حصار العمل الأهلي في مصر: خنق المجال العام

لا يمكن النظر إلى قانون الجمعيات الأهلية الذي أصدره مجلس النواب المصري في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ويفرض قيودًا غير مسبوقة على نشاط المجتمع المدني، بمعزل عن المناخ السياسي السلطوي الذي تعيشه مصر حاليًّا.
be46c56f113940c5842d357d84831ce7_18.jpg
البعض وصف القانون الجديد للمنظمات الأهلية والذي أصدره البرلمان المصري بأنه قانون تأميم العمل الأهلي في مصر (أسوشيتد برس-أرشيف)

تتناول هذه الورقة واقع الحريات في مصر في الذكرى السادسة لثورة 25 يناير/كانون الثاني التي كان مطلب الحرية على رأس أهدافها. وترصد محاولات السلطة الحالية خنق ومحاصرة المجال العام عبر سلسلة من الإجراءات والقوانين التي تعيد إنتاج السلطوية بدرجة أكبر قمعًا. وفي هذا الإطار، تسلِّط الورقة الضوء على ما تتعرض له منظمات المجتمع المدني من تضييق وحصار غير مسبوق لاسيما عقب صدور قانون جديد لتنظيم العمل الأهلي يتضمن قيودًا غير مسبوقة على نشاط وعمل المنظمات الأهلية ويجعلها والعاملين فيها عرضة للملاحقة والسجن. وتستعرض الورقة نصوص هذا القانون، التي تعكس النظرة الأمنية من قبل السلطات في مصر، لعمل هذه المنظمات، كما تستعرض ردود الفعل عليه من قبل الأوساط الحقوقية والسياسية داخليًّا وخارجيًّا، وتتطرق إلى المبررات التي ساقتها السلطة لإصدار هذا القانون الذي يوصف بأنه جاء لـ"تأميم العمل الأهلي". وتخلص الورقة إلى أنه لا يمكن النظر لما تتعرض له منظمات المجتمع المدني من تضييق بمعزل عن السياق السياسي العام الذي تعيشه مصر حاليًّا ورغبة السلطة في غلق المجال العام والهيمنة على كل مؤسسات الدولة والمجتمع وإخضاعها بشكل كامل. 

مقدمة 

كان أحد أهم مكتسبات ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، بعد إسقاطها لنظام مبارك هو تحرير المجال العام الذي ظل مغلقًا وشبه مؤمَّم من قِبل السلطة في مصر لعقود طويلة. وقد أنعش فتح المجال العام، خلال الفترة القصيرة التي أعقبت رحيل مبارك وحتى 3 يوليو/تموز 2013، الآمال في عودة الحياة للعمل السياسي القاحل، وهو ما شجَّع الكثيرين بالفعل على الانخراط مجددًا في العمل العام بعد سنوات عجاف من العزوف والتصحر السياسي والملاحقة والتضييق الأمنيين. إلا أن المكتسب سرعان ما أُجهض نتيجة لحال التعثر والتخبط السياسي وحالة الاستقطاب والانقسام الحادة بين القوى التي شاركت في الثورة، وصولًا إلى مشهد 3 يوليو/تموز 2013 وإطاحة الجيش بالرئيس السابق محمد مرسي، لتبدأ دورة جديدة من إعادة إنتاج السلطوية القديمة بصورة ربما أشد قمعًا، وما ترتب على ذلك من إغلاق لهذا الهامش من الحريات الذي فتحته ثوره يناير/كانون الثاني أمام المصريين. 

وفي الذكرى السادسة لهذه الثورة، تبدو مصر أبعد ما تكون عن الأهداف التي خرج المصريون من أجلها, لاسيما على صعيد الحريات وفتح المجال العام أمام المواطنين للمشاركة في صياغة مستقبل وطنهم، خصوصًا في ظل مشهد سياسي تشكِّل النزعة السلطوية لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي وسعيه للسيطرة على المجال العام، أحد ملامحه الأساسية. ففي إطار محاولاتها لإخماد مظاهر الاحتجاج في الشارع المصري التي خلَّفتها ثورة يناير/كانون الثاني، وحملة الملاحقة الشعواء بحق جماعة الإخوان وأنصارها، لاسيما عقب فض اعتصامات رابعة والنهضة، سعت السلطة، لإحكام قبضتها على الأوضاع والسيطرة على المجال العام عبر أكثر من مسار: الأول: مسار أمني عبر استخدام القبضة الأمنية المباشرة، وحملة الاعتقالات بحق الخصوم والمعارضين السياسيين، أما المسار الثاني فقانوني وتم من خلاله إصدار سلسلة القوانين والتشريعات التي وفرت للنظام الغطاء القانوني لإجراءاته القمعية، ومن بينها قانون التظاهر الذي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، وتمت بموجبه محاكمة آلاف الشباب والنشطاء المعارضين والزج بهم في السجون، وكذلك قانون الكيانات الإرهابية الذي وضع مئات الأشخاص والكيانات والمؤسسات تحت طائلة المساءلة والمحاكمة بتهمة الإرهاب. وبموازاة ذلك صدرت عدَّة قوانين أخرى بهدف هندسة المشهد السياسي وفق حسابات السُّلطة، مثل قانون الانتخابات البرلمانية الذي صاغته السلطة بما يضمن لها إنتاج برلمان تابع للنظام، وقانون تنظيم الإعلام الذي يمنح السلطة التنفيذية الكلمة العليا في تشكيل المجالس والكيانات المنظِّمة للعمل الإعلامي، أضف إلى ذلك قانون تعيين رؤساء الأجهزة الرقابية الذي أصدره السيسي في غيبة البرلمان، ويعطي رئيس الجمهورية حقَّ تعيين رؤساء هذه الأجهزة وعزلهم؛ الأمر الذي اعتبره كثيرون مساسًا باستقلالية عمل هذه الأجهزة. 

وفي ضوء ذلك، يبدو المشهد السياسي الراهن في مصر أكثر قمعًا مما كان عليه حتى في ظل نظام مبارك. فرغم أن التضييق على العمل العام كان دائمًا أحد توجهات السلطة الحاكمة خلال العقود الماضية، إلا أن كثيرين يرون أن المحنة التي يتعرض لها المجال العام والمجتمع المدني عمومًا، أشد وطأة من ذي قبل. وتُظهر حملة التضييق والمحاصرة لمؤسسات المجتمع المدني أن الأمر بات يتجاوز استهداف الجمعيات الحقوقية، التي لعبت دورًا أساسيًّا في توثيق وكشف انتهاكات حقوق الإنسان، إلى سحق النشاط الأهلي بمختلف أشكاله، ليس فقط عبر حملات التشويه والتخوين التي تشنُّها الآلة الإعلامية الموالية للنظام ضد كل المنتمين لهذه الجمعيات والتشكيك في نشاطاتها، لكن عبر مزيد من القيود القانونية والبيروقراطية التي تجعل عمل المنظمات الأهلية في مصر شبه مستحيل. وفي هذا السياق، جاء صدور قانون تنظيم الجمعيات الأهلية الذي أقرَّه مجلس النواب في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بعد أن جرى إعداده بشكل سري من قِبل نواب موالين للسلطة، وبدون نقاش أو حوار مع ممثلي المجتمع المدني أو حتى مع الجهات الحكومية المعنية ممثَّلة في وزارة التضامن، وهو قانون يصفه كثير من السياسيين والحقوقيين بأنه "قانون تأميم العمل الأهلي، بالنظر إلى القيود المشددة والعقوبات غير المسبوقة التي يفرضها على نشاط منظمات المجتمع المدني". 

المجتمع المدني: تنظيم أم تأميم؟ 

يتكون القانون الجديد من 89 مادة تحدد آليات عمل وسبل تمويل الجمعيات الأهلية، وكذلك العقوبات ضد من يتجاوز هذا القانون سواء في النشاط أو في تلقي التمويلات من الخارج. ورغم أن الدستور الحالي ينص في مادته رقم 76 على حق المواطنين "في تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي، وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار وتمارس نشاطها بحرية ولا يجوز للجهات الإدارية التدخل في شؤونها"(1)، فإن القانون الجديد يفرِّغ هذه المادة عمليًّا من مضمونها، حيث يفرض قيودًا مشدَّدة سواء من حيث إجراءات التأسيس أو طريقة ونوع الأنشطة التي تمارسها هذه المنظمات، أو التمويل وغيرها، بما يضعها من الناحية الفعلية تحت سيطرة الأجهزة الأمنية والحكومية؛ إذ تنص المادة 21 من القانون على أنه "لا يجوز للجمعية فتح مقرات أو مكاتب تابعة لها في محافظات الجمهورية إلا بعد موافقة كتابية مسبقة من الوزير المختص، بينما تشترط المادة 23 لجمع التبرعات للجمعيات الأهلية، ضرورة إخطار الجهة الإدارية المنوطة، وهي وزارة التضامن الاجتماعي قبل تلقِّي التبرعات أو جمعها داخل مصر بثلاثين يومًا، وصدور الموافقة اللازمة لذلك، ولا يجوز صرف الأموال إلا بعد صدور الموافقة. ويتضمن القانون عقوبات مشددة تصل للحبس لمدة خمس سنوات وغرامة مالية تصل إلى مليون جنيه بحق من يقوم بجمع تبرعات بدون تصريح مسبق. كما يعاقب بالحبس والغرامة ذاتها كل من عاون أو شارك منظمة أجنبية في ممارسة نشاط أهلي في مصر بدون تصريح، أو من شارك في إجراء استطلاع رأي أو بحوث ميدانية في مجال العمل الأهلي دون موافقة مسبقة. ويُلزم القانون جميع الجمعيات والمنظمات الأهلية بتعديل أوضاعها وفقًا لأحكامه خلال ستة أشهر من تاريخ العمل به، وإلا قُضي بحلها. 

وفقًا لهذا القانون، تلتزم الجمعيات الأهلية بالعمل "وفقًا لخطة الدولة واحتياجاتها التنموية"، وهو الشرط الذي اعتبرته الأوساط السياسية والحقوقية عودة صريحة لقانون الجمعيات الأهلية رقم 32 لسنة 1964 والذي أُطلق عليه قانون تأميم العمل الأهلي(2). كما يحظر القانون على الجمعيات الأهلية، العمل في الأنشطة التي تدخل في نطاق عمل الأحزاب أو النقابات المهنية أو العمالية، أو أي نشاط ذي طابع سياسي، وكذلك الأنشطة التي ترى السلطة أنها قد تؤدي إلى "الإخلال بالوحدة الوطنية أو الأمن القومي أو النظام العام أو الآداب العامة"، وكلها تعبيرات فضفاضة الغرض منها، كما يذهب كثيرون، السيطرة الحكومية على العمل الأهلي. 

مسألة التمويل 

دائمًا ما كانت مسألة التمويل الأجنبي إحدى أهم الإشكاليات في العلاقة بين السلطة والمجتمع المدني في مصر، إلا أن هذه الإشكالية تحولت إلى أزمة ثقة عنيفة في ظل نظام ما بعد 3 يوليو/تموز، مع تصاعد الشكوك والاتهامات ضد المنظمات غير الحكومية وأنشطتها وأجندتها؛ والتعامل معها باعتبارها خطرًا أمنيًّا وتهديدًا للأمن القومي للبلاد. وقد انعكست هذه النظرة الأمنية على رُوح ونصوص القانون الجديد وما تضمنته من قيود صارمة فيما يخص مسألة التمويل الأجنبي وحتى المحلي(3). وفي هذا الإطار، استحدث القانون ما يسمَّى "الجهاز القومي لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية" والذي سيختص بالموافقة على التبرعات أو التمويلات الأجنبية، وعمل المنظمات الأجنبية في مصر، والتصريح بالحصول على أموال أو تمويلات من الخارج، والتأكد من إنفاق أموال الجمعيات في الأغراض المخصصة لها، وكذلك تلقي طلبات التمويل المحلي. وينص القانون على أن يُصدر رئيس الجمهورية قرارًا بتشكيل هذا الجهاز، الذي سيضم ممثلين لوزارات الخارجية والدفاع والعدل والداخلية والوزارة المختصة، فضلًا عن ممثلين عن المخابرات العامة والبنك المركزي وهيئة الرقابة الإدارية. وتشترط المادة 24 من القانون موافقة هذا الجهاز على التمويلات الأجنبية خلال ستين يوم عمل على طلب التمويل، وفي حال عدم الرد على الطلب فإن ذلك يعتبر بمثابة عدم موافقة. 

انتقادات واسعة 

وبالنظر لهذه القيود المشددة التي تضمنها القانون فقد قوبل بعاصفة من الانتقادات من جانب الأوساط الحقوقية والسياسية، سواء في الداخل أو الخارج. فعلى المستوى الداخلي اعتبره كثيرون من الحقوقيين والسياسيين تعزيزًا للسياسات القمعية وإعادة إنتاج السلطوية وتمكينها من القضاء الفعلي على حرية التنظيم التي يكفلها الدستور وإغلاق الفضاء العام وإهدار الحريات العامة(4). وقد وقَّع أكثر من 22 منظمة حقوقية وعدد من الأحزاب السياسية بيانًا حذروا فيه من أن القانون يقضي فعليًّا على المجتمع المدني ككل. أما على الصعيد الخارجي، فقد وصف وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، توباياس إلوود، القانون بأنه "خطوة إلى الوراء" ويُبعد مصر أكثر من أي وقت مضى عن تطبيق حريات المجتمع المدني، بينما حذَّر ماينا كياي، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، من أن القانون يدمر المجتمع المدني في مصر "سيحوِّله إلى ألعوبة في يد الحكومة". وفي حين اعتبرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" أن القانون يحظر عمليًّا نشاط منظمات المجتمع المدني المستقلة(5)، حثت منظمة العفو الدولية الرئيس السيسي على عدم التصديق على القانون الذي وصفته بأنه "الأكثر قمعًا" بحق الجمعيات الأهلية والحقوقية(6). 

وفي مقابل هذه الانتقادات، تؤكد السلطة أن الهدف من هذا القانون ليس تقييد نشاط المنظمات الأهلية بل تنظيم هذا النشاط ووضع حدٍّ لما تعتبره "الطابع العشوائي لعمل هذه الجمعيات"(7). ووفقًا لهذا الرأي، فإن القانون كان ضرورة لحماية الأمن القومي المصري "خاصة بعد أن أصبحت الجمعيات الأهلية وسيلة تتخذها بعض الدول في حروب الجيل الرابع التي تستهدف إشاعة الفوضى"، كما قال عبد الهادي القصبي، رئيس لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب الذي قدَّم مشروع القانون، والذي يرى أنه كان بهدف التصدي لملف تمويل منظمات المجتمع المدني من الخارج "بهدف النَّيْل من الدولة المصرية والتدخل في شؤونها"(8). 

التضييق على العمل الأهلي: الفقراء هم الضحية 

رغم أنهم لا يعلنون ذلك بشكل صريح، إلا أن تصريحات المسؤولين والنواب المدافعين عن القانون، توضح أن المستهدف الأول من وراء صدوره كان المنظمات الحقوقية، التي طالما شكَّلت صداعًا للنظام الحاكم، وخاضت معارك ومواجهات مع السلطة بسبب فضحها لانتهاكات حقوق الإنسان على يد الأجهزة الأمنية، والتي تصاعدت بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة. وقد كانت هذه المنظمات، ولا تزال، هدفًا لحملة شرسة من التشويه والملاحقة القانونية والأمنية بسبب نشاطاتها. إلا أن القيود المشددة التي يفرضها القانون الجديد لا يقتصر تأثيرها على عمل المنظمات الحقوقية فحسب، وإنما ستكون لها تداعياتها السلبية على مجمل النشاط الأهلي في مصر، سواء الحقوقي أو النشاط الخدمي والخيري الذي تقوم به الجمعيات العاملة في مجال التنمية والخدمات الاجتماعية، والتي تقدِّم مساعدات وإعانات لملايين الفقراء ومحدودي الدخل من المواطنين. ويأتي ذلك وفي وقت يبدو المجتمع في مسيس الحاجة دور هذه الجمعيات خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تمر بها البلاد حاليًّا. فالقانون الجديد لا يضع قيودًا على التمويل الأجنبي فحسب، بل يضع للمرة الأولى في تاريخ تشريعات الجمعيات الأهلية، قيودًا على تلقِّي التبرعات المحلية من المواطنين؛ إذ تنص المادة 33 من القانون على عقوبة بالسجن لمدة تصل لخمس سنوات على من يتلقى تمويلًا محليًّا من متبرعين مصريين دون موافقة مسبقة، وهو ما يعتبره البعض قيدًا مشددًا على كل الأنشطة الخيرية والتطوعية، فضلًا عن أنه ينشر الخوف في قلوب كل من يفكر في التبرع لهذه الجمعيات من المواطنين لأنه قد يجد نفسه في دائرة الاتهام وفق بنود هذا القانون. كذلك ينص القانون في مادته رقم 15 على إخضاع جميع أعضاء مجالس إدارات الجمعيات الأهلية لقانون الكسب غير المشروع وهو أمر يتنافى مع الطبيعة التطوعية للعمل الأهلي والخيري. ومن شأن هذه القيود أن تؤثِّر على نشاط نحو 48 ألف جمعية ومنظمة أهلية يعمل معظمها في مجال توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية للمواطنين في صورة إعانات شهرية أو تحمُّل نفقات المدارس والعلاج والزواج وغيرها. وتظهر أهمية هذه الخدمات بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية والمعيشية الطاحنة التي تمر بها مصر، والتي ألقت بظلالها بالفعل على حجم نشاط هذه الجمعيات وفقًا لوزيرة التضامن الاجتماعي، غادة والي، التي أعلنت أن نصف عدد المنظمات الأهلية العاملة حاليًّا في مصر إما متوقف عن النشاط أو أنه يعاني من ضعف أنشطته بسبب الظروف الاقتصادية(9). 

ومنذ الإطاحة بالرئيس السابق، محمد مرسي، جمَّدت السلطة أموال أكثر من ألف جمعية أهلية بدعوى أنها تابعة لجماعة الإخوان المسلمين التي صنَّفتها السُّلطة جماعة إرهابية، وكان معظم هذه الجمعيات يعمل في تقديم الخدمات والرعاية الاجتماعية لملايين الفقراء. وعلى عكس ما كان منتظرًا من السلطة: أن تعمل على توفير المناخ المحفِّز لتعزيز دور الجمعيات الأهلية الاجتماعي والتنموي، ومساهمتها في تخفيف التأثيرات المؤلمة للقرارات والإجراءات الاقتصادية الأخيرة، فإن القيود التي يضعها القانون الأخير من شأنها أن تفاقم من الصعوبات التي تواجه القطاعات الفقيرة والمهمشة في المجتمع، والتي تُقدَّر بأكثر من ربع السكان؛ فوفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو جهة رسمية، بلغت نسبة الفقر في مصر في عام 2016 نحو 27.8 في المئة، وهي النسبة الأعلى منذ عام 2000. وتعتبر محافظات الصعيد، وخصوصًا أسيوط وسوهاج، أكثر مناطق البلاد فقرًا؛ حيث تصل نسبة الفقر في المحافظتين لنحو 66 في المئة من السكان. وبينما تبلغ نسبة الفقر في ريف الوجه القبلي والصعيد نحو 57 في المئة، فإنها تصل إلى 19.7 في المئة في ريف الوجه البحري(10). وتبدو هذه النسبة من الفقراء مرشَّحة للارتفاع في ضوء القرارات الاقتصادية الأخيرة والتي شملت تخفيض قيمة العملة الوطنية، ورفع الأسعار والضرائب على السلع والخدمات، وما ترتَّب عليه من ارتفاع غير مسبوق في الأسعار ومعدلات التضخم، ومن ثم في تكاليف المعيشة مع ثبات الأجور والرواتب. 

وقد دفعت هذه المعطيات البعض إلى اعتبار القانون تهديدًا للأمن القومي المصري وللسلام الاجتماعي في مصر. بل إن ذلك ربما يفسِّر حالة الغموض بشأن مصير القانون؛ إذ لا يُعرَف على وجه الدقة ما إذا كان رئيس الجمهورية قد صادق على هذا القانون أم لا، كشرط لدخوله حيز التطبيق. ووفقًا للمادة 123 من الدستور الحالي فإن أمام رئيس الجمهورية مدة ثلاثين يومًا من تاريخ صدور القانون، للتصديق عليه أو إعادته مرة أخرى لمجلس النواب لإدخال بعض التعديلات. ورغم مضي هذه المدة، الا أن القانون لم يُنشَر في الجريدة الرسمية، وفي الوقت نفسه لم يُبدِ رئيس الجمهورية اعتراضًا عليه، أو يعيده إلى مجلس النواب. ومما يزيد الغموض حول مصير القانون أنه لا يُعرَف إن كان قد أُرسِل لرئيس الجمهورية أصلًا أم لا، خصوصًا أن المادة المشار إليها من الدستور تقضي بأنه في حال لم يُعد الرئيس القانون للبرلمان خلال هذه المدة، فإن ذلك يعتبر عدم ممانعة منه ويعتبر قانونًا ويصدر(11). 

خنق المجال العام 

إلى جانب التأثيرات الاجتماعية الفادحة التي يمكن أن يُحدثها على مجمل النشاط الأهلي والخيري في المجتمع المصري، فإنه لا يمكن النظر إلى صدور هذا القانون وما يفرضه من قيود مشددة بمعزل عن السياق السياسي العام الذي تعيشه مصر حاليًّا، ومساعي النظام لإعادة إنتاج السلطوية الحاكمة، وبدرجة أشد قمعًا مما كانت عليه قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني؛ إذ تواصل السلطة، وتحت ذرائع شتى، كالحرب على ما يسمَّى الإرهاب أو حماية مؤسسات الدولة من خطر التفكك وغير ذلك من حُجج، عمليةَ خنق وحصار المجال العام، والعمل على إسكات أي صوت معارض. كما تستغل الظروف الأمنية ولاسيما ما يحدث في سيناء من تصاعد لخطر الجماعات المسلحة، لإسكات أي صوت معارض، واستكمال تأميم الحياة السياسية، والسيطرة على الصحافة والإعلام بأساليب مباشرة أو غير مباشرة، وتجفيف مختلف مصادر الاحتجاج والمعارضة. ويأتي استهداف ومحاصرة نشاط المجتمع الأهلي كجزء من هذه الإجراءات الرامية، كما يرى كثيرون، إلى إخضاع مؤسسات الدولة والمجتمع لإرادة السلطة الحاكمة. لكن خطورة ما يجري حاليًّا من تأميم للمجال العام وحصار لكل مؤسسات المجتمع ومحاولة وضعها تحت هيمنة السلطة التنفيذية، يُلحق ضررًا فادحًا بفكرة ومعنى دولة المؤسسات والقانون، ويبدِّد الآمال في قيام دولة مؤسسات حقيقية، ويقطع الطريق على أية فرصة للتحول الديمقراطي الحقيقي، ويعيد البلاد لحقبة أكثر حدَّة من السلطوية السياسية التي ظنَّ كثير من المصريين أنهم قد تجاوزوها بعد ثورة يناير/كانون الثاني. لكن محاولة السلطة فرض هيمنتها على كل مقدرات البلاد السياسية، لا تقود فقط إلى تغييب الديمقراطية، ولكن أيضًا تغييب الحكم الرشيد، الذي يقوم كما يرى خبراء العلوم السياسية، على جملة من القيم، في مقدمتها: الشفافية والمساءلة ومشاركة المواطنين في الشأن العام(12). 

خاتمة 

يمثِّل الحق في تشكيل منظمات المجتمع المدني وحرية الانضمام إليها وقدرتها على ممارسة نشاطها بحرية ودون تدخل في شؤونها، أحد الحقوق المدنية الأساسية في كل الدول والمجتمعات الحديثة والمتقدمة، كما أنه يعتبر أحد الشروط اللازمة لبناء أي نظام ديمقراطي، بما يمنحه للأفراد من حرية تنظيم أنفسهم والتعبير عن آرائهم. وإلى جانب الأهمية التي يمثِّلها وجود مجتمع مدني قوي في أية دولة حديثة، فإن منظمات المجتمع المدني تلعب دورًا مهمًّا في تكريس الحكم الرشيد وتعزيز قيم المشاركة والشفافية والمحاسبة والرقابة، وكلها شروط لازمة لإقامة نظام ديمقراطي. ولا يقتصر دور المجتمع المدني على تعزيز ودعم الحريات والحقوق السياسية بل يلعب دورًا تنمويًّا واقتصاديًّا لا يقل أهمية وتأثيرًا من خلال مساعدة الحكومات في تعزيز قيم العدالة الاجتماعية، والوصول إلى الفئات الضعيفة والمهمشة في المجتمع، كالفقراء والمرأة. 

ورغم أن من حق كل دولة أن تضع القوانين والتشريعات اللازمة لتنظيم وضبط عمل أنشطة منظمات المجتمع المدني لديها، سواء كانت وطنية أو أجنبية، إلا أن ثمة فارقًا جوهريًّا بين تنظيم هذا النشاط وبين منعه وحظره عبر القيود المشددة التي تفرضها هذه القوانين على غرار ما حدث مع القانون المشار إليه. في ضوء ذلك، تبدو المخاوف بشأن مستقبل منظمات المجتمع المدني في مصر مشروعة للغاية، ليس فقط بالنظر للمناخ السلطوي الحالي، ولكن في ظل غياب رؤية واضحة لدى السلطة الحاكمة بشأن أهمية الدور التنموي الذي يلعبه المجتمع المدني في أية دولة. فمنظمات المجتمع المدني هي أحد الوسائط الأساسية بين الفرد والدولة، ومن خلال تعزيز دورها تتعزز الممارسة الديمقراطية. فوجود مجتمع مدني قوي ومستقل -كما يُجمع خبراء السياسة- شرط لازم لقيام مجتمع ديمقراطي؛ إذ إن المجتمع المدني -فضلاً عن دوره الاجتماعي المهم في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد- هو الجهة الأكثر قدرة على الرقابة والمساءلة للنظام السياسي. 

في ضوء ما سبق، يمكن القول: إن التضييق الذي تتعرض له منظمات المجتمع المدني في مصر، يأتي ضمن سياق أوسع لإحكام القبضة السلطوية على المجال العام عبر إعادة إنتاج ممارسات أشد قمعًا مما كان يحدث قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وذلك تحت وطأة الظروف الأمنية التي تواجه مصر وحالة عدم الاستقرار التي تضرب المنطقة، والتي يتم استغلالها من السُّلطة كذريعة لتبرير هذا التضييق؛ الأمر الذي يعمِّق المخاوف من أن البلاد تتجه نحو نظام سياسي أكثر تسلطية واستبدادًا من كل ما سبق.

________________________________

علي النعماني، باحث مصري

مراجع

(1) تنص المادة 76 من الدستور المصري لعام 2014 على أن "للمواطنين حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي، وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار، وتمارس نشاطها بحرية، ولا يجوز للجهات الإدارية التدخل في شئونها، أو حلها أو حل مجالس إداراتها أو مجالس أمنائها إلا بحكم قضائي. ويُحظر إنشاء أو استمرار جمعيات أو مؤسسات أهلية يكون نظامها أو نشاطها سريًّا أو ذا طابع عسكري أو شبه عسكري، وذلك كله على النحو الذى ينظِّمه القانون".

(2) أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني ترفض قانون الجمعيات الأهلية الجديد، موقع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 20 فبراير/شباط 2017): إضغط هنا.

(3) زياد بهاء الدين، ردَّة قانون الجمعيات الأهلية، صحيفة الشروق، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 30 ديسمبر/كانون الأول 2016):

http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=21112016&id=8ce9594e-4b64-4ffb-8f6f-ddbb5a32b725

(4) عمرو حمزاوي، قانون الجمعيات الأهلية.. ابتداع وحش حكومي جديد، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 2 ديسمبر/كانون الأول 2016، (تاريخ الدخول: 17 ديسمبر/كانون الأول 2016):

http://carnegie-mec.org/2016/12/02/ar-pub-66453

(5) في أول رد فعل حكومي دولي على قانون الجمعيات.. بريطانيا تعتبره خطوة للوزراء، موقع مدى مصر، 3 ديسمبر/كانون الأول 2016، (تاريخ الدخول: 23 ديسمبر/كانون الأول 2016): إضغط هنا.

(6) العفو الدولية تطالب بعدم التصديق على قانون الجمعيات الأهلية، موقع صحيفة العربي الجديد، 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2016):

https://www.alaraby.co.uk/society/2016/11/19/العفو-الدولية-تطالب-مصر-بعدم-تصديق-قانون-الجمعيات-الأهلية

(7) بعد إقراره من "النواب".. نرصد مصير منظمات المجتمع المدني، موقع مصراوي، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2016): إضغط هنا.

(8) تقييد المجتمع المدني: مشروع قانون جديد أمام البرلمان المصري، موقع صحيفة العربي الجديد، 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 23 ديسمبر/كانون الأول 2016):

https://www.alaraby.co.uk/politics/2016/11/12/تقييد-المجتمع-المدني-مشروع-قانون-جديد-أمام-البرلمان-المصري

(9) وزيرة التضامن الاجتماعي: نصف الجمعيات الأهلية في مصر متوقفة عن العمل، صحيفة الشروق، 10 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2017): http://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=10012017&id=f43d5a36-01cd-4389-9648-7685fffb9cd7

(10) الإحصاء: 27 في المائة من سكان مصر لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية...ونسبة الفقر هي الأعلى منذ عام 2000، صحيفة اليوم السابع، 26 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 29 يناير/كانون الثاني 2017): إضغط هنا.

(11) رغم موافقة الأغلبية.. "الجمعيات الأهلية" في درج رئيس "النواب"، موقع مدى مصر، 7 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2017): إضغط هنا.

(12) مصطفى كامل السيد، الحرب على المؤسسات، صحيفة الشروق، 8 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 3 فبراير/شباط 2017):

 http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=08012017&id=276078f3-12ff-47f5-966b-09ab59a6f0c6