التحول الديمقراطي المستدام بتونس: رئاسيات 2019 بين سياسة جديدة وأخرى مناهضة

يمكن لتونس، باعتبارها بلدًا ذا موارد اقتصادية شحيحة، الاستفادة من أجواء ديمقراطيتها الوليدة لتصبح بلدًا عربيًّا رائدًا يعمل على تطوير سياسات متكاملة من شأنها تعزيز تحول ديمقراطي مستدام يمتثل للمعايير الدولية والمحلية ذات الصلة.
a9fc0f394810461f951548e8d4f0e2c7_18.jpg
ردُّ فعل المرشح الرئاسي، قيس سعيد، على إثر صدور نتائج سبر آراء الناخبين بعد الخروج من مراكز التصويت في 13 أكتوبر 2019 (رويترز)

لا يخلو فوز سعيد بمنصب الرئاسة من عدد من المفارقات في بلد يمثل مهد الانتفاضات العربية، أو ما يسمى "الربيع العربي" المتفجر عام 2011 (وهو نفس البلد الذي تم فيه منح جائزة نوبل للسلام إلى أربع من منظمات المجتمع المدني عام 2015). وقد كتب أحد المحللين أنه "إذا كان سعيد قد استفاد من وجود مزاج عام لدى جمهور عريض "مناوئ للنظام المؤسسي القائم" -خاصة منهم فئة الشباب المتعلم- الذين لم يستفيدوا من إرث الربيع العربي والذين جذبتهم بلاغة سعيد وقدرته على التعبير بلغة عربية فصيحة، بالإضافة إلى موقعه خارج كل التنظيمات السياسية القائمة ونزاهته التي لا سبيل إلى التشكيك فيها" فإن التحول الطارئ على وضع قيس سعيد -الرئيس المنتخب- ليصبح نجمًا سياسيًّا جديدًا في كلٍّ من السياقين، التونسي والعربي، على حدٍّ سواء، قد غذَّى الأمل في نجاح الموجة الثانية من التحول الديمقراطي في هذه الألفية الجديدة.

وجَّه سعيد، في خطاب تسلمه مقاليد الرئاسة، شكره لأنصاره من المواطنين الشبان "الذين فتحوا صفحة جديدة" وتعهد أمامهم بالعمل على بناء "تونس جديدة". ووفقًا لتقديرات معهد "سيغما كونساي" لسبر الآراء فإن 90% من فئة الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 18-25 عامًا صوَّتوا لصالح قيس سعيد مقارنة بـ 49.2% من المصوتين له ممن تفوق أعمارهم 60 عامًا (1).

في هذه الورقة، يدرس الدكتور العربي صديقي -أستاذ الشؤون الدولية في جامعة قطر ومحرر دليل روتليدج حول الربيع العربي- انتخابات تونس الرئاسية لعام 2019 باعتبارها انعكاسًا لمشهد سياسي تونسي منقسم على نفسه ومتغير باستمرار. فقد تميز المشهد السياسي التونسي بتوجه ثابت، منذ ثورة 2011، نحو تأكيد السيولة على مستوى الأحزاب السياسية وبروز فئة السياسيين المستقلين. كما تناولت الورقة بالبحث التحديات السياسية الهائلة المنتظَرة، بما في ذلك معضلة تشكيل حكومة ائتلافية. وبالإضافة إلى ما سبق، يجادل الدكتور صديقي بأن "التهميش الاجتماعي والسياسي والبطالة المتفشية وحدَّة الدَّيْن العام، بالإضافة إلى العلاقات الأمنية التونسية، تحتاج إلى قيادة قادرة على حل الإشكالات لا إلى خطاب شعبوي".

على الرغم من مرور ما يقرب من تسع سنوات على ثورة 2011، إلا أن الروح الثورية يبدو أنها لا تزال متوقدة وبخير في تونس؛ فقد أرسل المصوتون ردًّا سريعًا وقويًّا إلى سياسيي وأحزاب المنظومة السياسية التقليدية، ومذكرين الملاحظين والنخبة السياسية، على حد سواء، بأن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لا تزال مطالب وأهداف غير مُنجزة بعد.

جرت انتخابات 2019 وسط أجواء شابها توجيه اتهامات بالفساد وسجن تحفظي لأحد المرشحين البارزين، كما شهدت تلك الانتخابات أيضًا عودة رموز النظام القديم إلى الساحة، بالإضافة إلى توقعات بلا مبالاة الناخبين.

تتناول هذه الورقة بالبحث ثنايا التحول الديمقراطي في تونس، مع تركيز خاص على انتخابات عام 2019 الرئاسية كمرجع أساسي (وبشكل أقل على الانتخابات البرلمانية). تبدأ الورقة بإلقاء نظرة عامة على المسرح الرئاسي المزدحم بالمترشحين في الجولة الأولى، والذي ضاق في الجولة الثانية ليتحول إلى سباق بين القادمَين الجديدين إلى الساحة السياسية: نبيل القروي وقيس سعيد. ثم بعد إجراء تقييم نقدي لأبرز سمات ذلك الموسم الانتخابي، تنتقل الورقة إلى تحليل موجز لمصاعب حزب النهضة الذي يمر بأزمة. وتُختتم الورقة بإلقاء نظرة استباقية على التحديات السياسية والاقتصادية التي تنتظر الرئيس قيس سعيد -الرجل الذي لا يمتلك أي تجربة سياسية سابقة، ولا ينتمي إلى حزب سياسي من شأنه أن يكون رافدًا تشريعيًّا لأجندته السياسية- وعلى مجموعة من الشباب المتحمس الذين عادوا، وهم مسرورون، إلى ممارسة السياسة بشكل رسمي.

تتجاوز أهمية الموسم الانتخابي التونسي لعام 2019 بكثير ما ذهب إليه هانتيغتون في تقرير الانتقال السلمي للسلطة -المبالغ في سلميته- من أجل تعزيز الديمقراطية (2)، وهو معيار يبدو أن رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي قد قبله من خلال إشادته بهذه الانتخابات التي اعتبرها "شهادة تخرج" للديمقراطية التونسية. ربما يكون الأمر الأكثر أهمية، في هذا السياق، هو تلك السلاسة الاستثنائية في تنظيم انتخابات مبكرة استدعتها وفاة الرئيس السبسي. يعود الفضل الأكبر في ذلك إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، برئاسة نبيل بَفون، التي تمكنت من إعادة جدولة تاريخ إجراء الاستحقاقين الانتخابيين، الرئاسي والبرلماني، بل وحرصت أيضًا على تأخير الانتخابات الرئاسية حتى التأكد من إطلاق سراح المرشح، نبيل القروي، قبل انطلاق العملية الانتخابية في الثالث عشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول، وهنا تسجل تونس سابقة أخرى في الوطن العربي.

لقد بالغ محللون من مختلف أرجاء جغرافيا الوطن العربي في إعجابهم الشديد بالانتخابات الثلاثية (رئاسية-برلمانية- ثم رئاسية في جولة ثانية) المقامة خلال الأسابيع القليلة الماضية، ليس فقط بشأن ما أفرزته نتائجها التي يبدو أنها أعادت بث جذوة الحياة في روح الثورة، بل ربما أيضًا لأنها رسخت الإيمان بأن الديمقراطية قادرة بذاتها على إحداث التغيير المرجو(3). ربما تكون ساعات الإثارة قصيرة الأمد، فسريعًا ما ستتكشف حقائق واقع الحكم في ظل وجود برلمان مجزأ يجري داخله محاولة تشكيل ائتلاف ما؛ واحتمال إثارة فريق المرشح القروي تحديات وإشكالات قانونية ناهيك عن التحديات الاقتصادية والتنموية المهولة التي غذَّت هذا "التصويت الاحتجاجي" في المقام الأول. لكن، ومع ذلك، فإننا لن نجانب الصواب إذا ما قلنا: إن التونسيين أبهروا العالم مرة أخرى.

انطلاق السباق في ساحة سياسية مزدحمة

ربما حان الآن وقت إلقاء نظرة مقارنة، فقد تكون نسبة التصويت البالغة 55% قد تجاوزت المنتظر لكنها تبقى أقل من نسبة 60.1% التي شهدتها الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة لعام 2014. حصل المرشح قيس سعيد على ما مجموعه 72.71% من أصوات الناخبين مقابل حصول المرشح نبيل القروي على نسبة 27.3%، وهو ما يعتبر "فوزًا كاسحًا" يتخطى النسبة التي حصل عليها الرئيس السبسي قبل خمس سنوات، والتي بلغت حينها 55.68% فقط في مقابل حصول منافسه في حينها، منصف المرزوقي، على نسبة 44.32%.

في ساحة سياسية منقسمة على ذاتها ضمت ستة وعشرين مرشحًا (استقر العدد النهائي عند 24)، جلبت انتخابات الرئاسة لعام 2019 معها معطى المال وما رافقه من مشاهد درامية؛ فقد واجه سليم الرياحي، أحد أبرز المستثمرين في مجال كرة القدم ومالك فريق "النادي الإفريقي"، أسئلة حول مصدر ثروته فما كان منه إلا أن سحب ترشحه عشية انطلاق الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية. أما رجل الأعمال الثري، نبيل القروي، فقد كان من بين المرشحين الجديين في السباق أمام رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، بل وحتى أمام مرشح النهضة، مورو، وذلك بفضل نشاطاته الخيرية ومساعداته المقدَّمة إلى سكان المناطق الداخلية المهمشة. نبيل القروي، مالك قناة نسمة التليفزيونية، الذي ما كان ملف ترشحه للرئاسة ليُقبَل لو أن الرئيس السبسي صادق على تعديلات القانون الانتخابي المقترحة قبل وفاته، كان رهن الاعتقال التحفظي من تاريخ 23 أغسطس/آب 2019 وحتى 48 ساعة قبيل بدء التصويت في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول بتهم تتعلق بالتهرب الضريبي وغسيل الأموال.

في نظام سياسي في طور الدمَقرطة؛ حيث لا يزال استقلال الجهاز القضائي بعيدًا عن المستوى المرغوب، كان رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، يبدو مخادعًا في إصراره على أن اعتقال نبيل القروي (وهو اعتقال مُدان رسميًّا من قبل المرشحين للرئاسة) كان خاليًا من أي دوافع سياسية؛ فخلال الحملة الانتخابية البرلمانية وحتى جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية طالب جميع المرشحين (باستثناء الشاهد) بإطلاق سراح القروي سعيًا منهم إلى رؤية تنافس أكثر إنصافًا. وبينما كان يردد: "أنا لست في سباق ضد أحد"، أوفى المرشح، قيس سعيد، عمليًّا بالتزامه وجمَّد نشاط حملته الانتخابية طيلة الأسبوع الأخير قبل الانتخابات في موقف تضامني مبدئي مع القروي.

عبير موسي: كانت خسارة المرشحة، عبير موسي، مدوية خلال الجولة الأولى من السباق نحو الرئاسة بحصولها على أقل من 5% من الأصوات المصرح بها. لكن، وبالرغم من ذلك، فقد تركت زعيمة الحزب الحر الدستوري بصمتها في المشهد الانتخابي حيث لم تخجل من إعلان حنينها إلى فترة حكم ابن علي، وهي تعتبر أن مصطلح "الثورة" ليس سوى مجرد تسمية خاطئة لحزمة الإصلاحات التي بدأت عام 2011. ولم يكن امتناع موسي عن شنِّ هجومها المعتاد على الإسلاميين (وهي التي لا تشير إلى حزب النهضة إلا بكلمة "الإخوان") باعتبارهم يمثلون تهديدًا مفتَرضًا للديمقراطية ولطريقة عيش التونسيين، قضية حملتها الانتخابية الوحيدة (هل امتناعها عن الهجوم على الإسلاميين هو قضية حملتها؟) عندما كانت تستعد للدخول إلى سباق الانتخابات البرلمانية؛ فقد تبنت أيضًا خطاب التنمية والاستجابة لاحتياجات المواطنين كدليل على الأخطاء التي ارتكبتها الأحزاب السياسية الحاكمة والنخب والسياسات "الفاسدة" المُتبعة في الفترة التي تلت عام 2011. ربما يكون انتماء موسي لفكر فترة ابن علي ومواقفها المناهضة للثورة قد ردع أغلب التونسيين عن التصويت لها -لكن ليس كلهم- وهو ما يتضح من خلال حصول حزبها على 17 مقعدًا في البرلمان. ومن المؤكد أنها ستكون معارضة شرسة ومتحدية باستمرار لأي تحالف قد يتم بناؤه داخل البرلمان. 

المرشحون الرئيسيون لانتخابات الرئاسة التونسية للعام 2019 (الفرنسية)

سيف الدين مخلوف: كان المرشح الرئاسي، سيف الدين مخلوف، سياسيًّا آخر من الوافدين الجدد على الساحة السياسية، وهو المتحدث الرسمي باسم ائتلاف الكرامة المؤلَّف من مستقلين (بمن فيهم مدوِّنون وأكاديميون وغيرهم) بالإضافة إلى أحزاب أخرى أُنشئت بعد العام 2011 مثل حزب العدالة والتنمية وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية. لكن، ورغم ثقته المفرطة في النفس، لم يتمكن مخلوف من المرور إلى جولة الإعادة. كان هذا المحامي المثير للجدل، والذي يُعتبر شخصية محافظة متطرفة في تشددها حتى بالمعايير الإسلامية التونسية، قد خاض السباق تحت لافتة تمثيله لـ"الوعي الثوري" في البلاد من أجل استعادة الكرامة التونسية من مخالب أجهزة أمن الدولة المتغولة واسترجاع سيادة الدولة المهدورة للأجانب. قد يكون مخلوف رجلًا كثير الجدال بالنسبة لشخصية رئيس دولة في بلد لا تنفك الانقسامات فيه تتزايد باستمرار، فقد طالب مخلوف فرنسا بتقديم اعتذار رسمي عن مرحلة الاستعمار وعن استمرارها في نهب مقدرات تونس (مثل النفط وغيره من عقود استغلال الموارد الطبيعية الأخرى، وإجراءات تأشيرة الدخول إلى الأراضي الفرنسية والاتحاد الأوروبي...). لكن، وعلى الرغم من خسارة رهانه الرئاسي، فإن مخلوف يظل موجودًا على الساحة السياسية التونسية باعتبار أن ائتلاف الكرامة قد حصد 21 مقعدًا في الانتخابات التشريعية.

عبد الكريم الزبيدي: قد يكون المرشح عبد الكريم الزبيدي، الذي شغل منصب وزير الدفاع بعد العام 2011 (وكان قبل ذلك يشغل منصب وزير الصحة في نظام ابن علي)، هو أقرب المرشحين المفضلين لدى الدول الغربية لقيادة تونس؛ فقد كان سيقف حائلًا بين الإسلاميين وبين حصولهم على حقائب وزارية مهمة، وكان سيشرف مباشرة على الوزارات المعنية بالاستخبارات والشؤون الأمنية ويؤمِّن قربها من النخب العسكرية والسياسية الغربية. ومع ذلك لم يذهب الزبيدي بعيدًا في سباق الرئاسة مكتفيًا بحلوله في المركز الرابع وبنسبة لم تصل إلى 10% من أصوات الناخبين المصرَّح بها.

يوسف الشاهد: كان يوسف الشاهد، الذي ترشح على خلفية دوافع "براغماتية" تهدف لمكافحة الفساد المالي والتظاهر بالشفقة حيال إمكانيات البلاد غير المُوظفة (غالبية من الشباب عاطلة عن العمل)، يُصر على أنه سيعيد التفاوض حول اتفاقيات تونس المبرمة مع الاتحاد الأوروبي. (وقد شكَّل إعلان الشاهد تخليه عن جنسيته الفرنسية، امتثالًا للقوانين المنظِّمة للوضعية الدستورية للمتنافسين على منصب الرئاسة، مفاجأة لِطَيْف واسع من التونسيين الذين لم يكونوا على علم بأنه مزدوج الجنسية طيلة الفترة الماضية التي شغل فيها منصب رئيس الوزراء). ورغم محاولة هذا المترشح تصوير نفسه على شاكلة الهادي نويرة، الوزير الأول التونسي الأسبق في عهد حكم الرئيس بورقيبة، إلا أنه اقترض باسم تونس، خلال السنوات الثلاث الماضية، من صندوق النقد الدولي قرضًا بقيمة 2.9 مليار دولار صاحبته اشتراطات وقيود تقشفية. وقد أثارت سياسات الشاهد، غير المرحب بها شعبيًّا، مظاهرات في العاصمة كما في مناطق في غرب البلاد وجنوبها، وكان عمال البناء والأطباء آخر المهدِّدين بالإضراب الوشيك. لم يحفز سجل الشاهد السياسي وأداؤه الاقتصادي الثقة لدى الناخبين في أنه سيعكس مسار تبعية الاقتصاد التونسي للخارج، ولا أنه سيحد من إثراء الشركات الأجنبية على حساب الاقتصاد القومي. أما تباهيه المستمر بالأرقام (تَلَقِّي مئات الآلاف من العائلات مساعدات من الدولة، ونمو اقتصادي يتجه نحو 3%) فلم يُخْفِ تجاوز معدل البطالة في البلاد حاجز 15% -والذي بلغ ضعف هذه النسبة في بعض المحافظات وبين فئة الشباب-؛ والارتفاع الكبير في الأسعار؛ وتجاوز ارتفاع الدَّيْن العام نسبة 70%.

وعلى الرغم من فشله الذريع في الانتخابات الرئاسية، إلا أن حصول حزب الشاهد "تحيا تونس" على 15 مقعدًا في البرلمان، والذي كان ربما مفاجئًا للكثيرين، يشكِّل معطى لا يمكن إغفاله. ويظل غير معروف بعد ما إذا كان سينضم إلى ائتلاف يقوده حزب النهضة، غير أن طموحات هذا السياسي البالغ من العمر 43 عامًا لا يبدو أنها انتهت، فمشواره مع السياسة التونسية لم ينته بعد، بل حتى إنه علَّق على فوز قيس سعيد باعتباره دليلًا على أن التونسيين لم يعودوا يطيقون "الفساد"! لا يبدو أن الشاهد يدرك أنه يمثل جزءًا من المنظومة التي صوَّت التونسيون ضدها، فهو من كان يرأس تلك الحكومة!

خارطة تونس السياسية في العام (الجزيرة)

مرشحون وخطابات تحت الضوء

لا يزال الدور المنتظر من وسائل الإعلام في تثقيف الناخبين وتقديم معلومات نزيهة و"محايدة" للجمهور في تونس بعيدًا عما هو مرجو. لا شك في أن المشهد الإعلامي قد تم إثراؤه من خلال عملية خصخصة القطاع وخفض مستوى مركزيته وتوسعة مدى انتشاره (4). لكن، ومع ذلك، فلا يُستبعد استخدام مفهوم "اللين الاستبدادي" (5) في حالة التصادم، أو عدم التطابق، بين تطوير الإعلام والتحول الديمقراطي: قناة نسمة المملوكة للملياردير، نبيل القروي، والمرشح لرئاسيات 2019، قناة حنبعل (المملوكة سابقًا لرجل الأعمال العربي نصرة، وهو مرشح مستقل لرئاسيات 2019)، وخاصة قناة الزيتونة المتحيزة إلى إسلاميي حزب النهضة. لقد تواصل لعب وسائل الإعلام دور الاستقطاب، إلى حد ما، في انتخابات 2019 الرئاسية والبرلمانية على حد سواء؛ حيث حدد المرشحون مواعيد ظهورهم على وسائل الإعلام. كان "صوت" قناة نسمة متحزبًا بشكل غير مفاجئ، فقد ساندت بوضوح مالكها، نبيل القروي، بعد اعتقاله، بما في ذلك إفساح المجال أمام زوجته، سلمى السماوي، بالظهور على شاشتها.

بالتوازي مع ذلك، وبالتساوق مع التوجيهات الصادرة عن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (هايكا)، فقد حاولت محطات الإذاعة والتليفزيون، على حد سواء، منح حيز متساوٍ من الوقت للظهور الإعلامي للمرشحين الرئاسيين خلال موسم انتخابات 2019. لم تشمل تلك التوجيهات القنوات التليفزيونية (التاسعة والتونسية...) فحسب، بل شملت أيضًا محطات الراديو؛ حيث تناوبت الإذاعات مثل "موزاييك إف إم" و"شمس إف إم" وغيرهما على استضافة كل المرشحين، كما وجهت الإذاعات دعواتها أيضًا لاستضافة ممثلين عن حملة المرشح نبيل القروي، صاحب قناة نسمة، عندما كان في السجن. ومع ذلك، فقد شهدت تونس تعبئة غير مسبوقة في صفوف فئة الشباب الذين تحركوا بسرعة لإدانة واستنكار التغطيات التليفزيونية المنحازة. وعلى سبيل المثال، فقد تعرض المرشح قيس سعيد إلى هجوم عنيف شنَّته عليه قناة الحوار التونسي، فكان الرد سريعًا من الشباب الذين نظموا حملة مضادة على وسائل التواصل الاجتماعي تلاها انسحاب مليون مشترك من صفحة فيس بوك التابعة لقناة الحوار التونسي (6).

تمثل الحدث الأبرز في انتخابات 2019 في تنظيم مناظرات رئاسية (7)، وهو الحدث الذي تابعه ملايين التونسيين. خلال الجولة الأولى، تم البث على امتداد ثلاث ليال متتالية من (9-7 سبتمبر/أيلول) لتقديم جميع المترشحين الستة والعشرين الأوائل (تقلص العدد لاحقًا إلى 24 مترشِّحًا) (8).

تناولت أبرز الأسئلة المطروحة، خلال تلك المناقشات، قضايا الأمن والدفاع الوطني والسياسة الخارجية، بالإضافة إلى إثارة جملة من "القضايا العامة" تراوحت ما بين قضية المساواة بين الجنسين إلى المشاكل الاقتصادية التي تواجه المواطنين. أتاحت سلسلة المناظرات تلك، وهي سابقة أولى في العالم العربي، الفرصة للناخبين (وغيرهم من المراقبين العرب الذين قد يكونون تابعوا تلك النقاشات باهتمام كبير) للاطلاع عن قرب على شخصيات المرشحين الطامحين للوصول إلى سدَّة الرئاسة في تونس. وقد مثَّل هذا "الاختبار" لمهارات المرشحين الارتجالية، بما في ذلك مدى قدرتهم على الإيجاز الجامع وتقديم إجابات خلال الثواني التسعين المخصصة لكل مرشح، فرصة للمتناظرين لإعلان مواقفهم بشأن مختلف القضايا السياسية، التي كان بعضها مثيرًا للجدل، مثل العلاقات مع سوريا أو الاتحاد الأوروبي وقانون الميراث.

كشفت إثارة بعض القضايا والمواقف الأخرى ("الدبلوماسية الاقتصادية" وضرورات التنمية الإقليمية) عن وجهات نظر مشتركة أكثر من كشفها عن الاختلافات بين المرشحين. وقد أكد مضيفا البرنامج (رجل وامرأة -مذيع ومذيعة- من قطاعي وسائل الإعلام، العام والخاص) بكفاءة عالية وفي كل نقاش على التزام المرشحين باتباع القواعد واحترام الوقت المسموح به لهم، وشارك مقدِّما البرنامج، من حين لآخر، في الحوار الاحترازي أو حتى الحاد بين المترشحين. (أما حادثة "الغش" من قبل اثنين من المترشحين اللذين جلبا معهما وسائل محظورة -دفتر وهاتف-، خلال المناقشة الثانية، وعلى الرغم من إثارتها للدهشة، إلا أنها لم تزعج اتزان وجدية النقاشات الدائرة على منصات الحوار البديعة).

ربما كانت آخر حلقات المناظرات المجراة بين نبيل القروي -المفرج عنه للتو من السجن- وقيس سعيد عاملًا حاسمًا، وربما لم تكن كذلك، في تأمين الفوز الساحق للمرشح سعيد بعد أقل من يومين من إجرائها. ربما أيًضا كان بإمكان أسئلة المذيعَيْن-مديرَي المناظرات- أن تكون أكثر إثارة في هذه المواجهة الأخيرة بين المرشحين النهائيين للرئاسة بدلًا من إعادة تدوير ذات الأسئلة التي تم توجيهها خلال الجولة الأولى من المناظرات. كان يمكن أن يسألا بالتحديد كيف يمكن لكل من المرشحَين، على سبيل المثال، جمع شمل التونسيين وسط مناخ عام شديد الاستقطاب وفي ظل عدم وجود فائز واضح بعد الانتخابات البرلمانية؟ كان ثمة فرصة للضغط على المرشحَين للإدلاء بآرائهما حول الفجوة بين الوعود الطموحة ("تمكين الشعب" على حد قول سعيد، أو "رعاية الفقراء" كما وعد القروي) وبين الولاية الدستورية الضيقة المنوطة بمنصب الرئيس وصلاحياته. لكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد مثَّلت المناقشات خطوة إيجابية نحو المداولات العامة البنَّاءة التي تكمل أدوار المؤسسات الرسمية في النظام الديمقراطي. لكن، لا شك في أن تعلم التونسيين يمضي قدمًا، ومن المرجح أن يتحسن أداء المشرفين على المناظرات وكذلك المرشحين مع مرور الوقت.

ومع ذلك، فقد سلطت المناظرات الضوء على الاختلافات بين شخصيتي المرشحيْن، سعيد والقروي، وكشفت بعض ميولهما السياسية. ربما تكون المناظرة الأخيرة قد تركت انطباعًا لا يُمحى عن فصاحة وبلاغة وسيطرة وصدق سعيد (بشكل غير مباشر) وهو يواجه المرشح القروي، الذي كان صوته ضعيفًا، ولم يكن قادرًا على التعبير إلى حد ما. هذا، وقد أثار فشل القروي في إقناع الجمهور بإنكاره استئجار شركة علاقات عامة برئاسة ضابط استخبارات إسرائيلي سابق لخدمة حملته الانتخابية، قلق وسائل الإعلام من مسألة "التطبيع" مع إسرائيل.

1. حالة السيولة الحزبية

حافظت انتخابات 2019 على التحول المستمر في المشهد السياسي الحزبي الذي بدأ قبل خمس سنوات؛ فقد شهدت انتخابات 2014 حل غالبية الأحزاب السياسية أو التحالفات الحزبية التي شاركت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عام 2011، لذلك لم يكن مستغربًا أن يصوِّت الناخبون في عام 2019 ضد أكبر حزبين، النهضة ونداء تونس، بسبب فشل ائتلافهما "التوافقي". خلال حملات 2019 الانتخابية، لعب كل من حزب النهضة وحزب يوسف الشاهد لعبة إلقاء اللوم على إخفاقات التوافق في مواجهة البطالة المزمنة والتخلف التنموي. كان حزب النهضة هو الحزب الوحيد الذي قاوم كارثة انهيار الأحزاب بعد عام 2011، لكنه، مع ذلك، لم يفشل فقط في التقدم بمرشحه إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بل وتقلص أيضًا عدد مقاعده البرلمانية إلى حد كبير خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة. أما حزب نداء تونس فقد ووري الثرى مع مؤسِّسه، الباجي قايد السبسي، وتوزع أعضاؤه على عدد من الأحزاب، بما فيها حزب تحيا تونس بزعامة يوسف الشاهد. أما بقايا اليسار التونسي، بما في ذلك جبهة الهمامي الشعبية، فقد تشظت وذهبت أدراج الرياح.

قد تكون اللحظة في تونس هي لحظة ما بعد الأيديولوجيا، على الرغم من أنها محيرة بسبب حالة عدم اليقين المجزأة التي تكتنفها.

2. "التحسين" السياسي مرفوض 

لا تقتصر ظاهرة النخب السياسية الثرية على منطقة الشرق الأوسط العربي فقط. فتلك النخب الثرية تؤثِّر في السياسة على نطاق عالمي، وهو ما بيَّنته دراسة أُجريت عن التحول في أميركا الجنوبية (9). فعلى غرار سليم الرياحي في انتخابات عام 2014، كان لرجل الأعمال، نبيل القروي، بصمة على كل مستويات الشأن العام التونسي في عام 2019، ولم تكن الانتخابات الرئاسية سوى إحدى واجهاتها، فقد حلَّ حزبه الجديد "قلب تونس" في المرتبة الثانية محرزًا 39 مقعدًا في البرلمان. لا شك أن هذه الظاهرة -العلاقة بين السياسة والثروة في تشكيل الأحزاب- تستحق إخضاعها لدراسة منهجية.

لقد خضع شبه "تحسين" السياسة على هذا النحو في تونس إلى تدقيق مجهري من قبل عدد من النقاد الذين رأوا أنه يمكن أن يقوض الانتقال في البلاد (10).

إحدى الملاحظات الجديرة بالسوق هنا هي أن الاستياء الشعبي من الأحزاب السياسية يمكن أن يفسِّر، بشكل عام، تلك الزيادة المسجلة في عدد المرشحين المستقلين الذين زاد نصيبهم من الأصوات في الانتخابات البلدية لعام 2018 بشكل لافت(11) وقد عزَّزت انتخابات 2019 هذا الاتجاه. لكن، ومع ذلك، لم يحقِّق أيٌّ من أباطرة المال الذين خاضوا الانتخابات الرئاسية منذ عام 2011 أي نجاح حتى الآن؛ إذ ربما يكون شراء الأصوات أمرًا غير فعال. تبنى القروي لقب "مقرونة" (المعكرونة) خلال مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد هزيمته في الانتخابات، وبنبرة المتحدي، أشار إلى أن استخدام خصومه ذلك اللقب للسخرية منه ومن حزبه لم يؤثِّر فيه؛ فحزب قلب تونس يهتم بالفقراء فعلًا. وأكد القروي على أن تونس ستكون مكانًا أفضل بكثير لو حصل فيها الجميع على طبق من المعكرونة (12). ومع ذلك، فلا يبدو أن الناخبين قد وافقوا على ذلك خلال الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية حيث نأوا بأنفسهم عن أصحاب الثروات الضخمة ومن تفوح منهم رائحة الفساد، سواء تمثَّل ذلك في حملة انتخابية أم في شراء الأصوات، واختار الناخبون، بدلًا من ذلك، مرشحًا لم ينفق أموالًا في الحملات الانتخابية، وهو ما منح سعيدًا أصواتًا تزيد حوالي ثلاث مرَّات عمَّا حصل عليه الرجل الذي يملك قناة تليفزيونية وقضى ثلاث سنوات في "العمل الخيري" و"مساعدة الفقراء" كنقطة انطلاق لترشحه للرئاسة. ماذا يخبرنا هذا عن الأوليغارشية والديمقراطية؟(13) ربما لن يكون بالضرورة على البلدان التي تشهد تحولًا ديمقراطيًّا حديثًا والسائرة في طريق النمو اختيار أمثال بيرلسكوني وترامب، وهذا درس مهم جدير بالتفكر فيه.

3. النهضة تواجه أزمة

يمكن لحزب النهضة الإسلامي أن يدَّعي، بحق، لعب دور حاسم في الانتقال الديمقراطي الحاصل بعد الثورة في تونس، فقد تخلَّى الحزب عن السلطة على إثر مصادقة المجلس الوطني التأسيسي على الدستور الجديد في يناير/كانون الثاني من عام 2014، ثم عاود تخليه عن السلطة مرة أخرى في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2014. وأظهر الحزب الإسلامي المعتدل استعداده لتقبل الهزيمة، وذلك مؤشر مبشر لمستقبل التحول الديمقراطي في تونس(14). إنه من خلال تكرار هذه الممارسات المتمثلة في الالتزام الطوعي بقواعد المنافسة والامتثال الذاتي لمخرجات صناديق الانتخابات يتم بناء الديمقراطية تدريجيًّا.

ثم، ربما تكون فترة خمس سنوات من سياسة التوافق بين حزب النهضة ومنافسه السابق، نداء تونس، التي أشاد بها الكثير من المراقبين بمن فيهم المراقبون الغربيون، قد وفَّرت بعض الاستقرار الحكومي. لكن، ماذا كان الغرض من ذلك؟ إذ بينما كان حزب النهضة يُسيِّر دواليب الحكم إلى جانب حزب السبسي بقيادة رئيس الوزراء، يوسف الشاهد، فإنه فشل في التصدي لمعالجة التحديات السياسية، وبالأخص فشل في تحسين الوضع الاقتصادي الكارثي. لقد أثار تقارب (أو استسلام) حزب النهضة مع نداء تونس في وجهات النظر حول قضايا مثل ما يسمى بقانون المصالحة(15) وإجراءات التقشف والزيادات الضريبية (16)، استياءَ الجمهور الذي عبَّر عنه من خلال المظاهرات والحملات مثل حملة "مانيش مسامح" (لن أسامح).

وبالتالي، فإنه بالنسبة لأكثر الأحزاب السياسية تنظيمًا في البلاد، والمعروف بامتلاكه قاعدة انتخابية ثابتة (تقدَّر عادة بحوالي 35٪ من الجسم الانتخابي التونسي)، فإن فشل عبد الفتاح مورو في بلوغ جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية يجب أن يكون بمنزلة إنذار شديد اللهجة بضرورة تصحيح المسار. إذ تتطلب النتيجة التي حصل عليها حزب النهضة في انتخابات 2019 طرح أسئلة داخلية حول مسألة انضباط قواعده في التصويت، فأسطورة الحركة-الحزب الموحدة والمتماسكة قد كُسرت. وعبر دعمه للمرشح قيس سعيد في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية، سرعان ما اختار حزب النهضة العودة إلى ركوب موجة الحركة "الثورية" أثناء حملته الانتخابية البرلمانية. وقد أكد حصول الحزب على 52 مقعدًا برلمانيًّا فقط (مقابل 69 عام 2014) فقدان جمهور الناخبين ثقتهم في حزب النهضة، رغم حصوله على الحصة الأكبر من المقاعد في البرلمان لكن دون أن يحقق النصاب المطلوب لتشكيل الحكومة.

ينبغي على قيادة الحزب النظر إلى هذا التصويت العقابي في الانتخابات كفرصة لإعادة النظر العميق وإجراء تقييم ذاتي دقيق. فبعد خسارة مورو، كان يجب على الثنائي المؤسس لحركة النهضة، على وجه الخصوص، اغتنام الفرصة لإعلان مسؤوليتهما وقبولهما الخضوع لمحاسبتهما من قبل أعضاء الحزب ومن قبل قاعدته الشعبية ومن قبل تونس بأكملها، لكنهما لم يفعلا ذلك، بل سعى الغنوشي، خلال الأسبوعين الأخيرين قبل موعد الانتخابات البرلمانية، إلى تبرير فشل سنوات "سياسات التوافق" الفارغة عبر التذرع بانعدام المساواة بين الأقاليم، والتنمية الاقتصادية وأزمة البطالة. لكن يبدو أن الجمهور التونسي قد أدرك الفرق بين الخطاب المتأخر وصناعة القرار الفعلية. وهكذا، عاقب الناخبون النهضة كما عاقبوا باقي المؤسسات السياسية التقليدية. إن ما حال دون دفن حزب النهضة بالكامل، كما كان الأمر مع حزب نداء تونس ومن سبقه من أحزاب أخرى تأسست بعد الثورة، هو وجود قاعدة انتخابية مستقرة نسبيًّا على مدى السنوات الثماني الماضية. ومع ذلك، فإن قوة حزب النهضة السياسية اليوم تقلَّصت إلى حدٍّ كبير. إن هذه الظاهرة تدفع نحو التشظي، لكنها أيضًا وفي نفس الوقت، دينامية تعددية. وبالإضافة إلى هذا فإن الكثير من التأمل والتدبر بات ضرورة مطروحة على الإسلاميين. 

تونس منذ سقوط ابن علي (الفرنسية)

ما الذي قدمه حزب النهضة للتونسيين منذ أن أسهم في المصادقة على دستور الجمهورية الثانية قبل خمس سنوات؟ وهل قلَّل حزب النهضة من حجمه عندما مدَّ يده إلى السبسي وأتيا معًا بفكرة" التوافق" المبتكرة؟ إن السؤال الملحَّ الذي يواجه الحزب الآن هو: هل كان المشروع بمجمله فاشلًا فأغرقه الناخبون التونسيون أم هل السردية البديلة عن أخطاء تكتيكية واستراتيجية لـ"توافق" هزيل أُبرم بين رجلين عوضًا عن أن يكون بين حزبيهما -ولم يتم توثيق أو نشر محتواه، وبالتالي لم يخضع للفحص السياسي والتداول بشأنه- يمكن أن تكون مقنعة؟(17) يرى كثيرون أنه حان الوقت بالنسبة للغنوشي، في موسم الانتخابات هذا، لكي يغادر المشهد السياسي بسلاسة، خاصة بعد فشل مورو في المرور إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. قد يكون تمرير عهد قيادة الحزب إلى جيل الشباب تأخر أكثر مما يجب.

لكن لا يبدو أن الشيخ سمع الأصوات المعارضة القادمة من داخل النهضة، فضلًا عن تلك الصادرة عن قطاعات واسعة من التونسيين. من ناحية أخرى، يبدو أن خيار تنصيب الغنوشي رئيسًا للوزراء (إذا ما صدقت الشائعات الأخيرة) فإنه سيكون بمنزلة ترتيب سياسي مريب وينطوي على عواقب خطيرة، خاصة أن حزب النهضة يعاني من أزمة وجود وهوية؛ إذ لم يكن الحزب، خلال السنوات الخمس الماضية، حزبًا أغلبيًّا ولا حزبًا معارضًا، ولم يعد يمثل الإسلام السياسي منذ العام 2016. والآن، وبعد مرور ثماني سنوات على اندلاع الثورة، يُطرح السؤال الملح التالي: من هو حزب النهضة؟ مِن المنتظر أن تكون السنوات الخمس المقبلة غنية بالتجارب والأخطاء في ظل غياب الخبرة السياسية الرسمية، أما عن الشائعات القائلة بأن الغنوشي سيشغل منصب رئيس الوزراء فإن ذلك، في حال تحققه، لن يُلحق الضرر فقط بتونس كبلد، بل وأيضًا بتراث الغنوشي وبمسيرته السياسية.

جنديات يقفن أمام إحدى دوائر الاقتراع في العاصمة، تونس، خلال جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، 13 أكتوبر 2019 (رويترز)

استنتاجات: تعلم الديمقراطية في زمن التحديات

كما كان الأمر في العام 2014، كان المكسب الديمقراطي الرئيس هو تعزيز التوجه نحو انتخابات حرة كأساس للتداول على السلطة على أساس دستوري منظم وسلمي، قائم على تناوب على السلطة محدد زمنيًّا ويحكمه القانون. وبغضِّ النظر عمَّن فاز في الانتخابات الحاسمة، فإن هذه الممارسة تُعد مفتاحًا لتعلم الديمقراطية(18). هكذا إذن، وضع حزبا النهضة ونداء تونس الأساس لـ"عادة" شبه انتخابية تتمثل في إقامة تحالفات بين الأحزاب السياسية الصغيرة ومؤيديها. وفي هذا الصدد، فإن مهارات من قبيل استدرار المعلومات وإحكام الدعاية الحزبية والإشراف على الحملات الانتخابية وإدارة وسائل الإعلام والتواصل مع الجمهور، إنما هي مهارات اكتُسبت حديثًا وتم الترويج لها بالكامل في انتخابات 2014، ثم مرة أخرى في عام 2019. إن واقع احترام الأحزاب السياسية التونسية والنخب (الجديدة والقديمة) لقواعد اللعبة الديمقراطية يؤشِّر بقوة على وجود مستوى من النضج "المدني" يسمح للقواعد الانتخابية بأن تكون قابلة للتنفيذ. كما أن الامتثال للقواعد الانتخابية والنتائج التي تفرزها صناديق الاقتراع يعد جزءًا لا يتجزأ من فهم الديمقراطية والتحول الديمقراطي من خلال طيف واسع من النظريات الديمقراطية(19). وفي المحصلة، يمكن القول: إن التصويت أصبح، في العام 2019، ممارسة سياسية شائعة، حتى وإن اقتصرت على 55٪ من مجموع الناخبين المؤهلين للتصويت. ومهما يكن من أمر، وبكل تأكيد، فإن الثورة عادت لترد بقوة وهذه المرة عبر صناديق الاقتراع.

لغز قيس سعيد 

أحيا الانتصار التاريخي في الانتخابات الرئاسية لعام 2019 الأمل لدى الشباب لاسترداد حيز من الوجود، ووجود مساحة لبعث جذوة الروح في ذكريات ثورة 2011 المتمثلة في شعار "الشعب يريد". وهكذا، ونتيجة لما سبق، فإن كل العيون تتجه الآن إلى من اختاره الشباب، قيس سعيد، ليكون هو المنقذ المرجو لترجمة ذلك الشعار إلى حرية وكرامة ولخلق وظائف للشباب العاطل، قبل أي شيء. لقد تمكن شباب تونس من تجاوز مرحلة اللامبالاة السياسية التي عُرفوا بها منذ الثورة(20) وأثبتوا أنهم لم يكونوا يمارسون الاحتجاج ويعملون في منظمات المجتمع المدني فحسب، بل أنهم باتوا يُدلون بأصواتهم ويؤثِّرون في نتائج الانتخابات أيضًا. هذا وقد أشارت استطلاعات الرأي إلى أن 90٪ من الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-35 سنة، و83.3٪ من الناخبين المتراوحة أعمارهم ما بين 26- 44 عامًا صوَّتوا لصالح المرشح سعيد(21). بالنسبة للعديد من الشباب، فإن الاختيار كان بين الأدب والنزاهة والصدق (سعيد) والفساد (القروي). لقد ألهم سعيد الروح الطوعية لدى الشباب وبعث فيهم حس المشاركة السياسية الرسمية واسترجاع مسار الثورة مجددًا، كما يرى البعض(22).

ومع ذلك، فإن المنعطف في هذه القصة، لدى أنصار قيس سعيد وجمهور ناخبيه، يكمن في: كيف يمكن لكل هذا الزخم أن يشكِّل "نقطة تحول" في الوقت الذي تخرُج فيه الإدارة الاقتصادية من الصلاحيات الدستورية لولاية الرئيس؟ وعلى الرغم من ضجيج هذه الانتخابات وانتصار شخصية "نظيفة" ومن خارج المنظومة، إلا أن مسألة كيف يمكن لرئيس قُيدت ولايته الدستورية بإدارة الشؤون الخارجية وقضايا الأمن القومي أن يُرضي ناخبيه ستبقى غامضة تكتنفها ظلال من عدم اليقين. إن من شأن التأثير المستقبلي لحركة الشباب غير المنتمي حزبيًّا (الحَراك)، الذين ساعدوا قيس سعيد في الجولة الثانية من 13 أكتوبر/تشرين الأول على الفوز على نبيل القروي، أن يزيد من تعقيد مهمة الرئيس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الحراك الشاب لم يتمرد فقط على حزب النهضة، الذي أسهم "منشقون" عنه في فوز قيس سعيد بالرئاسة، لكنه تمرد أيضًا على كامل المنظومة السياسية التي أدارت شؤون الحكم في البلاد منذ انتخابات الجمعية الوطنية التأسيسية في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2011، فثمة باعث يغذِّي جذوة الحركة الاحتجاجية ضد الأحزاب والزعامات؛ حيث يعتقد الناخبون أن كل هؤلاء قد انحرفوا عن مبادئ الثورة. ولا يمكن لعامل رد الفعل وحده تفسير تلك النتائج المأساوية للانتخابات الرئاسية والتشريعية لعام 2019 التي عصفت بالمنظومة القديمة برمتها، بما في ذلك اليسار -الخاسر الأكبر في الانتخابات- لصالح أحزاب ومرشحين غير معروفين يدَّعون تعاطفهم مع التونسيين "الساخطين".

كيف أمكن لشعبوي غير تقليدي(23) استعاض عن افتقاره إلى الهوية السياسية أو النضال ضد الاستبداد(24) بدعم شعبي قوي أن يفوز في سباق الرئاسة؟ تشير دراسة سياقات وديناميات السياسة في تونس إلى أن ما ساعد قيس سعيد على تحدي دهاء المنظومة التقليدية التونسية، عام 2019، هي المشاكل المستمرة التي تجاهلها كل من القوى والزعماء السياسيين عديمي الخبرة ممن انصرف كل تركيزهم إلى السلطة طيلة ثماني سنوات كاملة. في هذا المشهد، نحن بعيدون عن انتصار محمد مرسي (Q.7) على أحمد شفيق (H) رجل مبارك(25). فترشيح قيس سعيد كان وسيلة للتعبير عن خيبة أمل الناس في السياسة، ولم تكن حصيلة الأصوات التي حصدها قيس سعيد (r) تمثل مقياسًا سياسيًّا. وعلى العكس من ذلك، فإن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التي حصل فيها سعيد على نسبة 18.4٪ من الأصوات وكان نصيب القروي فيها 15.58٪ وحلَّ فيها مرشح حزب النهضة، عبد الفتاح مورو، في المرتبة الثالثة، تقدِّم صورة أكثر دقة، وهي تلك الصورة التي أكدتها نتائج الانتخابات البرلمانية حيث لم يقترب فيها أي حزب من إحراز الأغلبية. إن فسيفساء المشهد السياسي التونسي أبعد ما تكون عن الأحادية؛ إذ لا ينبغي اعتبار حصول سعيد على أغلبية كاسحة من الأصوات اختبارًا لشعبيته، فقد انتُخب ديمقراطيًّا في وقت كانت فيه السياسة في أسوأ أوضاعها. ففي يوم الامتحان، أدان التونسيون منظومة الحكم في عهد ما بعد ابن علي، بمن فيهم الإسلاميون. أما سؤال: كيف يمكن لشخص لا يسنده حزب أو قاعدة سياسية أن يجد نفسه في أعلى منصب في الدولة؟ فهو لغز سياسي سوف تتكشف إجابته على مدى السنوات الخمس القادمة.

إن أكثر ما يلفت النظر حول سعيد هو "معارضته للسُّلطة"، أي تلك الحساسية المناهضة لمنظومة الحكم. لكنه، مع ذلك، قدم ملف ترشحه للرئاسة بنفسه. وهكذا، يبدو واضحًا أنه لم يعارض، من حيث المبدأ، مبدأ الإعمال الديمقراطي للسلطة. كان سعيد وهو في ذروة المناظرات الرئاسية، معارضًا شرسًا لـ"الخيانة العظمى" المتمثلة في التعامل مع الكيان الصهيوني -وليس اليهود بصفتهم تلك- ذلك الكيان الذي تسبب في "نزوح [الشعب] الفلسطيني برمته...وما زال الكثير منهم يعيشون في خيام إلى يومنا هذا(26). لقد كان سعيد خلال تلك المناظرات شعبويًّا للغاية، وبدا عاطفيًّا وأيديولوجيًّا بما لا يتناسب وشخصية رئيس دولة عندما اعتبر أن الحرب مع إسرائيل هي الحالة "الطبيعية". قد يكون هذا موقفًا يدعو الحشود المحتفلة إلى ترديد شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين!"، لكن الخطاب الرسمي لمرشح رئاسي أو لرئيس دولة يجب أن يبدو أكثر حنكة وحصافة. كان بإمكان سعيد أن يكون أكثر مصداقية من خلال تبني موقف قانوني-حقوقي حول "صفقة القرن" عبر التأكيد، مثلًا، على أولوية حفظ المصالح الفلسطينية وفقًا للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. يزعم سعيد أنه من دعاة احترام السيادة والشرعية، ومع ذلك فإن معجمه السياسي لا يزال منقوصًا، وتلك فجوة يمكن للتجربة السياسية صقلها ومعالجتها.

مؤشرات الاقتصاد التونسي (الفرنسية)

ينطوي خطاب سعيد الشعبوي هذا، الذي يستحضر "الإرادة العامة"، على مفارقة تاريخية، وذلك في أحسن الأحوال. إذ ما هي الإرادة الشعبية؟ ومن الذي يمثلها؟ لقد زاد التنظير والممارسة الديمقراطيان المتواصلان في مختلف أنحاء العالم، لأكثر من قرنين، من إكساب مفهوم "الإرادة العامة العفوية" مزيدًا من الغموض والإبهام؛ إذ ما الداعي إلى محاولة تحوير دستور البلد الذي تداول عليه التونسيون لمدة أربع سنوات؟ وما الداعي للبحث عن نظام سياسي جديد ("من محلي إلى إقليمي إلى مركزي") يقترب من الديمقراطية المباشرة، مع استدعاء آليات عزل المنتخبين مباشرة من قبل ناخبيهم (فالدستور الحالي يتضمن آلية المعاقبة ويعزز الحكم المحلي والإقليمي. لم تكن المشكلة متعلقة بالتنفيذ ونقص الإرادة السياسية وحسب، بل أيضًا بشح الأموال العامة)؟ ربما يجب إدراج الجهات الفاعلة غير الرسمية (النشطاء، الشباب غير المنتمين سياسيًّا، والنقابات...) في الخطط السياسية، وخاصة في مجال التنمية، غير أن الهدف من هذا يجب ألا يكون جعل تلك الجهات الفاعلة والعمليات المرتبطة بذلك مؤسسية بالكامل، خاصة أن البنية التحتية للمجتمع المدني التونسي بلغت من التطور ما جعلها فريدة من نوعها في العالم العربي. وهنا يتبادر إلى الذهن الدستور التونسي والرباعي الحاصل على جائزة نوبل للسلام.

سعيد محقٌّ في الإشارة إلى أن التهميش السياسي (وليس الاقتصادي فقط) للشباب، على وجه الخصوص، يمثل خللًا صارخًا في بلد انحرفت مؤسساته السياسية عن المسار الثوري. ومع ذلك، فإن وعده "بتمكين المواطنين التونسيين"، وخاصة منهم الشباب، من "الارتقاء إلى قمة عملية صنع القرار" لتنفيذ إرادتهم، إنما هو أمر فيه انحراف عن مقاربة القضايا الحقيقية. كما أن سعيد لم يقترح سوى عدد قليل جدًّا من الحلول الملموسة لإنعاش الاقتصاد المتعثر. إن الحديث عن "دور اجتماعي" أكبر للدولة اعتبارًا من عام 1960 قد يبدو حديثًا جذابًا، إلا أن ذلك كان قبل ستة عقود تقريبًا، أي قبل أن يتحول بورقيبة إلى الليبرالية، التي عززها نظام ابن علي لاحقًا قبل أن يهاجم صندوق النقد الدولي تونس مطالبًا حكومتها بالمزيد من التقشف والانضباط المالي وقبل يصل معدل البطالة إلى أكثر من 30٪ في بعض المناطق، وقبل عودة "الحرقة" (أو ركوب القوارب طلبًا للهجرة غير الشرعية) كحلم بائس لشباب تونس اليائسين. أينما ولَّت النخب التونسية وجهها فإنها تجد نفسها مبتلاة بمشاكل مستعصية لا حل لها سوى في القدرات السياسية للبلاد والتي حددها بورقيبة نفسه بالتنمية الجهوية (التنمية الإقليمية). وهنا، لا داعي لإعادة اختراع العجلة، فالأمر يكمن ببساطة في اقتراح حلول مبتكرة قابلة للتحقيق.

التطلع قُدمًا إلى المستقبل

لا شك في أن التحديات السياسية والصعوبات الاقتصادية التي يواجهها سعيد مروِّعة(27)، لكن التشرذم يجب ألا يمثل عقوبة بالإعدام، بل يمكن أن يكون مثمرًا. فالديمقراطية المستدامة تتغذى على التعددية، وهي أفضل بكثير من الهيمنة الحزبية. والحوكمة المتنوعة تعني المزيد من الشركاء والمزيد من الأفكار والمزيد من توزيع المسؤوليات والقوة. وإذا ما قُدِّر لحزب النهضة خسارة المزيد من المقاعد في الاستحقاقات الانتخابات البرلمانية القادمة فقد يكون في ذلك ما يؤشر على تحقق ديمقراطية مستدامة في تونس. لقد تحولت السباقات الانتخابية المستدامة في تونس إلى اختبارات للاندماج الديمقراطي وعمليات للتعلم ومراكمة الخبرات. وبفضل هذه العمليات، فإن هذه الدولة المغاربية، التي يقل عدد سكانها عن 11 مليون نسمة، تبني تدريجيًّا رأس مال مدنيًّا وتُشرك شبابها في عملية التعلم الديمقراطي. إن تونس، باعتبارها دولة شحيحة الموارد، تستطيع الاستفادة من ديمقراطيتها الناشئة(28) لتصبح رائدة عربية في تطوير سياسات شاملة تعزز الديمقراطية المستدامة التي تلبي المعايير العالمية والمحلية على حدٍّ سواء(29). كما أن دخول تونس المبدئي في "نادي الدول الديمقراطية" الدولي يقدم فرصة ذهبية لها لتنمية العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، بل وحتى الثقافية، مع سائر الدول الديمقراطية الأخرى. هذا بالإضافة إلى أن مثل تلك الثقة والقدرة على البناء دولة ستمكِّن تونس من الإشعاع وسط المنظمات الدولية (بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر، مقعدها المؤقت المنتظر في مجلس الأمن عام 2020) ولكي تصبح دولة عالمية تحظى باحترام كبير بين مجتمع الأمم.

ثمة عدد هائل من القضايا الإشكالية الشائكة التي من المنتظر أن يواجهها الرئيس الجديد على مستوى السياسة الخارجية، منها مثلًا: كيف سيتعاطى قيس سعيد -بشخصيته الشعبوية- مع قضايا تشغل العالم على غرار العمليات العسكرية التي نفذتها وتنفذها الولايات المتحدة الأميركية، بعد عام 2011، خارج قواعد بلادها العسكرية في ظل تبادل معلوماتي ضئيل، أو حتى معدوم، مع الحكومة التونسية، هذا ناهيك عن عمليات المراقبة والإشراف؟(30) وهل سيستمر هذا الرئيس الجديد -المدافع عن السيادة الدولية- في التعاون مع الأميركيين لمكافحة الإرهاب الذي يبقى جانب كبير منه سريًّا بسبب عدم شعبيته، التي لا شك فيها، لدى جمهور المواطنين التونسيين (ومن الأمثلة على ذلك وجود طائرات أميركية مسيَّرة عن بُعد في القاعدة الجوية في مدينة بنزرت، أو العمليات البحرية الأميركية)(31) التي بدأت عام 2014؟ وبالإضافة إلى كل ذلك، يبقى السؤال قائمًا حول ما إذا كان هذا التحول الديمقراطي المستدام سيُترجَم إلى نمو اقتصادي شامل وتنمية إقليمية؛ إذ إنه لكي تتحول الديمقراطية المستدامة إلى مورد وثروة، فإنه يتوجب أن تكون السياسات والبرامج الملموسة التي تركز على رفاهية جميع المواطنين أولوية للقادة السياسيين وممثلي الشعب المنتخبين حديثًا.

بعد الوفاء بوعده بزيارة الجزائر، ينبغي على قيس سعيد أن يؤدي أيضًا زيارة إلى مملكة المغرب الجارة. لقد كان الإسلاميون (بمن فيهم قيادات حزب النهضة) يترددون، منذ فترة طويلة، على باريس وواشنطن في زيارات رسمية. في هذا السياق، بإمكان سعيد عكس هذا التوجه وترتيب زيارات إلى دول صغيرة مثل سنغافورة(32) (المثيرة للإعجاب من خلال تطويرها اقتصادًا قائمًا على المعرفة، وحيث احتلت جامعتها الوطنية المرتبة 22 عالميًّا (33)) وكوستاريكا (34) (التي تمتلك خبرة ديمقراطية تمتد لأكثر من ستة عقود "رغم" فقرها النسبي). هذان البلدان شحيحا الموارد، تمامًا مثل تونس، لكنهما ثريان برأس مالهما البشري وقد تمكنا من تسطير قصص نجاح مبهرة عبر إعادة رسم أولويات سياساتهما بما أهلهما لتلبية احتياجات شعبيهما.

قد يكون النهوض برفاهية المواطنين هو المفتاح الذي يحقق الزيادة في الإنتاجية، التي هي بدورها ضرورية لتحسين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والقضاء على التهميش(35) والحد من الفقر وخلق فرص عمل جديدة. أما الفشل في تحقيق ذلك فسيجعل من التحول الديمقراطي المستدام نوعًا من "لعنة الموارد" على تونس، فتكون بذلك دولة ذات رأس مال مدني متزايد وتعلم ديمقراطي لكنها عاجزة عن توظيف مواردها الديمقراطية بفعالية. لقد عانت الحكومات والبرلمانات المنتخبة في تونس، خلال السنوات الثماني الماضية، من الفساد وتراجع معدلات النمو الاقتصادي وانخفاض قيمة العملة الوطنية "الدينار"، بالإضافة إلى معاناتها من الاستقطاب السياسي وارتفاع معدلات البطالة وتراكم الدَّيْن العام الذي بلغ أكثر من 70٪(36). هذا فضلًا عن الاعتماد على المقرضين الدوليين.

لا يمكن للديمقراطية القضاء كليًّا على الفساد، لكن بإمكانها توفير الوسائل القانونية للحد منه. قد لا يكون هذا ترياقًا لمعالجة جميع الأمراض لكنه كفيل بخلق رأس المال المدني والديمقراطي اللازم لإطلاق العنان لمبادرة ثابتة ومتناسقة مع تحسين العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة والتنمية الإقليمية، وإتاحة مجال أوسع لتحقيق النمو الاقتصادي.

ولترجمة وعده بتمكين السكان، وخاصة الشباب، إلى سياسات فعالة، فلمَ لا يلجأ الرئيس التونسي الجديد، على سبيل المثال، إلى توظيف الكفاءات من العاملين في مشاريع الأمم المتحدة الإنمائية للألفية الثانية (الأهداف الإنمائية للألفية 2000-2015/2030) وتشجيع الشباب على الترويج لتونس ومن ثم مكافأة أولئك الذين استجابوا لذلك عبر مساعدتهم على بدء مشاريع تجارية صغيرة، واختيار متطوعين من بينهم ليكونوا سفراء ممثلين عن القاعدة الشعبية في دول البحر المتوسط من أجل الترويج للمنتجات التونسية (بما فيها المنتجات الثقافية). ليس مطلوبًا إعادة اختراع العجلة لتوفير فرص العمل، فقط يجب على جميع المسؤولين الاستفادة من تجارب الائتمان الآسيوية الصغيرة، والاستلهام من تجربة المغرب في الترويج الناجح لمنتجاته عبر العالم، والاستفادة أيضًا من نموذجه في صناعة السياحة، وكذلك السعي إلى توظيف المواطنين التونسيين في المنظمات الدولية، على غرار ما تفعله جمهورية مصر. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*العربي صديقي، باحث تونسي وأكاديمي بجامعة قطر. 

**ترجمه د. كريم الماجري.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)- انظر:

Michael Safi, “Tunisia election: 'Robocop' Kais Saied wins presidential runoff”, The Guardian, October 14, 2019 https://www.theguardian.com/world/2019/oct/14/tunisia-election-exit-polls-point-to-landslide-win-for-robocop-kais-saied

(2)- انظر:

S. Huntington (1992), Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century. (Norman: University of Oklahoma Press), p. 266.

(3)- انظر:

Ayesh, M (2019), Shukran Tunis. Al-Quds al-Arabi, 14 October. Available from: https://bit.ly/2JOfQLM [Accessed 16 October 2019.]

(4)- انظر:

R. Haugbølle & F. Cavatorta (2012): “Vive la grande famille des médias tunisiens’ Media reform, authoritarian resilience and societal responses in Tunisia,” The Journal of North African Studies, (2012) Vol. 17, No.1, pp. 97-112.

(5)- انظر:

A. J. Nathan, ‘Authoritarian Resilience,’ Journal of Democracy, (2003) vol. 14, no. 1, pp. 6-17.

(6)- انظر:

UltraSawt, 18 September 2019, Rafdah li 'tashwih' Kais Saied: Himlah 'Faisbookiyyah' Dhid Qanat 'Al-Hiwar al-Tounsi.' Available from: https://bit.ly/33fCx3c [Accessed 17 October 2019].

(7)- انظر:

Al Jazeera, Ma Dawr al-Munadharaat al-Tilfizyooniyyah fi al-Intikhabaat al-Ri'aasiyyah al-Tunisiyyah? 14 October. Available from: https://bit.ly/2NbHBjy [Accessed 17 October 2019].

(8)- انظر:

Shorouk News (2019), Munadharaat al-Ri'aasah fi Tunis: Dimuqratiyyah Haqiqiyyah am Mujarrad Minassah Khitabiyyah? 9 September. https://bit.ly/2pFkKDZ [Accessed 18 October 2019].

(9)- انظر:

W. Nylen, (2003). Participatory democracy versus elitist democracy; Lessons from Brazil. (New York: Palgrave Macmillan).

(10)- انظر:

David Kirkpatrick, “Financing questions shadow Tunisian vote, first of Arab Spring,” New York Times, 22 October 2011, in: https://www.nytimes.com/2011/10/23/world/africa/tunisia-election-faces-financing-questions.html, (Accessed: 15/11/2014).

(11)- انظر:

Tarek Amara, "Independent Candidates Get Most Votes in Tunisia's Municipal Election." Reuter, s, 8 May 2018, https://reut.rs/2C7fcF2 (Accessed: 1 August 2018).

(12)- انظر:

Mosaique FM (2019), Madha Qaala Nabil Karoui 'an Fawz Kais Saied? 14 October. Available from: https://www.youtube.com/watch?v=UmIJvwb9dUg [Accessed 17 October 2019].

(13)- انظر:

ArabiPress (2018), Kutub Ahmad Nadhif: Tunis: Dimuqratiyyah Tahta Sultat al-Mal, 26 December.

http://arabipress.net/?page=article&id=45136 (Accessed 17 October 2019).

(14)- انظر:

Al-Jazeera, “Tunisian PM Resigns as part of Transition Plan,” 9 January 2014, https://bit.ly/34wHbKB (Accessed: 20 June 2014).

(15)- انظر:

B. Barakat (2017), Tadhahura fi Tunis Rafdan liqanun al-Musalahah wasata Tabayun Mawaqif al-Ahzab. Alaraby Aljadid, 16 September. Available from: https://bit.ly/2JN6qjX [Accessed 17 October 2019].

(16)- انظر:

Amara, T. (2018), 'Violent protests resume in Tunisia after two days of calm', Reuters, 14 January. Available from: https://reut.rs/32c5bRD [Accessed 17 October 2019].

(17)- انظر:

BBC News (2019), Abdelfattah Morou Yantaqid Al-Siyasah fi Tunis Qabla al-Intikhabat al-Ri'asiyyah, 10 October. Available from: https://www.youtube.com/watch?v=a5Myyv3g3m4 [Accessed 14 October 2019].

(18)- انظر:

Sadiki, L. (2015), ‘Towards a “Democratic Knowledge” turn? Knowledge production in the age of the Arab Spring’, The Journal of North African Studies, 20:5, pp. 702–21.

(19)- انظر:

Przeworski, (1991). Democracy and the Market (Cambridge: Cambridge University Press).

(20)- انظر:

Yerkes, S. (2017), 'Young people are staying away from Tunisian politics--here's why,' Brookings Markaz Blog, 20 March. Available from: https://brook.gs/2PJXnDT [Accessed 16 October 2019].

(21)- انظر:

Kadarah, O. (2019), Al-intikhabaat al-Ri'asiyyah: Limadha Sawwata al-Shabab al-Tounsi bikathaafah li Kais Saied? France24, 15 October. Available from: https://bit.ly/2PMXjDt [Accessed 17 October 2019].

(22)- انظر:

M Tunisia TV (2019), Birnamij al-Hadath Dawr al-Shabab fi Hamlat Kais Saied wa Himayat Mashroo'ih, 17 October 2019. Available from: https://www.youtube.com/watch?v=MxrzYGbjP1U [Accessed 17 October 2019].

(23)- انظر:

Baker, P. C. (2019), ' "We the people": the battle to define populism', Guardian, 10 January. Available from: https://bit.ly/33fPeuP [Accessed 18 October 2019].

(24)- انظر:

Marzouki, M. (2004), 'An Ayyati Dimuqratiyyah Tatahaddathun? Paris: Al-Mu'assasah Al-Arabiyyah Al-Orubbiyyah lil Nashr.

(25)- انظر:

The Guardian (2012), 'Muslim Brotherhood's Mohammed Morsi wins Egypt's presidential race,' 18 June. Available from: https://bit.ly/2C60IW2 [Accessed 17 October 2019]

(26)- انظر:

Watania Replay (2019), Al-Munadharah al-Intikhabiyyah al-Ri'asiyyah lil Dawr al-Thani, 12 October. Available from https://www.youtube.com/watch?v=i0BSQB2NkM0 [Accessed 13 October 2019].

(27)- انظر:

Al-Ramdani, M., ed. (2017), Masaar lil Intiqaal al-Dimuqrati al-'Aseer fi Tunis. Cairo: Cairo Institute for Human Rights Studies.

(28)- انظر:

Al-Hnashi, A. (2018), Al-Din wal Siyasah fi Tunis wal Fadaa' al-Magharibi: Bayna al-Irth al-Tarikhi wa Ikrahat al-Waqi’. Tunis: Sotumedia.

(29)- انظر:

El Dahshan, M. (2012), 'Tunisia stakes a claim.' Foreign Policy, 21 May. https://foreignpolicy.com/2012/05/21/tunisia-stakes-a-claim/ [Accessed 17 October 2019].

(30)- انظر:

Jebnoun, N. (2017), Tunisia's national intelligence: why "rogue elephants" fail to reform. Washington, D.C: New Academia Publishing, pp. 64-5.

(31)- انظر:

Blaise, L., E. Schmitt and C. Gall (2019), 'Why the U.S. and Tunisia keep their cooperation secrete,' New York Times, 2 March. https://nyti.ms/2JMeEZs (Accessed 17 October 2019)

(32)- انظر:

Won, P., Y. Ho and A. Singh (2007), 'Towards an 'enterprenurial university' model to support knowledge-based economic development: the case of the National University of Singapore,' World Development, 35(6): pp. 941-958.

(33)- انظر:

World University Rankings 2018, Times Higher Education,

https://bit.ly/2pDII2C  [Accessed 1 October 2019]

(34)- انظر:

Rodriguez-Clare, A. (2001), 'Costa Rica's Development strategy based on human capital and technology: how it got there, the impact of Intel, and lessons for other countries.' Journal of Human Development, 2(2): pp. 311-324.

(35)- انظر:

Sadiki, L. (2019), 'Regional development in Tunisia: the consequences of multiple marginalization,' Policy Briefing (January), Brookings Doha Center. Available from: https://brook.gs/34pKgfi [Accessed 1 October 2019]

(36)- انظر:

Bouazza, R. (2019), 'Tackling stubborn economic crisis a priority for Tunisia after election.' The Arab Weekly, 7 September. Available from: https://bit.ly/2JPFqjM [Accessed 17 October 2019]