بعد بلدية إسطنبول: إلى أين يتجه "العدالة والتنمية"؟

تتناول هذه الورقة مستقبل "حزب العدالة والتنمية"، بعد خسارته لانتخابات الإعادة في إسطنبول، التي وضعت الحزب أمام تحدٍّ غير مسبوق يتعلق بوحدته وقاعدته الجماهيرية، وهو ما قد يؤدي إلى تبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وإعادة النظام الرئاسي إلى دائرة النقاش مجددًا.
4bbb5b1251184c8481e5af7a5e4ade4f_18.jpg
مناصرون لحزب العدالة والتنمية خلال انتخابات بلدية إسطنبول التي خسرها الحزب (رويترز)

أدت خسارة حزب العدالة والتنمية لانتخابات الإعادة في إسطنبول إلى انتقادات علنية داخله، وأعلت من الأصوات الناقدة بين قياداته السابقة فيه وفي مقدمتها رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو، ووزير الاقتصاد الأسبق، علي باباجان، الذي قدَّم استقالته من الحزب مؤخرًا.

تبحث الورقة في الدلالات السياسية للانتخابات الأخيرة في إسطنبول، وتداعياتها على حزب العدالة والتنمية كجزء من مسار التراجع النسبي له منذ 2015. وترى أنها وضعت الحزب أمام مفترق طرق وتحدٍّ غير مسبوق في تاريخه متعلقٍ بوحدة الحزب وقاعدته الجماهيرية، وهو تطور قد تصل تداعياته إلى تبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وإعادة النظام الرئاسي إلى دائرة النقاش مجددًا.

فاز مرشح حزب الشعب الجمهوري وتحالف "الأمة" المعارض، أكرم إمام أوغلو، برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى في انتخابات الإعادة، متقدمًا على أبرز منافسيه مرشح حزب العدالة والتنمية وتحالف "الجمهور"، بن علي يلدرم، بفارق أكثر من 800 ألف صوت، أي ما يوازي نسبة 9% من عموم المقترعين(1).

الفارق الكبير في الأصوات بالمقارنة مع نتيجة الجولة الأولى، وهي حوالي 13 ألف صوت و0.017% من عموم المقترعين، نتج عن زيادة إمام أوغلو أصواته بحوالي 570 ألف صوت وتراجع أصوات يلدرم بحوالي 220 ألف صوت. وبالنظر إلى كونها انتخابات إعادة تبقى العوامل التي أدت للنتيجة الأولى قائمة وفي مقدمتها اختيار المرشحين، وميزاتهم الشخصية وأداؤهم الإعلامي، وبرامجهم وحملاتهم الانتخابية، والانتماءات السياسية والحزبية والأوضاع الاقتصادية، والفترة الطويلة للعدالة والتنمية في الحكم والرغبة في التجديد لدى قطاع من الناخبين، وحدَّة الاستقطاب والخطاب الأمني، فضلًا عن التيار المتحفظ أو المعارض داخل حزب العدالة والتنمية(2).

لكن، وبالنظر إلى الفترة القصيرة نسبيًّا بين المحطتين الانتخابيتين، وهي أقل من ثلاثة أشهر، وفي حملة انتخابية خلت من المفاجآت الكبيرة، يمكن إرجاع هذا الفارق الكبير بينهما بالأساس إلى أسباب خاصة بانتخابات الإعادة، وأهمها:

الأول: قرار إلغاء نتيجة بلدية إسطنبول الكبرى وإعادة الانتخابات والذي لم يقنع الكثيرين بمسوغاته القانونية وبدا قرارًا سياسيًّا.

الثاني: ورقة "المظلومية" التي اعتمدها إمام أوغلو في حملته، رافعًا راية الليبرالية والدفاع عن الديمقراطية في مواجهة السلطة الحاكمة.

الثالث: سرعة وحدَّة تغيير العدالة والتنمية لحملته الانتخابية من حيث إبراز يلدرم وتراجع أردوغان عن المشهد الانتخابي وتخفيف حدة الخطاب السياسي والتودد للناخب الكردي وأنصار حزب السعادة الإسلامي؛ ما أفقد هذا التغيير المصداقية والتأثير.

الرابع: رسالة زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون في تركيا، عبد الله أوجلان، والتي فُهمت على أنها محاولة من العدالة والتنمية للتأثير على الانتخابات وأغضبت القوميين الأتراك(3).

الخامس: تشتت في جبهة العدالة والتنمية بعد انتخابات الجولة الأولى والتي كان من أبرز مظاهرها: "مانفيستو" رئيس الحزب الأسبق ورئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو(4).

السادس: توحد جبهة المعارضة وحشدها لانتخابات الإعادة بعد فوزها في المرحلة الأولى(5).

منحى التراجع

حملت الانتخابات البلدية دلالات سياسية كثيرة وتحولت لما يشبه الاستفتاء على شعبية أردوغان والعدالة والتنمية وكذلك على النظام الرئاسي المطبق حديثًا في البلاد. وقد زاد قرار إعادة الانتخابات من هذه الحمولة السياسية، لاسيما أن إسطنبول هي المدينة الأكثر رمزية والبلدية الأهم والخزان الانتخابي الأكبر ومؤشر مهم لشعبية الأحزاب، ومن هنا تسمية "تركيا المصغرة" وشعار "من يخسر إسطنبول يخسر تركيا".

ورغم السياقات الخاصة بالانتخابات البلدية وانتخابات الإعادة في إسطنبول، إلا أنها حلقة أخيرة ضمن منحى تراجع مستمر للحزب منذ عام 2015. كان العدالة والتنمية قد بلغ أَوْجَهُ داخليًّا في الانتخابات البرلمانية عام 2011 بحصوله على نسبة 49.9%من الأصوات، بعد نسبة 34.4% عام 2002 و46.5% عام 2007.

في انتخابات يونيو/حزيران 2015 البرلمانية، خسر الحزب لأول مرة أغلبية البرلمان بعد تراجعه لنسبة 40.8%، ما اعتُبر في حينه رسالة احتجاج وعدم رضى من ناخبي الحزب وخصوصًا على موضوع الانتقال للنظام الرئاسي(6). ورغم أن انتخابات الإعادة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه أعادت للحزب أغلبية البرلمان وبالتالي تشكيل الحكومة منفردًا، إلا أن السبب الرئيس لذلك كان خوف أنصار الحزب من البديل ومن الفراغ الحكومي والاضطرابات الأمنية(7).

أدت المحاولة الانقلابية الفاشلة، صيف 2016، إلى متغيرات مهمة على صعيد العدالة والتنمية، منها فرض حالة الطوارئ وتأثيرها على الحريات العامة، وتحالفه مع الحركة القومية وجنوح خطابه نحو اليمين والقومية(8)، والعمليات العسكرية في سوريا والعراق وتصدر الخطاب الأمني، وعملية مكافحة جماعة كولن التي أثَّرت على شعبيته لدى بعض الشرائح، والعودة لطرح مشروع النظام الرئاسي.

أُقِرَّ الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية التي شملت النظام الرئاسي في 2017 بنسبة 51.4% فقط بعد تأييد أحزاب مثل الحركة القومية والاتحاد الكبير والدعوة الحرة له، وقد كان ملحوظًا تراجع نسبة التأييد في عدد من المدن الكبرى(9).

وفي الانتخابات البرلمانية، 2018، تراجع العدالة والتنمية مرة أخرى إلى نسبة 42.6% بما أفقده الأغلبية البرلمانية بمفرده وإن ضمنها بالتحالف مع حزب الحركة القومية. استمر تراجع الحزب الحاكم في المدن الكبرى تحديدًا في الانتخابات البلدية، 2019، حيث خسر عددًا من المدن الكبرى المهمة، وفي مقدمتها: أنقرة وإسطنبول وأضنة ومرسين وأنطاليا(10).

بيان داود أوغلو ورسائل تحذيرية

يدعم منحى التراجع هذا وخصوصًا خسارة التأييد في المدن الكبرى فكرة وجود اعتراضات بين أنصار حزب العدالة والتنمية على قيادته وتبلور شريحة من المتحفظين في كل مناسبة انتخابية وحضور رسالة انتخابية تحذيرية للحزب تُكرِّر قيادته احترامَها وضرورة التجاوب معها بعد كل منافسة انتخابية(11).

بيد أن استمرار التراجع النسبي، رغم بقاء العدالة والتنمية متقدمًا على باقي الأحزاب وبفارق كبير، يحيل إلى وجود أسباب حقيقية له بين كوادر الحزب وأنصاره. البيان المطوَّل الذي نشره داود أوغلو عقب الانتخابات البلدية أحد تمظهرات هذه الاعتراضات الداخلية، وقد شرح فيه أوجه النقص التي تتطلب الاستدراك والتصويب من وجهة نظره، وأهمها:

1- القيم المؤسِّسة للحزب ومنها ما أسماه الوفاء للقيادات السابقة في الحزب، منتقدًا التهجم عليهم وشيطنتهم في الإعلام الموالي للحزب.

2- خطاب الحزب الذي اتجه لليمين والشعبوية ودغدغة العواطف بغية التحشيد ومن ذلك الحديث عن "الخطر الوجودي" على تركيا بسبب الانتخابات البلدية.

3- تحالف الحزب مع الحركة القومية بسبب أفكاره وسياساته وخطابه الحاد وكذلك تأثيره السلبي على العدالة والتنمية في الانتخابات.

4- التفرد في اتخاذ القرار وقيادة الحزب وتراجع المؤسسية وعمل العقل الجمعي، وتحكم تيار واحد بالحزب وضغطه على المسؤولين المنتخَبين(12).

5- انتقاد آلية عمل النظام الرئاسي حاليًّا وخصوصًا الجمع بين رئاسة الدولة ورئاسة حزب سياسي، وعدم الفصل الحقيقي بين السلطات.

6- استعداء الخصوم السياسيين وحدَّة الخطاب الموجه لهم وتراجع الحريات الإعلامية، والعقلية الأمنية الدفاعية(13).

هذه الانتقادات وغيرها مما تضمنه البيان يرى داود أوغلو أنها لا تمثل رأيه وحده وإنما تعبِّر عن تيار داخل العدالة والتنمية، يريد تغييرات في الحزب والحكومة والدولة بناء عليها.

أحزاب جديدة

يقف خلف رغبة أردوغان في الجمع بين رئاستي الدولة وحزبه رغبته في الحفاظ على وحدة الأخير وتجنيبه مصير حزبي الوطن الأم والطريق القويم اللذّيْن تراجعا وكادا يندثران بعد انتقال رئيسيهما على التوالي، تورغوت أوزال وسليمان دميريل، لرئاسة الجمهورية وحصول خلافات بينهما وبين حزبيهما.

قد ينطبق على هذه الحالة مبدأ "التوقع ذاتي التحقق" بحيث يكون العدالة والتنمية وقع فيما يخشاه ليتحقق سيناريو كان يحاول تحاشيه منذ التأسيس. فكما خرجت مجموعة قيادية كبيرة بزعامة أردوغان من حزب الفضيلة لتؤسس العدالة والتنمية، غاب أو غُيِّبَ عدد كبير من القيادات السابقة في الأخير عن هياكله القيادية وتعتبر اليوم معارِضة لقيادته أو مختلفة معها. يأتي في مقدمة هؤلاء رئيس الجمهورية السابق، عبد الله غول، ورئيس الوزراء الأسبق، داود أوغلو، ووزير الاقتصاد الأسبق، علي باباجان، ومعهم عدد من الوزراء والنواب والشخصيات القيادية السابقة(14)، والذين يُشاع أنهم بصدد تأسيس حزب أو أحزاب سياسية جديدة تنافس العدالة والتنمية بعد أن فقدوا الرغبة و/أو الأمل في العمل والإصلاح من داخل الحزب.

وثَّق بيان داود أوغلو اختلافه وانتقاداته، لكنه ما زال يتحدث من داخل الحزب ويدعو للإصلاح من داخله، ما يقلِّل من فرص تشكيله حزبًا سياسيًّا بمفرده، ويرجِّح إمكانية عودته للحزب إن مُنح دورًا قياديًّا حقيقيًّا فيه أو ربما الانضمام لمجموعة باباجان المدعومة من الرئيس السابق غول.

أما باباجان فقدَّم استقالته للحزب بعد لقاء مع أردوغان فشل في إقناعه بالبقاء داخل أطر الحزب(15). ورغم أن باباجان لا ينوي تشكيل حزب قريبًا وفق أردوغان نفسه، إلا أن خطوته تحيل إلى ذلك أو على الأقل لتشكيل "منبر سياسي" يجمع القيادات السابقة المعارضة(16).

هذه التطورات، إضافة لانتقادات علنية من شخصيات حزبية منهم نواب برلمان ودعواتهم للمراجعات والمحاسبة(17)، تُظهر العدالة والتنمية اليوم مقسمًا في مواجهة معارضة موحدة، وهي صورة معكوسة لما كان عليه الحال منذ تأسيس الحزب واستلامه الحكم عام 2002.

القيادات المعارضة هي شخصيات مؤسِّسة للعدالة والتنمية وتشترك معه في الخلفيات والأفكار فضلًا عن سيرها الذاتية الغنية وإنجازاتها المعروفة ومساهماتها في مسيرة العدالة والتنمية وتركيا في السنوات الـ15 الأخيرة، ما يجعل تأسيسها لأحزاب سياسية تحديًا كبيرًا أمام العدالة والتنمية للأسباب التالية:

أولًا: أنها -وعلى عكس المعارضة الحالية- ستكون قادرة على الكسب من قاعدة الحزب الجماهيرية، والتي خسر الحزب كتلة منها حسب تقييم داود أوغلو(18).

ثانيًا: احتمالات انشقاق قيادات وأعضاء برلمان حاليين عن العدالة والتنمية للانضمام للحزب الجديد حال تأسيسه، ما يهدد وحدَةَ الأول وتماسكه.

ثالثًا: تميز باباجان تحديدًا في الملف الاقتصادي وهو الذي قاد دفة الاقتصاد التركي في سنوات نموه، إضافة لارتباط أسماء الشخصيات التي تسير معه بفترات نجاح العدالة والتنمية.

سيكون للحزب الجديد إذا ما أُعلن تداعيات مهمة على العدالة والتنمية، أهمها:

أ- سيكون الحزب الجديد تشظيًا للعدالة والتنمية الذي حافظ على وحدته إلى حد كبير على مدى 18 عامًا.

ب- يمكن للحزب الجديد بقيادة باباجان أن يشكِّل مع الوقت بديلًا مقبولًا عن العدالة والتنمية لدى ناخبيه خصوصًا إذا قدم برنامجًا اقتصاديًّا ناجحًا في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية ومع المدة الزمنية المريحة حتى الانتخابات القادمة عام 2023.

ج- قد لا يستطيع الحزب الجديد تسوُّد الساحة السياسية في ظل قوة العدالة والتنمية، إلا أن كسبه نسبة بسيطة من أنصار الأخير سيكون كافيًا لترجيح كفة المعارضة في أية انتخابات قادمة، في ظل حالة الاستقطاب الحالية وتوحد المعارضة وتقارب نتائج تحالفَي الجمهور والأمة.

د- يمكن لنواب العدالة والتنمية الذين سينضمون للحزب الجديد تشكيل كتلة برلمانية وإفقاد العدالة والتنمية وحليفه، الحركة القومية، أغلبية البرلمان الحالي في حال تخطي عددهم الـ20.

ه- خسارة تحالف الجمهور للأغلبية البرلمانية قد تفتح الباب على إمكانية تبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية من جهة والعودة للنظام البرلماني من جهة أخرى خصوصًا وأن عددًا من القيادات السابقة في العدالة والتنمية كانت ضد الانتقال للنظام الرئاسي، حيث تكفي موافقة 60% من النواب لإقرار الأول وطرح الثانية على استفتاء شعبي. ومن نافلة القول: إن تبكير الانتخابات في ظل الظروف الحالية لن يكون على الأغلب في صالح الحزب الحاكم.

و- يمكن للحزب الجديد أن يكسب تأييد بعض أنصار الأحزاب المعارضة كذلك وخصوصًا الحزب الجيد، ويمكن أن يعمد لاحقًا للتحالف أو على الأقل التنسيق مع العدالة والتنمية، لكنها سيناريوهات ليست واضحة حاليًّا فضلًا عن أن تكون مضمونة.

استحقاقات

في المحصلة، فجرت انتخابات الإعادة في إسطنبول الخلافات داخل حزب العدالة والتنمية وأعلت من الأصوات الناقدة والمطالبة بالتغيير في مقابل جبهة المعارضة التي تبدو موحدة ومسنودة بتقدمها الأخير في الانتخابات البلدية والذي كان سببه الأهم تنسيقها وتكاتفها، فضلًا عن احتمالات الانتخابات المبكرة.

ومن العوامل المحتملة التي قد تؤدي إلى تبكير الانتخابات البرلمانية والرئاسية إضافة للأحزاب الجديدة وتأثيرها في المشهد السياسي: تدهور الأوضاع الاقتصادية أكثر، وتأزم العلاقات مع الولايات المتحدة على خلفية صفقة إس400 أو غيرها، وانفضاض تحالف العدالة والتنمية مع الحركة القومية، وهي سياقات قد تتسبب بها أو تسرِّعها الخلافات في جبهة العدالة والتنمية.

وبالنظر لخطورة الديناميات الداخلية في حزب العدالة والتنمية في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الحالية، ثمة خيارات متاحة أمام الحزب، أهمها:

الأول: التغيير: يحتاج الحزب اليوم إلى تقديم رسالة تجاوب مع رسائل صندوق الانتخابات بخطاب تقييمي واضح تتبعه عملية تغيير حقيقية ومقنعة للناخبين. تشمل هذه العملية أطر الحزب القيادية والتشكيلة الحكومية وبعض المؤسسات التابعة لرئاسة الجمهورية. تصريحات أردوغان الأولية نفت نيته إجراء تغييرات في الحزب أو عقد مؤتمر استثنائي(19)، ولكنها ألمحت إلى إمكانية إجراء تعديل وزاري(20)، إضافة لفتح الباب أمام نقاش ثغرات النظام الرئاسي التي تحتاج تعديلًا(21).

الثاني: الاحتواء: ما زال بإمكان أردوغان كسب بعض الأصوات المعارضة إلى صفه والاستفادة منها في الحزب والحكومة، وفي مقدمة هؤلاء داود أوغلو، وهو أمر قد يزيد من تماسك العدالة والتنمية ويقلِّل من الأضرار الناتجة عن تأسيس حزب جديد. أقدم أردوغان على خطوة بهذا الاتجاه حين عيَّن بعض القيادات السابقة ضمن هيئة استشارية لرئاسة الجمهورية لكنها بدت حتى اللحظة خطوة شكلية أو غير كافية(22).

الثالث: تفتيت المعارضة: وهو خيار يعمل عليه العدالة والتنمية مؤخرًا من خلال محاولة كسب ناخبي حزب الشعوب الديمقراطي القومي الكردي والذين كان لهم دور بارز في كسب إمام أوغلو لبلدية إسطنبول. قام الحزب ببعض الخطوات أهمها تغيير خطابه من "الخطر الوجودي" إلى "تحالف تركيا"، ورسالة أوجلان التي دعت للحياد بين التحالفين القائمين في البلاد، وعرض أردوغان نقل رفات المطرب الكردي، أحمد كايا، لتركيا(23)، وزيارة رئيس إقليم كردستان العراق، نيجيرفان بارزاني، لأنقرة قبيل الانتخابات، لكن كل ذلك لم يفلح في تغيير نتيجة إسطنبول ويبدو أن قدرته على التأثير مستقبلًا ليست مضمونة.

المؤشرات الأولية من العدالة والتنمية تبدو سلبية تجاه الخيارين الأولين؛ فما زال أردوغان يقلِّل من أهمية وخطورة خروج بعض القيادات منه وتشكليها حزبًا جديدًا(24)، ورافضًا لفكرة التغيير في الحزب والحكومة تحت الضغط.

هنا، يبدو أردوغان معتمدًا على الفترة الزمنية المريحة نسبيًّا حتى انتخابات عام 2023 بحيث يقوم الحزب بالمراجعات وأي تغييرات لاحقة بدون تسرع من جهة، وكذلك على تجارب سابقة لشخصيات وأحزاب انشقت عنه وعن الأحزاب الأخرى وكان مصيرها الفشل من جهة أخرى.

خاتمة

في الخلاصة، وضعت انتخابات الإعادة في إسطنبول، بما هي امتداد لمسار تراجع نسبي ونتيجة له، العدالةَ والتنمية أمام مفترق طرق لا يتعلق هذه المرة بالتنافس مع المعارضة على نتائج الانتخابات وإنما يرتبط بشكل مباشر بتماسكه الذي كان وما زال أحد أهم عوامل نجاحه واستمراره في حكم تركيا.

ولئن كان هناك اختلافات رئيسة بين داود أوغلو والمجموعة التي يقودها باباجان، إلا أن الفريقين يغذِّيان المعنى نفسه: انتقادات للعدالة والتنمية خطابًا وممارسةً ومنظومة تحالفات والمطالبات بتغييرات حقيقية وجذرية.

ورغم استقالة باباجان من حزبه، إلا أن سيناريو إعلان حزب جديد ما زال غير مقطوع به ودونه بعض العقبات أو على الأقل مدة زمنية قد تُحسب بالأشهر؛ ما يعني أنه ما زال هناك -نظريًّا على الأقل- فرصة أمام العدالة والتنمية للاستدراك والتعديل ومنع التشظي خصوصًا وأن خطاب داود أوغلو وصمت معظم القيادات السابقة حتى اللحظة يوحيان بذلك.

بهذا المعنى، ورغم أن تأثير تأسيس أحزاب جديدة لن يكون بالضرورة سلبيًّا بل مفتوحًا على عدة سيناريوهات خصوصًا في ظل نظام رئاسي لا يتأثر فيه الاستقرار كثيرًا بتقدم أو تراجع الأحزاب نسبيًّا، إلا أنه يمكن القول: إن المسارات المستقبلية داخل العدالة والتنمية وخطوات بعض قياداته السابقة ستكون إلى حد ما رهنًا بالقرارات التي سيأخذها أردوغان وقيادة حزب العدالة والتنمية تجاه الانتقادات وعملية التغيير المطلوبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د.سعيد الحاج، باحث متخصص في الشأن التركي.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1-  انتخابات إسطنبول: خسارة مرشح حزب العدالة والتنمية في إعادة انتخابات البلدية، BBCعربي، 24 يونيو/حزيران 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bbc.in/2Ky6sOr

2-   صلاح، مصطفى، الانتخابات البلدية التركية: هل تستمر قاعدة "حكم تركيا يبدأ من البلدية"؟، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 11 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2Y1LOMS

3-  انتخابات بلدية إسطنبول: رسالة "مثيرة" من أوجلان للأكراد، سكاي نيوز عربية، 21 يونيو/حزيران 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2XCXEch

4-  انظر الترجمة الكاملة للبيان في:

داود أوغلو: استنتاجات وتوصيات حول نتائج انتخابات 31 مارس والظروف السياسية الراهنة، إدراك، 24 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2LAS4X9

5-  الحاج، سعيد، انتخابات إسطنبول: قراءة في الأسباب والانعكاسات، TRTعربي، 24 يونيو/حزيران 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2xdEK0R

6-  Davuto?lundan 'ba?kanl?k bitti ve koalisyon' aç?klamas?, Cumhuriyet, 10 June 2019, (Entrance Date: 10 July 2019): https://bit.ly/2S7db2H

7-  انتخابات الإعادة التركية: عوامل فوز العدالة والتنمية وتداعياته، مركز الجزيرة للدراسات، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2NNoxL1

8-  الحاج، سعيد، مستقبل اليمين في تركيا، إضاءات، 17 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2Se3Bve

9-  بالأرقام: هكذا مرَّ سابع استفتاء بتركيا، الجزيرة نت، 17 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/32bSOWO

10-  الانتخابات البلدية التركية: خسارة فادحة لحزب أردوغان في إسطنبول وأنقرة، فرانس 24، 2 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2uHhE1q

11-   Turkey's Erdogan vows to listen to people's 'messages' after crushing defeat, Foxnews, 25 June 2019, (Entrance Date: 10 June 2019): https://fxn.ws/2XG8BK6

12-   تذهب معظم التقييمات إلى أن داود أوغلو يقصد بذلك تيار صهر الرئيس ووزير الخزينة والمالية الحالي، براءة ألبيراق، خصوصًا وأنه في خطاباته الأخيرة انتقد صراحة تولية الأقارب مناصب رفيعة في الدولة.

13-  الحاج، سعيد، مانيفستو "أحمد داود أوغلو": العدالة والتنمية على مفترق طرق، إضاءات، 27 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2WzFags

14-  Ahmet Davuto?lu'dan AliBabacan'a yeni parti teklifi, Euronews, 28 June 2019, (Entrance Date: 10 July 2019): https://bit.ly/2LKFEdC

15-  باباجان يستقيل من "العدالة والتنمية" التركي لتأسيس حزب مع غل، الشرق الأوسط، 9 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2XBDxjE

16-  أردوغان يكشف فحوى حديثه مع باباجان قبل استقالته، الخليج الجديد، 10 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2Ju6uFv

17-  AKP'ye yak?n isimler seçim sonuçlar? için ne dedi, Sözcü, 23 June 2019, (Entrance Date: 10 July 2019): https://bit.ly/2LO7aXI

18-  Ahmet Davuto?lun'dan AKP'ye ilk ça?r?: çökü?ü durduramazs?n?z, Tele1, 30 June 2019, (Entrance Date: 10 July 2019): https://bit.ly/2XKc7mU

19-  Cumhurba?kan? Erdo?an: sipari? ile kongre olmaz, TRT Haber, 10 July 2019, (Entrance Dtae: 10 July 2019): https://bit.ly/2XD37jj

20-  Erdogan signals possible cabinet shakeup following election deafeat in Istanbul, Turkisminute, 25 June 2019, (Entrance Date: 10 July 2019): https://bit.ly/2XRwv9L

21-   Ak partili Çelik'ten dikkat çeken 'sistem' aç?klamas?, Yeniça?, 10 July 2019, (Entrance Date: 10 July 2019): https://bit.ly/30wrlOa

22-   أردوغان يبدأ إجراءات جديدة لترميم حزب العدالة والتنمية، تركيا بالعربي، 28 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2JAwFsH

23-   Cumhurba?kan? Erdo?an'dan Ahmet Kaya aç?klamas?, CNN TÜRK, 19 June 2019, (Entrance Date: 10 July 2019): https://bit.ly/2G7wt3v

24-   أردوغان "مكسور الخاطر" من رفاق دربه: ماذا قال عن باباجان؟، عربي 21، 10 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2YMbqL5