دور وسائل الإعلام في مراحل التحول الديمقراطي.. مصر نموذجا

مع استمرار فقدان الجماهير للمصداقية في الإعلام المرئي والمسموع المملوك للدولة، ستظل وسائل الإعلام غير المصرية، ذات الطبيعة الإخبارية، هي المؤثر الحقيقي في مسألة إخبار المصريين بشؤون وطنهم وأحوالهم العامة، وبالتالي ستظل اللاعب الرئيسي في التأثير على توجهات الرأي العام المصري.
201331484936579734_20.jpg
ستظل وسائل الإعلام غير المصرية ذات الطبيعة الإخبارية هي اللاعب الرئيسي في التأثير على توجهات الرأي العام المصري مع استمرار فقدان الجماهير للمصداقية في الإعلام المرئي والمسموع المملوك للدولة

أولاً: مقدمة

لعبت ثورات الربيع العربي دورًا مهمًا وحاسمًا في زعزعة أركان النظام الإعلامي العربي خلال العقد الأخير، وتجلى ذلك بوضوح أكبر في البلدان التي تفجرت فيها عوامل الحراك السياسي والاحتقان الاجتماعي منذ مطلع ذلك العقد، وربما تكون مصر وتونس واليمن من أبرز تلك البلدان، فقد سمحت ظروف الهامش الديمقراطي والحريات النسبية المتاحة لديها بتحفيز الصحافة والفضائيات الخاصة، وتوظيف أدوات ما صار يُعرف بالإعلام الجديد (New Media) في التمرد على ثوابت الإعلام الرسمي، وتحرير قطاعات واسعة من الجمهور من سطوته. ومن غير المبالغة في هذا السياق القول بأن التضافر والتلاقح الفريد الذي نشأ بين وسائط الإعلام التقليدية الأكثر حرية، وبين تقنية الإعلام الأحدث التي عجز النظام الإعلامي العربي عن احتوائها، قد لعب الدور الأهم في تهيئة أجيال الربيع العربي للثورة وبلورة توجهاتها السياسية والمجتمعية، وهنا يمكن التأكيد على أنه إذا كان القهر السياسي والاجتماعي لأنظمة الاستبداد والاستغلال هو المفجّر لثورات الشعوب، فإن الإعلام الحر والمستقل هو الذي يهيىء ويعجّل بإنجازها.

ويستطيع المدقق لجدلية الثورة والإعلام أن يلحظ ذلك الارتباط المتبادل بين مقومات الثورة وحالة الإعلام في شروط مكانية وزمانية محددة، فالثورات كتجسيد مباشر لإرادة الشعوب لا يمكن تصورها في غياب نظام اتصالي ومعرفي قادر على حشد قوى الثورة وتنظيمها في اتجاه الهدف، وفى الظروف التي تهيمن فيها الأنظمة الحاكمة على الآلة الإعلامية لا يجد الثوار بُدًّا من السعى لإحداث ثغرات في النظام الإعلامي القائم واحتلال مساحات مؤثرة بين جنباته، أو العمل على إنتاج بدائل اتصالية ومعرفية جديدة لتجسيد رؤى الثورة ومتطلباتها، وتؤكد شواهد الربيع العربي أن قوى التغيير في الواقع العربي مضت -ولا تزال- في هذين الدربين معًا، وهو الأمر الذي يفسر المكانة البارزة التي تحتلها شعارات حرية الصحافة والإعلام ضمن مطالب الحراك الثوري والإصلاحي في عموم الوطن العربي، وحرص القوى والحركات السياسية على استثمار معطيات ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال على المستوى الكوني(1).

ولوسائل الإعلام دور فاعل في تشكيل سياق الإصلاح السياسي في المجتمعات المختلفة؛ حيث تعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين النخبة والجماهير. ويتوقف إسهام ودور وسائل الإعلام في عملية الإصلاح السياسي والديمقراطي على شكل ووظيفة تلك الوسائل في المجتمع وحجم الحريات، وتعدد الآراء والاتجاهات داخل هذه المؤسسات، بجانب طبيعة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية المتأصلة في المجتمع، فطبيعة ودور وسائل الإعلام في تدعيم الديمقراطية، وتعزيز قيم المشاركة السياسية وصنع القرار السياسي، يرتبط بفلسفة النظام السياسي الذي تعمل في ظله، ودرجة الحرية التي تتمتع بها داخل البناء الاجتماعي(2).

 

ثانيًا: العلاقة بين وسائل الإعلام والتحول الديمقراطي

يلعب الإعلام المنخرط في عملية التغيير، دورًا أساسيًا في استمرارية العمل السياسي الإصلاحي والتوعوي، الذي تناط به مسؤوليات "حماية مكاسب التغيير الديمقراطي وتطويرها"، وكشف جميع المعوقات والصعوبات التي تحول دون نجاحها، والحفاظ على روح الوهج الثوري والمضي في طريق التحول الديمقراطي على مستوى البلدان العربية ولاسيما بلدان الربيع العربي، لذلك يقتضي بناء الرسالة الإعلامية المرافقة لعملية الانتقال الديمقراطي، عملاً إعلاميًا محترفًا يعيد صياغة وإعداد وتقديم مواقف المواطنين، والاتجاهات العامة للرأي العام(3).

وبعد الإطلاع على أدبيات العلوم السياسية نلحظ أنه لا توجد نظرية علمية شاملة ودقيقة توضح وتشرح طبيعة الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في عملية التحول الديمقراطي؛ فالدراسات والنظريات المتوافرة حول هذه القضية يكتنفها التنافر والغموض لدرجة التعقد والتشابك إلى حد كبير، فقد أوجدت تلك الدراسات تباينات حول عما إذا كانت هناك علاقة إيجابية أم سلبية بين وسائل الاتصال والديمقراطية، وعما إذا كان ينبغي أن تسبق عملية تحرر وسائل الإعلام خطوات التحول الديمقراطية أم العكس.

ولكن يمكن تصنيف الدراسات المفسرة للعلاقة بين وسائل الإعلام والتحول الديمقراطي في ضوء اتجاهات ثلاثة، وهي(4):

• الاتجاه الأول: يعترف بالدور الفاعل للإعلام في عملية الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي باعتبار أن وسائل الإعلام هي أداة أساسية في الانتقال إلى الديمقراطية، والإصلاح السياسي بمعناه العام.
• الاتجاه الثاني: ينظر بنظرة سلبية لدور وسائل الإعلام في عملية التحول الديمقراطي والتغيير السياسي من منطلق عدم وجود علاقة إيجابية واضحة بين التحول الديمقراطي وحرية وسائل الإعلام أو التشكيك والتقليل من أهمية دور وسائل الإعلام في التحول الديمقراطي.
• الاتجاه الثالث: ينظر هذا الاتجاه إلى طبيعة العلاقة بين الإعلام والديمقراطية بوجهة نظر اعتدالية تعطي للإعلام أدوارًا محددة في مرحلة التحول.

 

ثالثًا: وظائف الإعلام في ضوء التحول الديمقراطي

يفترضJurgen Habermas  ضرورة توافر أربعة شروط أو محددات رئيسة حتى تتمكن وسائل الاتصال من القيام بوظائفها الديمقراطية، وهي(5):

1- القدرة على تمثيل الاتجاهات المختلفة داخل المجتمع: حيث إنه توجد في كل مجتمع مجموعة من الجماعات ذات الأهداف والاحتياجات والأيديولوجيات المختلفة، وحتى تستطيع وسائل الإعلام أن تمثل المجتمع في تنوعه فإنها لابد أن تتيح لكل هذه الاتجاهات فرصة الوصول إلى الجماهير، وأن تعرض أفكارها دون أية قيود من السلطة الحاكمة، وعندما يتحول استخدام وسائل الإعلام إلى نوع من الامتياز والاحتكار لبعض الأشخاص والجماعات والاتجاهات الفكرية والأيديولوجية المسيطرة تتراجع الديمقراطية، وتنتفي وظائف الإعلام الديمقراطي.

2- حماية المجتمع: فيرى Habermas أن الشرط الثاني لقيام وسائل الإعلام بوظيفتها في المجتمع الديمقراطي هو أن تتوافر لها القدرة على حماية مصالح المجتمع، بأن تكون حارسًا للمجتمع. حيث يتطلع الجمهور لوسائل إعلام تراقب تركيب السلطة داخل المجتمع، وتمثل مصالح المجتمع في مواجهة السلطة، وإخبار الجمهور بأية انحرافات ترتكبها السلطة.

3- توفير المعلومات للجمهور: حيث إن توفير وسائل الإعلام للمعرفة يتم لصالح الأفراد والمجتمع في الوقت نفسه، ومن خلال ذلك يتكامل دور وسائل الإعلام مع دور المؤسسات التعليمية، فلكي يزدهر المجتمع الديمقراطي فإن أعضاءه يجب أن يتقاسموا المعرفة، وتقاسم المعرفة هو شكل من أشكال التعليم الذي يضمن أن تكون عملية صنع القرار صحيحة وقائمة على المعرفة، فيشيرHabermas  إلى ضرورة توفير المعرفة للجميع لكي يستطيعوا أن يتخذوا القرارات الصحيحة، ولكي تكون تلك القرارات في صالح المجتمع، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا حصل كل مواطن على المعلومات عما يحدث في العالم، وأصبح هناك فهم مشترك بين المواطنين لهذه الأحداث.

4- المساهمة في تحقيق الوحدة الاجتماعية: فوسائل الإعلام تساهم عن طريق تقاسم المعرفة في تحقيق الوحدة الاجتماعية، كما تساعد المجتمع على أن يظل موحدًا حيث توجد ثقافة عامة مشتركة لكل أعضاء المجتمع، ووسائل الإعلام تقوم بنشر هذه الثقافة العامة المشتركة، فكلما شعر أعضاء المجتمع بهذا المشترك الثقافي زاد توحدهم وازدادت قدرتهم على اتخاذ القرارات التي تحقق المصلحة العامة؛ فالمساهمة في تحقيق الوحدة الاجتماعية والترابط تعد من الوظائف الرئيسة للإعلام كما حددها Lasswell (حيث يرى أن من الوظائف المهمة للاتصال تحقيق الترابط في المجتمع تجاه البيئة الأساسية وقضاياها، وتفسير ما يجري من أحداث وما يبرز من قضايا بما يساعد على توجيه السلوك؛ حيث للاتصال دور في تشكيل الرأي العام الذي به تتمكن الحكومات في المجتمعات الديمقراطية من أداء مهامها.

ويرى  Jennings and Thompson أن الإعلام الحر يقوم بثماني وظائف أساسية لدعم عملية التطور الديمقراطي والإصلاح السياسي, وتشمل هذه الوظائف الآتي(6):

1-  الوفاء بحق الجماهير في المعرفة: من خلال نقل الأنباء من مصادر متعددة، وشرحها وتفسيرها، ونقل الآراء المختلفة حول القضايا الداخلية والخارجية.

2- الإسهام في تحقيق ديمقراطية الاتصال: من خلال تحولها لساحة للتعبير الحر عن كافة الآراء والاتجاهات وإتاحة الفرصة للجماهير لإبداء آرائها في المشروعات الفكرية والسياسية المطروحة، وفي التعبير عن مشاكلها.

3- الإسهام في تحقيق المشاركة السياسية: من خلال إتاحة المعلومات الكافية التي تؤهل المواطنين للمشاركة واتخاذ قراراتها بالانتماء للأحزاب السياسية، أو التوجهات الفكرية، أو التصويت بما يدعم النشاط السياسي العام.

4-  إدارة النقاش الحر في المجتمع: بين جميع القوى والتوجهات والأفكار للوصول إلى أفضل الحلول.

5-   الرقابة على مؤسسات المجتمع: وحمايته من الانحراف والفساد، عن طريق الكشف عن انحرافات السلطة، وفساد مسؤوليها، وإساءة استخدام السلطة لتحقيق المنافع الشخصية.

6- المساعدة في صنع القرارات: فلوسائل الإعلام تأثير كبير على القرارات السياسية، ويرجع ذلك لأنها تؤثر على القرارات السياسية فقد تعطي الشعبية أو تحجبها عن صانع القرار، كما أن صانع القرار ينظر إليها كمقياس لرد فعل الناس تجاه سياسته وقراراته، فوسائل الاتصال في الأنظمة الديمقراطية تكون حرة في نقل المعلومات والتفاعل مع القضايا والأحداث وبالتالي تكون قدرتها على صنع القرار  قوية، بينما في النظم السلطوية حيث تُنقل المعلومات من أعلى إلى أسفل، يضعف الدور الذي قد تمارسه هذه الوسائل.

7- التأثير في اتجاهات الرأي العام: حيث أصبحت وسائل الاتصال في المجتمعات الحديثة تقرر بشكل كبير ما الذي يشكّل الرأي العام، وتزوده بغالبية المعلومات التي من خلالها يطلع على الشؤون العامة ومعرفة الشخصيات السياسية بجانب دورها في المناقشات العامة والعملية الانتخابية ككل، فعن طريقها يتم بناء الحقيقة السياسية نظرًا لأن الجمهور لا يملك التحكم فيما يُقدَّم له، وإنما هو في العادة يستجيب ويتفاعل مع مضامين الوسائل الإعلامية، فعن طريق مضمون هذه الوسائل يمكن التعرف على توجهات الرأي العام ورؤيته حول مختلف القضايا مما يرشد السلطة السياسية ويسهم في إنجاح سياساتها ويقلّل من فرص تعرضها للخطر والانتقاد من قبل الرأي العام؛ فالحكومات لا تستطيع أن تصل إلى الجماهير إلا من خلال هذه الوسائل التي لها قوة كبرى في التأثير على الرأي العام، كما أن ثقة الجمهور في وسائل الإعلام تفوق عادة ثقته في الحكومات.

8- مراقبة الأحداث المعاصرة: وهي الأحداث التي من المحتمل أن تؤثر بالإيجاب أو السلب على رفاهية المواطنين، بحيث يكون المجتمع على اطلاع ومعرفة بما يجري وقادرًا على التكيف مع الظروف والمستجدات.

 

رابعًا: مسار التحول الديمقراطي في مصر ودور وسائل الإعلام فيه

إن النظم السلطوية تولّد حالة من السلبية على مستوى المشاركة السياسية وذلك عبر آليتين متوازيتين: الأولى: إفقاد المواطنين الثقة في عملية المشاركة المباشرة من خلال نتائج الانتخابات التي تحافظ على الوضع القائم، والثانية: من خلال السيطرة على السلطة التشريعية مما يفقدها قيمتها لدى المواطنين. وفي ذات الوقت تمنحه مساحة للتعبير والرأي بل والحركة أحيانًا من خلال مساحة الحرية الممنوحة للإعلام وهامش من الاستقلال بالقضاء، لتصبح منفذًا للتنفيس وبديلاً عن المشاركة المباشرة. وبعض هؤلاء المحللين يصورون التطور الديمقراطي على أنه رسم بياني تصاعدي يبدأ من النظم السلطوية وينتهي بالنظم الديمقراطية، ويضعون النظام السلطوي الانتخابي في نقطة خارج هذا الخط من أسفل، مؤكدين على ضرورة العمل على تحريك هذه النقطة لتدخل في إطار الخط البياني حتى يكون النظام قابلاً للتطور نحو الديمقراطية(7):

 

1- التحول الديمقراطي الثوري وأسبابه ودور وسائل الإعلام الجديد في إحداثه

وإذا نظرنا إلى الفترة من 2005 إلى 2010 فسنجد انتكاسة واضحة في خريطة الإصلاح السياسي والديمقراطي بمصر حيث تم تهميش دور القضاء بإبعاده عن الإشراف على الانتخابات وابتكار أساليب قانونية لإيقاف تنفيذ أحكامه، بل وأحيانًا بتجاهل تام لأحكام واجبة التنفيذ. على مستوى الإعلام عاد الإعلام الرسمي بتوجيهات إلى دور الناطق الرسمي للحكومة المصرية والمدافع عنها وحجب أي أصوات مخالفة لها، أما الإعلام الخاص فتعرض لهجمات، سواء مباشرة عبر تحويل رؤساء تحرير بعض صحفه لمحاكمات، أو بالضغط على المالكين لتحديد خطوط حمراء للرأي تحددها الدولة، وأحيانًا استخدام رأس المال لشراء الصحف واستبعاد من ترغب الحكومة في استبعاده عبر المالك الجديد، وهو ما حدث مع جريدة الدستور قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، كما تعرض الإعلام الخارجي والمتمثل في الفضائيات لحملات تشويه منظمة خاصة قناتي الجزيرة والـبي بي سي العربيتين. أما على مستوى الانتخابات فقد شهدت الانتخابات الأخيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2010 أكبر حملة سواء للتزوير أو للتأثير على الناخبين، بما في ذلك استخدام الرشاوى والعنف لنصل إلى الميدان الأخير المتمثل في مجلس الشعب الذي تم حله بعد الثورة والذي أُقصي منه كافة أشكال المعارضة وحصل الحزب الوطني الحاكم على 97% من مقاعده.

وما لم يتوقعه أحد أن يأتي رد الفعل لهذه الردة بهذه السرعة ومن فئة خارج هذه التفاعلات وهي فئة الشباب التي رفضت أن يتم سحب ما اكتسبه المجتمع من مساحات في حرية الرأي والتعبير والحركة سواء تحت قبة البرلمان أو في الانتخابات أو ساحات القضاء أو في الإعلام، وتحركت كبديل عن الفئات الطبيعية صاحبة الحركة المباشرة في هذه المساحات من المعارضة التقليدية، وانطلقت الثورة المصرية نتيجة للحشد عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد حيث تم إسقاط الرئيس السابق مبارك في 11فبراير/شباط2011.
فكل الأسباب المباشرة وغير المباشرة لقيام ثورة 25 يناير تؤكد وجود صراعات مختزنة داخل الشعب المصرى وفساد سياسي كبير تفشى في العهد البائد.

وقد لعبت تكنولوجيا الاتصالات دورًا مهمًا في الدعوة للثورة المصرية وبخاصة الشبكة العنكبوتية؛ ويأتي دورها من خلال الموقع الاجتماعي فيسبوك الذي استغلة النشطاء السياسيون في مصر للتواصل مع بعضهم البعض وطرح ونشر أفكارهم ومن ثم جاءت الدعوة إلى مظاهرة قوية في يوم 25 يناير/كانون الثاني الذي يوافق عيد الشرطة سابقًا، وكان لتحديد هذا اليوم بالذات بالغ الأهمية في المعنى والرسالة فقد كانت الرسالة موجهة خصيصًا لوزارة الداخلية والأسلوب القمعي الذي تتبعه. قام المواطن المصري وائل غنيم والناشط عبد الرحمن منصور بإنشاء صفحة بعنوان «كلنا خالد سعيد» في الموقع الاجتماعي فيسبوك على شبكة الإنترنت، وكان خالد سعيد قد قـُتل في الإسكندرية في 6 يونيو/حزيران عام 2010 بعد أن عُذّب حتى الموت على أيدي اثنين من مخبري قسم شرطة سيدي جابر؛ مما أثار احتجاجات واسعة مثلت بدورها تمهيدًا مهمًا لاندلاع الثورة. كما دعا وائل غنيم والناشط عبد الرحمن منصور من خلال الصفحة على موقع الفيسبوك إلى مظاهرات يوم الغضب في 25 يناير/كانون الثاني عام 2011  وكان له دور كبير في التنسيق مع الشباب لتفجير الثورة في 25 يناير/كانون الثاني 2011 م.
فالثورة عندما بدأت يوم 25 يناير/كانون الثاني كانت مكونة من الشباب الذين شاهدوا صفحة «كلنا خالد سعيد» على موقع الفيسبوك أو شباب الفيسبوك كما قال وائل غنيم في حديثه مع الإعلامية منى الشاذلي في برنامج العاشرة مساءً؛ ومن ثم تحولت إلى ثورة شارك فيها جميع الشباب.

 

2- مسارات إعادة بناء النظام الإعلامي المصري في ضوء التحول الديمقراطي الثوري(8)

المسار الثاني: هو إعادة بناء النظام الإعلامي القومي أو الحكومي على أساس تحويله من نظام الإعلام الموجه التابع تبعية مطلقة للدولة (أسوأ أنواع الإعلام قاطبة، وتراجع في العالم كله بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق) إلى نظام إعلام الخدمة العامة Public service TV & Radio، وهو النظام المطبق في العديد من الدول الأوروبية الديمقراطية (بريطانيا BBC، وأستراليا ABC، كندا، وألمانيا.. إلخ)، وهو نظام إعلامي محصن من الخضوع للاعتبارات التجارية-الاستهلاكية والإعلانات، وضغوط جماعات المصالح، عن طريق تأمين مصادره المالية من خلال الاشتراكات التي يدفعها المواطنون والتي تؤمّنها الدولة لجهاز بث الخدمة العامة، ومحصن من التدخل السياسي الحكومي في سياساته التحريرية والبرامجية، أيًا كان نوع الحزب الحاكم أو الحكومة القائمة، بتكوين إداري-تنظيمي، يقوم على الفصل التام بين مجلس الأمناء أو مجلس الإدارة الذي يتحاور مع السلطة السياسية القائمة، وبين الإدارة العامة وإدارات التحرير والبرامج المستقلة تمامًا في كل قراراتها، وفي طريقة إنفاقها على التغطيات الإعلامية وهي تقدم تقريرًا عن الموازنة لمجلس الأمناء والإدارة، وليس للسلطة السياسية، ولكن لا تقدم تقريرًا عن إدارتها المختصة، أو قراراتها التحريرية، كما يضمن استقلالها التحريري بميثاق صحفي، تلتزم الحكومة بمقتضاه (وأحيانًا يكون في صورة تشريع برلماني ملزم) بعدم التدخل بأية صورة من الصور في عمل هيئة البث العامة، كما يلتزم مجلس الأمناء أو الإدارة بالدفاع عن حرية المدير العام ورئيس التحرير والبرامج وكل عناصر العملية الإعلامية في اتخاذ القرارات التحريرية ونوع التغطية، مادامت ملتزمة بالقواعد المهنية المتعارف عليها من الموضوعية والتوازن والدقة... ومادامت ملتزمة بمواثيق الشرف الإعلامية المهنية التي يضعها المهنيون في الهيئة بأنفسهم، أو مواثيق الشرف المتفق عليها في كل المؤسسات الإعلامية والصحفية الدولية مثل عدم الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة، وعدم الاعتداء على العقائد والأديان، وعدم خدش الحياء والآداب العامة... إلخ.

إعادة الاعتبار للأخبار والشؤون الجارية، يشمل مهمة إعادة بناء نظام الإعلام المملوك للدولة، وإعادة هيكلته، وإعادة الاعتبار إلى صناعة الأخبار وشؤون الساعة أو الشؤون الجارية News and Current Affairs Industry على الترفيه التافه المسطح للوعي الجمعي المصري، لمبرر إغراق الشباب ببرامج المسابقات والمنوعات، وحصر الأخبار في أخبار مسؤولي الدولة، وعملية غسيل المخ والتضليل السياسي.

وبدون الاهتمام بالأخبار والشؤون الجارية وتأمين تدفق حر للمعومات للشعب المصري، وتوفير منبر حرّ لكل وجهات النظر السياسية والثقافية ولأطراف الحياة العامة، وهم الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني، فإن فقدان المصداقية في الإعلام المرئي والمسموع المملوك للدولة، سيظل مستمرًا لدى الجماهير، لتظل وسائل الإعلام غير المصرية، ذات الطبيعة الإخبارية، هي المؤثر الحقيقي في مسألة إخبار المصريين بشؤون وطنهم وأحوالهم العامة، وبالتالي ستظل اللاعب الرئيسي في التأثير على توجهات الرأي العام المصري.
_______________________________________
* كاتب مصري – كلية الإعلام – جامعة القاهرة

المصادر
1- رجائي الميرغني، دور الإعلام في التحول الديمقراطي المجتمع المدني داعمًا–الائتلاف الوطني لحرية الإعلام نموذجًا، ورقة عمل مقدمة لبرنامج "بناء القدرات والنهوض بالمعرفة" لشباب الصحفيين الليبيين: القاهرة من 15/21 يوليو/تموز2011.

2- Shelton Gunaratne. “ Democracy , Journalism and Systems Perspectives From East and West “ , inx , Hao and S.K , Data Ray (eds ) , issues and challenges in Asian Journalism , (Singapora: Marshall Cauendish , 20006 ) pp 1-24

3-  قوي بوحنية، عصام بن الشيخ، الرسالة الإعلامية العربية "التغييرية": المضامين والرؤى، المؤتمر الدولي الـ 17 جامعة فيلادلفيا، ثقافة التغيير: الأبعاد الفكرية والعوامل والتمثلات ( المملكة الأردنية: 6– 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2012).

4- Goran , Hyden, and Charles Okigbo , “ The media and the Two waves of Democracy ; in media and democracy in Africa ” , G. Hyden ,M. Leslie and F.F Ogudimu , (e.ds ) ( New Brunswick , N, J: Transaction Publishers, 2002) pp29-50.

5- Jurgen Habermas , Structural Transformation of The Public Sphere (Cambridge , MA: Mit Press ,1989) pp. 171-179.

6- Jennings Bryant , Susan Thompson " Fundamentals of Media Effects " (New York: McGraw Hill , (2002) pp. 307-  309

7- ورقة بحثية بعنوان: الثورة المصرية والتجربة البولندية في التحول الديمقراطي، منتدى البدائل العربي للدراسات، المعهد البولندي للشؤون الدولية، ص3-4.
Online:    http://www.id3m.com/D3M/AllAboutNews/Documents/egypt%20revolution%20paper-%20arabic%20final.pdf

8- حسين عبد الغني، كيف يمكن إعادة هيكلة الإعلام المملوك للدولة؟ تحديات التحول الديمقراطي في مصر خلال المرحلة الانتقالية، مؤتمر بالتعاون بين مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وصندوق الأمم المتحدة للديمقراطية UNDEF ومركز العلاقات الدولية والحوار الخارجي FRIDE بأسبانيا، (القاهرة: 26–27 يوليو/تموز2011).