحدود البحرية الممتدة لآلاف الكيلومترات، في بلد يتوسط محيطين وبحارًا أخرى، فمما سيحدد قدرة إندونيسيا على مواجهة التحديات الإقليمية قدراتها الدفاعية البحرية والجوية، ومدى سرعة تحديث جيشها مقارنة بدول جوار تسارع الخطى لشراء الحديث من الأسلحة.

ثوابت السياسة الخارجية الإندونيسية

ضمن تلك الجغرافيا التي تفسر الأهمية الجيوسياسية والجيواقتصادية لإندونيسيا، يمكن تسليط الضوء على الخطاب الدبلوماسي الإندونيسي مع المحيط الإقليمي والقوى الكبرى:

أولاً: الاستقلالية والفاعلية: نال الإندونيسيون استقلالهم في 17 من أغسطس/آب لعام 1945 بعد كفاح طويل لتحرير الوطن من الاستعمار والهيمنة، وبعد تجاوز تلك المرحلة كان السؤال المطروح هو تحديد هوية إندونيسيا بين الأمم، ومن أوائل من تعاملوا مع هذا التساؤل "محمد حتي" أول نائب لرئيس البلاد (سوكارنو)، محاولاً توحيد الموقف الخارجي في ظل انقسام أيديولوجي بين المستغربين واليساريين، ودعا في كلمته الشهيرة المعنونة بـ "التجديف بين اثنتين من الشعب المرجانية" أمام اللجنة المركزية الوطنية الإندونيسية في 2 سبتمبر/أيلول 1948 إلى سياسة إندونيسية "مستقلة وفاعلة"(4) في محاولة مبكرة لإبعاد إندونيسيا عن التحالفات الشرقية والغربية، وعن التدخلات والتأثيرات الخارجية، حذرًا من أن تحدث انقسامًا بين النخبة السياسة. لكن ذلك لم يتحقق حيث مرت البلاد بفترة عصيبة خلال عقد الستينات وما بعدها جرّاء الانقسام بين معسكرين: الشيوعي شرقًا والأميركي غربًا؛ ولهذا فرغم بقاء مبدأي: "الاستقلالية والفاعلية" الخاصية الأولى في الهوية السياسية الإندونيسية في تخاطبها مع الأمم الأخرى إلى يومنا فإن تطبيقهما تفاوت من زعيم إلى آخر.

ثانيًا: آسيان: المركزية الجغرافية للخطاب الدبلوماسي الإندونيسي: منذ أن تأسست آسيان في 16 أغسطس/آب 1966 وإندونيسيا في مقدمة الدول الرائدة في هذا التجمع الإقليمي لاسيما أن الإندونيسيين يشكّلون 40% من مجموع سكان هذا التجمع أو المنطقة، ويذكر أن الرئيس الإندونيسي السابق سوهارتو قال في ذلك الوقت: "لو تحقق التكامل بين دول جنوب شرق آسيا فإننا سنكون قادرين على مواجهة التحديات والتدخلات الخارجية الاقتصادية وحتى العسكرية". وعلى هذا الأساس قادت إندونيسيا دول المنطقة لتوقيع اتفاقية التعاون والصداقة بين دول جنوب شرق آسيا، فالاستقرار والأمن والسلام في المنطقة مصلحة إندونيسية استراتيجية لا غنى عنها من أجل الحفاظ على استقرارها الداخلي وازدهارها، وإلا فسينعكس عدم الاستقرار سلبًا عليها. ويرى الإندونيسيون في آسيان "قوة موازنة" صاعدة بين القوى العظمى ذات المصالح في المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية وروسيا وحتى الهند وأستراليا، وهي أبرز الدول التي تدعى لحضور منتديات آسيان الموسعة كل عام لبناء جسور الثقة والتعاون الثنائي والجماعي.

ويمكن فهم محورية آسيان في الخطاب الدبلوماسي الإندونيسي من خلال ثلاثة مسوغات أساسية:

  1. أنها المحيط الجغرافي والسكاني لجزرها، وحماية أمنها القومي يستلزم علاقات حسنة مع دول الجوار، حتى لا تكون منطقة صراع؛ فجاكرتا تريد أن تظل آسيان "المحيط الجغرافي المستقر" وبذلت الكثير منذ 4 عقود من أجل تحقيق ذلك.
  2. أن المنظومة الإقليمية لآسيان تضمن جعل منطقة جنوب آسيا مستقرة وخالية من حروب أو نزاعات تعرقل أية تنمية اقتصادية ممكنة، وهذا مسعى تجتمع عليه الدول الأعضاء في رابطة آسيان، وجميعًا يؤمنون -ومنهم الإندونيسيون- بأن أي توتر إقليمي بين دول أعضائها أو دولي في مياههم الإقليمية وأراضيهم سيضر اقتصاديًا بمئات الملايين من السكان ممن تعتمد حياتهم على الزراعة والصناعة والسياحة والثروة البحرية، ونسبة كبيرة من هؤلاء من ذوي الدخل المتوسط والمحدود الذين لا تحتمل طبيعة أعمالهم توترات أمنية وسياسة؛ لذلك يبدو اجتماع ساسة آسيان في ظل رابطتهم ضمانًا لأجواء إقليمية آمنة ومستقرة وهي شرط لأية نهضة.
  3. يدرك الساسة الإندونيسيون ضرورة الالتفاف إقليميًا مع دول جوارهم لتحقيق توازن في المنطقة ولاتخاذ أي قرار جماعي في مواجهة الدول الكبرى ذات المصالح في جنوب شرق آسيا(5)، وهذا ما يفسر طرح الكثير من الإشكالات الإقليمية على طاولة المحادثات في اجتماعات آسيان التي يلتقي فيها ساسة آسيان مع زعماء ووزراء دول كبرى، فهناك قمة آسيانية-أميركية وأخرى آسيانية مع اليابان والصين وكوريا الجنوبية، وثالثة مع الهند وأستراليا ونيوزيلندا، ولا ننسى قمة آسيان مع دول الاتحاد الأوروبي.

ثالثًا: محاولة الحفاظ على موقف متوازن بين القوى الكبرى: أسس نائب الرئيس الأسبق محمد حتي لهذا المبدأ؛ ما جعل إندونيسيا منطلقًا أساسيًا لحركة عدم الانحياز في الخمسينات(6)، وهذا ما يفسر كون مصطلح "الحلف" شبه غائب عن أدبيات الدبلوماسية الإندونيسية؛ فالسائد هو مصطلح "الشراكة" ومع دول كثيرة في مقدمتها أميركا وكوريا الجنوبية. وبعد أن كان المقصود بالمعسكرين الشرقي والغربي: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، صارت الصين العنصر الأقوى في الشرق، مع بقاء الحضور الأميركي، والتساؤل الآن كيف يمكن الحفاظ على دبلوماسية موازنة بين الشرق والغرب بلغة العقد الثاني من القرن الجديد:

  1. إندونيسيا والصين: هناك تفاوت في موقف النخب الإندونيسية من الصين؛ فالبعض يراها منافسًا بل خَطَرًا غامضًا، وبعضهم يرى في صعودها السياسي والعسكري تحديًا معقد التفاصيل يصعب التعامل معه، ومن ذلك اعتباره مهددًا لاقتصادهم بفعل المنتجات الصينية التي بدأت تغرق الأسواق الإندونيسية أو رؤوس الأموال الصينية وسرعة توسعها، لكن طرفًا آخر يرى في الاقتصاد الصيني فرصًا تجارية واستثمارية مشتركة ويرى في الصين كدولة شريكًا لا يمكن تجاوزه، كما يتباين تقييم النخب الإندونيسية للصعود العسكري الصيني، بين تصور أن الصين عامل مهم في التخفيف من النفوذ الأميركي وحتى الأوروبي و"الإزعاج" الأسترالي، وبين الخشية أكثر من التوجهات التوسعية للصين التي قد تصبح في المستقبل أقوى من النفوذ الأميركي في المنطقة(7)؛ وهذا ما يفسر اندفاع الإندونيسيين إلى تقوية شراكاتهم مع الكوريين الجنوبيين في عدة مجالات وصلت إلى تصنيع الطائرات المقاتلة، ومع اليابانيين أيضًا لإحداث توازن إقليمي، ولكوريا الجنوبية واليابان غاية مشتركة في التدافع صناعيًا وإنتاجيًا مع المد الصيني بالتوازي مع الاستفادة من أكبر سوق في العالم(8).
  2. إندونيسيا وأميركا: وهي الطرف الآخر من المعادلة بالنسبة للإندونيسيين وعلاقتهم بها قد تحسنت خلال عشرية الرئيس سوسيلو بامبانغ يوديونو (2004-2014)، لاسيما بعد وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2009؛ حيث تبلورت في "الشراكة الأميركية-الإندونيسية الشاملة"، وهي شاملة بالفعل في مختلف المجالات ولا تقتصر على العسكرية والاقتصادية فحسب، لكن المصطلح المستخدم هنا ليس "الحلف" بل "الشراكة"، ولذلك مغزاه في التقاليد الدبلوماسية الإندونيسية المنبثقة من فكرة تحقيق أكبر قدر ممكن من الحياد والموازنة في الشراكات لا التحالفات، وفي المقابل لو عدنا إلى الخطاب الأميركي فسنجد فيه تأكيدًا على أن أبرز الحلفاء في شرق آسيا، هم: اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ثم الفلبين وتايلاند، وفيما وراء هذه الدول تحاول الولايات المتحدة وبمستوى دون "الحلف" أن تقوي علاقاتها مع ماليزيا وإندونيسيا ونيوزيلندا وسنغافورة وحتى فيتنام(9).

ويأتي في هذا السياق اهتمام الولايات المتحدة بتعزيز دور رابطة آسيان في الدبلوماسية الجماعية مع الصين، من خلال السعي لبناء "منظومة أمنية" لدول آسيان وحلفاء وشركاء واشنطن في المنطقة لإدارة التوتر ومنع حدوث صراعات(10)، وهذا ما يفسر توجه بعض القوات الأميركية المنسحبة من العراق وأفغانستان إلى شرق آسيا، كما بدأت واشنطن إعادة توزيع قطعها البحرية بهدف نشر 60 % من أساطيلها في منطقة آسيا والمحيط الهادي خلال الأعوام الستة القادمة، وقد أكد ذلك التقرير الدفاعي الأميركي لعام 2014 الذي يصدر كل أربع سنوات، وأشار إلى أن إندونيسيا والهند قد بدأتا تتحملان أدوارًا قيادية في التواصل والتفاهمات الإقليمية(11).

لكن هناك تفاوتًا بين النخب السياسية والقيادات العسكرية ورجال الأعمال الإندونيسيين في نظرتهم إلى الشراكة مع الولايات المتحدة، مع أنها قد تحسنت خلال عهد الرئيس باراك أوباما، التي توافقت مع أولويات الرئيس يوديونو الدبلوماسية بشأن تحسين العلاقات مع واشنطن، بعد أن تعكرت الأجواء بين البلدين في الفترة الانتقالية بين سقوط الرئيس الأسبق سوهارتو عام 1998 وانتخاب يوديونو عام 2004، ولهذا تعافت العلاقات العسكرية مجددًا، رغم أن الإندونيسيين تبنّوا سياسة تنويع مصادر تسليحهم تقليلاً من الاعتماد على السلاح الأميركي الذي كان يُعتمد عليه بشكل رئيسي في عهد سوهارتو، أما تجاريًا فبعد 4 سنوات من توقيع إندونيسيا وكل دول آسيان اتفاقية لتحرير التجارة مع الصين، توسع واشنطن من عدد المشاركين فيما بات يُعرف بـ"الشراكة العابرة للمحيط الهادي" التي انضمت إليها دول آسيوية ولاتينية مطلة على المحيط الهادي، وقد تنضم إندونيسيا إلى الاتفاقية.

الدور الإقليمي لإندونيسيا والتحديات

أثّرت معدلات النمو الاقتصادي شبه المستقرة طوال العشرية الماضية إيجابًا على أوضاع إندونيسيا الداخلية، وعلى قدرتها على التعامل مع العالم الخارجي حتى إن البنك الدولي وضع إندونيسيا في المرتبة العاشرة بين اقتصادات العالم لأول مرة في تاريخها(12). وقد ظلت التنمية الاقتصادية عنصرًا واضحًا في خطابها منذ الستينات في اجتماعات منظمة عدم الانحياز ومجموعة الـ 77، وأخيرًا في مجموعة الـ 20؛ حيث باتت المصالح الاقتصادية من أولويات العلاقات الخارجية الإندونيسية، من حيث الوصول إلى أسواق جديدة أو تأمين مصادر الطاقة والاستثمارات الأجنبية اللازمة لتحسين البنى التحتية، وتأتي الدول العربية كسوق لمنتجاتها وكمصدر للطاقة في هذا الإطار، وسيظل موقف إندونيسيا الدولي يتأثر بأوضاعها الاقتصادية(13). وفي ظل هذا الوضع الاقتصادي شبه المستقر تنشغل إندونيسيا نخبة وشعبًا بالإعداد للانتخابات الرئاسية في يوليو/تموز المقبل بعد الانتهاء من الانتخابات التشريعية الممهدة لها في التاسع من إبريل/نيسان الماضي، وبينما عُرف الرئيس الحالي يوديونو بسياسته الخارجية المخاطبة للجميع بمنطق البحث عن "مليون صديق واللاعدو" و"التعايش بين الحضارات"، وهي سياسة نفعت بلاده في التخفيف من توترات كثيرة مع دول الجوار وتوترات داخلية شهدتها السنوات التي سبقت رئاسته، فإن البلاد بحاجة خلال عهد الرئيس الجديد إلى البناء على ما أرساه يوديونو والانتقال إلى مرحلة تكون الأولويات الدبلوماسية فيها أكثر وضوحًا وتركيزًا على مناطق وقضايا محددة، مع فتح المجال لمختلف هيئات الدولة والمجتمع للإسهام في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، وهنا يمكن أن نشير إلى بعض التحديات التي تواجه السياسة الخارجية الإندونيسية:

أولاً: بحر الصين الجنوبي: تريد جاكرتا إنهاء التوتر وتعزيز فرص التعايش في بحر الصين الجنوبي والحيلولة دون وقوع أي صراع فيه وسيظل هذا الملف الأسخن إقليميًا بالنسبة لجاكرتا، وحاولت أن تحث الأطراف المتصارعة على توقيع وثيقة إقليمية مشتركة يحتكمون إليها كإطار يوصلهم إلى حل النزاع بينهم، ومن اللافت أن كلاً من الولايات المتحدة والصين تجدان في إندونيسيا طرفًا وسيطًا، فإندونيسيا وبروناي تتميزان بعدم سيطرتهما على أي من الجزر المتنازع عليها(14)، مقابل قيام الصين وتايوان وماليزيا والفلبين وفيتنام بالسيطرة على عشرات الجزر ذات الموقع الاستراتيجي والمطلة على مياه غنية بالنفط والغاز(15).

ثانيًا: تحديات تتجاوز المحيط الإقليمي لآسيان: تسعى إندونيسيا لأن تجعل من آسيان -بعد عام 2015 من حيث التقارب الاقتصادي المرتقب- لاعبًا رئيسيًا ومهمًا على الساحة الدولية في قضايا الأمن والطاقة والمناخ والتنمية الاقتصادية، وتتحدث الخارجية الإندونيسية عن وضع خارطة طريق مشتركة لدول آسيان، ولكن هل هذا ممكن قبل أن تحل الخلافات بين دول آسيان؟ فقد واجهت إندونيسيا صعوبات كثيرة في تحريك دول آسيان نحو تحقيق الكثير من الأهداف والمقترحات التي طرحتها -لاسيما بعد توسع آسيان وضمها عشر دول- في مجال التكامل الاقتصادي والديمقراطية وحقوق الإنسان وتوحيد الموقف تجاه بحر الصين الجنوبي، هذا لا ينفي تحقق الكثير مما طمحت إليه جاكرتا من خلال آسيان، وما زالت تسعى لأن تجعل من آسيان لاعبًا فاعلاً في تشكيل البنية الأمنية الإقليمية وأن تتحقق حالة من التضامن السياسي والعلاقات الاستراتيجية بين الأعضاء، لكن جاكرتا طالما بدت أكثر طموحًا من دول جوارها؛ فالحسابات الذاتية لكل دولة من دول آسيان تظل مقدمة في عرف كل دولة على أية تفاهمات إقليمية؛ وهذا ما يطرح تساؤلات أمام الدبلوماسيين الإندونيسيين حول ضرورة الاهتمام بدول ما وراء آسيان في العقود القادمة(16).

ففيما وراء آسيان تحتاج إندونيسيا إلى تقوية علاقاتها مع دول منتدى جزر المحيط الهادي لأهداف اقتصادية وأمنية حفاظًا على إبعاد هذه الدول عن دعم أي توجه انفصالي في شرق إندونيسيا، وفيما وراء آسيان أيضًا تعقيدات دولية آخذة بالتشكل سريعًا؛ حيث تشهد المنطقة صعودًا هنديًا وكوريًا جنوبيًا واضحًا، وتقلبًا في موقف أستراليا من إندونيسيا، وإذا ما نعمت إندونيسيا خلال العقد القادم بنمو اقتصادي ووضع داخلي مستقر وإذا ما أَوْلت قيادتها اهتمامًا خاصًا بالتنمية والسياسة الخارجية ولم تشغلها الإشكالات الداخلية عن السير بها خطوات جريئة، فإنها يمكن أن تحقق حلم القوة الصاعدة، وسيستدعي هذا من جاكرتا "تنويع" مسارات سياستها الخارجية فلا تظل متركزة على دول رابطة آسيان وحدها رغم أنها تظل تجمع دول الجوار الأقرب والأهم في نظر أي سياسي ودبلوماسي. ومع ذلك فلجاكرتا أن توسع أفقها الدبلوماسي فتنطلق وحسب خطة أو استراتيجية "تجديدية" نحو دول العالم العربي وتركيا ودول آسيا الوسطى وبعض دول إفريقيا وأميركا اللاتينية للوصول إلى شراكات متعددة تصب في صالح نهضتها الاقتصادية المنشودة خلال العقدين المقبلين، وتسهم في تحقيق ما يدور في أدبيات دبلوماسيتها عن القيم الإنسانية وحقوق الإنسان والتحول الديمقراطي.
____________________________________
صهيب جاسم - باحث متخصص في شؤون جنوب شرق آسيا

المصادر والهوامش
1- يتم احتساب عدد السفن من خلال منظومة إقليمية مشتركة تسجل فيها السفن العابرة بياناتها عند العبور ومقرها في سنغافورة، والإحصائية نقلاً عن سلطة البحار الماليزية
إضغط هنا 
2- انظر:
Donald Rumsfeld, “Strategic Imperatives in East Asia”, speech to The Heritage Foundation, , March 3 1998.
3- انظر: موقع إدارة معلومات الطاقة الأميركي
http://www.eia.gov/countries/regions-topics.cfm?fips=wotc&trk=p3
4-  انظر:
Drs.Mohammad Hatta, Mendajung Antara Dua Karang, Di Muka B.P.K.N, di Djokja, pada tahun 1948, Kementerian penerangan, Republik Indonesia.
5- في حوار أخير مع صحيفة جاكرتا بوست في 19 مارس/آذار 2014 تحدث المفكر الأميركي نعوم تشومسكي عن المساعي التي جرت من خلال رابطة آسيان إلى ترسيخ عرى تكتل آسيوي بدون الصين، مشيرًا إلى أن هذه المحاولات وُوجهت بعرقلة من الجانب الأميركي، كالمحاولات اليابانية-الآسيانية لتأسيس بنك آسيوي يحل محل ما يقوم به البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وقال بأنه ليس مستحيلاً أن تكون جنوب شرق آسيا كتلة مستقلة عن الصين وكذا الولايات المتحدة، وحذّر من أن تكون دول آسيان مجرد جزء من حزام احتواء عسكري بارز حول الصين من خلال قواعد عسكرية أميركية تمتد من اليابان وكوريا إلى حضور شبه دائم وتدريبات في الفلبين وتايلاند وأستراليا وغيرها.
6- انظر:
 Mohammad Hatta, Indonesia between the pwer blocs, Forein Affairs Journal, April 1958.
7- انظر كتاب دانيال نوفوتي الذي يتحدث عن حالة التباين في رؤى النخبة السياسية الإندونيسية بشأن التعامل مع القطبين: الصين والولايات المتحدة
 Daniel Novoty, Torn Between America and China, 2010, ISEAS, Singapore, p60, P 229.
8- في مقال لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي كتبه قبيل زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الأخيرة إلى دول شرق آسيا، تحدث فيه عن عهد جديد في السياسة الخارجية اليابانية قائلاً بأن اليابان لم تعد تعتبر ذاتها "البلد الواقع في الشرق الأقصى بل إننا نتوسط المحيط الهادي ونجاور دولاً هي مناطق نمو مهمة تمتد من جنوب شرق آسيا إلى الهند".
Shinzo Abe, the second opening of Japan, 22/4/2014:
http://www.japantimes.co.jp/opinion/2014/04/22/commentary/japan-commentary/second-opening-japan/#.U29f5GCKC00
9- قال وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل في منتدى شانغريلا السنوي لوزراء الدفاع في منطقة آسيا والمحيط الهادي عن إندونيسيا: "إن الولايات المتحدة وإندونيسيا... تبنيان معًا أساليب جديدة من التعاون الذي يمثل تصورًا مشتركًا لمنطقة تنعم بالأمن والرفاهية، فإندونيسيا كبلد كبير ومتنوع وديمقراطي تؤدي دورًا رياديًا في الإسهام في قيادة هذه المنطقة".
http://www.iiss.org/en/events/shangri%20la%20dialogue/archive/shangri-la-dialogue-2013-c890/first-plenary-session-ee9e/chuck-hagel-862d
10- دعا وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل نظراءه من وزراء دفاع دول جنوب شرق آسيا إلى اجتماع هو الأول من نوعه على الأراضي الأميركية في الخامس من إبريل/نيسان 2014 الماضي، ووصف الاجتماع بأنه نقطة تحول في الاهتمام الأميركي بشؤون دول وبحار جنوب شرق آسيا، فعادة ما كانت تجري الاجتماعات المماثلة في عواصم آسيوية.
11- انظر تقرير الدفاع الأميركي:
The US Quadrennial Defense Review, issued on the 5th of March 2014, P 4,12,16,23,30,34.
http://www.defense.gov/home/features/2014/0314_sdr/qdr.aspx
or:
http://www.defense.gov/pubs/2014_Quadrennial_Defense_Review.pdf
12- صدر التقرير مطلع شهر مايو/أيار 2014، يمكن الاطلاع على ملخصه في هذا الرابط:
http://www.amcham.or.id/nf/features/4563-world-bank-indonesia-world-s-10th-largest-economy
13- يشكّل 45 مليون نسمة من سكان إندونيسيا الطبقة المتوسطة المستهلكة، وينتج 53% من سكانها 74% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن بين الإندونيسيين 55 مليونًا من المتعلمين والموظفين والعمال المهرة، وإن استقرت الأوضاع الاقتصادية والسياسية وكان لإندونيسيا زعامات قادرة على تحقيق نهضة حقيقية خلال العقدين القادمين فإن لإندونيسيا أن تصبح سابع أكبر اقتصاد في العالم، هذا إذا كان من سكانها 135 مليون نسمة من الطبقة المتوسطة ومن هؤلاء 113 مليون نسمة من المتعلمين والموظفين والعمال المهرة
The archipelago Economy: Unlashing Indonesia’s Potential, Report by : Mckinsey Global Institute, September 2012.
14- صحيفة كومباس، 1 أغسطس/آب 2010:
Rakaryan Sukarajaputra, Laut cina selatan Dan Kecemasan AS, Kompas newspaper, 1/8/2010.
15- شهد شهر مارس/آذار 2014 جدلاً حول بعض التصريحات الإندونيسية الصادرة التي بدت وكأنها تتوافق مع الموقفين: الفلبيني والفيتنامي؛ فقد تحدث مسؤول في وزارة تنسيق الشؤون الأمنية والسياسية والقضائية الإندونيسية عن أن بلاده ترفض خارطة صينية لبحر الصين الجنوبي ضمت إليها جزرًا في مناطق قريبة من دول جنوب شرق آسيا ومنها جزر ناتونا الإندونيسية.
16- انظر: Donald E.Weather, Indonesia in ASEAN, ISEAS, 2013, pp 64-83.

نبذة عن الكاتب