ندوة: الإعلام في مراحل الانتقال السياسي.. تونس نموذجًا

201412109162085734_20.jpg
من اليمين: د.مصطفى سواق، وبجواره د.صلاح الدين الزين ود.محمد قيراط (الجزيرة)

ملخص
ناقشت الندوة العلمية التي نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان "الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: تونس نموذجًا"، متغيرات المشهد الإعلامي التونسي بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011؛ ورصدت إشكاليات العلاقة بين النظام الإعلامي والنظام السياسي في ظل المخاوف من استخدامه أداة لحماية مصالح السلطة الجديدة، أو الترويج لأجندتها السياسية، كما تناولت دور الإعلام في المجال العام، وعلاقته بالمجتمع المدني، وكيفية معالجته لقضايا النوع الاجتماعي.

وركزت الأوراق البحثية، في سياق مقاربتها للنظام الإعلامي والممارسة السياسية في تونس، على التوترات بين الحكومة ووسائل الإعلام؛ وذلك من خلال النظر في تجارب تونس وهي تنتقل من نظام استبدادي ما قبل 2011 إلى نظام تعددي منبثق عن الثورة. كما تعرضت لعقد مقارنات بين الإعلاميْن: الخاص والعام، وعالجت واقع الإذاعات المحلية ودورها في تعزيز المواطنة من خلال المجتمع المدني والشراكات الإعلامية. وسلَّطت الندوة الضوء على دور مواقع التواصل الاجتماعي في مرحلة الانتقال السياسي، واختتمت أعمالها بعرض تقييم علمي للتغطية الإخبارية للانتخابات التشريعية التونسية، والدور الأول من الانتخابات الرئاسية التي جرت في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

عقد مركز الجزيرة للدراسات ندوة علمية بعنوان "الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: تونس نموذجًا" لمناقشة مُخرجات المرحلة الأولى من المشروع البحثي المشترك بين مركز الجزيرة للدراسات وجامعة كامبريدج عن الحالة الإعلامية التونسية، في السادس من ديسمبر/كانون الأول 2014 بالدوحة؛ وذلك بحضور الباحثين المشاركين في الدراسة ونخبة من أساتذة الإعلام من جامعات عربية وأجنبية مختلفة؛ إضافة إلى الطلاب الجامعيين والباحثين والإعلاميين، الذين يمثلون مؤسسات إعلامية متعددة؛ فضلاً عن صحافيي ومسؤولي شبكة الجزيرة الإعلامية، يتقدمهم الدكتور مصطفى سواق مدير الشبكة بالوكالة.

وقد بيَّن الدكتور صلاح الدين الزين مدير مركز الجزيرة للدراسات في كلمته الافتتاحية لأعمال الندوة أنه خلال مسارات عملية الانتقال السياسي، الذي تعيشه دول المنطقة منذ أواخر 2010، برزت بشدة علاقات التأثير المتبادلة بين النظام الإعلامي والنظام السياسي، وحدود الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في المراحل الانتقالية، ووظيفته في المجتمع، فضلاً عن الأطر التنظيمية والقانونية التي تحكمه.

وتأتي هذه الندوة تتويجًا للمرحلة الأولى من المشروع البحثي المشترك بين مركز الجزيرة للدراسات وجامعة كامبريدج لدراسة مُتغيرات الحالة الإعلامية في المجال العربي، وعلاقاتها بباقي الأنظمة الأخرى (السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية..).

ومن البديهي أنه لا يمكن بناء نظام ديمقراطي في تونس دون بناء منظومة إعلامية مُتحررة من الإشكاليات النفسية والمؤسساتية العميقة التي خلَّفها تراث نظام الحكم في عهد زين العابدين بن علي، والرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، حين جعلا الإعلام صوتًا للدولة ومُروِّجًا لذات الحاكم طوال خمسة عقود.

وكان التحدي الأكبر متمثلاً في فكِّ الارتباط بين النظام الإعلامي والنظام السياسي، والذي أصبح أحد أهم معارك تونس في مرحلة ما بعد الثورة، لذلك أُنشِئت مؤسسات وهيئات تنظيمية مختلفة وعلى رأسها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري.

ناقشت الندوة أوراقًا بحثية متعددة؛ نُشرت في عدد خاص من مجلة دراسات شمال إفريقيا North African Studies، كما سينشرها مركز الجزيرة للدراسات في موقعه الإلكتروني؛ فضلاً عن إصدارها في كتاب خاص.

النظام الإعلامي والممارسة السياسية في تونس

كانت الجلسة الأولى بعنوان "النظام الإعلامي والممارسة السياسية في تونس"، وقد ترأسها مدير البحوث بمركز الجزيرة للدراسات الدكتور عز الدين عبد المولى، وتناولت الورقة البحثية الأولى في هذه الجلسة "العلاقة بين الحكومة والإعلام في تونس: هل هي تحول نموذجي في ثقافة الحكم؟"، كان قد أعدَّها البروفيسور جورج جوفي من قسم الدراسات السياسية والدولية بجامعة كامبريدج، وقد قدمتها نيابة عنه الباحثة مريم شرباش من مركز الجزيرة للدراسات.

عالجت الورقة التوترات بين الحكومة ووسائل الإعلام؛ وذلك من خلال النظر في تجارب تونس وهي تنتقل من نظام استبدادي ما قبل 2011 إلى نظام تعددي منبثق عن الثورة. وقد عرف هذا الانتقال استحقاقات انتخابية ودستورية، وسلسلة من الوقائع والأحداث لاسيما الاغتيالات التي استهدفت شخصيات سياسية.

وقد استعرضت الورقة جانبًا مهمًّا من تاريخ الصحافة التونسية ومقارنتها بالصحافة في المغرب والجزائر، فضلاً عن مقارنتها بالصحافة الفرنسية؛ حيث كانت فرنسا القوة الاستعمارية المهيمنة في المنطقة، وشكَّل إعلامها أيضًا نموذجًا مهيمنًا على تلك الدول. كما تطرقت الورقة للتعريف بمختلف أنماط الإعلام التونسي كالإعلام السمعي البصري والإعلام الجديد.

وبعد ثورة 2011 تطورت النظرة للإعلام ولدوره من خلال سنِّ جملة من التشريعات المهمة، فضلاً عن إنشاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. وقد ظل الإعلام منقسمًا في توجهاته ومرتبطًا بالفاعلين السياسيين في البلد؛ حيث عرفت الساحة الإعلامية بتونس إصدار الكتاب الأسود عن طريق فريق عمل مباشر بإشراف رئاسة الجمهورية، والذي تضمن قائمة للصحفيين والمثقفين الذين شاركوا عن كثب في الدعاية لنظام ابن علي، كما نصَّ دستور 2014 على تأسيس مسار الصحافة في تونس من خلال العديد من المواد الدستورية.

وعلى العموم، فإن العلاقة بين الإعلام والحكومة في تونس لا تزال يطبعها الكثير من الإشكالات، فإذا كان الإعلام في عهد نظام ابن علي مطيعًا، فإنه في عهد ما بعد الثورة لم يحصل على حيز من المعلومات المجانية بسبب تردد الحكومات الجديدة في دعم حرية الوصول للمعلومات والاتصالات؛ فكان هنالك نوع من تكرار ممارسات نظام ابن علي.

وقد عقَّب الأستاذ بجامعة جورج تاون بقطر الدكتور محمد زياني على هذه الورقة مبيِّنًا أن التحولات التي حصلت في تونس منذ 2011 ظلت موضوعَ دراسة وبحث من قبل الاختصاصيين إلى الآن. ويبقى السؤال المطروح هو: هل هناك تغيير على مستوى الصحافة التونسية بعد أن كانت تابعة للنظام؟ وهل غيَّرت الثورة من الحال؟ إن المعادلة بين الصحافة والدولة لا تزال دقيقة ومتوترة، وهناك ثلاث محطات: تاريخية، وبنيوية، وعملية، وبقي المجال الصحفي التونسي شديد التعقيد، لا بالنسبة لملَّاك القنوات فحسب بل وأيضًا بالنسبة للرقابة التي تمارسها الحكومة، دون أن نغفل أهمية الإطار التنظيمي. ولعل إرث المرحلة الاستعمارية الفرنسية في مجل الصحافة انعكس على علاقة الدولة بالإعلام في عهد الاستقلال وما تلاه؛ وهو أمر تشترك فيه تونس مع الدول المغاربية ما عدا ليبيا.

إن المرحلة الانتقالية بتونس طرحت قضايا عدة منها الموضوعي؛ حيث لم يحدث تغيير في الثقافة الإعلامية، كما أن هنالك الكثير من المشاكل، فالثقافة السياسية لم تتغير على الرغم من تغير اللاعبين؛ إذ تم الاحتفاظ بالإرث السياسي وبنمط العمل الصحفي؛ حيث لم تتغير الأوضاع السابقة ولم يأت نظام ما بعد الثورة بما كان مطلوبًا منه، مع أن هناك أملاً في تغيير إيجابي من خلال الهيئات التي تم إنشاؤها.

وهنالك ثلاث ملاحظات:

  • هذه الورقة تطرح عدة أسئلة حول فهم العلاقة بين الإعلام والدولة، فالدولة هي المفتاح لفهم العلاقة ويجب أن تحدث تغيرات بنيوية في هذا المجال.
  • فشلت الصحافة المكتوبة في تونس في مواكبة الوضع الجديد.
  • هناك محاولة لتنظيم الإطار المؤسسي التشريعي للعمل الصحفي في تونس ومحاولة لإرساء فضاء عمل جديد مع تكاتف جهود المجتمع المدني.

أما الورقة الثانية فكان عنوانها "الإعلام الخاص والإعلام العمومي: من يمارس السلطة الإعلامية في تونس؟: لمحة وظيفية عن قطاع الإعلام في تونس"، وقد أعدتها الباحثة الرئيسية في البرنامج البحثي المشترك بين مركز الجزيرة للدراسات وجامعة كامبريدج الدكتورة روكسان فارمان فارماين التي بيَّنت أن رحيل زين العابدين أحدث انزلاقًا شديدًا نحو معركة التطور الديمقراطي، وكشفت تجربة السنوات الثلاث الماضية أن هنالك أزمة بشأن السيطرة على الإعلام في القطاعين الخاص والعام. ظلَّت تونس الدولة العربية الوحيدة التي تمر بتغيرات ثورية تسعى لإسقاط "الدولة العميقة"، رغم وجود الكثير من العوائق التي يوازيها عمل جاد من قبل بعض النخب التونسية لإيجاد التزام أخلاقي وبناء نظام شامل من شأنه التخفيف من تلك المعاناة.

عرفت تونس تحولات خلال السنوات الثلاث الماضية فقد تم الاتفاق على دستور جديد وعرفت الدولة استحقاقات انتخابية عديدة، وتعاقبت أربع حكومات، لكن تركة النظام القديم في المجال الإعلامي تشكِّل تحديًا بارزًا ظل يفرض نفسه. وقد ارتفع عدد مشاهدي نشرات الأخبار بعد أن كانت مملة وغير مفيدة في عهد ابن علي، وفي استطلاع للرأي ذكر 47% من المستطلعة آراؤهم أن نوعية الأخبار تحسنت خلال العامين الماضيين.

والواقع أن إعلام ما بعد الثورة يمكن وصفه بأنه "حرية في ثوب فوضى"، وقد تعرضت الورقة إلى دراسة ميدانية للواقع الإعلامي الراهن في تونس من خلال آراء العديد من الفاعلين في هذا الميدان.

هناك ثلاث مجموعات منفصلة لكنها مرتبطة داخل قطاع الإعلام: الإذاعة والتليفزيون العموميان، والقطاع الخاص لاسيما القطاع السمعي البصري، وثالثًا: الأجهزة المنظمة التي من شأنها تحييد تأثير الدولة على الإعلام. وقد ظلَّ الشد والجذب بين الصحفيين وأصحاب المؤسسات، وبين المعينين من طرف الحكومة والصحفيين المراسلين وبين وسائل الإعلام التي تروج لأجندات سياسية وتلك التي لا تفعل ذلك، وهذا لا يسهم فقط في تعريف المناخ العام الجديد في تونس بل أيضًا في طبيعة الديمقراطية الآخذة في التطور.

وقد عقَّب على هذه الورقة أستاذ العلاقات العامة والإعلام بجامعة قطر الدكتور محمد قيراط مبيِّنًا أن ورقة الدكتورة روكسان تضمنت معلومات غزيرة، وقد اعتمدت على أكثر من مائة مقابلة صحفية مستعمِلة منهجية دقيقة لدراسة واقع تتداخل فيه القوى التي تحاول الحفاظ على القديم وقوى جديدة تريد أن تؤثر في الفضاء الإعلامي الجديد، وقد تعايشت في هذا الفضاء وسائل إعلام قديمة وأخرى جديدة فرضتها النصوص الجديدة والواقع الجديد.

لا شك أن هناك طغيانًا للجانب السياسي على الجانب الإعلامي؛ فقد عرفت تونس 53 سنة من الحكم المستبد، وقد غرست سياسة إعلامية مستبدة ومن الصعب التخلي عنها في ثلاث سنوات، حتى إن الكثير من الصحفيين في تونس احتاروا ما يفعلون بالحرية: هل هي هدية أم عبء؟ بل ظل الصحفيون هم أنفسهم ولم يتغيروا، وكان أغلبهم مقربًا من نظام زين العابدين. ومن القيم الطاغية على الإعلام التونسي في صبغته الجديدة أن القطاع الخاص يحتكر الإعلانات؛ وهو ما أدى إلى العودة للزبونية؛ لذلك لم يُلبِّ قطاع الإعلام في تونس بل وفي العالم العربي تطلعات الشعوب؛ لأنه محكوم بالبحث عن الربح التجاري؛ فهنالك قوى خفية تسيطر على الإعلام الخاص ولها أهدافها وقد تتعارض مع أهداف الثورة. ومن المفارقات أن حزب النهضة استعمل بعض أباطرة الإعلام في عهد ابن علي، ويبقى التساؤل: هل هذا الموقف هو نوع من خلق زبونية جديدة، أم أن النهضة لم تجد بديلاً إعلاميًّا فاستغلت الموجود؟

وتتميز دراسة الدكتورة روكسان بإجراء عدد كبير من المقابلات مع العاملين في قطاع الإعلام؛ وهو أمر مهم؛ لكن توزيع استبيان على الصحفيين لمعرفة آرائهم يعد أكثر مصداقية، لأن الشخصيات التي حاورتها الدكتورة روكسان قد لا تمثل المشهد الإعلامي كله بل لابد من محاورة الصحفي البسيط بدل رؤساء المؤسسات. كما كان جديرًا بالباحثة مقارنة الخطاب الإعلامي التونسي في عهد ابن علي بالخطاب الإعلامي اليوم: هل تغير؟ هل يتضمن جديدًا؟ فضلاً عن أن هناك دراسات كثيرة عن الموضوع وهي غائبة عن الدراسة بعضها باللغة العربية وأخرى بالإنجليزية وقد تساعد على فهم هذا المشكِل الإعلامي المعقد. ثم إن الصناعة الإعلامية -كما أثبتت التجربة التونسية- تعني تحكم المال في الإعلام، وتبقى ضرورة الحفاظ على المهنية دون وقوعها ضحية توجه الممولين. إن المرحلة الإعلامية لما بعد ابن علي يمكن تسميتها بمرحلة الفوضى؛ لأن فيها اختلاطًا لعدة أبعاد وقد أثَّر ذلك على الفضاء الإعلامي التونسي الذي بقي بعيدًا عن الصناعة الإعلامية المطلوبة. ويبقى السؤال المطروح: ماذا نريد بهذه الحرية؟ وماذا نريد بهذا التغيير؟ ومن الواضح أن رموز ابن علي رجعت وبقوة إلى رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية ومن المحتمل أن تكون من نفس النظام القديم. ولا شك أن ثلاث سنوات غير كافية لتطوير الإعلام بل لابد من وقت لغرس ثقافة إعلامية مهنية.

وكان عنوان الورقة البحثية الثالثة في الجلسة الأولى "المقص والعدسة المكبرة: حَوْكَمَة الإنترنت في السياق الانتقالي في تونس"، وهي من إعداد الباحث أليكز أرتود دلافيرير من قسم التربية والتعليم بجامعة كامبريدج.


الجلسة الافتتاحية لأعمال الندوة (الجزيرة)

تلخص هذه الورقة الحالة الراهنة لاستخدام الإنترنت وسوق خدمات الإنترنت في تونس. ونظرًا لتزايد أهمية المحتوى الإعلامي الإلكتروني بتونس؛ وحيث إن البنية الأساسية للإنترنت قد حلَّت محل أنظمة الاتصالات التقليدية أو تداخلت معها؛ فقد أصبحت قضية حَوْكَمة الإنترنت مكونًا رئيسيًّا في فهم الوسط الإعلامي. وتتناول هذه الدراسة الأنظمة البنيوية الداعمة لحوكمة الإنترنت في إطار التحول السياسي بتونس، وتم وصف هذه الأنظمة البنيوية التي تتمثل في الجوانب: القانونية والمؤسساتية والهيكلية.

من الناحية القانونية، تبحث الدراسة النصوص القانونية التي كانت موجودة في ظل النظام السابق، الذي كان يحد من الحريات على شبكة الإنترنت، جنبًا إلى جنب مع النصوص الحديثة، التي وُضعت بوجود ضمانات واسعة مؤخرًا لصالح حرية التعبير وحماية البيانات الشخصية، والتي تم التصويت لصالحها في الدستور الجديد. والسؤال الآن، بحكم القانون وبحكم الواقع: ما الصلاحيات التي تحتفظ بها الدولة التونسية لمقاضاة الرقابة المفروضة على التعبير والإعلام؟

ومن الناحية المؤسساتية، تبحث الدراسة الدور المتطور لأجهزة الدولة والطبيعة الخاصة للشراكات بين القطاعين العام والخاص في هذا المجال. وتهدف إلى تحليل التزامات مزودي خدمة الإنترنت تجاه الدولة من أجل الاحتفاظ بتراخيص التشغيل الخاصة بهم، والخلاف بين المكاتب الحكومية، خاصة بين الوكالة التونسية للإنترنت والتي تعتبر مؤسسة شبه خاصة والوكالة الفنية للاتصالات حديثة النشأة، ووزارة تكنولوجيا المعلومات ووزارة الداخلية.

وقد عقَّب على هذه الورقة أستاذ الإعلام بجامعة قطر الدكتور عبد الله الزين الحيدري الذي بيَّن أن هناك جهدًا واضحًا في هذه الورقة، سواء تعلق الأمر بالمقابلات واختيار العيِّنة التي شملت أبرز المواقع الأكثر شهرة، أو بالدراسة نفسها التي رصدت قضية الحوكمة في أبعادها الهيكلية والإجرائية. وقد انحصرت الورقة بشكل منهجي في حيز مغلق ثلاثي الأبعاد: هيكلي وقانوني ومؤسسي. وعلى الرغم من البنية الهيكلية للموضوع فإن له بُعدًا اجتماعيًّا لا يمكن إغفاله. ويقوم موضوع الحكومة على مكونات وركائز أساسية من أربعة مستويات:

  1. دولة الحق والقانون: لابد من فهم هذا الجانب حتى نستطيع إدراك ومناقشة هذا المفهوم، فهذه الدولة هي التي تضع أسسًا لهذ الأمر.
  2. المسؤولية بمختلف حيثياتها الحكومية والمؤسسية والفردية.
  3. الشفافية كأسلوب للوصول إلى المعلومات.
  4. التشارك: وهو السياق الذي يسمح بصنع القرار، والمقاربة السياقية، أي: ممارسة التناهج بين العلوم (INTERDISPLINARY)، وتعني أن هناك من الموضوعات ما يتسم بالتعقيد؛ ما يجعلها محل التقاء حقول معرفية عديدة، نفهم المشكل بالرجوع إليها، والتناهج يبيِّن لنا حقيقة الحوكمة، وممارسة التناهج لابد منها لفهم المناهج الإعلامية.

تقتضي حوكمة الإنترنت في تونس استحضار إطار فكري يمثل فيه الإطار العمومي حقلاً أساسيًّا، فكلما عرفنا كيف يعمل الإطار الحكومي عرفنا كيف تجري حوكمة الإنترنت. والأسلوب الذي يعمل به المجال العام في تونس هو الذي يخبرنا عن المجال العام وتضاريسه ومجاله كنظام مؤثر في صناعة الرأي، وتحكمه تجاذبات لا علاقة لها بما عليه الدولة، فهو مجال لم يعرف بعد المفهوم الأساسي للاستقلالية في الإعلام فظلت الصناعة الإعلامية قاصرة عن المطلوب.

وقد شُفعت الجلسة العلمية الأولى بمحاضراتها الثلاث وتعقيباتها بنقاشات بيَّنت أن ما حدث في تونس أثَّر بشكل كبير على المشهد الإعلامي، وقد ظلَّت التجاذبات السياسية حاضرة بقوة في الإعلام التونسي، وبالتالي بات تنظيم المجال الإعلامي التونسي أمرًا صعبًا. ولعل الإضافة الحقيقية التي جاءت بها التطورات الأخيرة تتلخص في بداية لمأسسة مفهوم الحرية الإعلامية بشكل عام بتونس؛ فضلاً عن انفجار حقيقي في مجال التواصل الإعلامي، كما أن المال يتحكم في الإعلام، فهل يمكن التحرر من لوبي المال وظهور حرفية ومهنية في الإعلام التونسي الحديث؟ تظل هنالك عقبات، منها: الإشكال القانوني ونمط الملكية في الحقل الإعلامي؛ وهي عقبات جعلت القوى الثورية عاجزة عن إحداث تغيير في البنية الإعلامية.

أبعاد العلاقة بين الإعلام والمجتمع المدني والنوع الاجتماعي

كانت الجلسة العلمية الثانية تحت عنوان "أبعاد العلاقة بين الإعلام والمجتمع المدني والنوع الاجتماعي"، وقد ترأَّستها الإعلامية بشبكة الجزيرة الأستاذة خديجة بن قنة. وقد أوضحت الباحثة سمر سمير المزغني من قسم السياسة والدراسات الدولية في جامعة كامبريدج، في ورقتها البحثية بعنوان "تعزيز المواطنة من خلال المجتمع المدني والشراكات الإعلامية: حالة الإذاعات المحلية"، أن الإعلام وهيئات المجتمع المدني تطوَّرا بتونس منذ سنة 2011، كما أصبحا دعامة لتطوير الإذاعات التي يديرها المواطنون (النقابات) والقائمة على المجتمعات المدنية. وقد ترجمت وسائل الإعلام المدنية والمنظمات غير الحكومة برامج من شأنها تعزيز مفهوم المواطنة من خلال العمل التعاوني، وهنالك ثلاثة مجالات حيوية: توفير المعلومات والدعاية والتعليم، وهي مجالات تسهم في تطوير مصدر إعلامي جديد يتميز بالقوة ويأتي على شكل إذاعات محلية. وهي إذاعات عبر الإنترنت توفر فرصًا للشباب كمنتجين ومستهلكين وأصحاب خبرات، فهي أدوات جديدة لبناء الهوية من خلال كونها صحافة مهتمة بالمواطن. وهذه الشراكة بين الإعلام والمجتمع المدني مفيدة؛ فهي توفر التمويل وتعزز الديمقراطية وتوفر بناء القدرات، وفي نفس الوقت يؤخذ عليها أنها قد تحدُّ من الاستقلال والنمو المستقبلي لهذه البرامج الإذاعية المهتمة بالمواطن. ويبقى التمويل وتنظيم هذا المجال المتنامي للمجتمع المدني وما أنتجه من إذاعات محلية يشكِّل محور تفاوض قوي للتحول في المجال العام.

تشكِّل فترة ما بعد ثورة 2011 بيئة جديدة لحرية التعبير تشبه لعبة الحجر والورقة والمقص على أساس التقاطعات بين ثالوث: الإعلام والمجتمع المدني والحكومة. وعمومًا فقد سمحت بيئة الحرية الجديدة للمنظمات غير الحكومية والإعلام بالعمل بحرية أكثر مما جعل من الصعب التنبؤ بنتائج اللعبة في بيئة دينامية.

وقد تعرضت الباحثة بشكل مستفيض لما بات يُعرف بالإذاعات المحلية بتونس، مستعرضة من خلال دراستها الميدانية طبيعة هذه الإذاعات، وأنواعها وجمهورها المستهدف والنجاحات التي حققتها خلال السنوات الثلاث الماضية، وكيف تفاعلت مع المجتمع المدني في علاقة انسجام وتطور. كما أثارت الباحثة قضية تمويل هذه الإذاعات الناشئة والذي هو في أغلب الأحيان تمويل خارجي.

وقد تطورت علاقة وسائل الإعلام بالمجتمع المدني حديثًا، وقد أثَّرت فيها ثلاثة أبعاد: إزالة القيود أولاً، ووجود طفرة في هذين المجالين ثانيًا، فضلاً عن عدم صياغة مفاهيم هذين القطاعين الناتجة عن دورهما المجتمعي ثالثًا.

في الوقت الذي يجري نقاش حول دور الإذاعات ودور الشباب على حد سواء، تبدو الإذاعات المحلية ناجحة في تعزيز مجتمعاتها وإشراك أعضائها في العملية الديمقراطية. ومن السمات الرئيسية للمرحلة الانتقالية التفاوض المستمر لخلق مساحات للمهمَّشين، وخاصة الشباب. هذه المساحات مساحات متنازَع عليها من قبل العملية الثورية الطويلة؛ حيث كان الناس يتعلمون الوصول إلى السلطة مؤسسيًّا بعد ممارستها لأول مرة في شوارع تونس.

وقد عقَّب الإعلامي ومدير مكتب الجزيرة بتونس الأستاذ لطفي حجي على هذه هذه الورقة؛ متسائلاً بشأن ما قد يبقى من هذه الورقة عندما يتم الحديث عن تجربة تتعلق بالإذاعات المحلية، خصوصًا وأن أصحاب هذه الإذاعات ما فتئوا يكافحون من أجل مجموعة من القيم المنشودة إن لم نقل المفقودة. ومعلوم أن تجربة هذه الإذاعات المحلية تعود إلى ما قبل الثورة، أي: عهد ابن علي، مثل: "إذاعة كلمة" التي كانت تديرها سهام بن سدرين، و"راديو 6"، وقد حاولتا كسر جدران الصمت والقمع إلا أنهما لم تُعمَّرا طويلاً؛ لأن أداة القمع كانت أقوى منهما. فهذه التجارب مهدت لتجارب ما بعد الثورة، ويمكن أن نتحدث عن ثلاثة عوامل أثَّرت في تجربة الإذاعات المحلية بتونس، وهي: 

  • النزعة النضالية التي تتحلى بها قلة من الإعلاميين التونسيين الحريصين على التغيير.
  • تطور الوسائط الإعلامية الجديدة وانخفاض تكلفتها.
  • التضامن الدولي قبل الثورة وبعدها، فهذه الإذاعات المحلية والناشطة هي كلها تعمل بتمويل منظمات دولية كبرى مثل الاتحاد الأوروبي وغيرها من أجل تطوير الواقع المحلي.

هناك مجموعة من القيم التي لا يمكن فصلها عن تجربة الإذاعات المحلية: مسألة تكريس مفهوم المجتمع المدني الذي ظل دوره ضعيفًا للغاية، ثم إن هذه الإذاعات عملت على تكريس مفهوم المواطنة، أي: المشاركة في الشأن العام والدفاع عن الحقوق. كما كرست هذه الإذاعات مفهوم القرب (Proximity)؛ لأنها تعمل في داخل الأحياء والمجموعات السكنية، وتطرح قضاياها (إذاعة السجومي، وإذاعة ابن خلدون.. مثلاً)؛ مما يسهِّل على أبناء الحي فهم واستيعاب رسالة هذه الإذاعات التي يعتبرونها جزءًا من بيئتهم. وعلى العموم فتجربة الإذاعات المحلية أثبتت أنها تشترك مع الإعلام التونسي عمومًا في التوجه نحو الحرية غير أن هذه الإذاعات المحلية تُصنَّف في لا وعي الصحفيين على أنها في الدرجة الثانية، وتعتمد على المتطوعين وعلى قدرتها على الاستمرارية، فلو انتهى التمويل الدولي مثلاً فقد تتوقف عن البث.

أما الورقة الثانية التي استُعرضت في هذه الجلسة، فكانت بعنوان "هوية التفاوض: النوع الاجتماعي والبرامج الحوارية التونسية" للباحثة زوي بيتكاناس من قسم السياسة والدراسات الدولية في جامعة كامبريدج، وأوضحت أن النظرة العامة للمرأة التونسية كانت حتى عام 2011 قد تحددت في صفات كان قادة الدولة وقتها يؤمنون بأنها تجسِّد الدولة التونسية الحديثة؛ فكان انفتاح المرأة على الحياة العامة، وقدرتها على ممارسة حقوقها السياسية والمدنية والاقتصادية -ما دام ذلك في أماكن تديرها الدولة- تتوافق مع هذه النظرة. لقد أزالت الثورة والانتفاضات التي حدثت عام 2011 غطاء الاستبداد، وأطاحت بالآلة القمعية؛ التي دعمت وجود مساحات عامة مصطنعة تديرها الدولة، ومن خلال هذه العملية بدأ التحول الديمقراطي في وجهة نظر الرأي العام عن المرأة. لقد كانت هذه التغييرات حادة وواضحة للجميع؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بالتأكيد على تعددية طرق التعبير للمرأة التونسية على الصعيد العام؛ وذلك بعيدًا عن النموذج الفكري الأحادي عن "المرأة التونسية"؛ الذي كان مطبقًا قبل عام 2011. وبالتوازي مع التغييرات الجذرية في الهياكل السياسية خضع الإعلام -أيضًا- لعملية تحول ديمقراطي ليعكس التنوع الجديد الواضح في الهويات ووجهات النظر العامة؛ فبهذه الطريقة يُشارك الإعلام التليفزيوني في دورة وجدانية متبادلة مع هذه الاتجاهات، يعمل فيها كمنصة للهويات السياسية التعددية وقوة منتجة لها، ومع ذلك لم يعمل التليفزيون -خاصة البرامج الحوارية- كمنصات لتقديم الهويات التعددية فحسب؛ ولكنه ظهر -أيضًا- كمكان تنشأ به النزاعات والتوترات والنقاشات حول تعريف المرأة التونسية، وإعادة التفاوض بشأن هذا التعريف، ويُؤثِّر ذلك بدوره على الوسيلة الإعلامية نفسها، ويُحدث تفاعلات بداخلها؛ لأن عرض مثل هذا الموضوع النزاعي الحرج يُمثل تحديًا لقدراتها.


من اليسار: لطفي حجي، سمر سمير المزغني، خديجة بن قنة، زوي بيتكاناس،
 ملاك شبقون (الجزيرة)

وقد عقَّبت على هذه الورقة الباحثة بمركز الجزيرة للدراسات، ملاك شبقون، فأوضحت أن ما يجري في تونس يحصل في كثير من البلدان التي تعيش مرحلة انتقالية ومن الضروري إجراء بحوث مقارنة، بل وبحوث ميدانية تسمح بالوقوف على المتغيرات العديدة التي تعرفها هذه البلدان. هذا فضلاً عن ضرورة ملامسة الإطار النظري المتنوع للواقع المدروس من مختلف جوانبه. وما دامت الورقة ركَّزت على البرامج الحوارية، فإن المقاربة كانت تقتضي اعتماد عينة متنوعة ومتعددة حتى تستطيع الدراسة تكوين صورة شاملة، وتتمكن من تعميم نتائجها. وتبقى الورقة قوية في تناولها وتعكس الحضور القوي للمرأة التونسية في المجال العام.

وقد شُفعت الجلسة الثانية بنقاشات معمَّقة تناولت مفهوم الجندر، وإلى أي حد يُعتبر هذا المفهوم مكتملاً وخاصة في تونس. كما تمت مناقشة طبيعة الصحافة الاستقصائية بتونس وكيف أن هناك أربعة عوائق أمام نجاح هذا النمط الصحافي، وتتمثل في:

  • الاستقطاب السياسي الحاد الذي يحول دون التوجه نحو الصحافة الاستقصائية.
  • عقلية أصحاب المؤسسات التي لا تريد عملاً صحفيًّا يتطلب وقتًا طويلاً، بل إن نظرة أصحاب هذه المؤسسات ما زالت في الغالب نظرة كَمِّية وليست كيفية. 
  • هناك أشخاص في مؤسسات صحفية يرون أن العمل الاستقصائي قد يفجر أمورًا محل نزاع، ويتطرق لمواضيع قد تؤثر على مؤسسات التمويل.
  • خوف الصحفي الاستقصائي من انتقام مجموعات الضغط خصوصًا وأن الأمن الخاضع للتجاذبات الراهنة لا يستطيع توفير الأمن.

وتعرض النقاش لدور المجتمع المدني التونسي كسلطة مضادة ضد الفساد وضد الاستبداد وهو عمل أسهم في نجاح التجربة التونسية.

التغطية الإخبارية للانتخابات التونسية: أطرها ومحدداتها

كانت الجلسة الثالثة والأخيرة تحت عنوان "التغطية الإخبارية للانتخابات التونسية: أطرها ومحدداتها"، وقد ترأَّستها الدكتورة فاطمة الصمادي الباحثة في مركز الجزيرة للدراسات، وقد تحدث في البداية الدكتور الصادق الحمامي عن أطر التغطية الإخبارية للانتخابات في الإعلام التونسي التقليدي. ونوَّه الحمامي إلى محدودية الدراسات حول علاقة الميديا بالانتخابات، واعتمد على ثلاثة تقارير أحدها أعدَّته "بي بي سي أكشن"، والآخران صدَرَا عن هيئات تونسية. وتتضمن هذه التقارير معطيات بالغة الأهمية؛ لأن الباحث العادي لا يمكنه التوصل إليها بوسائله المحدودة. وهناك ثلاثة مستويات في هذا الجانب:

  1. المستوى الأول: الإطار التشريعي والتنظيمي: وقد تم إصدار مراسيم تتعلق بالهيئة المستقلة للإعلام السمع البصري، وبغيرها. وهي نصوص تتضمن عدة شروط كنزاهة المعلومة واحترام خصائص الخبر الصحفي. 
  2. المستوى الثاني: المستوى المالي: ظَلَّ تمويل المؤسسات الصحفية هشًّا لتراجع السوق الإعلانية، وقد ظهر بعض المؤسسات ثم اندثر، كما أن الصحافة المكتوبة تراجعت.
  3. المستوى الثالث: علاقة التونسيين بالميديا: حيث تبين أن الحرية الإعلامية هي أهم ما تحقق في عهد الثورة، وأن ثقة التونسيين في الميديا ازدادت بشكل مطَّرد.

غير أن أداء الإعلام التقليدي بتونس خلال السنوات الثلاث الماضية يستدعي نظرة تقييمية، ولها معاييرها:

  • المعيار التقييمي الأول: كون الميديا في تونس ظلت حبيسة التنوع السياسي وظلت في مواجهة مع الإكراهات السياسية، غير أن تمثيل الميديا لهذا التنوع لم يكن متوازنًا حيث كان حضور حركة النهضة وحزب نداء تونس حضورًا مهيمنًا، وقد كرَّست وسائل الإعلام التقليدية وبشكل تبجيلي هيمنة هذين الحزبين على المشهد السياسي التونسي.
  • المعيار التقييمي الثاني: طبيعة التغطية الإخبارية وتزويد المواطنين بالأخبار التي اتسمت بهيمنة مضامين برامج المترشحين على حساب الأخبار التي تهم المواطنين؛ فتحولت الصحافة المكتوبة إلى وسيط للنشاطات الانتخابية، وغاب الاستقصاء والرسوم البيانية.
  • المعيار التقييمي الثالث: غياب البعد المعرفي التنويري عند الإعلام التقليدي، الذي أسهم في تغذية الصراع السياسي بين النهضة والنداء وأسهمت تغطيته في تغذية الصراع في حين غابت ردود فعل الجمهور.

والخلاصة أن:

  • الميديا التونسية متنوعة ومتعددة غير أنه يطغى عليها تبجيل الفاعلين المهيمنين.
  • المضامين الطاغية في الإعلام التونسي التقليدي هي الوظيفة الإخبارية على حساب المعرفية التنويرية.
  • تحولت الميديا إلى مشهد يحتكره السياسيون.

ولكي نفهم أكثر طبيعة ودور وسائل الإعلام التقليدية التونسية ينبغي التنبيه على أن ما يمكن تسميته بالباراديغم الصحفي السائد يتمثل السمات التالية: الصحفي ناقل للمعلومات من الباثِّ إلى الجمهور، وهذا التمثل السائد في نقل الأخبار أصبح هو الطريق الروتيني في نقل الخبر. وإلى جانب هذه القاعدة التي جعلت العمل الصحفي يتسم بكثير من الروتينية فإن الباراديغم السائد يقوم على تبجيل الخبر الصرف، فضلاً عن تداخل الخبر والرأي، وتكريس الوظيفة الإخبارية على حساب الوظيفة التثقيفية.

أما المتحدث الثاني فهو الدكتور الباحث بجامعة قطر، نور الدين الميلادي، الذي تناول في ورقته محددات المعالجة الإعلامي للانتخابات في وسائل الإعلام الجديد، وقد ذكر أن للشبكات الاجتماعية دورًا مهمًّا فيما قبل الثورة وما بعدها؛ حيث كانت أدوات مهمة تم استثمارها في أكثر من استحقاق في تونس؛ فهي أدوات تعوِّض الحرمان من الشبكات الإعلامية التقليدية، بل إنها صارت مساحات بديلة عن تلك الوسائل القديمة. هناك مساحات معقدة من التدافع بين الفاعلين القدماء والجدد، وهناك حراك اجتماعي تعددي تعكسه الشبكات الاجتماعية، حيث ينخرط فيها العدد الأوفر من الناشطين الشباب والنخبة حوالي 4 ملايين، 89% منهم فوق خمس عشرة السنة.

أسهمت وسائل الإعلام الجديد بتونس في تغيير دينامية السلطة واستغلال القوة، بل أضحت لها أساليب فعالة ليس فقط في ربط المحلي بالكوني، بل وفي إسهام المواطن في التغيير الاجتماعي؛ فظهر ما يمكن أن نسمِّيه: السلطة والسلطة المضادة، أو الثورة والثورة المضادة على الشبكات الاجتماعية التي صارت وسيطًا مهمًّا ومنبرًا للنشطاء والسياسيين وجماعات التأثير.

تُنشئ تجمعات المجتمع الافتراضي تواصلاً وتفاعلاً بواسطة الشاشة، ويحدث بينها ما يحدث من تواصل عن طريق الإنترنت، وهناك محددات أساسية ضمن الوظائف الرئيسية للشبكات في الانتخابات.

  • أولاً: الوظيفة الإخبارية: إذ وجد الكثير من المرشحين في الفضاء الافتراضي فرصة لنشر الأخبار؛ فالمرشح قائد السبسي مثلاً فاجأ الجميع بمهنية فريقه الإعلامي وتقنيته وحرفيته؛ فله صفحة قوية ومؤثرة على الإنترنت.
  • ثانيًا: الوظيفة التواصلية: فقد حدث التفاعل بين المرشحين والناخبين سواء على مستوى الرئاسيات أو التشريعيات، وهي ميزة وفرها الإعلام الجديد الذي أعطى مساحة للتفاعل مع الناخب.
  • ثالثًا: تغير مفهوم التفاعل الإعلامي المباشر بل وأحيانًا الفردي مع المرشح، بل إن الشوارع والساحات صارت هي الشاشة؛ فالمعلقات والمناشير والمطويات تم استبدال الرسائل القصيرة والفيديوهات والتغريدات والتدوينات بها مع اعتماد مهارات متطورة في هذا المجال؛ فالمرشح السبسي مثلاً ضرب موعدًا على المباشر مع آلاف من المغرِّدين على تويتر متفاعلاً معهم مدة ساعتين.
  • رابعًا: وظيفة الاستخدام السلبي للإعلام الجديد: حيث نجد أحيانًا مبالغة في الشائعات ضد مرشح ما وسخرية من هذا أو ذاك.

وقد شُفعت المحاضرات بنقاش مستفيض تناول عدة أمور، منها: أن جودة المضامين الإعلامية سواء أكانت تقليدية أو حديثة ليست محكومة بالمسائل المادية والمهنية فقط بل لابد للمنتِج الإعلامي أن يتغذى على العلوم الإنسانية حتى يكون المنتَج الإعلامي جيدًا، ثم إن أية دراسة في المجال الإنساني تُبنَى على معطيات رقمية تبقى دائمًا معبِّرة عن واقع غير رقمي، أي: واقع اجتماعي، ويبقى التساؤل المطروح: إلى أي مدى يمكن الاطمئنان إلى الأرقام عند الحديث عن واقع غير رقمي؟
______________________________
د. سيدي أحمد ولد أحمد سالم - مركز الجزيرة للدراسات