المسلمون الروس وسياسة روسيا الخارجية

تعتبر السياسة الخارجية الروسية بالنسبة للمسلمين الروس ثانوية وربما هامشية، ولا يتوقعون منها الكثير، ويريدون من موسكو أن تتقارب مع الدول الإسلامية وأن تساعدهم على ذلك، لكنهم يختلفون سياسيا حول الإستراتيجة التي يجب أن تعتمدها روسيا إزاء العالم الإسلامي.
20121021114759393734_20.jpg
مسلمو روسيا جزء من الأمة ومستعدون للتغاضي عن قضايا داخلية من أجل تحقيق مصالح الإسلام العالمية المشتركة (الجزيرة)

تُعتبر السياسة الخارجية الروسية بالنسبة لـ 20 مليون مسلم في روسيا شأنًا داخليًّا، وبحكم أن المسلمين في روسيا هم جزء من المجتمع الإسلامي العالمي الكبير الذي يبلغ تعداده المليار ونصف المليار مسلم، فإنهم يربطون أنفسهم ومصالحهم مع ما يجري لهذه الأمة الكبرى التي تقع خارج أرض الوطن. وبالنظر إلى السياسة الخارجية عمومًا في بعدها المحلي نجد أن اهتمام غالبية النخبة المسلمة في روسيا بالقضايا الخارجية لروسيا المتصلة بالعالم الإسلامي يقوم على أساس المبادئ الدينية، وليس على أساس المصلحة السياسية الضيقة.

التداخل بين الخارج والداخل

عندما أوصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين روسيا في عام 2003 إلى منظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي آنذاك)، لم يتلقَّ أي دعم يُذكر من قِبل مسلمي روسيا، ولا أية مساندة ضد المقاومة الشديدة التي لقيها حينها الرئيس من حاشيته والبطانة التي تدور حوله، سواء من الجهات الأمنية واللاعبين الرئيسيين في سوق الموارد الطبيعية أو من الاقتصاديين الليبراليين. منذ ذلك الوقت، صدرت تصريحات متعددة حول التقارب مع العالم الإسلامي واحترام المسلمين داخل البلاد، ثم أعقبها بعض الأحداث البارزة، أهمها انضمام روسيا بصفة مراقب إلى منظمة اليوسسكو (وهي منظمة مماثلة لليونسكو ولكن ضمن منظمة التعاون الإسلامي)، ثم جاءت زيارة قادة حماس لموسكو، وإرسال كتيبة عسكرية من الشيشان إلى لبنان بعد حرب عام 2006، ثم الزيارة التاريخية للرئيس الروسي إلى المملكة العربية السعودية وغيرها.

عبر تاريخ الدولة الروسية كله يعتبر فلاديمير بوتين أول سياسي من المستوى الرفيع يعترف رسميًّا بأن روسيا هي بلد "إسلامي" فضلا عن أبعادها الأخرى. مع العلم أنه لم يخطُ هذه الخطوة قبله لا القياصرة ولا الأباطرة، ولا أي أمين عام للحزب الشيوعي، بل ذهب بوتين أبعد من ذلك عندما قال: إن المسلمين في روسيا لديهم كل الحق للشعور بأنهم جزء من الأمة الإسلامية العالمية، وإن روسيا كانت -ولا تزال- حليفًا جيوسياسيًّا للإسلام.

في الشتاء الماضي، وخلال لقاء تليفزيوني خُصِّص للتواصل مع المواطنين الروس، شدَّد بوتين على أن الإسلام كان دائمًا واحدًا من أسس الدولة الروسية، وقال: "إن السلطة في روسيا سوف تحافظ دائمًا على إسلامنا التقليدي". بهذا وضع بوتين الخطوة التاريخية الثانية في تكييف الإسلام مع الظروف السياسية والاجتماعية في روسيا؛ فالخطوة الأولى كانت منذ 250 سنة مضت، في زمن القيصرية الروسية، عندما سُمِّي الإسلام "بدين التسامح"، أي اعتُرِف بأنه الدين الذي على الدولة أن تتوافق معه على كامل أراضيها، في حين كان الحال قبل هذا الاعتراف، أن الدولة كانت تعمل على استيعاب المسلمين واحتوائهم ضمن المجتمع المسيحي الغالب.

ومن الواضح أن نهج الرئيس فلاديمير بوتين قد واصل على منواله الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف يوم أن قال: "إن روسيا بصفتها عضوًا مراقبًا في منظمة المؤتمر الإسلامي عازمة على مواصلة توسيع الحوار البنّاء مع العالم الإسلامي. إنني متأكد من أن هذا الانخراط النشط سيسهم في خلق نظام أكثر إنصافًا في العلاقات الدولية، وحلّ النزاعات على الصعيدين العالمي والإقليمي". وخلال اللقاء الذي عُقد قبل بضع سنوات وجمع بين الرئيس الروسي آنذاك ميدفيدف والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي (أي التعاون الإسلامي) أكمل الدين إحسان أوغلو؛ قال الأخير: "إن روسيا ومنظمة المؤتمر الإسلامي لديهما علاقة خاصة؛ فهي ليست فقط عضوًا مراقبًا في المنظمة، ولكننا نريد أيضًا أن تكون علاقاتنا معها متكاملة وبأشكال متنوعة وعلى منصات مختلفة". وأكد إحسان أوغلو أن "العالم الإسلامي بأسره يرحب بعضوية روسيا (بصفة مراقب) في منظمة المؤتمر الإسلامي، ويدعو إلى تطوير هذه العلاقات".

من جهة أخرى كان ميدفيديف بصفته أحد الزعماء السياسيين العالميين، هو الرئيس الوحيد الذي التقى شخصيًّا برئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل، وهو ما كان مستغربًا حتى في العواصم الإسلامية. وعلى الرغم من المشاعر الطيبة التي يحملها النظام الروسي لمحمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، إلا أن روسيا أكدت من خلال هذا اللقاء أنه ليس لديها "أصحاب حظوة خاصة" داخل حركة فتح الفلسطينية؛ فروسيا هي الوحيدة من بين كل القوى الكبرى الدولية، التي لديها علاقة مع حماس. وبما أنه لا يمكن تحقيق أي حل حقيقي في الشرق الأوسط بدون حركة حماس، فإن الكرملين اعتبر أنه من المناسب سياسيًّا، التحسن الكبير في علاقاتها مع حركة المقاومة الإسلامية. أما بالنسبة لخالد مشعل فإن إجراء محادثات مع الرئيس الروسي لا يعني فقط التأكيد على أهمية دور حماس في الساحة الفلسطينية ولكنه أيضًا تقدير لدورها الذي يمكن أن تلعبه خاصة في العالم الإسلامي.

والجدير بالذكر أن القيادة الروسية، وكذلك المواطنين من المسلمين، يربطون العامل الإسلامي الداخلي بمثيله الخارجي؛ فمراكز التكامل مع العالم الإسلامي، بداية من جمهوريات آسيا الوسطى مرورًا بالدول العربية وماليزيا، يراها بوتين تنطلق من المناطق الروسية ذات الغالبية السكانية من المسلمين وتحديدًا من جمهوريات منطقة شمال القوقاز ومنطقة حوض الفولغا. وهذا يعني أن الرئيس بوتين يعتقد أن هذا شيء طبيعي ومبرر بالنسبة لتلك المناطق، فليست وجهة كل من في روسيا نحو الغرب، إنما هناك من ينظر نحو الشرق، وينطبق ذلك بشكل خاص على الاقتصاد.

وعلى ما يبدو فإن الرئيس يدرك أن موسكو باعتبارها واحدة من أكبر مدن العالم، لا تريد التحول نحو العالم الإسلامي. وهذا في حقيقة الأمر غير مطلوب، فالمطلوب البحث عن مراكز أخرى كقازان، وغروزني، وأوفا، ومحج قلعة وعواصم الجمهوريات الإسلامية داخل روسيا، بحيث تكون فكرة التقارب مع العالم الإسلامي تحمل طابعًا إقليميًّا مهمًّا، وتصبح قوة دافعة إضافية لتطوير الاتحاد الروسي. فدور المسلمين كوكلاء للمصالح الاقتصادية للبلاد في دول العالم الإسلامي له مبرراته من الناحية التاريخية. ولعل هذا ما قصده الرئيس بوتين في كلمته التي ألقاها في اجتماع رسمي بمدينة قازان عام 2005، بمناسبة الاحتفال بمرور ألف سنة على إنشاء المدينة؛ حيث قال: "من خلال بناء علاقات قوية ودائمة مع خانات قازان، بدأ الحكام الروس بوعي تشكيل روسيا كدولة أوراسية متكاملة... وهنا في منطقة الفولغا، نرى أكثر من أي مكان آخر دور روسيا كجسر بين الحضارتين العظيمتين: الأوروبية والآسيوية... إن قازان التاريخية، لعبت دورًا كبيرًا في تطوير الحياة التجارية في روسيا، وتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي. ويكفي أن نقول: إن تجار قازان من العرقية التترية على وجه الخصوص، كانوا في طليعة رجال الأعمال الذين ساهموا في تحريك رأس المال المحلي والنفوذ السياسي للإمبراطورية الروسية، كان ذلك بداية في سيبيريا، ثم انتقل بعد ذلك إلى آسيا الوسطى والقوقاز".

المشكلة هي أن هذه التصريحات المهمة من بوتين، ومحاولة بدء "حوار إستراتيجي بين موسكو والعالم الإسلامي" لم تجد دعمًا وتكملة من أولئك الذين كان من المفترض أن يقوموا بذلك. صحيح أن المسلمين مهتمون جدًّا بأن تأخذ مثل هذه المبادرات مجراها ولكنهم لا يملكون القوة ولا المهارات ولا الموارد للقيام بذلك. ولا تزال مشاركة موسكو في منظمة التعاون الإسلامي تحمل طابعًا عاديًّا بالرغم من أنها تحمل إمكانيات إستراتيجية. 

هناك اختلافات بين التيار الرئيسي للسياسة الخارجية الروسية والمواقف العامة من جهة، وبين موقف المسلمين الروس من جهة أخرى بشأن الأحداث التي حصلت في يوغوسلافيا في الفترة 1998-1999. فالمجتمع المسلم لم يُخْفِ استياءه من وقوف موسكو بكل قوتها مع بلغراد الرسمية، دون أن تولي اهتمامًا للتمييز والجرائم التي ارتُكبت ضد الشعب في كوسوفا. أما في منطقة الشرق الأوسط الكبير فالمعلومات عن روسيا غير كافية، والناس بمختلف مستوياتهم يحملون عن روسيا وجهة نظر مسبقة وغير واضحة، وينطبق الشيء نفسه بالنسبة لموسكو ونظرتها للعالم الإسلامي. أما في الأروقة التي تحاك فيها السياسة الخارجية، بما في ذلك العلاقة مع العالم الإسلامي، فليس هناك فهم كافٍ لمفهوم البلدان الإسلامية الحديثة، ولمنظمة التعاون الإسلامي والمجتمع الإسلامي العالمي بأسره، كما لا يوجد فهم لكيفية الاستفادة من كل هذه الدول المنتشرة على نطاق العالم بأسره.

إن المسلمين الروس يشتكون في هذا الصدد من نشاط بعض الطبقات السياسية والتجارية والجماعات التي تعارض تطوير العلاقات مع العالم الإسلامي. جماعات الضغط واللوبيات المرتبطة بالبيروقراطية الروسية موجودة بالفعل وتحول دون تنفيذ هذه المبادرة، ولكنها ليست على كلمة سواء، فهي تقوم بهذه التحركات لأسباب مختلفة، وتترك الموقف سلبيًّا ثم يقوم أصحابها بإجراءات سياسية ذات صلة. ومع ذلك، فإن المشكلة الرئيسية ليست فيهم، ولكن في المسلمين أنفسهم الذين لا يملكون لوبيًّا مماثلاً يحقق مصالحهم، وهو ما يؤثر سلبًا على الوضع.

يحتل العالم الإسلامي اليوم كشريك لموسكو المرتبة الثالثة بعد الغرب والصين، وربما يكون الشيء الإيجابي هو نظرتهم لروسيا في المقام الأول كقوة موازنة لسياسات الولايات المتحدة. ومن الواضح أن روسيا تختلف عن مثيلاتها من القوى العظمى بشأن العمل المنظم مع المجتمع الإسلامي؛ فأميركا مثلاً تمتلك شبكة واسعة من جماعات الضغط والتأثير وتنسيق المصالح في العالم العربي والإسلامي؛ فهي تتعامل مع طبقات المجتمع وعلى نطاق واسع كما تتعامل في نفس الوقت مع أطراف النزاع. حتى مع إيران فإن الولايات المتحدة لم تكن دومًا خصمًا لدودًا، بل لديهما تاريخ طويل من الاتفاقات (فالبعض مثلاً وعبر اتفاق  "إيران كونتراس" يتحدث عن أن طهران تلقى دعمًا ليس فقط من الولايات المتحدة ولكن أيضًا من إسرائيل)، ولا يخفى أن هناك تعاونًا كبيرًا حول العراق، وهناك أرضية مشتركة بشأن أفغانستان بين الدولتين.

أما في روسيا، فالوضع مختلف تمامًا، فالقضايا التي ذكرناها آنفًا يتم مناقشتها ثم توزيعها على مجموعات مختلفة من الإدارات داخل وزارة الخارجية، كما توجد إدارات مماثلة تقريبًا في وزارة الدفاع وفي وكالات الاستخبارات. ويمكننا القول بعبارة ملطفة: إنهم لا يتعاطون مع هذه القضايا بالمستوى المهني المطلوب، مقارنة بملف علاقات روسيا مع أوروبا. هناك ما يسمى بمجموعة الرؤية الإستراتيجية "روسيا-العالم الإسلامي"، ولكن هذه الأخيرة لم تجتمع ولعدة سنوات. وغالبية من يعمل في هذا المجال هم من الدبلوماسيين القدامى ورجال الاستخبارات المتقاعدين، وهو ما يدلِّل على الضعف الملحوظ في هذا الجزء من السياسة الخارجية.

تحمل السياسة الخارجية الروسية طابعًا بيروقراطيًّا إلى حدٍّ كبير وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، ويتمحور عملها فقط مع السلطة الرسمية، وليس مع النخبة ولا المعارضة ولا مع المجتمع المدني، لذلك تتمسك موسكو بعلاقاتها مع الأنظمة، وحتى المتهاوية منها إلى آخر رمق، لأنها بالنسبة لروسيا هي المدخل الوحيد للعمل في تلك المنطقة. وفي العادة لو تغير الوضع السياسي وجاء على النقيض من رغبات روسيا، فإن موسكو تتكيف مع الوضع الجديد ولو بعد فترة طويلة لكنها تتمسك بشكوكها وتحفظها وتشرع في البحث عن الأعداء بدلاً من الحراك الإيجابي. ومن الأمثلة الدالة على ذلك أن "جماعة الإخوان المسلمين" التي جاءت إلى السلطة في مصر وبعض الدول العربية الأخرى لا تزال إلى حدِّ الآن، وبسبب سوء الفهم، مدرجة في القائمة الروسية للمنظمات الإرهابية، التي يُحظَر التعامل معها.

إن روسيا تفتقر إلى هياكل للتجارة والأعمال التي من شأنها أن تسعى إلى تطوير العلاقات مع العالم الإسلامي. حتى جهود الدبلوماسي السابق، ورئيس مجلس الوزراء الأسبق وأحد أشهر المستشرقين الروس يفغيني بريماكوف، وما يقوم به مجلس الأعمال الروسي-العربي الذي ساهم في إنشائه لم تُثمر إلى الآن؛ فالمشاريع الاقتصادية موجودة ولكن يتمحور غالبيتها حول التعاون العسكري التقني.

وفي هذا الصدد عبّر شاميل سلطانوف رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية "روسيا-العالم الإسلامي" عن خوفه؛ فقال: "ليس هناك موضوع علاقات للشراكة بين موسكو والعالم الإسلامي، وهذه نقطة أساسية؛ فالكرملين يحتاج إلى وضع مثل هذه الإستراتيجية. وقد تناول ذلك بوتين مرارًا وتكرارًا، وطالب بالجهد والعمل لإيجاد مجتمع مسلم في روسيا. ولكن لم نرَ أي رد فعل على كلام الرئيس.

"النقطة المضيئة" الوحيدة تمثلت في المؤتمر الدولي "العقيدة الإسلامية ضد الراديكالية"، الذي عُقِد في 25-26 مايو/أيار 2012 في موسكو، ومثّل خطوة ما في الحوار الإستراتيجي بين روسيا والمسلمين. حينها مُثِّل العالم الإسلامي في مجموعة من أكابر وأبرز علماء الدين الذين قدموا لأول مرة إلى روسيا. وقد أيّد العلماء الذين قدِموا إلى موسكو، بدعوة من مركز الوسطية في الكويت وصندوق دعم الثقافة الإسلامية والعلوم والتعليم، جهود روسيا في مواجهة التطرف. وقد اعتمد علماء الدين الإسلامي المعروفون على المستوى العالمي بيان مؤتمر موسكو حول مسائل الجهاد والتكفير والخلافة. وكانت هذه الوثيقة على قدم المساواة مع تلك التي صدرت في عمان ومكة المكرمة. لم يتطرق العلماء الى السياسة الخارجية لروسيا بشكل مباشر، ولكن الزيارة التي قامت بها شخصيات بارزة ومؤثرة من العلماء، الذين يتخطى دورهم وتأثيرهم الأمور الدينية، اعتبرتها وسائل الإعلام العربية خطوة في الاتجاه نحو موسكو على الرغم من موقف الأخيرة من سوريا، والذي لا يجد تفهمًا ولا دعمًا في العالم العربي والإسلامي.

وعلى الرغم من كل الصعوبات وعدم الاستقرار السياسي في العالم العربي وعلاقة روسيا بذلك، فقد أظهر علماء الدين استعدادهم للعمل مع موسكو، لما رأوا فيها شريكًا إستراتيجيًّا جديدًا للعالم الإسلامي. وصار المسلمون في روسيا الذين كانوا المنظمين الرئيسيين لهذا الحوار، لأول مرة بمثابة الجسر بين روسيا والإسلام.

أما مركز الوسطية الكويتي، فيعتبر المركز العربي الوحيد الذي لديه أنشطة رسمية في روسيا. فمنذ عام 2000 أُغلقت جميع الجمعيات العربية، بسبب الاشتباه في تمويل الانفصاليين الشيشان. قدَّمت الكويت البلد الصغير مفهوم الوسطية الإسلامية، وأصبح النافذة الروسية إلى الدول العربية، وخاصة إلى دول الخليج التي لم تربطها تاريخيًّا علاقات جيدة مع روسيا. في عام 2010، منح ديمتري ميدفيديف وسام الصداقة لوكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف الكويتية عادل الفلاح لمساهمته البارزة في تطوير العلاقات العربية-الروسية. وللمرة الأولى في تاريخ روسيا يتم منح هذه الجائزة لرجل عربي يعمل في المجال الاجتماعي والديني.

بالطبع لا يمكننا القول بأن المسؤولين في المؤسسات الدينية الإسلامية في روسيا يعملون بنشاط واضح على الاتجاه الخارجي. فمجلس المفتين في روسيا يقوم بما يستطيع من أجل تعزيز جهود الرئيس المنتخب فلاديمير بوتين على الساحة الأوراسية (مبادرة المجموعة الاقتصادية الأوراسية، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والاتحاد الجمركي، وما إلى ذلك). لقد كان قادة مجلس المفتين في روسيا أول من قام بجولة لدول الربيع العربي في شمال إفريقيا، حيث التقوا بالقادة الجدد لتلك الدول. لكن هذا النشاط اقتصر على مجموعة صغيرة جدًّا من النخب.

وعلى صعيد آخر توجد عوائق كثيرة في التكامل مع مسلمي آسيا الوسطى، من بينها وجود معارضين للتكامل الأوروبي-الآسيوي بين الروس، لأنه سيؤدي إلى زيادة ضغط الهجرة على روسيا من تلك المنطقة. قد يبدو هذا للبعض غريبًا، ولكن المسلمين في روسيا ليسوا من المشجعين للهجرة لسبب وحيد، وهو أنها تزيد من الكمِّ فقط دون اهتمام بالكيف أي بنوعية المسلمين القادمين. لم يمضِ وقت طويل على تصريح لمجلس الشعب الأنغوشي الذي طالب علنًا بإيقاف تدفق العمال غير الشرعيين، وجاء في البيان: "على الرغم من الوضع الحرج بالنسبة للعمالة، إلا أننا نرى تدفق أعداد كبيرة جدًّا من العمال المهاجرين إلى الجمهورية من دول آسيا الوسطى. إننا نتفهم وجود مجالات عمل تحتاج هؤلاء، ولكن ما نراه في شوارعنا، وفي المدن والقرى قد تجاوز المعقول، وفي المقابل نرى السلطة تسخِّر جميع مواردها للوقوف ضدنا وتعتقد أن مشكلة الهجرة ليست بالأهمية القصوى" حسب البيان.

إستراتيجيات مقترحة للعلاقة مع المسلمين

قدّم المفكرون المسلمون في روسيا مجموعة من الأفكار للسياسة الخارجية؛ فبحسب رئيس اللجنة الإسلامية الدكتور حيدر جمال فإن روسيا في تحالفها مع إيران ينبغي أن تترأس مجموعة ما يسمى بـ "فقراء العالم" المحتجين. إن الشكل الذي يقترحه حيدر جمال غريب نوعًا ما. فجمال يعتقد أن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا سيؤدي إلى اتحاد الدول التي انتصرت فيها الثورات العربية. وأن هذه الكتلة السنِّية ستدخل في حرب مع إيران، وسيصبح ذلك في وقت لاحق تهديدًا لوحدة الأراضي الروسية. ولذلك فإن موسكو مطالبة بضخّ كل إمكاناتها لإنقاذ الرئيس السوري وموقف طهران في البحر الأبيض المتوسط، ثم بعد ذلك تقوم بتطوير أساليبها في معركتها ضد الغرب، بأن تقوم باستنهاض كل الذين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم ضده.

من جهة أخرى يقول رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية "روسيا-العالم الإسلامي" شامل سلطانوف: "إن روسيا في تحالفها مع المجتمع الإسلامي كله ينبغي أن تعمل ضد الغرب في (حرب الحضارات) التي بدأت فعلاً". ووفقًا للمحلل، فإن المنطق الجيوستراتيجي نفسه "يدفع موسكو والعالم الإسلامي، اللذين يقعان تحت التهديد الغربي، إلى البحث عن الصداقة بين بعضهما البعض". وهذا الرأي يتوافق معه الخبير الروسي في معهد الدراسات الإستراتيجية، ورئيس تحرير صحيفة "مشاكل الإستراتيجية الوطنية" أجدار كورتوف الذي قال: "عندما كانت روسيا قوة عظمى، استطاعت بثقلها كحليف أن تساعد العالم الإسلامي في مواجهته مع منافسيه الجيوسياسيين، الذين يمثلون الغرب باعتراف جميع المسلمين".  إذا استطاعت روسيا -حسب رأي الخبير- "أن تتحصل على القوة اللازمة، نتيجة الإجراءات الصحيحة التي ستتخذها خلال السنوات الست المقبلة من رئاسة بوتين الجديدة، فإن ذلك سوف يعود بالنفع على حالة العالم الإسلامي".

إن روسيا مطالبة بالاقتراب من البلدان الإسلامية التابعة لرابطة الدول المستقلة، بحسب دامير محدينوف النائب الأول لرئيس الإدارة الروحية للمسلمين في القسم الأوروبي لروسيا وكذلك حسب رأي عميد الجامعة الإسلامية بموسكو دامير خيرالدينوف "إن العنف وشبح الثورات الملونة يتجولان بالقرب من حدود دول رابطة الدول المستقلة"، ولذلك حسب رأيهما، فإن روسيا وآسيا الوسطى يجب "أن يطوِّرا، باسم تلبية احتياجات مواطنيهما، مفهوم الحفاظ على السلم الأهلي والاستقرار". إن دور الزعماء المسلمين في عملية الاندماج والتكامل، يراه محدينوف في تنفيذ ما صرّح بها ديمتري ميدفيديف لدى اجتماعه مع الزعماء الدينيين المسلمين في يوليو/تموز 2011 في مدينة نالتشيك حيث قال: "إن على رؤساء أكبر مؤسسات المجتمع المدني أن يقوموا بالتعامل مع القضايا المعقدة مثل مسألة التكيف الاجتماعي للمهاجرين".

من جهة أخرى يعتقد فريق من الخبراء المسلمين في مجموعة "مينار" أن روسيا تحتاج إلى التركيز أكثر على دول الربيع العربي وتركيا، ويعتقدون أن العرب على استعداد للاستثمار بشكل كبير في روسيا، فهم بحاجة إلى تنويع استثماراتهم، "لكي لا يكونوا تحت مطرقة الغرب، وحتى لا تكون حساباتهم البنكية في يوم ما، ولأي سبب من الأسباب السخيفة، قد جُمِّدت من قبل الأميركيين". إن الخبراء يذكِّرون بأن روسيا لم تتحارب في تاريخها مع أي دولة عربية فهي "لم تقم بقصف العراق وإرجاعه إلى العصر الحجري، بل إن روسيا كانت بطريقة أو بأخرى داعمة مستمرة للفلسطينيين، وهي التي قامت باستقبال قادة حماس على أعلى مستوى. وبشكل عام، فقد قدمت روسيا في القرن العشرين الكثير من الأشياء الجيدة للدول العربية.

وأعتقد أنه لا يزال لدينا فرصة لكي تصبح روسيا شريكًا مميزًا لدى العالم العربي الجديد. ولكن هناك مخاوف من أن تظل روسيا بدون أي حليف في الشرق الأوسط، وفي العالم العربي والإسلامي كله. إن هذه الآفاق غير السارة تنشأ بسبب ردة الفعل غير المتكافئة لثورات الربيع العربي. ومن المفروض أن لا نعطي الذرائع لأولئك الذين يؤكدون أن موسكو أصبحت حليفًا للإمبريالية الإيرانية الشيعية وخصمًا للصحوة السنية، فبحسب قول خبراء "مينار" إن الربيع العربي له طابع سُني واضح" ووفقًا لأولئك الذين يشاركون هذا الرأي فإن هناك اليوم محاولة لخلق تكتل عسكري-سياسي بين أنقرة والقاهرة والرياض والدوحة. والواقع أن هذه هي الأخيرة هي القوة الجديدة الواعدة في المنطقة، والوقوف ضدها وبشكل عام ضد الشعب العربي والعالم السني الذي قام من أجل حياة أفضل، إنما هو قصر نظر. روسيا كقوة عالمية وكحَكَم يجب عليها الحفاظ على علاقات مع جميع الأطراف الفاعلة على الأرض. إنه لمن الضروري وضع البيض في سلال مختلفة، وأن لا نراهن على الأقل على أصحاب الحظ الضعيف.

بين كل هذه المفاهيم يجب على المسلمين في روسيا أن يلعبوا دور الرابط بين موسكو والعالم الإسلامي. لكن المشكلة تكمن في أن المسلمين أنفسهم لا يفعلون إلا القليل من أجل تحقيق الشراكة السياسية الإستراتيجية، ناهيك عن الشراكة الاقتصادية، التي تحدث عنها كثيرًا بوتين وميدفيديف، ولافروف.

ولعله من المهم أن نلاحظ هنا أيضًا، أنه لا وجود لكثير من الفروق في أولويات السياسة الخارجية للمجموعتين الرئيسيتين من المسلمين في روسيا (التتار والبشكير من جهة، وشمال القوقاز من جهة أخرى)، على الرغم من أن طبع المجموعة الأولى وطريقة تفكيرها قريب من طبع وتفكير الأتراك في حين أن المجموعة الثانية أقرب إلى الطبع العربي. 

ثانوية العلاقات الخارجية لدى المسلمين

قد لا يعلق مسلمو روسيا آمالاً كبيرة على جني بعض المنافع جرّاء النشاط السياسي الخارجي. ربما يرجع ذلك إلى التجارب السابقة، يوم أن كانت علاقات موسكو مع بلدان العالم الإسلامي جيدة، ومع ذلك كانت نتيجة المنافع هزيلة؛ فالصداقة الحميمة التي كانت تجمع الدول العربية وغيرها من الدول الإسلامية مع الاتحاد السوفيتي، جعلت تلك الدول "تتجاهل" اضطهاد الإسلام في هذه الربوع. واليوم لا تتعجل الدول الإسلامية بالحديث مع قيادة الدولة حول العديد من القضايا التي تهم المسلمين مثل حظر الكتب الإسلامية، التي لها علاقة مباشرة بالمملكة العربية السعودية وبتركيا. بل إن الشريك الإيراني لازَم الصمت أيضًا عندما قامت محكمة محافظة بينزا بحظر نشر وتوزيع "وصية" الإمام الخميني. على عكس الهند، التي عبّرت عن استيائها لمحاولة إضافة كتاب "بخاباغات غيتا" إلى قائمة المواد المتطرفة. ربما يكون عامل التواجد الإسلامي داخل روسيا عائقًا لتحقيق التطور في العلاقات بين روسيا والعالم الإسلامي، مما يدفع الطرفين إلى الاهتمام بالقضايا الهامشية والشكاوى التي تصدر عادة من "الأقلية غير الراضية دومًا".

ما يمكن قوله في العموم هو أن السياسة الخارجية للمسلمين في روسيا تعتبر ثانوية وربما هامشية، كما أن المواقع الإلكترونية الناطقة باللغة الروسية حافلة بكثير من المعلومات عن المشاكل وبالقليل من النجاحات التي حققها إخوانهم المسلمون في الخارج (بداية من ميانمار إلى الولايات المتحدة). أما التعليقات على الأحداث في هذه المواقع فغالبيتها يحمل طابعًا معاديًا لإسرائيل ومناهضًا للغرب، بالرغم من علم هؤلاء المعلقين بمستوى الحرية الدينية في البلدان الغربية وعدد المساجد في مدن الإسلاموفوبيا كلندن أو نيويورك، التي لا يمكن مقارنتها بالوضع في موسكو بهذا الشأن وطبيعة الإسلاموفوبيا فيها. أما على الصعيد الداخلي فكل هذا لا يقارَن بردة فعل المسلمين على الشؤون الداخلية لروسيا وخاصة المسائل المتعلقة بالقضايا الدينية، والعِرقية وطلبات المسلمين المدنية.

بطبيعة الحال، يحبذ المسلمون أن تتحرك موسكو بنشاط أكبر للتقارب مع الدول الإسلامية وأن تساعدهم على ذلك، وأن تلتفت بإيجابية أكبر نحو الأحداث القاسية في العراق وأفغانستان وسوريا، وخصوصًا في فلسطين. والمسلمون في روسيا على استعداد لتقديم تضحيات في سبيل إخوانهم المسلمين خارج أرض الوطن، بل إنهم مستعدون للصبر والتغاضي عن الكثير من القضايا الداخلية من أجل تحقيق مصالح الإسلام العالمية المشتركة، فهم جزء من هذه الأمة والاهتمام بمشاكل المسلمين أينما كانوا واجب ديني. ولعل ذلك ينطبق على القضية الفلسطينية التي تعتبر الأكثر أهمية في السياسة الخارجية الروسية لمسلمي روسيا. وبالنسبة للأزمة السورية إن الآراء وردود أفعال المسلمين حول الأزمة السورية الحالية والأزمة الليبية التي سبقتها تختلف من مسلم لآخر، فالمسلمون مثل جميع المواطنين الروس يريدون أن تكون سياستهم الخارجية أكثر عقلانية ومؤثرة في رفاهية كل فرد في هذا العالم، سواء المادية منها أو الروحية.
_____________________________________
د. رسلان غوربانوف، باحث كبير في معهد الدراسات الشرقية لأكاديمية العلوم الروسية
د. عبد الله رينات محمدوف، منتج لقناة "روسيا اليوم"

نبذة عن الكاتب