الخليج في 2019: ملامح الجغرافيا السياسية للطاقة

تتضافر عدة اتجاهات على خفض أسعار الطاقة في المستقبل المنظور، وهو مما يترتب عليه آثار سلبية واضحة على منطقة الخليج العربي.
26a206933f604750957dd2a71b9be211_18.jpg
(رويترز)

كان العام 2018 عامًا بالغ الأهمية فيما يتعلق بجيوسياسية الطاقة؛ حيث تمكنت الولايات المتحدة الأميركية مرة أخرى من استعادة مكانتها كأكبر منتج للبترول. فبعد أن كان معظم القرن العشرين قرن الريادة الأميركية في إنتاج النفط عالميا إلى حدود العام 1974، تمكن الاتحاد السوفيتي، في أوج فترة الحرب الباردة، من إزاحتها عن موقعها كأكبر منتج عالمي للنفط. وبدورها، وتحديدًا في العام 1976، تجاوزت المملكة العربية السعودية الاتحاد السوفيتي في إنتاج النفط لتتصدر المرتبة الأولى عالميًّا، ومنذ ذلك التاريخ بسطت المملكة العربية السعودية هيمنتها على سوق النفط للعقود الأربعة التالية. غير أن الطريقة التي استعادت بها أميركا انتزاع ريادة إنتاج النفط من السعودية تستدعي إجراء دراسة أوسع نطاقًا لجوهر التغير الجيوسياسي الطارئ على أسواق الطاقة، وما الذي يعنيه ذلك جيوسياسيًّا، فيما يتعلق بانخراط الولايات المتحدة الأميركية في قضايا منطقة الشرق الأوسط.

لا شك في أن استغلال النفط الصخري في أميركا أحدث ثورة جذرية في قطاع الطاقة ومكَّن الولايات المتحدة الأميركية من تجاوز المملكة العربية السعودية باعتبارها أكبر منتج للنفط في العالم. وقد كان من أهم التداعيات الجيوسياسية الأوسع لثورة النفط الصخري في أميركا هو استكمال تحقيق "الاستقلال في مجال الطاقة". ففي الوقت الذي تؤثر فيه عوامل إمدادات النفط العالمي والطلب عليه والمخاطر الجيوسياسية على سعر خام تكساس الوسيط (WTI) وخام تكساس الخفيف الحلو، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على المستهلك الأميركي، فإن الأمر المهم هنا هو أن استكمال تحقيق أميركا استقلالها في مجال الطاقة، وتحولها إلى أكبر منتج للنفط عالميًّا، كان له تأثير سيكولوجي وسياسي مهم استتبع بالضرورة عددًا من التداعيات، وهذا أمر لا ينبغي الاستهانة بأهميته وسيتم تناوله في هذه الورقة من خلال عدسة السياسة الخارجية الأميركية ومصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.

شهد العام 2018 احتفال السعودية بالذكرى الثمانين، 3 مارس/آذار، لاكتشاف آبار النفط فيها، وهو الحدث الذي أدى إلى تطور في استراتيجية تفكير الولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط. وقد تبلورت تلك الاستراتيجية في عهد حكم إدارة الرئيس، نيكسون، أي قبل خمسة عقود مضت وتحديدًا منذ العام 1968، حيث تم الإعلان عن "نظرية نيكسون" التي وضعت تصورًا استراتيجيًّا تمحور بالأساس حول ثنائية تأمين التدفق الحر للنفط الخام من منطقة الخليج وتقديم الدعم للحلفاء الإقليميين في المنطقة في مواجهة انتشار الاشتراكية السوفيتية. قد تكون هذه الاستراتيجية وليدة الضرورات التي فرضتها الحرب الباردة في ذروتها، غير أن المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة ظلت ثابتة منذ تلك الفترة وحتى اليوم.

أدت نظرية نيكسون، أو عقيدة نيكسون الاستراتيجية، إلى ترسيخ استراتيجية الاعتماد على حليفين تجاه حفظ أمن الخليج، وهو ما تمثل في تقديم الدعم الأساسي لإيران ومن ثم وبدرجة أقل إلى السعودية، وذلك من أجل توفير الأمن للمنطقة عبر إتاحة إمكانية وصول الحليفين الإقليميين إلى التجهيزات العسكرية بالإضافة إلى دعمهما على المستويين السياسي والاستخباراتي. لقد كانت إيران والسعودية تمثلان الدعامتين التوءمين، أو رجلي الشرطة التوءمين، اللذين يُقدَّم لهما الدعم لتأمين تحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية بالوكالة. وفي حين استمرت هذه الاستراتيجية حتى اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، وعلى الرغم من التغيير والاضطراب في المشهد الجيوسياسي الذي شمل الحرب العراقية-الإيرانية (1980 -1988)، وغزو العراق للكويت، عام 1990، وغزو العراق، بقيادة أميركا، في العام 2003؛ فإن السمة المميزة للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة خلال هذه الفترة، كانت الحفاظ على منظورها الاستراتيجي المتمثل في التدفق الحر لإمدادات النفط من منطقة الخليج. لكن ظهر سياق مغاير مع انتخاب الرئيس، دونالد ترامب، الذي غلب الطابع الانعزالي على منظور سياسته الخارجية العالمية، حيث باتت السياسة الخارجية الأميركية مع إدارته "وطنية" أكثر منها "عالمية". في الواقع، ومع صعود الولايات المتحدة كأكبر منتج للنفط في العالم، والذي حققت معه استقلالها في مجال الطاقة، بات من الواضح أن الحسابات الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وخاصة منطقة الخليج، قد انتهجت سياقًا جديدًا يُتوقع أن يؤدي إلى تعزيز ديناميكية جديدة للسياسة الخارجية الأميركية.

الحجة الأهم هنا هي أن عوامل الاستقلال الأميركي في مجال الطاقة، المشار إليها أعلاه، مُضافًا إليها هيمنة قيم سياسة البيت الأبيض الانعزالية القومية -وهي كلها عوامل متضافرة يعزز بعضها البعض- من شأنها أن تسهم أكثر في دفع الولايات المتحدة إلى التردد في لعب دور المتدخل في قضايا المنطقة الداخلية من أجل تعزيز السلام والأمن في منطقة الخليج. كما أنه يجب الاعتراف هنا بأن صلاحيات تحديد السياسة الخارجية للولايات المتحدة تقع على عاتق مؤسسة الرئاسة، وهو ما يكرسه الدستور الأميركي. وعلى هذا الأساس، فإن الأهمية الكبرى لصعود الولايات المتحدة باعتبارها أكبر منتج للنفط الخام في العالم، في عام 2018، هو أنه خلال فترة رئاسة ترامب، وبالنسبة للعام 2019، من المتوقع أن يزداد حجم ونسق التردد الأميركي في الانخراط السياسي المباشر في منطقتي الشرق الأوسط والخليج. في الخلاصة، فإنه من المتوقع بالنسبة للعام 2019 أن يستمر هذا التوجه في إبعاد الولايات المتحدة عن المساعدة في حل مشكلة انعدام الأمن الإقليمي بشكل استباقي.

فترة رئاسة ترامب: من المصالح الاستراتيجية إلى الحسابات المتبادلة 

عندما تولى الرئيس، دونالد ترامب، منصبه رئيسًا للولايات المتحدة، في يناير/كانون الثاني من العام 2017، كان القادة الإقليميون يدركون أصلًا أن الرئيس الجديد كان يوجه انتقادات صريحة، خلال حملته للانتخابات الرئاسية، إلى الرئيس، أوباما، ووزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون. واستنادًا إلى القرارات التي اتخذتها إدارة أوباما، فإن الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة لم يروا فقط أن اهتمام واشنطن كان يتجه نحو محور آسيا، بل إنه أيضًا توجَّه صوب إيران مما أربك توازن القوى الإقليمي. لقد أدت القرارات السياسية التي اتخذتها إدارة أوباما إلى تقويض الثقة التي كانت لدى حلفاء أميركا الإقليميين بأن واشنطن شريكهم الثابت. وفي الوقت الذي كان فيه انتخاب دونالد ترامب يبعث على الانقسام في الداخل الأميركي، فإن رد الفعل في المنطقة، ونظرًا لمعارضة ترامب الصريحة للاتفاق النووي الإيراني وإدانة الوكلاء الإيرانيين في إطار موقفه المؤيد لإسرائيل، جعل وصوله إلى البيت الأبيض موضع ترحيب من قبل الشركاء الإقليميين -مثل المملكة العربية السعودية- الذين كانوا يعتبرون أنفسهم محاصرين، على نحو متزايد، في صراع وجودي مع إيران. إضافة إلى ما تقدم، وبالنظر إلى الخلفية التجارية لساكن البيت الأبيض الجديد، فقد توفرت كل الشروط لتوقع أنه يمكن أن يكون شريكًا جديدًا. عادة ما يتم إيلاء أهمية كبرى لأول بلد يختار رؤساء الولايات المتحدة زيارته بعد انتخابهم، وفي حالة ترامب، كان ذلك البلد هو المملكة العربية السعودية (1) .

كان هناك جانبان متميزان لهذه الزيارة الافتتاحية إلى السعودية في عهد رئاسة ترامب يستحقان الوقوف عندهما في هذا السياق: الجانب الأول هو توقيع صفقة أسلحة ضخمة مع المملكة العربية السعودية بلغت أكثر من 350 مليار دولار، واعتُبرت أكبر صفقة أسلحة في التاريخ. من المؤكد أن هذا الرقم تم تضخيمه بسبب أنه يشمل أصلًا اتفاقات موقعة سابقًا، بالإضافة إلى تضمنه أيضًا نوايا لعقد صفقات شراء أسلحة في المستقبل أكثر من صفقات شراء فعلية. ومع ذلك، فإن تلك الصفقة برمتها اعتُبرت إنجازًا سياسيًّا لترامب نظرًا لأن انتخابه كان مستندًا في الأساس إلى دواع قومية اقتصادية. أما الجانب الثاني، وهو الأكثر أهمية في هذه الزيارة الافتتاحية، فهو عقد قمة دولية في المملكة العربية السعودية فسحت المجال أمام ترامب لمخاطبة قادة أكثر من 50 دولة عربية وإسلامية، باستثناء دول إيران وسوريا والسودان. وقد ركز ترامب، في كلمته الرئيسية، على الاعتماد على الدول الإقليمية في تولي مسؤولية "طرد" الإرهاب من بلدانهم وإعادة ضبط الموقف الأميركي في المنطقة بما يسمح لكل دولة برسم مسارها السياسي الخاص بها، وهو موقف فيه تخل واضح عن المبادئ المثالية التي كانت تحكم، تقليديًّا، بوصلة السياسة الخارجية الأميركية الداعمة للديمقراطية والحرية. في الحقيقة، تعددت الآثار الجيوسياسية المترتبة على اجتماع القمة بين الرئيس ترامب وقادة وممثلي غالبية الدول العربية والإسلامية؛ فقد أكدت القمة على دعم الولايات المتحدة لمواجهة إيران باعتبارها دولة منبوذة على المسرح الدولي، وهو ما اعتُبر انقلابًا واضحًا على موقف أوباما من التعامل مع إيران. كما غذَّت مواقف ترامب خلال القمة التوجه الجيوسياسي المناهض لإيران، والذي كانت وتيرته ترتفع بشكل ملحوظ، داخل أورقة الحكم في المملكة العربية السعودية ولدى حلفائها منذ سقوط العراق وطالبان في أفغانستان.

يمكن وصف موقف ترامب بأنه فكَّ ارتباط بلاده الاستراتيجي بالمنطقة، لأنه ركز على ضرورة أن تتصدى دول المنطقة بنفسها لمعالجة تحدياتها المتأصلة فيها. تكمن أهمية موقف ترامب في مفارقته للتقاليد التي حافظت عليها الولايات المتحدة، تاريخيًّا، كلاعب رئيسي في الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وكضامن لأمن الدول العربية الرئيسية فيها. وقد سمحت تلك التقاليد للولايات المتحدة بلعب دور تنسيقي في السياسات الخارجية للدول الكبرى الرئيسية في قيادة المنطقة مثل مصر والمملكة العربية السعودية. ونظرًا لطبيعة المظلة الأمنية الأميركية التي كانت تقدمها لتلك الدول، فإن مواجهة التهديد الإيراني كان يتم تنسيقه، تاريخيًّا، بالتعاون المشترك مع واشنطن. ومع تأكيد ترامب على ضرورة لعب دول إقليمية دورًا استباقيًّا ومستقلًّا في محاربة التطرف، الذي تعتبر إيران وسوريا جزءًا منه، فإن موقفه ذلك تأسس في الأصل على ما كان للإدارات الأميركية المتلاحقة من تأثير مستمر في تأجيج التوترات الجيوسياسية بين القوى الإقليمية، وتحديدًا بين المملكة العربية السعودية وإيران، والذي كان يتم أساسًا من خلال دعوة الدول العربية السنية إلى انتهاج سياسة خارجية مستقلة لتحقيق تلك الأهداف. ولوضع هذا في سياقه التاريخي المناسب، فإن ترامب أعلن تخلي إدارته عن اتباع نفس استراتيجيات الأمن الإقليمية المتعاقبة منذ عهد الرئيس، ريتشارد نيكسون. وتظهر أهمية الطابع الاستقلالي الجديد في مجال الطاقة في أنها فقط تخدم هذا التوجه.

لقد كان ترامب يكرر طرح وجهة النظر القائلة بأن الولايات المتحدة لن تسعى بعد الآن إلى تشجيع الدول الأخرى على تبني قيمها؛ حيث صرَّح: "لقد وعدت أيضًا بأن أميركا لن تسعى لفرض أسلوب حياتنا على الآخرين، ولكننا سنمد أيدينا لدعم تنمية روح التعاون والثقة المتبادلة". تكمن أهمية هذا الموقف في أنه كان تخليًا تاريخيًّا عن قيم الولايات المتحدة التي تأسست عليها كدولة، وخاصة منذ رئاسة وودرو ويلسون؛ حيث كان نشر قيم الديمقراطية والحرية والدفاع عنها ركائز أساسية للسياسة الخارجية الأميركية، التي وإن كانت لا تغفل أيضًا ربط تلك السياسة بالمصلحة الوطنية في تلك الحقبة، إلا أنها كانت تشكِّل جزءًا أساسيًّا من الدبلوماسية الأميركية. من خلال توضيح أن حثَّ الدول الأخرى على تبني القيم الأميركية الثابتة لن تكون أولوية على خارطة السياسة الخارجية الأميركية، لم يقدم ترامب أي حافز إضافي للقادة الإقليميين لمعالجة التحديات السياسية الجوهرية التي أدت إلى اندلاع الثورات على مستوى المنطقة في 2010-2011. وبالفعل، فإن مثل هذا التخلي عن الانخراط في الشؤون العالمية، والذي يمكن أن يُفهم على أنه انعزالية، هو أمر غير مسبوق في تاريخ السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ ثلاثينات القرن المنصرم، وتحديدًا منذ الفترة التي أعقبت أزمة الكساد الكبير، عام 1929. تظهر نتائج موقف ترامب، على الصعيد الجيوسياسي للمنطقة، في الطريقة التي انتهجها في جعل الولايات المتحدة تتخلى عن دورها التنسيقي أو الداعم لصياغة مفهوم للنظام الإقليمي في المنطقة. وهكذا، فقد تم رفع القيود التي كانت مفروضة على دول مثل المملكة العربية السعودية، وبالتالي باتت أولويات السعودية هي العوامل الرئيسية المحددة في رسم معالم جغرافية الإقليم السياسية التي أصبحت جزءًا من حسابات استراتيجية الأمن القومي السعودي الداخلي، والتي تُرجمت بشكل أساسي إلى تركيز حاد ضد المحور الإيراني عبر افتعال نزاع بالوكالة، وانتهاج حسابات سياسة خارجية عدوانية صفرية النتائج، تجلت في فرض الحصار المتواصل على دولة قطر.

بالعلاقة مع قضية الطاقة، فإن أهمية ما سبقت الإشارة إليه أعلاه، تكمن في أن استقلالية أميركا في مجال الطاقة تساعد على دعم مقاربة الصفقات المتبعة من قبل إدارة الرئيس، ترامب، في حسابات سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط عمومًا، ومنطقة الخليج على وجه الخصوص. في الواقع، فإن استقلال الولايات المتحدة في مجال الطاقة دفع إلى خفض المصالح الاستراتيجية الأميركية في منطقة الخليج، وبالتالي عمل على دعم انتهاج مقاربة سياسة خارجية تتبنى الصفقات بدلًا من اعتماد مقاربة استراتيجية. وعلى نطاق أوسع، فإن هذا النهج يمثل نمطًا أكثر شمولًا في تغذية حسابات السياسة الخارجية الأميركية داخل منطقة الشرق الأوسط الأوسع.

تحديات الاقتصاد السياسي التي تطرحها التطورات في مجال الطاقة

تكتسي الطبيعة المتغيرة لسوق الطاقة العالمية أهمية خاصة بالنسبة للبلدان المصدِّرة للطاقة، والتي تستمد اقتصاداتها الوطنية نسبة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي مما تضخه هذه الصادرات في ميزانياتها. وقد شهدت سوق الطاقة العالمية، خلال العقد الماضي، تحولًا سريعًا. وقد أدى بروز الولايات المتحدة كأكبر منتج للنفط في العالم، بالإضافة إلى كونها مصدرًا للغاز الطبيعي، إلى تدشين عهد جديد تمكنت فيه أميركا من تحقيق استقلالها في مجال الطاقة (2) . وقد كان للآثار المترتبة على ذلك أهمية بالغة؛ حيث إنها تشير إلى تحول في الطريقة التي تتم وفقًا لها حسابات الأمن القومي والمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة. يمكن فهم تأثير ذلك على أنه حقبة جديدة، وذلك بقطع النظر عن الدور المهم الذي كان يلعبه أمن الموارد الطبيعية في حسابات السياسة الخارجية والذي كان سمة محورية في انخراط الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

من جهة أخرى، دشن بروز الولايات المتحدة كلاعب رئيسي في سوق الطاقة العالمية لحقبة جديدة من ارتفاع العرض واحتدام المنافسة. وقد تم الدفع نحو هذا من خلال استغلال النفط الصخري في الولايات المتحدة، وهو ما أدى بدوره إلى التأثير على الأسعار العالمية للنفط التي شهدت هبوطًا ملحوظًا. وقد كانت البلدان الرئيسية المستوردة للطاقة مثل الصين، هي المستفيدة الرئيسية من تراجع أسعار النفط في السوق العالمية؛ حيث أسهم النفط الرخيص في دفع عجلة النمو الاقتصادي وأدى إلى تقليص التضخم.

مع بروز الولايات المتحدة كمصدر خالص للغاز الطبيعي المسال، فإن قدرتها التصديرية ستساعد على نمو السوق العالمية للغاز الطبيعي المسال، وهو ما يؤثِّر مباشرة في استراتيجية قطر الشاملة الهادفة إلى تعزيز الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال على مستوى عالمي. وبالاستناد إلى الموقع الجغرافي للولايات المتحدة، فإن استكمال توسيع قناة بنما في العام 2016 أدى إلى زيادة مهمة في قدرة مصدِّري الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة على الوصول إلى مناطق أوسع عبر العالم وتأمين تزويدها بالطاقة (3) . وقد قلَّص توسيع قناة بنما، الذي بلغت قيمته 5.3 مليارات دولار، تكلفة رسوم عبور الناقلات والمدة المستغرقة لرحلاتها انطلاقًا من الولايات المتحدة، إلى الثلث، بحيث أصبح الآن بالإمكان وصول الإمدادات إلى الصين خلال 14 يومًا فقط، وهو ما من شأنه أن يسمح لكل من الساحل الغربي للولايات المتحدة وساحل الخليج بالتنافس في إيراداتهما للصين التي تلعب دورًا رئيسيًّا في نمو سوق الغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم (4) .

كان لتغير خارطة ثروات الطاقة في الولايات المتحدة تأثير عالمي مؤكد، إلا أنه بالإمكان ملاحظة نمط أوسع نطاقًا يكمن في حدوث تحول في مركز الثقل فيما يتعلق بالطلب العالمي على الطاقة، ويتجلى هذا، في المقام الأول، في تحول الطلب من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى الدول غير الأعضاء في المنظمة، مع التركيز بشكل خاص على الصين والهند. وكان هذا التحول في الطلب يمثل اتجاهًا عامًّا منذ التسعينات، مدفوعًا بارتفاع مستويات الازدهار الاقتصادي لمليارات الأشخاص في البلدان النامية (5) . وبالنظر إلى حجم الصين والهند الديمغرافي، فقد أثبتتا أنهما أكبر البلدان المحركة لحجم الطلب العالمي على النفط بين عامي 2007 و2017. أما فيما يتعلق بالغاز الطبيعي، فإن الصين أثبتت أنها المحرك الأكبر للطلب العالمي خلال العقد الماضي، ومن المتوقع استمرار هذا الاتجاه على نفس الوتيرة. لكن على المستوى الجيوسياسي، فإنه من المهم الاعتراف بأن جنوب وشمال شرق آسيا يستقطبان غالبية الطلب العالمي على الغاز الطبيعي. يشكِّل الطلب المشترك من الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند أكثر من 60% من الطلب العالمي. وبالتأسيس على هذا، فإن تلك الأسواق ستحظى بالضرورة بأهمية خاصة بالنسبة لقطر وللموردين الرئيسيين الآخرين للغاز الطبيعي المسال، وذلك على مستوى طلبات سوق الطاقة الحالية والمستقبلية على حد سواء.

مع أنه من الواضح وجود تحول في مركز الثقل بخصوص الطلب على الطاقة من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى الدول غير الأعضاء في المنظمة، فإنه من المهم إدراك أن المعروض من الغاز الطبيعي المسال يشهد نموًّا مطردًا أيضًا؛ فقد برزت أستراليا كمنتج رائد للغاز الطبيعي المسال في العالم، وبلغت صادراتها منه، في العام 2018، كميات تقترب مما تصدِّره دولة قطر أكبر المنتجين في العالم. تُستخرج إمدادات الغاز القطرية من حقول الغاز الطبيعي الخالص، أما في حالة أستراليا، فإن منتجاتها هي من غاز الفحم الحجري الذي تم التوصل إلى إنتاجه عبر ضخ استثمارات كبيرة في هذا القطاع خلال فترة ارتفاع أسعار النفط. وفي حين أشارت بعض التوقعات إلى أن أستراليا ستتفوق على قطر وتحتل صدارة منتجي الغاز في العالم، أعلنت دولة قطر، في سبتمبر/أيلول 2018، عن زيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال (من 77 مليون طن سنويًّا في العام 2018) إلى 110 ملايين طن بحلول عام 2024. يُشار إلى أنه تم الكشف عن قرار زيادة الإنتاج بالرغم من تسجيل نمو مواز في إنتاج الغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم.

وعلى أية حال، فإن المؤشرات تقول: إن العام 2019 يَعدُ برؤية استمرار في هذا الاتجاه المتعلق بديناميات العرض والطلب. أما الاستنتاج الرئيسي الممكن استخلاصه من هذا فهو أن التكامل التدريجي بين دول الخليج العربية ودول جنوب وشرق آسيا سيستمر وستكون الطاقة محركه الأساسي. ويؤشر هذا على وجه الخصوص، إلى مزيد من التعاون مع بيجين وتزايد أهمية الصين الاستراتيجية داخل منطقة الخليج. هنا يكمن التأثير الأهم في ضوء السياسة الانعزالية الأميركية المتزايدة. ومن المؤكد، على هذا الأساس، توقع تسارع الشراكة الدبلوماسية والتجارية مع الصين، في ظل السياقات القائمة حاليًّا، خلال عام 2019.

(الجزيرة)
 
مستقبل منظمة الدول المصدِّرة للنفط "أوبك"

فاجأت دولة قطر، قبيل انتهاء العام 2018، العديد من المحللين والمراقبين بانسحابها من منظمة الدول المصدِّرة للنفط (أوبك). فقد انضمت قطر مبكرًا إلى عضوية المنظمة، لكنها كانت دائمًا لاعبًا هامشيًّا بحكم قدراتها التصديرية المحدودة للنفط. تأسست منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في العام 1960 من قبل خمس دول، هي: إيران والعراق والكويت والمملكة العربية السعودية وفنزويلا، وكانت قطر أول بلد ينضم طوعًا إلى هذه المنظمة عام 1961، أي عامًا واحدًا بعد إنشائها على أيدي الدول الخمس المؤسسة. ثم شهدت السنوات التالية أيضًا انضمام مجموعة من الدول شملت ليبيا والإمارات العربية المتحدة والجزائر ونيجيريا وغيرها. وباعتبار أن قطر كانت عضوًا لمدة 57 عامًا فقد كان قرارها مفاجئًا للعديد من المراقبين الدوليين لقطاع الطاقة. ومع ذلك، فإنه لم يكن من المفترض أن تكون المفاجأة بذلك الحجم نظرًا للطريقة التصاعدية التي تطورت بها استراتيجية الطاقة في قطر، وبشكل خاص بالنظر إلى الطريقة التي كانت قطر تسعى من خلالها لتطوير قطاع الغاز الطبيعي المسال. وفي حقيقة الأمر، فإن قرار الانسحاب من منظمة الدول المصدِّرة للنفط (أوبك) هو تطور طبيعي لرؤية قطر لقطاع الطاقة فيها وكيفية انخراطها في هذا المجال على مستوى العالم. من المهم أن نقدِّر أن دور منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في استراتيجية الطاقة في قطر كان إرثًا من حقبة قديمة، عندما لم يكن لدى قطر صناعة غاز طبيعي تعتمد عليها.

بلغت صادرات قطر من النفط الخام حوالي 600 ألف برميل يوميًّا في العام 2017، وهي نسبة متواضعة لا تتجاوز نسبة 2? من إجمالي إنتاج منظمة الدول المصدِّرة للنفط (أوبك). في هذا التوقيت، بدأت قيمة منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) لدى دولها الأعضاء تتضاءل تدريجيًّا في السنوات القليلة الماضية، وقد شهد شهر مايو/أيار 2017 أحدث الأمثلة على ذلك، عندما أعلنت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) أنها ستعمل على تمديد تخفيضات الإنتاج بمقدار 1.8 مليون برميل يوميًّا لمدة تسعة أشهر، وتحديدًا حتى الربع الأول من العام 2018. لم يكن لهذا الإعلان سوى بعض التأثير الباهت، حيث تُرجم رد فعل السوق في انخفاض أسعار النفط بنحو 4?، وهو رد فعل بعيد كل البعد عن ذلك التأثير الذي كان يمكن أن يحدثه أي تهديد صادر عن منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، عندما كانت في ذروة قوتها، من التسبب في ارتفاع أسعار النفط الخام بمجرد جرة قلم على توزيع حصص التصدير.

تظل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في جوهرها منظمة تقودها السعودية، مع تراجع ملحوظ لأهميتها العالمية بسبب ما أحدثته ثورة النفط الصخري. فقد سمح استغلال النفط الصخري للولايات المتحدة بتجاوز المملكة العربية السعودية في تصدر قائمة البلدان المنتجة للنفط في العالم. وفي الوقت الذي شهدت فيه قدرة المملكة العربية السعودية ضعفًا مؤكدًا على التلاعب بسوق النفط العالمية من خلال (أوبك)، فإن مستقبل منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك) يستلزم دعم روسيا لها من أجل الوفاء بوعودها. وبالتالي، فإن المحور النفطي السعودي-الروسي يعني الكثير بالنسبة لمنظمة (أوبك)، وهو ما يعني أن مساحة الـتأثير لدى صغار منتجي النفط على القرارات ستكون أضيق.

ينبغي فهم مستقبل أوبك لعام 2019 في سياق القلق المتزايد تجاه المملكة العربية السعودية، وهو قلق لم يلبث ينمو داخل الكونغرس الأميركي في أعقاب القتل المخطط له للصحفي السعودي، جمال خاشقجي، في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول. ومن الأرجح أن يقود مثل هذا الشعور بالقلق الكونغرس الأميركي إلى تبني قانون NOPEC (وهو مشروع قانون ينزع الحصانة عن الدول المنضوية تحت منظمة الدول المنتجة للنفط)، الذي سيفتح الأبواب مشرَّعة أمام إمكانية مقاضاة الدول العربية وغير العربية الأعضاء في منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك) وإذا ما حدث ذلك، فمن المتوقع أن يكون له تأثير ضاغط يؤدي إلى هبوط في أسعار النفط.

عدم يقين سياسي واقتصادي 

في التحليل النهائي، فإنه من الواضح أن الطاقة لعبت دورًا كان له تأثير واضح على كل من الجغرافيا السياسية والاقتصاد خلال العام 2018، وأنه من المتوقع استمرار الحال على ما هي عليه في العام 2019. ومن منظور استراتيجي، فإن علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة تمر بفترة تغيير، وهو تغيير متأثر بالتحول الطارئ على مجال الطاقة على المستوى الجيوسياسي. ولهذا التغيير تداعيات ليس فقط من حيث التأثير على الاستقرار الإقليمي، ولكن أيضًا من حيث كيفية إدارة الدول الرئيسية في المنطقة لسياساتها الخارجية. وفي الواقع، فإن هذا التغيير له تأثير على منظومة الأمن الإقليمي، وهو ما يؤكد الحاجة إلى صياغة تعريف جديد للنظام الإقليمي.

بالنظر إلى العداء الذي بات ينظر به أعضاء الكونغرس الأميركي إلى المملكة العربية السعودية، فإن الدعامات المحورية التي تشكَّلت على أساسها الجغرافيا السياسية في مجال الطاقة في منطقة الشرق الأوسط، دخلت اليوم مرحلة جديدة يمكن تقييمها على أنها الأكثر تحديًا تاريخيًّا منذ بلورة المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة إبان حكم إدارة نيكسون. إن حملة الانتقادات وعمليات التدقيق الاستثنائية التي تخضع لها المملكة العربية السعودية الآن تؤشران على احتمال إقدام الكونغرس الأميركي على سنِّ تشريع ضد منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك). ومن المرجح أن يكون للتشريع، المسقِط للحصانة عن الدول الأعضاء في (أوبك)، تأثير تضطرب معه سوق الطاقة العالمية؛ حيث إن مثل هذه الضغوط قد تؤدي إلى انسحاب أعضاء (أوبك) من المنظمة. وفي الوقت الذي لا يبدو فيه واضحًا ما إذا كان هذا سيحدث خلال عام 2019، فإنه بإمكاننا التكهن بأنه في حال حدوثه، فسيكون تأثيره كبيرًا ومدمرًا على السعر العالمي للنفط؛ حيث إنه في غياب منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك) لن يتم تطبيق حصص تصدير النفط، وبالتالي فإن الضغوط المؤثرة سلبًا على السعر العالمي للنفط ستزداد وتيرتها في المستقبل.

يكمن التحدي المتمثل في انخفاض سعر النفط في تأثيره المباشر على اقتصادات دول الخليج العربية، وبعضها أكثر عرضة للتأثر بذلك الانخفاض في أسعار النفط من غيرها. على الرغم من احتياطياتها النفطية، فإن التحدي الذي تواجهه المملكة العربية السعودية ناجم، إلى حد كبير، عن النهج الذي تطورت من خلاله سياستها الاقتصادية. حيث يرتكز المحرك الرئيسي لـ "رؤية السعودية 2030" على الاعتراف بأن هناك حاجة إلى إدخال تعديلات اقتصادية نظرًا لعدم قدرة النظام الاقتصادي الحالي للبلاد على الاستمرار على ما هو عليه. من المؤكد أن عائدات النفط سمحت بتطوير البنية التحتية، لكن مع التباطؤ العالمي في أسعار النفط منذ العام 2014، بالإضافة إلى ضرورة إدخال تعديلات تكنولوجية على الطريقة التي يمكن بها استخراج النفط، فإن هذه المعطيات تطرح تحدي كساد سوق النفط. وعلى الرغم من التقلبات في أسعار النفط، فإنه من الممكن تحديد أربع دورات على الأقل لسوق النفط: من عام 1973 إلى عام 1985، كان سعر النفط الخام في أعلى ارتفاع مسجل لدورة الأسعار وتواصل ذلك لمدة 12 سنة. جاءت الدورة الثانية ما بين عام 1986 إلى عام 2000، حيث شهدت دورة الأسعار انخفاضًا امتد لمدة 14 عامًا. ويمكن تحديد الدورة الثالثة لأسعار النفط من العام 2001 إلى العام 2014، أي 13 عامًا من ارتفاع أسعار النفط. ثم سجل عام 2014 انكماشًا يمكن فهمه هنا على أنه بداية دورة جديدة من انخفاض أسعار النفط.

ختامًا، فإن ديناميات السوق تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط مما يسمح بزيادة الاستثمار في صناعة النفط وتُمكِّن من حجز مكان في الأسواق الجديدة التي يتم اكتشافها. ومع ذلك، فإن أحد الاختلافات الرئيسية في الدورة الحالية يكمن في ظهور عصر جديد يتمثل في استغلال النفط والغاز من خلال ترسبات الصخر الزيتي. سمح ذلك للولايات المتحدة بأن تحقق، على نحو متزايد، أمنها في مجال الطاقة وأن تنصِّب نفسها مصدرًا للنفط والغاز، لكن وبالنظر لما يتمتع به منتجو النفط الصخري من نجاعة تجارية، فإنهم يعملون على خفض أسعار النفط العالمية؛ إذ إنه كلما ارتفع السعر ازدادت النجاعة التجارية لدى منتجي النفط الصخري، ومن ثم فإن المزيد من إنتاج النفط سيؤدي إلى انخفاض الأسعار. ولذلك، فإن المشهد الجديد للطاقة يساعد على خفض الأسعار في المستقبل المنظور، وهو مما يترتب عليه آثار واضحة على منطقة الخليج العربي.

__________________________________________________________________

ملاحظة: أُعد النص في الأصل باللغة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، ترجمه د. كريم الماجري إلى اللغة العربية.

*ستيفن رايت، أستاذ مساعد في العلاقات الدولية وعميد مساعد للشؤون الأكاديمية والبحث العلمي في كلية الآداب بجامعة حمد بن خليفة في قطر.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) Al-Rasheed, M. (2017). "Trump and Saudi Arabia: Rethinking the relationship with Riyadh." Foreign Affairs.

(2) Grigas, A. (2017). The new geopolitics of natural gas. Harvard University Press.
 
(3)Wright, S. (2017). Qatar's LNG: Impact of the Changing East?Asian Market. Middle East Policy, 24(1), 154-165.
 
(4)Moryadee, S., Gabriel, S. A., & Avetisyan, H. G. (2014). Investigating the potential effects of US LNG exports on global natural gas markets. Energy Strategy Reviews, 2(3-4), 273-288.
 
(5) Grigas, A. (2017). The new geopolitics of natural gas. Harvard University Press.