مذكرات الرئيس السنغالي عبدو ضيوف

أصدرت دار "سُويْ" بفرنسا قبل فترة وجيزة مذكرات للرئيس السنغال السابق عبدو ضيوف وهو نص يتحدث عن مراحل هامة من التطور السياسي السنغالي والإفريقي عموما غداة الاستقلال، وما تلا ذلك من تحديات البناء والتنمية كان للرئيس ضيوف دور بارز في صنعها والتأثير والتأثر فيها وبها.
201511010415543734_20.jpg
(الجزيرة)

هنالك حضور جلي للرئيس السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور في مذكرات سلفه عبدو ضيوف؛ فهو المعلم الملهم الذي يمكن وصفه بأبي الإفريقانية الزنجية إلى جانب إيميه سيزير وليون غنتوران دماس، وبأبي الفرانكفونية إلى جانب الحبيب بورقيبة وغيرهما، ظل الرئيس عبدو ضيوف في كل مساره السياسي والمهني جاعلاً من سابقه الرئيس سنغور ملهمًا سياسيًّا واجتماعيًّا خدم بلده ودافع عنه وعن وحدته واستقلاله، نظَّر للإفريقانية وأطَّر لها سياسيًّا وثقافيًّا، ألَّف في الشعر والأدب والتاريخ، وقد استرسل المؤلف في مذكراته استرسالاً، واستطرد استطرادًا واصفًا أبعاد شخصية سنغور؛ التي كانت بالنسبة إليه شلال معارف مغدقًا، ومصدرَ إلهام مستمرًّا.

تولَّى سنغور رئاسة هرم السلطة في السنغال فكان عبدو ضيوف يؤازره في مواقفه، ويسايره في أغلب أفكاره، وقد ظل ذلك الشعور لصيقًا به؛ فنجده يصف شعوره حين تم انتخابه عام 2002 في بيروت لرئاسة المنظمة الدولية للفرانكفونية؛ حيث تجري المقادير بأن يخلفه في رئاسة هذه المنظمة كما خلفه في رئاسة السنغال، ومعلوم أن ملهمه الرئيس سنغور قادها برهة من الزمن.

الإنسان بين التخيير والتسخير

كتب عبدو ضيوف عن بداياته وعن حياته الأولى بسرد تراجيدي، يلمس فيه قرَّاؤه إيمانًا عميقًا بالقدر رسَّخته التربية الإسلامية والوسط العائلي المسلم الذي نشأ فيه عبدو ضيوف، فضلاً عن قدرة على التحليل الفلسفي الذي استلهمه المؤلف من دروس أستاذ الفلسفة في ثانوية فيدرب بمدينة سان لويس السنغالية؛ حيث درس عبدو ضيوف المرحلتين الابتدائية والثانوية، ليذهب بعد ذلك إلى فرنسا، فيقص قصة رجوعه منها بعد أن مكث أعوام الدراسة في المدرسة الوطنية لفرنسا ما وراء البحار.

لا يُخفي عبدو ضيوف -أثناء سرده الممتع- تأثره بحادثة سقوط الطائرة التي كان سيستقلها إيابًا من فرنسا بعد إكمال دراسته؛ التي عدل عنها إلى السفر بالباخرة عبر مرسيليا، ثم الدار البيضاء وصولاً إلى دكار، وكان رفيقه محمد تيام قد ضغط عليه ليأخذ ذلك الطريق البحري؛ إلا أنهما يفقدان شقيق محمد تيام في تلك الحادثة. يقف ضيوف -وهو المتمرس بالفلسفة وتلميذ الأستاذ جان فينيو كما يصف نفسه- متسائلاً عن المصير المحتوم الذي ينتظر الإنسان، وعن تأرجح البشر بين التسيير والتخيير، كما يتساءل عن الهوة الفارقة بين ما يُراد للإنسان بشكل حتمي، وما يريده الإنسان لنفسه؛ فالمصير المرتقب والحياة الإنسانية مجرد صدفة لا سابق لها كما يؤكد المؤلف؛ الذي يخلص من تلك التساؤلات إلى الأخذ برأي الفيلسوف أينشتاين في تعريفه للصدفة بأنها: "الإله الذي يمشي في تنكر".

وككل نجاحاته وإنجازاته يُرجع الرئيس ضيوف نجاته من ذلك الحادث -الذي كان يمكن أن يضع حدًّا لحياته- إلى دعوات والديه المبتهلة، وصدقاتهم الجارية، وهما اللذان يرجع إليهما الفضل في تربيته وإحاطته بالنصح والرعاية منذ طفولته.

من مدينة اللوغا إلى المدرسة الوطنية لفرنسا ما وراء البحار

في السابع من سبتمبر/أيلول 1935 وُلد الرئيس ضيوف بمدينة اللوغا السنغالية؛ التي تُشَكِّل نقطة تلاقح ولقاء بين عالمي الزراعة والريف، بين المزارعين والمنمين؛ إنها منطقة تتداخل فيها المجموعات الإثنية الولفية والبولارية والعرب، عاش عبدو ضيوف في هذه المنطقة التي تتعايش فيها الثقافات، ويطغى فيها سياق ديني ذو هوية إسلامية تطبعها الطرق الصوفية خاصة التيجانية والمريدية؛ ففي مدينة اللوغا عاش مؤسس الطريقة المريدية الشيخ (أحمد بمبا) برهة من الزمن في تلك الحوزة، وكان طلابه وخلفاؤه من هذه المدينة، كما كان التأثير الصوفي القادم من موريتانيا رافدًا من روافد تلك الهوية التي صاغت الحياة الدينية والاجتماعية باللوغا، وإلى جانب ذلك يُوجد حكم الإدارة الفرنسية في تلك الفترة، وهي التي كان لها القول الفصل في السياسة والتعليم بحكم خضوع السنغال للاستعمار الفرنسي في تلك الأيام.

كان دخول الرئيس ضيوف لثانوية فيدرب بمدينة سان لويس عام 1948 متزامنًا مع استقالة الرئيس السابق سنغور من الإدارة الفرنسية، وتأسيسه حزبًا سياسيًّا عُرف باسم كتلة الديمقراطية السنغالية، كانت السياسة تتداعى إلى عبدو ضيوف وتسير نحوه دون أن يبحث عنها؛ كما يحكي عن نفسه، كانت خالته ترأس نساء حزب كتلة الديمقراطية السنغالية في مدينة سان لويس، وتستدعيه لبعض المهمات؛ مما يسَّر له الاحتكاك ببعض الفاعلين المحليين، والالتقاء بكبار صنَّاع السياسة السنغالية بمن فيهم المعلم الملهِم سنغور.

ترسخت جذور التكوين السياسي للرئيس ضيوف في مرحلة التعليم الثانوي، ثم نضج في مرحلة النضال النقابي بعد انتقاله إلى المعهد الفرنسي لإفريقيا السوداء بالعاصمة دكار عاصمة إفريقيا الغربية؛ حيث أسس مع مجموعة من طلاب المعهد -الذي يضم آنذاك حوالي 300 طالب من مختلف البلدان الإفريقية- جمعية تضم النقابات الطلابية في التعليم الجامعي والثانوي في كل البلاد؛ تولى ضيوف رئاسة تلك الجمعية وهي في طور التأسيس، ثم كان ناشطًا في بعض النقابات الطلابية في مرحلة الدراسة في كلية الحقوق بجامعة داكار ما بين 1955 و1958، وخلال هذه الفترة كانت أول زيارة إلى باريس؛ حيث حظي بجائزة المرتبة الأولى التي تمثَّلت في الاستفادة من صيفية استكشافية في فرنسا.

لم تكن صدفة أن يقيم الرئيس ضيوف صيف 1958 بمدينة داكار؛ حيث اعتاد أن يرجع إلى مراتع صباه بسان لويس واللوغا؛ حيث عكف على الإعداد لمسابقة دخول المدرسة الوطنية لفرنسا ما وراء البحار، لتكون وجهته الدراسية نهاية العام نفسه، وكانت حينها وجهة أكثر المثقفين في إفريقيا الغربية، وفيها تخرج أكثر إداريي الدول الإفريقية في تلك الحقبة، وما إن تحصلت السنغال على استقلالها الرسمي تحت لافتة الفيدرالية المالية في 20 من يونيو/حزيران 1960 حتى نجد الرئيس ضيوف يتخرج في شهر يونيو/حزيران من السنة نفسها؛ ليقرِّر الرجوع إلى البلاد في سبتمبر/أيلول، وليبدأ خدمة بلده بصفته إداريًّا ماليًّا.

في دهاليز الحكم منذ الفترة الأولى لاستقلال السنغال

يذكر ضيوف أنه فور وصوله إلى السنغال منهيًا دراسته في فرنسا كان ممادو ديا لا يزال رئيسًا للجمعية الوطنية، وقد كلَّفه ممادو ديا مباشرة بقسم المالية في وزارة التخطيط، ثم ما لبث أن تم تعيينه مديرًا لإدارة التعاون مع الممولين الخارجين في الوزارة نفسها، ثم يستمرُّ التدرُّج بعد ذلك إلى نائب أمين عام للحكومة تحت وصاية أمينها العام السيد جان كولين، ثم عُيِّن أمينًا عامًا لوزارة الدفاع منتصف عام 1961، ثم واليًا لولاية "سين سالم"؛ إحدى ولايات السنغال السبع، ضمها التقسيم الإداري للسنغال ما بعد الاستقلال.

عَرَفَ النظامُ السياسي السنغال غداة الاستقلال تحولاً عسيرًا من نظام برلماني -يقوده رئيس المجلس التنفيذي ممادو ديا- إلى نظام رئاسي على غرار كل الدول الإفريقية يرأسه الراحل سنغور، وقد عارض ضيوف هذا التحوُّل؛ مما أدى إلى عزله بسب رفضه لإعلان الولاء للرئيس سنغور بعد اعتقال الرئيس محمد ديا وبعضٍ من وزرائه، وكان هذا التحول من نظام برلماني إلى نظام رئاسي قد تم بمباركة وتصويت أغلب نواب الجمعية الوطنية، وما لبث المؤلف أن تم تعيينه في ديسمبر/كانون الأول 1962 وكيلاً لوزارة الشؤون الخارجية خلفًا لصديقه ورفيق دربه حبيب تيام.

وفي شهر مايو/أيار 1963 يصبح ضيوف أمينًا عامًّا لرئاسة الجمهورية، وفي هذه الفترة يعرف السنغال بل ومنطقة غرب إفريقيا تحولات كبرى على المستوى الإقليمي؛ خصوصًا فيما يتعلق بالعلاقة بين السنغال ومالي، فضلاً عن اندلاع أزمة كازامانس السنغالية؛ التي تتخذ منها حركات التمرد الغينية قواعد خلفية لمقاومة الاستعمار البرتغالي؛ أخذ عبدو ضيوف على عاتقه تسيير ملفي الخارجية والسياسة الداخلية منذ وصوله إلى الأمانة العامة للرئاسة، وقد اتسمت هذه السنة 1963 -يقول الرئيس ضيوف- بأحداث مأساوية حدثت خلال تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. لقد أيقظت سنة 1963 في ذاكرة عبدو ضيوف أمورًا كثيرة وجميلة؛ لكن أجمل ما اتسمت به هو يوم 21 من ديسمبر/كانون الأول؛ وهو يوم زواجه بالسيدة إليزابيث التي كان قد التقاها ذات مساء ربيعي بالعاصمة الفرنسية باريس.

في فبراير/شباط 1964 وقع تغيير هيكلي في الإدارة السنغالية شمل عدة قطاعات وزارية؛ فتم تكليف عبدو ضيوف بإدارة ديوان رئيس الجمهورية، إضافة إلى الأمانة العامة للرئاسة، ومن المعلوم -يقول الرئيس ضيوف- أنه في النظام البرلماني تُضَمُّ أغلب مهام الوزير الأول إلى هذه الوظيفة؛ لكن في خلال سنة 1965 عين الرئيس سنغور مديرًا لديوانه؛ ليتفرغ ضيوف للأمانة العامة للحكومة، بالإضافة إلى ذلك كان سنغور كثيرًا ما يُكَلِّفه بين الفينة والأخرى بمهام خاصة؛ على سبيل المثال لا الحصر تنظيم الدورة الأولى من المهرجان الثقافي الدولي للفنون الإفريقية، وقد ظل عبدو ضيوف مقربًا منذ تلك الفترة من سنغور حتى في بعض المهام اليومية؛ لأن قيامه بالمهام الموكلة إليه منح الرئيس سنغور فراغًا في الوقت لمزاولة أعماله الفكرية والأدبية، وفي تلك الفترة وصلته من سنغور رسالة شفوية عن طريق زوجته إليزابيث ضيوف؛ وهي أن سنغور عازم على أن يجعله خليفته من بعده في رئاسة الجمهورية، وهو الشيء الذي سيحققه بالفعل.

ومع مطلع 1968 تم تعيين ضيوف وزيرًا للتخطيط والصناعة، وكان ذلك أكبر تحدٍّ واجهه في تلك المرحلة؛ لأنها -بكل بساطة- تجمع عدَّة قطاعات، تستقطب أهم السياسات والاستراتيجيات التنموية للدولة، ولحسن الحظ -بعد أيام قليلة من تسلُّم المهام الجديدة- كانت بعثة من كندا تزور السنغال في إطار التعاون بين البلدين، ووافقت على تمويل كل المشاريع التي قُدِّمَت إليها، ثم تمت مراجعة قوانين التعاون الخارجي، وإنشاء منظمة استثمار نهر السنغال، وعدة مشاريع كبرى في البلد، وفي هذا السياق يفتح ضيوف هامشًا لعرض بعض الإنجازات والمشاريع التي حققها في منطقة كازامانس؛ مؤكدًا أنها لم تكن يومًا معزولة أو مهمشة من طرف الحكومة، ومستدلاً على ذلك بعدة مشاريع شملت البنى التحية والطاقة والزراعة، تم القيام بها خلال تولِّيه مهام تلك الوزارة.

الطريق نحو رئاسة الجمهورية

تم تغيير الدستور في 22 من فبراير/شباط عام 1968، وكان من أبرز التغييرات تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، واستحداث منصب الوزير الأول؛ فدخلت الحياة السياسية السنغالية منعطفًا مختلفًا كما يقول الرئيس ضيوف، وقد تردَّدت الشائعات حول تعيين وزير أول للحكومة، وكان اسم ضيوف أبرز الأسماء المتداولة في تلك الشائعات، وكثيرًا ما نصح الرئيس سنغور هو وحبيب تيام عبدو ضيوف بحضورٍ أفضل في الحزب الحاكم، الاتحاد التقدمي السنغالي، وباتخاذ قواعد شعبية قد يحتاج إليها في المستقبل، وهكذا بدأ ضيوف اتصالاته الميدانية، وفتح نقاشات من أجل تحالفات محلية في كلِّ من اللوغا وسان لويس، وقد صدقت تلك الشائعات؛ فتمَّ استدعاء عبدو ضيوف في 26 من فبراير/شباط 1970، وتعيينه رئيسًا للحكومة، وتكليفه بتشكيل فريقه الحكومي؛ الذي رأى النور بعد مخاض عسير، وتمَّ تغييره تباعًا في سنتي 1971 و1972، عرفت السنغال في تلك الفترة بعض الأحداث السياسية المهمَّة كتأسيس الحزب الاجتماعي، فضلاً عن ترشح الرئيس السابق عبد الله واد للرئاسة لأول مرة ضد الرئيس سنغور، كما جرت أحداث دبلوماسية وإقليمية أدَّت السنغال فيها آنذاك أدوارًا، وكان مرجع كل تلك النجاحات –حسب المؤلف- يعود إلى الرئيس سنغور تأسيسًا على موسوعيته المعرفية ونظرته المشرقة.

ظلَّ عبدو ضيوف رئيسًا للحكومة، وأعيد اختياره مرارًا لهذا المنصب؛ رغم تصاعد أصوات المعارضين واتساع نطاقهم إضافة إلى الصعوبات الاقتصادية التي تعرَّضت لها حكومته؛ التي بدأت منذ عام 1979؛ وهي تحديات أضعفت أداء الرئيس سنغور وحكومته، يقول الرئيس ضيوف: حيث إنه شاع في كثير من الأوساط أن الرئيس سنغور سيستقيل قبل نهاية مأموريته، وهو ما نفاه للإعلام في عدة مناسبات؛ لكن مع تفاقم الوضع الاقتصادي، وتنامي المعارضين السياسيين، وتقدُّم العمر بالرئيس سنغور لم يكن بدٌّ من تقديم استقالته في 31 من ديسمبر/كانون الأول 1980، يقول عبدو ضيوف في سرده الحرفي لرسالة الاستقالة الموجهة إلى المحكمة العليا: أطلب منكم -وتماشيًا مع دستور البلاد- أن تدعُوا رئيس حكومتي عبدو ضيوف للقسم الدستوري وتولي رئاسة الجمهورية.

يذكر الرئيس ضيوف أنه في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1981 أدى اليمين الدستورية، ودخل القصر الرئاسي وحوله أبوه وأمه وزوجته وأولاده، واستقبلني الرئيس سنغور وزوجته بكل الحفاوة التي عهدتها منهما، في نفس المساء توجَّه بخطاب إلى الأمة السنغالية؛ متعهدًا بأن حكومته ستكون حكومة ميدانية تحل المشكلات التي تعاني منها الدولة والشعب، اختار عبدو ضيوف رفيق دربه الوزير حبيب تيام رئيسًا للحكومة؛ على الرغم مما له من أعداء كثر في الطبقة السياسية السنغالية؛ ممن سبق أن أثاروا عليه الرئيس سنغور ليأمر بعزله من وزارة التنمية الريفية سنة 1973، كما أن غريمه الوزير جان كولن اعترض على العمل كوزير تحت رئاسته للحكومة؛ مما جعل الرئيس ضيوف يُعَيِّن الأخير في الأمانة العمة للحكومة وحبيب تيام رئيسًا لها.

يناقش ضيوف ما أثاره الإعلام من أنه تنكَّر لصانعه ومعلمه الرئيس سنغور؛ حيث يؤكد أن تلك المرحلة الأولى من حكمه كانت مواصلة لنهج سنغور مع بعض التغيير الذي تتطلبه المرحلة؛ كان من القرارات الصعبة التي انْتُقِدَتْ كثيرًا: التدخل العسكري لقمع التمرد في غامبيا؛ الذي عارضه حتى الرئيس الغامبي نفسه، والذي كان حينها في بريطانيا؛ وقد استضافته السنغال في القصر الرئاسي ريثما تنتهي الأزمة؛ التي قرر ضيوف التدخل العسكري فيها؛ لأن في تقديره أن فيها تهديدًا ليس لغامبيا فقط؛ وإنما أيضًا للسنغال.

تمت إعادة انتخاب ضيوف رئيسًا سنة 1983 بنسبة 83%؛ إلا أن تحديات ظهرت على السطح؛ ومنها: التجاذبات الحادة في إقليم كازامانس، الذي اجتاحه الحزب الاجتماعي الحاكم في الانتخابات المحلية والنيابية؛ رغم أزمة الحزب الحادة التي عاشها بعد ذلك على المستوى المركزي؛ التي تجلت في قطبين متصارعين من الوزراء يرأسهما مصطفى نياس وحبيب.

ويصف الرئيس ضيوف سنة 1985 بأنها كانت سنة دبلوماسية بامتياز؛ فقد شارك في قمم دولية، وفي عمل دبلوماسي مكثف، وفي هذا السياق يستطرد الرئيس ضيوف في إطار علاقته الدبلوماسية بالزعيم الليبي العقيد معمر القذافي؛ مستطردًا قصة زيارة الأخير للسنغال، طلب في أعقابها يد عقيلة الرئيس ضيوف؛ التي لا تزال في 16 من عمرها، ليُلِحَّ في الطلب عن طريق بعثتين دبلوماسيتين متتاليتين، ثم يكشف الرئيس ضيوف بعد سنتين عن طريق سيدة أعمال في ليبيا تربطه بها معرفة سابقة عن مخطط لخطف ابنته، التي كانت حينها تدرس في جامعة أميركية بواشنطن ليطلب من السلطات الأميركية أخذ التدابير اللازمة لذلك؛ وهو ما تمَّ في أعلى مستوى من السرية والمهنية على حد قول ضيوف.

وتتلاحق الأحداث سريعة سنة 1986 بعد وفاة الشيخ أنتا ديوب السياسي والباحث الاجتماعي السنغالي المرموق، وكان للزعيم الديني وشيخ طريقة المريدية بالسنغال عبد الأحد امباكي الدور الكبير في مساعدة الرئيس ضيوف في رئاسيات 1988، التي أعاد فيها الشعب السنغالي انتخابه على الرغم من أن المعارضة السنغالية نجحت في خلق جوٍّ من الغليان في صفوف المواطنين -على حد تعبير الرئيس ضيوف- سبَّب أعمال شغب في عدة مناطق وسط البلاد سرعان ما أخمدناها بسلمية ومهنية تامة.

وكان الحدث الأكبر لعام 1989 هو الأزمة التي اندلعت بين السنغال وموريتانيا؛ التي بدأت بمشادات بين سكان إحدى القرى السنغالية الحدودية ورعاة موريتانيين، يقول الرئيس ضيوف: لم أستقبل يومًا لاجئين موريتانيين معارضين للنظام، كانت تلك مسألة مبدأ. ورغم التدخلات من الدول الإفريقية والعربية من مصر ومالي والمغرب وغيرها؛ فإنه لم تفلح تلك الجهود في تهدئة الأوضاع ووقعت خسائر كبيرة على جانبي الضفة، ولولا إرادة الرئيس معاوية ولد الطايع وأنا لإيقاف الحرب -يقول الرئيس ضيوف- لكانت الكارثة أكبر. كان حلُّ الأزمة عن طريق مبادرة السيد العام للمخابرات الفرنسية كلود سلبرزان؛ الذي تجمعه بضيوف صداقة مند مرحلة الدراسة في فرنسا؛ الذي وجَّه لضيوف رسالة استدعاء سرية؛ لتعيينه مفاوضًا ووجَّه الرسالة نفسها إلى الرئيس الموريتاني معاوية ولد الطايع.

ويشير ضيوف إلى أن سنتي 1994 و1995 عززتا الوضع الدبلوماسي السنغالي مع زيارة البابا جان بول الثاني للسنغال، ومع اجتماع الرئيس الفرنسي جاك شيراك برؤساء دول المنطقة في داكار؛ فهو نجاح آخر دبلوماسي وإقليمي مهمٌّ، فضلاً عن زيارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون سنة 1994 للسنغال؛ التي جرى بموجبها توقيع العديد من المعاهدات والاتفاقات.

ما إن حلَّت نهايات ثمانينات القرن الماضي حتى عَرف الحزبُ الاجتماعي الحاكم هزات داخلية عنيفة، على الرغم من الأغلبية البرلمانية التي يحظى بها، وعلى الرغم الاستعداد الكامل لانتخابات عام 2000، وبلغت تلك الهزات الداخلية قيادات الحزب، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على قواعده، كان ضيوف مرشح الحزب إلى جانب ثمانية مرشحين منهم مصطفى نياس وآخرون، وسرعان ما تشكَّلت كتل حزبية حول مرشح المعارضة عبد الله واد. كان ضيوف يعلَم –كما قال في مذكراته- أنه إذا لم يُنتَخب في الدور الأول من الرئاسيات 27 من فبراير/شباط 2000؛ فسيكون من الصعب التجاوز في الشوط الثاني؛ لكن شيئًا ما حدث بين الشوطين من قبيل الخيانة والتشهير جعلني أتمنى، والله شاهد على ذلك، يقول الرئيس ضيوف، أن لا يعيد الشعب انتخابي هذه المرة؛ وهو ما تمَّ بالفعل بعد حصول حزبنا والقِلَّة المتحالفة معنا على نسبة 41% في الشوط الثاني. وكان يوم عرس ديمقراطي أشاد به العالم كله، وتلقيتُ على إثره التهاني والاتصالات من جميع الرؤساء، كما يقول ضيوف، الذي يخلص إلى أنه من الصعب اختصار 40 سنة من حياته السياسية في صفحات معدودة.

وفي الختام

لا يجد القارئ لمذكرات الرئيس ضيوف عناء في فهمها وتحليلها، كما لا يجد كبير عناء في ملاحظة تأثره بشخصية ذات بعد إنساني عالمي؛ هي معلمه الأول الرئيس سنغور، الذي عايشه وزيرًا، ثم أمينًا عامًّا ورئيسًا لحكومته، يَعْتَبِر ضيوف نفسه مع الرئيس سنغور ابنًا أمام والده، وتلميذًا بين يديه؛ حيث طبعت أفكار سنغور وأسلوبه وتفكيره مختلف مراحل حياة ضيوف.

يتولد انطباع واضح لدى قارئ الكتاب بإيمان الرئيس ضيوف بالقَدَر النابع من تربية إسلامية تلقاها منذ نعومة أظافره؛ حيث يرجع الرئيس في كثير من تعليقاته على الأحداث وتحليلها إلى مشيئة القدر المحتوم، ويتساءل في خلال ذلك عن مسألة تخيير الإنسان أو تسييره، والهوة الفارقة ما بين ما نريده لأنفسنا وما يُخَبِّئه لنا المستقبل، لا يفوته في ذلك اتفاق قدَرِي استدعى تعجُّبَه؛ من ذلك ما يرويه أنه في 11 من ديسمبر/كانون الأول 1961 تم تعيينه واليًا في المنطقة التي وُلد فيها الرئيس الحالي مكي صال، في اليوم نفسه ليكون خلفًا لخلفه في رئاسة الجمهورية.

يكاد القارئ لا يجد في مذكرات الرئيس ضيوف تلك المواقف والقرارات الكبيرة والصارمة؛ التي كثيرًا ما تردَّدت خلال صفحات الكتاب عن الرئيس سنغور، إلا ما كان لمامًا؛ كموقفه من التدخُّل لقمع التمرُّد في غامبيا، أو موقفه الحازم في إنهاء الحرب مع موريتانيا رغم مطالبة قوى فاعلة في الداخل والخارج بالاستمرار فيها، وهو الرئيس والدبلوماسي ذو الوزن القارِّي والعالمي تكاد لا ترصد له خلال هذه الصفحات موقفًا دوليًّا حازمًا من أزمات عالمية؛ كالصراع العربي-الإسرائيلي، وبعض الحروب في إفريقيا.

رغم تركيز ضيوف على مرحلة ما بعد التخرُّج حتى الخروج من السلطة، والتركيز فيها على الشأن السنغالي العام دون تفاصيل تُذْكَر حول حياته الخاصة ويومياته؛ فقد وصف مرحلة طفولته ومراحله الدراسية بشيء من التفصيل. يبقى التساؤل المفتوح الذي يطرح نفسه بعد صدور هذه المذكرات هو: لماذا لم يكتب الرئيس ضيوف عن مرحلة ما بعد الرئاسة؛ حيث كان فاعلاً دوليًّا، خاصة مرحلة رئاسته للمنظمة الفرانكفونية؟
__________________________
د. محمد محفوظ عبد الله دداه - باحث موريتاني بجامعة تولوز فرنسا

نبذة عن الكاتب