مجموعات العنف غير التقليدية.. البلاك بلوك والألتراس نموذجا

البلاك بلوك والألتراس نموذجان لمجموعات شبابية تبحث عن هُوية مفقودة منذ عقود، وإذا لم تنجح الثورة في إقناعهم بأن هناك أمل في صياغة هُوية وطنية جامعة، وإذا لم تتجاوز القوى التقليدية خلافاتها السياسية وتستمع للشباب فستستمر الحالة الثورية بل وقد تتطور هذه المجموعات إلى حركات أكثر تنظيما وعنفا وخطورة.
201321493610268734_20.jpg

 

 

تمهيد

برغم أن كل الثورات تشهد أعمال عنف بدرجات متفاوتة، إلا أن نطاق العنف في مصر اتسع مع اقتراب الثورة من عامها الثالث، ومع دخول مجموعات شبابية إلى المشهد السياسي مستخدمة طرقا غير تقليدية من العنف ضد مؤسسات السلطة وأجهزتها الأمنية. وتحاول هذه الورقة التعرف على هذه المجموعات، وعلى الأخص منها مجموعات "الألتراس" و"البلاك بلوك"، من خلال الإجابة عن عدة أسئلة، هي: 

  1. ما البيئة التي نشأت فيها هذه المجموعات؟ 
  2. وما طبيعة هذه المجموعات؟ وكيف نشأت؟ وما أهدافها؟  
  3. وما السمات العامة لهذه المجموعات؟ وما الآثار المتوقعة منها؟ 
  4. وأخيرا كيفية التعامل معها؟

 خلفية الأحداث في مصر

استطاع الشباب، عن طريق الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي وبطرق تعبئة وحشد غير تقليدية، إشعال الثورة في مصر وإسقاط واحدة من أعتى الدكتاتوريات في العالم، رافعين شعارات الثورة (العيش، والحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية). لكن الشباب لم يتفقوا على بديل واضح للنظام الذي أسهموا بقوة في إسقاطه، ولم يشكلوا تكتلا يمثلهم أو يعبر عن مطالبهم.

لقد تطلع الشباب إلى رؤية تغيير حقيقي ينعكس على أحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما نادوا بالثأر لدماء شهداء الثورة ومصابيها، وانتظروا محاكمات سريعة وعادلة لرموز النظام السابق. وبدون الخوض في تفاصيل المرحلة الانتقالية، فإن ما أود التركيز عليه هو أن تطلعات الشباب هذه وقضايا الثورة الحقيقية لم تكن محل اهتمام المجلس العسكري ولا القوى السياسية، الحاكمة والمعارضة، طوال العامين الماضيين. وبدلا من مناقشة كيفية بناء نظام سياسي تتحقق من خلاله شعارات الثورة، انزلقت هذه القوى إلى قضايا فرعية، ليست بأهمية تلبية مطالب الجماهير وبناء نظام ديمقراطي بديل (1).

أعاقت ممارسات القوى التقليدية مسار الثورة، ولم ما يكفي من الجهد لتحويل قيم الثورة وأهدافها إلى واقع ملموس، مما أدى إلى إطالة الحالة الثورية وتجدد طاقة الشباب الثورية.

 ومع استمرار حالة الاستقطاب بين الرئيس وجماعته والمعارضة وأنصارها، وفي ظل حالة الاحتقان التي صاحبت محاكمة المتهمين بمجزرة بورسعيد، طفت على السطح أعمال عنف مختلفة راحت ترفع شعارات تبدأ من القصاص وتنتهي بالمطالبة بإسقاط الرئيس.

وهناك مجموعتان رئيسيتان في هذا المجال، هما تنظيمات "الألتراس" التي بدأت كتنظيمات رياضية إلا أنها سُيست وصارت لاعبًا مؤثرًا منذ بداية الثورة، ومجموعات "البلاك بلوك" التي ظهرت في أعقاب أحداث "قصر الاتحادية".

النشأة والأهداف

دخلت هذه المجموعات إلى المشهد السياسي كرد فعل على ارتباك مسار الانتقال، وضعف حكم القانون ومؤسسات الدولة، وانكسار جهاز الشرطة، حيث صار العنف، عند الكثيرين، هو الأسلوب الوحيد للحماية ورد العدوان. كما أن شباب هذه المجموعات يربطون تحركاتهم العنيفة بظهور "فتاوى دينية" تستبيح دم المعارضين، وبتجاهل السلطة للأفكار التي أعلنها البعض لإنشاء "ميليشيات" تابعة لناشطين إسلاميين (2)

أولا: الألتراس
تستخدم كلمة الألترا (ultra) لوصف مناصري قضية معينة على نحو يجاوز ولاء أصحاب القضية الأصليين لها، وقد انتقلت الكلمة لوصف مشجعي الأندية الرياضية بأوروبا في ظل سياق اتسم بعزوف الشباب عن الآليات التقليدية ?للسياسة كالأحزاب ?والنقابات، بجانب صعود السياسات الرأسمالية وأزمة الحداثة بالمجتمعات الغربية (3).

واتسمت جماعات الألتراس الرياضية عن ?غيرها بولائها غير المشروط لنواديها، وباستقلاليتها المالية والتنظيمية، ?عن مجالس إدارات النوادي وروابط التشجيع التقليدية، واعتمادها على التبرعات الذاتية للأعضاء، الذين تتراوح أعمارهم عادة ما بين (16-25 سنة)، ومعظمهم من الذكور القادمين من كافة طبقات المجتمع وخاصة الطلاب (4).

وتتباين هذه المجموعات في تنظيماتها الداخلية بين التنظيم المحكم بهرمية وقواعد محددة ورسوم عضوية، وبين التنظيم غير الرسمي والقواعد غير المكتوبة. وهناك علاقات تواصل وتعاون بين بعض المجموعات عبر الدول الأوروبية (5). ???ولكل مجموعة مكان وسلوكيات معينة للتشجيع الدائم والمستمر بغض النظر عن النتيجة، وبرغم أن بعضها يصف نفسه بأنه غير عنيف، إلا أن الممارسات الفعلية غالبا ما تشهد شعارات أو عبارات أو أناشيد عنصرية أو اشتباكات عنيفة أو الهجوم على الممتلكات (6)

وبشكل عام، ظلت مجموعات الألتراس غير مُسيسة، ولا تتبنى أيديولوجيات محددة، ولا يرتبط أعضاؤها بأحزاب سياسية، غير أن بعض مجموعات الألتراس في دول كإيطاليا وبولندا وأكرانيا لها ميول يمينية متشددة. أما العامل المشترك بين هذه المجموعات فهو عداؤها الدائم لأجهزة الأمن التي تحاول دوما أن تسيطر على هذه المجموعات، وأيضا عداؤها الدائم لأجهزة الإعلام التي ارتبطت في أذهان الألتراس بأنها الحليف الطبيعي لأقطاب صناعة لعبة الكرة وسيطرة العقلية الرأسمالية عليها (7).

وانتقلت فكرة الألتراس إلى عدد من الدول العربية، ووصلت مصر عام 2007 لتظل مجموعات غير مُسيسة، ومعادية للأمن والإعلام على خلفية رياضية بحتة، وترفض تحول الكرة إلى صناعة يستفيد منها الكبار على حساب الجمهور. ومع اندلاع الثورة، وانكسار حاجز الخوف، شاركت مجموعات الألتراس في الأيام الأولى للثورة، وانصب اهتمامها على حماية الميدان وأسر الشهداء والمصابين، وفي الضغط أثناء محاكمات الرئيس السابق. كما شاركت بمليونية 9 سبتمبر/أيلول2011 التي انتهت باقتحام السفارة الإسرائيلية.

ومنذ مجزرة ملعب بورسعيد، التي راح ضحيتها 74 شخصا، تصاعد النشاط السياسي للألتراس، وخاصة ألتراس النادي الأهلي، إذ راح أفراده ينظمون احتجاجات دورية للمطالبة بالقصاص. وبدءًا من 19 يناير/كانون الثاني 2013 كان الألتراس في مقدمة الصفوف ضد قوات الشرطة استعدادًا للحكم في مذبحة بورسعيد في 26 من نفس الشهر، وسُيرت عدة مظاهرات بمحافظات مختلفة، كما لجأ لطرق عنف غير تقليدية كقطع الطرق وتعطيل المترو والتهديد بالانتقام.

ولأن الأحكام جاءت مشددة، فقد شهدت البلاد نوعين من نشاطات الألتراس، ففي القاهرة، احتفل ألتراس الأهلي بالأحكام باعتبارها خطوة أولى للقصاص، معلنا انتظاره لبقية الأحكام على قيادات الداخلية يوم 9 مارس/آذار القادم.

أما في بورسعيد، فقد قام ألتراس النادي المصري بمحاصرة سجن بورسعيد لتهريب المتهمين، ثم اندلعت احتجاجات شعبية عارمة ضد مقار الشرطة والمباني الحكومية تنديدا بالأحكام ومطالبةً بإسقاط الرئيس. وامتدت الاحتجاجات لعدة أيام وانتهت بأكثر من خمسين قتيلا وسيطرة الجيش على مدن القناة الثلاث.   

وللألتراس عدة صفحات على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، منها صفحة تضم ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون عضو تسمي (UltrasAhlawy-UA07)، بها عبارات عدائية للشرطة والمجلس العسكري، وأخرى تتوعد بالقصاص (8). وهناك عبارات تنتقد بشدة التيارات السياسية الباحثة عن الشهرة، لكن لا تتبنى هذه الصفحات أي نقد لرئيس الجمهورية أو الإخوان. وعلى صفحة (Ultras Devils) جاءت العبارة التالية يوم 27 يناير/كانون الثاني الماضي: "26 يناير مجرد بداية "مقبولة".. 9 مارس إما استمرار و"اكتمال" العدالة، وإما الفوضى ودم بـدم، لن نقبل بمعاقبة بريء أو براءة ظالم أو قاتل أو فاسد" (9). وهناك صفحة أخرى تسمى"جيش الألتراس"، حددت لنفسها عدة أهداف، منها التضحية من أجل الثورة والقصاص من قتلة الشهداء، والتصدي لأي عمل إجرامي ضد الثوار، ومساندة المسيرات (10).

وهناك صفحة لألتراس النادي المصري على الفيس بوك هي (Ultras Green Eagle-Uge)، قامت بتنسيق تحركات أفرادها قبل النطق بالحكم، ودعت إلى الاحتجاج بطرق مختلفة كمحاصرة ميناء بورسعيد. وبعد النطق بالحكم اعتبرت الصفحة أن الأحكام جائرة، وأنها جاءت ترضية لألتراس الأهلي ولتهدئة الأمور بكافة المحافظات والتضحية ببورسعيد. وحمّلت الصفحة الرئيس والإخوان مسؤولية هذه الأحداث، وانتقدت عدم تدخل الجيش لحماية الأهالي (28 يناير/كانون الثاني 2013). كما تنشر الصفحة أسماء الشهداء وبعض مقاطع الفيديو التي تُظهر اعتداء أفراد الشرطة على المتظاهرين وتعذيب الأطفال (11).   

ثانيا: البلاك بلوك
نشأت مجموعات البلاك بلوك (Black Bloc) كتكتيك في التظاهرات، حيث يرتدي أفرادها الملابس السوداء، ويخفون وجوههم بأقنعة سوداء لستر هوياتهم وإظهار أنفسهم ككتلة واحدة متضامنة. وارتبطت هذه المجموعات بحركات الاحتجاج اليسارية والفوضوية والحركات الراديكالية بشكل عام، وتعود جذورها إلى نهاية الستينيات بشيكاغو فيما عرف بأيام الغضب أثناء الحرب الفيتنامية، ثم في الثمانينيات بألمانيا ضمن الحركات المناهضة للسياسة النووية وسياسات أخرى. ونُسب لهذه المجموعات الكثير من أعمال الشغب والحرائق والتظاهر بدون تصريح وإتلاف ممتلكات الشركات متعددة الجنسية. ثم جذبت اهتمام العالم في المظاهرات المناهضة لمنظمة التجارة العالمية أثناء مؤتمر بمدينة سياتل الأميركية عام 1999 عندما تم إتلاف عدة محال تجارية تابعة لشركات متعددة الجنسيات (12)

وفي مطلع العام الثالث للثورة، ظهرت بمصر مجموعات صغيرة تُطلق على نفسها ذات الاسم وتتبنى نفس الأساليب غير التقليدية في الاحتجاج. وقد أنشأ هؤلاء عدة صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، أهمها صفحة الكتلة السوداء- مصر(Black Bloc Egypt) التي ظلت تعمل حتى 10 فبراير/شباط الجاري ثم أغلقت (13)

ويعرف ناشطو هذه المجموعة أنفسهم بالقول "نحن نسل من دماء الشهداء"، الذين سقطوا في الثورة، ويرون أنفسهم بأنهم "التطور الطبيعي لغياب القصاص". ويؤكدون على أن "الثورات لا تصنع من ماء الورود، الثورات تصنع من الدماء"، ويرفعون شعارات مثل: "إذا انعدم العدل فانتظر الفوضى"، "نحن فوضى تمنع الفوضى" (14)

وقالت المجموعة في بيان مصور لها: إن هدفها هو "السعي لتحرير الإنسان، وهدم الفساد، وإسقاط الطغاة في كل زمان ومكان"، و"إسقاط نظام الإخوان المسلمين" و"ذراعه العسكري". ونفت أي علاقة لها بالكنيسة، مؤكدة على أنها تقف فقط ضد الإخوان المسلمين و"أي جماعة تستغل الدين من أجل تحقيق أهداف سياسية خاصة" (15). لكن المجموعة أكدت على عدم تعرض أفرادها لرجال الشرطة والجيش، لكنها حذرتهم بأنهم "لن يتهاونوا في الرد على وزارة الداخلية إذا ما واجهتهم، لدى محاولتهم إسقاط الفاشية". كما نفت أي علاقة مع حمدين صباحي أو جبهة الإنقاذ، معلنة رفضها لمعظم قراراتها لأنها "ضعيفة ولا تحقق طموحات الثورة" (16).

ويرى أفراد المجموعة أن سبب وجودهم هو الهجوم الذي شنته ما يسمونها "ميليشيا الإخوان" على معتصمي "الاتحادية" مطلع ديسمبر/كانون الأول 2012، وظهور ما عُرف إعلاميًا "بميليشيا حازمون" التي اشتبكت مع المتظاهرين أمام مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية وحاصرت مدينة الإنتاج الإعلامي.  

وهكذا، فإنه، وعلى خلاف  مجموعات الألتراس، التي لا تنتقد جماعة الإخوان، فإن البلاك بلوك تعادي بوضوح الرئيس والإخوان. وقد نسبت لهم الصحف الهجمات التي تعرضت لها مقار الإخوان وبعض المباني الحكومية والمحاكم وإيقاف حركة المرور والمترو في عدة مدن مصرية، بجانب احتجازهم طاقم الجزيرة لأنها "قناة تعمل لصالح النظام الحالي، وتروج للإخوان المسلمين" حسب اعتقادهم (17).

ويبدو أن الأعداد المنتمية لهذه المجموعات محدودة حتى الآن، ففي استفتاء أجرته صفحة (Black Bloc Egypt) بعنوان "استفتاء نريد القصاص والحل:" بتاريخ 4 فبراير/ شباط 2013 ظهرت بعض النتائج بمشاركات لم تتجاوز المئات، أهمها: 188 "الكفاح المسلح والفوضى"، 148 "السلمية وتأمين المظاهرات من الاعتداء"، 36 "السلمية + انقلاب من ضباط الجيش الشرفاء فقط" (18).   

ويؤكد الكثير من الناشطين والصحفيين بالإسكندرية أن وجوه المنتمين للتنظيم بالإسكندرية غير مألوفة لهم، ولم يكن أي فرد منهم ينتمي إلى أحزاب أو حركات ثورية أخرى. وذلك عكس ما نُسب إلى قائد إحدى المجموعات بالإسكندرية في تصريحات صحفية، من أن معظمهم كان ينتمي لحركات سياسية، لكنهم انفصلوا عنها لتكوين البلاك بلوك (19).
 
والخطير هنا هو أن هذه المجموعات لا تترد في استخدام العنف للوصول إلى أهدافها. فبرغم نفيها العمل المسلح إلا أن صفحاتها على "فيسبوك" تحتوي فيديوهات تُظهر طرق عمل المولوتوف المتطور (6/2/2013)، وكيفية صنع قنبلة دخان (6/2/2013)، كما أظهرت بعض الفيديوهات مسيرات لأعضائها بالأسلحة البيضاء. وفي صفحاتهم تقرأ: "نعلن نحن مجموعة البلاك بلوك عن القصاص بأيدينا ولا ننتظر من القانون شيء.. فقط الكفاح المسلح هو الحل.. كما نعلن عن الاغتيالات لرموز النظام قريبا." وكذا: "سلّحوا الثورة.. حق إللي ماتوا مش هيجي بالهتاف والمسيرات والاعتصامات" (20). كما نقلت عنهم الصحف أنه "إذا تطور الأمر وازداد "إرهاب" الجماعات الإسلامية، فلن يكون أمامهم خيار سوى اللجوء لاستخدام السلاح" (21)

ويدافع أفراد المجموعة عن أنفسهم بالقول بأنهم مستهدفون من الداخلية، بينما هم قاموا بحماية المتحف المصري يوم 26 يناير/كانون الثاني، ومتحف المجوهرات الملكية المجاور لمسكن محافظ الإسكندرية الذي تمت محاصرته (22). وبرغم نفي المجموعة علاقتها بأي متحدث يظهر في وسائل الإعلام، وتأكيدها على أنه لا أحد يتحدث باسمها، إلا أنه نُقل عنهم أنهم اختاروا، بعد ذلك، أن يتعاملوا مع الإعلام بسبب وصفهم بالبلطجية في بعض القنوات الإعلامية وإظهارهم كتنظيم فوضوي.

وقد اعتبرت النيابة العامة هذه المجموعة "جماعة إرهابية"، وأصدرت بيانا أعلنت فيه أن المجموعة جزء من "مخطط إسرائيلي يستهدف شركات البترول والمواقع الحيوية"، كما كلف النائب العام هيئة الأمن القومي وقطاع الأمن الوطني، بجمع كافة المعلومات عن المجموعة ومصادر تمويلها وأهدافها ومدى صحة ما نسب لهم بالمواقع الإلكترونية (23).

السمات العامة

برغم حداثة هذه المجموعات وقلة المعلومات المتوفرة عنها، فإنه يمكن استنادا إلى ما تقدم رصد عدد من السمات العامة: أولها: أن العماد الرئيس لهذه المجموعات يتكون من الشباب في العقدين الثاني والثالث من العمر، والكثير منهم من طلاب المدارس الثانوية والمعاهد والجامعات. وهذه المجموعات غير منظمة تنظيما هرميا تقليديا، وإنما يعتمد أفرادها على التواصل الأفقي والشبكي. وليس من المعروف حتى الآن ما إذا كانت هناك أطراف ما تستخدم هؤلاء، ولا من يمولهم.

ثانيا: إن ثقافة أعضاء هذه المجموعات مستمدة، غالبا، من وسائط إعلامية وفضائية ومعلوماتية حديثة، وهي ثقافة محدودة بشكل عام. كما أنه ليس لدى الكثيرين منهم ثقة كبيرة في الأطر القديمة بما في ذلك الهُوية الوطنية، ويعانون بالتالي من أزمة هُوية وانتماء، وهذا نتاج طبيعي لعولمة الثقافة وغزو الفضائيات الأجنبية وضعف البدائل الثقافية القائمة (24). وليس أدل على ذلك من أن أساليبهم في مواجهة خصومهم منقولة بالكامل من تجارب خارجية (الألتراس والبلاك بلوك).

الشباب يبحث، في الواقع، عن هُوية مفقودة منذ عقود، وإذا لم تنجح الثورة في إقناعهم بأن هناك أملا في صياغة هُوية وطنية جامعة، وإذا لم تتجاوز القوى التقليدية خلافاتها السياسية، وإذا لم تستمع هذه القوى للشباب، فستستمر الحالة الثورية، بل وقد تتطور هذه المجموعات إلى حركات أكثر تنظيما وعنفا وخطورة على هُوية البلاد ووحدتها.  

ثالثا: ليس لهذه المجموعات لون أيديولوجي محدد، وما يجمع كل مجموعة فكرة بسيطة هي "القصاص أو الدم" أو "القصاص أو الفوضى". وهذا في حد ذاته مصدر للقوة، إذ لا يشغل أفراد هذه المجموعات الخلافات التاريخية والاختلافات الإيديولوجية السائدة بين القوى التقليدية، ولا حسم القضايا الخلافية الكبرى.

رابعا: تعاني هذه المجموعات من تناقضات فكرية وسلوكية، فالكثير من أفرادها أقرب إلى الاتجاهات اليسارية، لكنهم لا يترددون في استخدام منتجات الحضارة الغربية، وخاصة في مجال التكنولوجيا والاتصالات وأنماط السلوك الجمعي. ولكنهم لا يخلطون القضايا الداخلية بالقضايا الخارجية على مستوى الخطاب السياسي، وذلك فيما عدا بعض المواقف المنددة بالاعتداءات الإسرائيلية والأميركية. كما تختلف هذه المجموعات عن الحركات اليسارية التقليدية، فهذه الأخيرة لم تكن أبدا عنيفة في مصر، وتركزت مطالبها حول مطالب سياسية واجتماعية.

خامسا: يشعر أفراد هذه المجموعات بعدم الثقة في النخب والمؤسسات القائمة، ويرفضون -بعد انكسار حاجز الخوف- الخضوع لأية جهة، ويتصورون أن بإمكانهم تغيير أي شيء. إن لدى الكثير منهم إحساس قوي بعدم الأمان، ويجدون ذواتهم في تحدي كل ما هو قائم.

سادسا: الأخطر هو فقدان الشباب، كمعظم النخب السياسية، التركيز على الموضوع الأساس الذي كان يجب أن يكون موضع الاهتمام في أعقاب ثورة ضد الاستبداد، وهو النظام الديمقراطي بمفاهيمه ومؤسساته وضماناته المتعارف عليها. لقد فُقِدَ هذا الموضوع وسط موضوعات أخرى ليست بأهمية بناء النظام البديل الذي (متى تم التوافق عليه بشكل صحيح)، فإنه سيساعد على منع تكرار ممارسات النظام السابق ويفتح الطريق أمام ظهور حكومات منتخبة وقادرة على التصدي للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية. وكان من الواجب التفكير مليا في كيفية تطوير هذا النظام الديمقراطي ليلبي طموحات الشباب ويترجم آمالهم في تغيير بنية وطبيعة السلطة وإيجاد مؤسسات أكثر تمثيلا وفعالية.

وفي واقع الأمر، أعتقد أن فرصة وضع دستور جديد في مصر قد أُهدرت منذ اليوم الأول لتأسيس الجمعية التأسيسية، عندما اعتمدت الأوزان الحزبية في تشكيلها، وعندما لم يُمثل الشباب والمجتمع فيها بشكل حقيقي. لقد كانت الثورة فرصة ذهبية لتمثيل الوطن بأكمله في جمعية تأسيسية تضع دستورا حديثا يضمن إقامة نمط جديد لعلاقات القوة والسلطة، يقوم على تمثيل حقيقي للمجتمع ومشاركة حقيقية في الحكم، ويُحوّل قيم الثورة إلى واقع ملموس يصل إلى كل مؤسسات وفئات وهياكل المجتمع. ولم يواكب الدستور التغيير الذي حدث بالألفية الثالثة، على مستوى تطور الديمقراطية ذاتها وظهور أشكال جديدة للمشاركة والتمثيل.

التعامل مع مجموعات الألتراس والبلاك بلوك

ليس من اليسير الآن التوقع بشأن مستقبل هذه المجموعات، فقد يتحول بعضها إلى جماعات ضغط تختفي بتحقيق مطالبها، وقد تتطور مجموعات أخرى إلى تنظيمات عنف منظمة، كما قد يتم اختراق بعض المجموعات من قبل أطراف داخلية وخارجية بهدف إجهاض الثورة. وفي جميع الأحوال يمثل استخدام العنف خطرا شديدا على مستقبل البلاد والثورة معا.

ولهذا يمكن اقتراح بعض الأفكار للتعامل مع هذه الظاهرة. فأولا، يجب على القوى السياسية، الحاكمة والمعارضة، عدم الاستهانة بأعداد هؤلاء الشباب أو بمواقفهم وأفعالهم، ولا النظر إليهم باعتبارهم فصيلا واحدا. هناك بالطبع فئات قد تكون مأجورة تعمل كأداة للثورة المضادة، وأخرى ترفع السلاح وتهدم مؤسسات الدولة، وهذه لا يصلح معها إلا سحب أي غطاء سياسي عنها ومواجهتها دون تجاوز القانون.

أما ما عدا هؤلاء، كشباب الألتراس وشباب الائتلافات الثورية السلمية وغيرهم، فلا يجب تجاهلهم، فالشباب نجحوا فيما فشلت فيه النخب التقليدية، واستطاعوا إسقاط أعتى المستبدين. وهم، في اعتقادي، قادرون على قلب الطاولة من جديد في بضع سنين أو شهور، إذا أحسوا من جديد بالتهميش، وإذا لم يروا تغييرا حقيقيا في بنية السلطة وهياكلها. لقد انكسر حاجز الخوف لديهم ومازالت أدوات التعبئة الإلكترونية والشعبية في أيديهم، ونجاحهم القريب يقدم لهم قوة دفع قوية لتكرار المحاولة.

وثانيا، لن تصلح الحلول الأمنية، فجهاز الأمن لم يتم إصلاحه إصلاحا جذريا، وهو غير قادر على مواجهة موجات ثورية مستمرة بهذا الشكل. والشباب الثائر غير قابل للاحتواء أمنيا، كما أن مطالبهم قوبلت على مدى عامين بتجاهل تام مما أفسح المجال للحركات العنيفة. وكذلك من الخطورة تصور إمكانية وجود حلول عسكرية، فالجيش غير راغب، وغير قادر، على السيطرة المباشرة في ظل ثورة شعبية اللهم إلا إذا لجأ إلى النمط السوري، وهذا مستبعد بسبب التجربة السابقة للمجلس العسكري، ووطنية المؤسسة العسكرية.

ثالثا: لا مفر من إيجاد آليات للحوار والاستماع بجدية وعمق إلى الشباب والتعرف على رؤاهم، وخلق مساحات للحوار فيما بينهم أيضا. ويجب طرح القضايا الجوهرية بدلا من الانزلاق إلى قضايا فرعية يمكن معالجتها لاحقا. وأتصور هنا وجود قضيتين محوريتين للحوار: الأولى حول أسس النظام الديمقراطي المنشود، وآليات وسبل تفعيل مشاركة الشباب في كافة القطاعات السياسية والتنموية والاجتماعية، وحول كيفية إقامة هذا النظام والتوافق حوله والحفاظ عليه. أما القضية الثانية، فهي أنه في ضوء ضعف الانتماء لدى قطاعات كبيرة من الشباب، وامتداد حالة الاستقطاب إلى بعضهم، فلابد من التوافق على مبادئ وأسس هُوية وطنية جامعة، تجمع المصريين وترتب أولوياتهم وتوحد جهودهم، إلى جانب ترسيخ منظومة قيمية واجتماعية جديدة تُعلي من شأن المشاركة وأهمية التفكير في المستقبل وتجاوز كافة العقبات.

رابعا: هناك، داخل هذه المجموعات وخارجها، شباب غاضبون يعبرون عن غضبهم في مجتمع حَرَمَهم من أبسط متطلبات الحياة منذ عقود. هؤلاء قد يكونون نواة لغضبة حشود أخرى من المهمشين الذين لم تتحسن أوضاعهم بعد الثورة، ويشهدون كل يوم معارك سياسية لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ومن الملاحظ أن البلاك بلوك ستسعى إلى دفع هؤلاء إلى التظاهر، وهو ما أشار إليه أدمن واحدة من صفحات البلاك بلوك من أن الفقراء بالمناطق الشعبية، أو ما أسماهم "الحرافيش" هم من سيسقطون النظام الحالي (25). إن أوضاع هؤلاء لابد أن تكون على رأس أولوياتنا، ففي بلد فيه 18 بالمائة من الأسر تعيش في غرفة واحدة، وبه أكثر من 1200 منطقة عشوائية (يعيش فيها أكثر من 12 مليون نسمة) حسب مصادر مختلفة (26)، يجب أن تكون هناك وزارة (أو مجلس أعلى) للمهمشين والعشوائيات حتى يتم القضاء تدريجيا على هذه المشكلة ويتحول هؤلاء الناس من محرومين إلى مواطنين.

وأخيرا، يجب إدراك أن غياب الحل السياسي الشامل القائم على التفاهم والمصالحة والمشاركة وتجنب المصالح الضيقة هو السبب الأول لتفشي العنف بجميع أشكاله، وغياب هذا الحل اليوم سيوصل البلاد إلى حالة من الاحتراب الأهلي المسلح لن تخرج منه قبل سنوات.
______________________________________
د. عبدالفتاح ماضي - أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية

هوامش
1- عبدالفتاح ماضي، "أزمة الثورة المصرية وقرارات الرئيس"، الجزيرة.نت، 29 نوفمبر 2012، http://www.abdelfattahmady.net/opinion-articles/aljzeera/376-29-11-2012.html 
2- عبدالفتاح ماضي، "تحديات الإسلاميين في السلطة بعد الثورات"، الجزيرة.نت، 26 يناير 2013، http://www.abdelfattahmady.net/opinion-articles/aljzeera/404-2013-01-26-15-11-28.html 
3- أمل حمادة، "الألتراس .. ?التعريف والسمات"، السياسة الدولية، ملحق اتجاهات نظرية، مؤسسة الأهرام، عدد يناير 2012.  ?????????
4- Gunter A. Pilz, "Overview of the Ultra culture phenomenon in the Council of Europe member states in 2009," International Conference on Ultras, Leibniz University, Hanover, 18 January 2010, 6-7.
5- وفي بعض المجموعات البرتغالية تجرى انتخابات ديمقراطية لاختيار قائد المجموعة، المرجع السابق، 10. 
6- Pilz, Ibid, 17.
7- أمل خليفة، مرجع سابق.
8- وقد جاء على صفحة (UltrasAhlawy- UA07) العبارات التالية يوم 26 يناير2013: "مفيش احتفالات في أي مكان لسه ناقص جزء تاني يوم 9- 3، النهارده كانت فرحتنا لأن دي أول فرحه لأم شهيد من أول الثورة لحد دلوقتي، لسه الجزء الأهم والأكبر من قيادات الداخلية المحبوسين ومن المحرضين من قيادات المجلس العسكري الطلقاء، وسنقتص من المحكمة وبأيدينا من كل من قتل و دبر وخان...المجد للشهداء". وحظيت العبارات على أكثر من 8800 علامة إعجاب، كما أرسلها أكثر 2700 عضو إلى آخرين.   http://www.facebook.com/UltrasAhlawyCom?fref=ts
9- http://www.facebook.com/devils07 
10- http://www.facebook.com/gaishelaltraselmasry
11- http://www.facebook.com/uge07 
12- David Van Deusen, "The Emergence of The Black Bloc and The Movement Towards Anarchism," in The Black Bloc Papers: An Anthology of Primary Texts From The North American Anarchist Black Bloc 1999-2001 The Battle of Seattle (N30) Through Quebec City (A20) (Breaking Glass Press, Shawnee Mission, 2010) 9-33.
13- http://www.facebook.com/pages/Black-Bloc-Egypt
14- Ibid.
15- Ibid, 4/2/2013.
16- الوطن، 29 يناير 2013، http://www.elwatannews.com/news/details/122319
17- المرجع السابق.
18- http://www.facebook.com/pages/Black-Bloc-Egypt
19- الوطن، 29 يناير 2013، http://www.elwatannews.com/news/details/122317
وفي حوار نسب لقائد أحد المجموعات في حوار مع إحدى الصحف الخاصة، قال: "إحنا شباب عادى منا اللى اتخرج من الجامعة واشتغل فى مقهى، ومنا اللى مش لاقى شغل، فملقناش حاجة نشتغلها قلنا نشتغل على الإخوان يمكن البلد تتصلح". انظر: الوطن، 29 يناير 2013، http://www.elwatannews.com/news/details/122319 
20- http://www.facebook.com/pages/Black-Bloc-Egypt 
21- الوطن، 29 يناير 2013، http://www.elwatannews.com/news/details/122317
22- المرجع السابق.
23- سي إن إن عربية، 1 فبراير 2013، http://arabic.cnn.com/2013/middle_east/1/31/egypt.blackblock/index.html
24- عبدالفتاح ماضي، "الشباب من الكتلة التاريخية إلى الكتلة السوداء"، الشروق، 30 يناير 2013، http://www.abdelfattahmady.net/opinion-articles/elshrouk/406-2013-01-30-07-30-45.html 
25- المصري اليوم، 11 فبراير2013، http://www.almasryalyoum.com/node/1462086
26- الأهرام، 12 يناير 2013.

نبذة عن الكاتب