إيران والسعودية: فشل الدبلوماسية والسعي لساحة مواجهة جديدة

لا تبدو "الحرب المباشرة" خيارًا مفضلًا أو مقصودًا لدى السعودية أو إيران، لكن وفي الوقت ذاته فإن الحلول السياسية بشأن الملفات الصراعية قد أصبحت بعيدة، وتحول دونها "دبلوماسية التهديد والتخويف". تناقش هذه الورقة تطورات أزمة العلاقات الإيرانية-السعودية، وما يمكن أن تؤول إليه مستقبلًا.
14 نوفمبر 2017
906b6dda4ab141cb8230b6772fe7cc6c_18.jpg
محتجون إيرانيون يحرقون مبنى السفارة السعودية في طهران (رويترز)

مقدمة 

في العلاقة بين إيران والمملكة العربية السعودية، لا تبدو "الحرب المباشرة" خيارًا مفضلًا أو مقصودًا لدى أي من الطرفين، لكن وفي الوقت ذاته فإن الحلول السياسية بشأن الملفات الصراعية قد أصبحت بعيدة، وتحول دونها "دبلوماسية التهديد والتخويف" التي يمارس كل طرف ضد الآخر، في وقت تتعاظم فيه أزمات الشرق الأوسط عمومًا، ومنطقة الخليج على وجه الخصوص، فيما لا تقف الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بعيدتين عن مجريات الصراع السعودي-الإيراني. وإن كانت الخيارات السياسية وأوراق الضغط وسيلة تستخدمها أطراف النزاع لنزع فتيل التهديد والحيلولة دون وقوع حرب أو مواجهة مسلحة، إلا أن هذه الخيارات تتضاءل في العلاقة السعودية-الإيرانية. 

ذهب متفائلون إلى توقع أن يقود الاتفاق النووي بين طهران ومجموعة 5+1، في صيف 2015، إلى فتح صفحة جديدة في العلاقة بين السعودية وإيران، تُنهي عددًا من ملفات الخلاف وتضبط إيقاع التنافس الإقليمي، لكن الحقيقة أن الاتفاق رتَّب مزيدًا من التفوق الإقليمي لإيران على حساب السعودية التي لم تفلح إلى اليوم في تعديل الخلل الذي أصاب ميزان القوى بين الدولتين وتعاظم عقب احتلال العراق في 2003، وبشكل مباشر وغير مباشر أسهم الاتفاق في توسيع رقعة الخلاف السعودي-الإيراني، وجعل السعودية تُقدِم على خطوة غير محسوبة تمثَّلت في "عاصفة الحزم" في اليمن أدت إلى نتائج مأساوية بالنسبة للشعب اليمني ومأزق سياسي وأمني وعسكري بالنسبة للسعودية. وفي عام 2016، وبعد الهجوم على سفارة وقنصلية المملكة العربية السعودية في طهران ومشهد، جاء قرار القطيعة الذي اتَّخَذ من الاعتداء على السفارة عنوانًا، لكنها في حقيقتها جاءت بعد أن فقدت السعودية زمام المبادرة في التنافس مع إيران في ملفات بالغة الخطورة والتعقيد في سوريا واليمن وغيرهما.

تبحث هذه الورقة في تطورات أزمة العلاقات السعودية-الإيرانية، وما يمكن أن تؤول إليه. 

ابن سلمان وترامب: تلاق بشأن إيران 

مؤخرًا، كانت السعودية على موعد من تغيير كبير في نظام الحكم تمثَّل في صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد على حساب منافسين في العائلة، ليلتقي في مواقفه وطروحاته بشأن إيران مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي أعلن مواقف معادية للاتفاق النووي وإيران منذ دخوله حلبة المنافسة في الانتخابات الرئاسية الأميركية. وبعد زيارته الأولى للسعودية، كان من الواضح أن هناك كثيرًا من المشترك الذي يجمع ابن سلمان وترامب، وفي مقدمة ذلك الطريقة التي يُقيِّمان بها الدور الإيراني في المنطقة وضرورة لجم توسع نفوذها الإقليمي. 

ولأول مرة بعد سنوات طويلة، تجد السعودية أن واشنطن تحمل موقفًا مشابهًا نحو إيران، بعد سنوات من الخلاف بشأن ذلك، طوال سنوات حكم الرئيس الأميركي،باراك أوباما، الذي كان يحمل تقييمًا مختلفًا لأبعاد المشكلة مع إيران، وقدَّم مقاربة مختلفة بصورة جذرية لطريقة التعامل معها، سواء في الملف النووي أو ملفات الصراع الإقليمية، وأوجدت سياسة أوباما تلك فجوة غير مسبوقة في العلاقات السعودية-الأميركية، يبدو أن ترامب يقوم بجسرها، على أساس الخلاف مع إيران. 

وعلى مدى عقود، فإن العلاقة شهدت الكثير من الأزمات والقليل من محطات الهدوء والتقارب، وكان النموذج السياسي ومقاربة الملفات الإقليمية والدولية والدور عناوين أساسية في الخلاف، الذي لم يبق بعيدًا عن البعد الطائفي، في مواجهة سنية-شيعية مكلفة، مما جعل دولة مثل باكستان تنأى بنفسها عن المشاركة في عاصفة الحزم؛ لأنها لا تريد السقوط بمأزق طائفي سيكلفها داخليًّا وخارجيًّا. 

صاروخ حوثي أم رسالة تحذير إيرانية؟ 

يوم السبت 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أطلق الحوثيون اليمنيون صاروخًا نحو الرياض جرى اعتراضه دون آثار مادية تُذكَر. لكن الآثار السياسية للصاروخ كانت متعددة، بعضها جاء على عكس ما تحب إيران، فهو وإن كان يحمل رسالة تهديد للرياض، إلا أنه شكَّل سببًا جيدًا للتركيز على "التهديد" الذي يُمثِّله برنامج التسلح الإيراني وخاصة ما يتعلق بـ"الصواريخ الباليستية"، وهو ما يسعى ترامب إلى تسويقه لدى الأوروبيين الذين كانت لهم مواقف مختلفة من تطبيق الاتفاق النووي جاءت على عكس هوى واشنطن، فالأوروبيون بالتأكيد لديهم موقف مغاير بشأن برنامج إيران الصاروخي لا يشابه مطلقًا الموقف من الاتفاق النووي. 

وجدت السعودية في الصاروخ الحوثي ضالتها، للحديث عن دور إيران العدائي، مستخدمة مفردات تتحدث عن "هجوم عسكري مباشر"، واستخدم ولي العهد ووزير الدفاع، محمد بن سلمان، مصطلح "الغزو العسكري"، وأن "تزويد إيران فصائل في اليمن بالصواريخ يعد عدوانًا عسكريًّا مباشرًا على بلاده قد يرقى إلى اعتباره من أعمال الحرب ضد المملكة". ونسبت وكالة الأنباء السعودية لابن سلمان قوله في محادثة هاتفية مع وزير الخارجية البريطاني: إن "ضلوع النظام الإيراني في تزويد الميليشيات الحوثية التابعة له بالصواريخ يُعدُّ عدوانًا عسكريًّا مباشرًا من قبل النظام الإيراني، وقد يرقى إلى اعتباره عملًا من أعمال الحرب ضد المملكة". 

(الجزيرة)

حاولت إيران سريعًا لملمة الآثار التي خلَّفها الصاروخ الحوثي؛ حيث رفض الجنرال أمير حاتمي، وزير الدفاع الإيراني اتهام إيران بالتورط في هذا الهجوم، متهمًا بعض دول المنطقة بأنها "لا تزال تواصل سياستها التي تستهدف أمن واستقرار المنطقة، وأنها وقعت في فخ المؤامرات الأميركية والإسرائيلية"، ووصل نفي الاتهام إلى الحرس الثوري؛ حيث أكد القائد العام للحرس الثوري، الجنرال محمد علي جعفري، أنه "لا توجد إمكانية لنقل صواريخ إلى اليمن". وقدَّم موقع تسنيم المقرب من الحرس رواية تقول: إن هذا الصاروخ منتج يمني، وذكر تقرير للموقع عنوانه "نصف الأراضي السعودية في مرمى الصواريخ اليمنية.. بركان H-2 يسجِّل 900 كيلومتر" أن اليمنيين بدؤوا بالعمل على المعدات والصناعات الدفاعية والتسليح ليتمكنوا عبر ذلك من الدفاع عن أنفسهم. وأضاف تقرير وكالة تسنيم أن "بركان H- 2" أحد هذه الصناعات والمنجزات؛ إذ يعتبر صاروخًا باليستيًّا يعمل بالوقود السائل وجزءًا من المنجزات الوطنية". ومع التسليم بأن الصاروخ كان حوثيًّا صُنع في اليمن، إلا أن المؤكد أن من صنعوه تلقوا مساعدة تكنولوجية من إيران. 

ومع سيل الاتهامات الموجهة إلى إيران، بالمسؤولية عن الصاروخ، وكذلك التدخل في المنطقة، وما قابله من سعي إيراني لنفي التهمة، يظهر أن هناك فريقًا يؤيد التصعيد، سواء في إيران أو السعودية، فبعد الهجوم عنونت صحيفة كيهان المقربة من المرشد موضوعها الرئيسي على صدر صفحتها الأولى: "صاروخ أنصار الله في الرياض..الهدف التالي، دبي"، وبعد أن قامت وزارة الإرشاد بتنبيه الصحيفة ووصفت العنوان بأنه يتعارض مع المصالح الإقليمية لإيران، قامت الصحيفة في اليوم الثاني بمماحكة  الحكومة بعنوان جديد نصه: "حماية المصالح الوطنية يكون بحماية المستضعفين في اليمن، لا القلق على أبراج دبي"، وهو ما قاد القضاء الإيراني إلى وقف الصحيفة ليومين، على خلفية شكوى من مجلس الأمن القومي الذي رأى في عناوين كيهان مساسًا بثوابت إيران في سياساتها الإقليمية، وعندما عادت الصحيفة إلى الصدور وصفت التوقيف بأنه "انتقام أعمى من استنارة كيهان"، ولعل هذه المواجهة التي قادتها الصحيفة مع الحكومة يقف خلفها تيار إيراني يتبنى التصعيد تجاه السعودية، ولا يعجبه اللهجة "المتنصِّلة" التي تستخدمها الحكومة الإيرانية. 

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تطلق فيها جماعة الحوثي صواريخها نحو السعودية، فقد سبق وأن أطلق الحوثيون العديد من الصواريخ التي يطلقون عليها "بركان" (سكود)، بعضها ضد أهداف تابعة لمنطقة الرياض، وأخرى باتجاه الطائف، وفي يوليو/تموز 2017، جرى إطلاق صاروخ باتجاه منطقة ينبع النفطية، وهو الصاروخ الذي اعتبرته تقارير أميركية تطورًا غير مسبوق، وبأنه حلَّق بمسافة تصل إلى 930 كيلومترًا داخل السعودية. وأطلق الحوثيون، أيضًا صاروخًا باليستيًّا في مايو/أيار 2017، باتجاه الرياض، سبق زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى العاصمة السعودية بيوم واحد، ومع ذلك فإن أغلب الصواريخ في السابق، كانت الدفاعات الجوية السعودية تعلن أنها اعترضتها أو سقطت في أماكن بعيدة، خلافًا للصاروخ الأخير والذي سقطت شظاياه في فناء مطار الرياض. 

الحريري: صاروخ الاستقالة 

تزامنت استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، مع الصاروخ الذي أطلقه الحوثيون، وجاءت الاستقالة من الرياض، عقب محادثات أجراها الحريري مع علي أكبر ولايتي، مستشار مرشد الثورة الإسلامية، وما زالت المواقع والتحليلات تتكهن بفحوى ما جرى في الاجتماع دون تصريحات موثوقة بشأن ذلك، وقالت بعض التقارير إنه جرى بحث دور إيران في اليمن، وأوصل الحريري خلاله رسالة سعودية لإيران تطالبها برفع يدها عن الحوثيين مقابل فتح حوار خليجي معها، وهو ما رفضه ولايتي، ونفته السفارة الإيرانية في بيروت، ووصلت تكهنات أخرى إلى القول بأن ولايتي هدَّد سعد الحريري بمصير مشابه لمصير والده، وهو ما نفاه سعد الحريري في مقابلته مع فضائية المستقبل. 

متظاهرون إيرانيون يُندِّدون بإعدام السعودية للشيخ نمر النمر (رويترز)

وأيًّا يكن شأن الظروف التي رافقت استقالة الحريري ومكان إعلانها، وسواء كان مجبرًا أم لا، فإن هذه الاستقالة، وما تضمنته من اتهامات لإيران وحزب الله، تقول بأن لبنان سيكون ساحة أخرى تضاف إلى اليمن للمواجهة والحروب بالوكالة بين إيران والسعودية، وليست إسرائيل بعيدة عن مجريات هذا الصدام الإقليمي، والتقاء المصالح مع العربية السعودية. 

خلاصة 

لا يرقى التصعيد الحادث اليوم بين السعودية وإيران إلى مستوى إعلان المواجهة المسلحة المباشرة، لكنه بالتأكيد يقول بفشل الدبلوماسية في حلحلة ملفات الخلاف المعقدة بين البلدين، وحتى مع الزخم الذي يضيفه موقف ترامب ومشاركته السعودية الموقف من إيران، وكذلك ما يعنيه حديث نتنياهو عن مصالح مشتركة مع أطراف عربية منها "العداء نحو إيران"، لكن أيًّا من هذه الأطراف لا يمكنه أن يدخل في مواجهة عسكرية مباشرة. 

ومع فشلها في اليمن، تحاول السعودية تسجيل بعض الإنجازات على صعيد المواجهة مع إيران، وتحاول توظيف التأييد الأميركي لتحقيق بعض المنجزات المحدودة للتغطية على الفشل في اليمن، لكنها ورغم مقدراتها الكبيرة لا تملك المقومات الكافية لشن حرب ضد إيران. 

إيران من جانبها، ستبقى حريصة على إدامة المواجهة بعيدًا عن حدودها الفعلية، ولا تريد الدخول في مواجهة مباشرة، مما يشير إلى أن ساحة عربية أخرى ستكون ضحية تدار فيها المعركة، وهي ساحة تضاف إلى العراق وسوريا، وقد تكون هذه الساحة هي لبنان. ورغم بروز العامل الإسرائيلي إلا أن إسرائيل أيضًا معنية بإبعاد المعركة عن داخلها، وحرب في لبنان سيكون لها عواقب وخيمة على إسرائيل. 

في المستقبل القريب، ستجد إيران نفسها أمام ما كانت تحاول تجنبه، وهو إثارة الأسئلة بشأن برنامجها الصاروخي، مما يُنبئ بطي ملف الاتفاق النووي وفتح ملف التسلح الإيراني وعلى رأسه "البرنامج الصاروخي".

___________________________________________

د. فاطمة الصمادي- باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات متخصصة في الشأن الإيراني

نبذة عن الكاتب