الإخوان المسلمون والمستقبل.. الحركة الإسلامية وأسئلة "المحنة"

ترى هذه الورقة أن الطروحات التي تتنبأ بأفول حقبة الإسلام السياسي بوصف ما حدث في مصر بالفشل المبكر والسريع للحركات الإسلامية تقع في مشكلة منهجية كبيرة؛ إذ تحاول تحميلها جميعًا نتائج التجربة المصرية وتداعياتها، بالرغم من التنوع الواسع في تجارب هذه الحركات وموقفها من السلطة.
201391191141407734_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

قفزت تحليلات وآراء عربية ومصرية بعد مظاهرات 30 يونيو/حزيران، ضد الرئيس محمد مرسي، ثم إطاحة الجيش به في انقلاب 3 يوليو/تموز، إلى خلاصات ونتائج تتنبأ بأفول حقبة الإسلام السياسي بوصف ما حدث بالفشل المبكر والسريع لحركات الإسلام السياسي في السلطة(1).

مثل هذه الفرضية تقع في مشكلة منهجية كبيرة؛ إذ تنتقل من الخاص إلى العام، من دون مقدمات رصينة تسندها، ولا دراسة استقرائية تمنح مؤشرات تؤيد هذه النتائج، لكن الأهم من ذلك أنها تكشف عن رغبة حقيقية في الزج بمختلف تجارب الإسلام السياسي في "حقيبة واحدة" وتحميلها جميعًا نتائج التجربة المصرية وتداعياتها، بالرغم من التنوع الواسع في تجارب هذه الحركات في موقفها من السلطة، حتى داخل المدرسة الواحدة، مثل الإخوان المسلمين؛ إذ نجد تشكلات متعددة متباينة في معطياتها ونتائجها.

ذلك يضاف إلى أن الإسلاميين تعايشوا عقودًا مع الضغط الأمني والعسكري، لكنهم لم يندثروا، حتى في أصعب الظروف السياسية والأمنية، بل عادوا بقوة عندما أتيح لهم ذلك، كما هي الحال في ليبيا وتونس.

قبل ذلك من الضروري أن نتذكر أننا -في العالم العربي- لا نزال في طور "لحظة انتقالية" ضبابية، لم تنضج بعدُ مخرجاتها، وهي مفتوحة على متغيرات واحتمالات وسيناريوهات مختلفة ومتعددة، تتداخل فيها مجموعة من المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، فليس بالضرورة أن يكون الصعود والهبوط السياسي والشعبي متوحدًا بين هذه الحركات، طالما أنها تختلف في مقارباتها البراغماتية السياسية، وفي طبيعة الظروف السياسية المحيطة بها، وهذا جوهر ما تجادل به هذه المقالة سواء في مناقشة فرضية أفول الإسلام السياسي عمومًا، أو فرضية تحول الحركة الإسلامية نحو الراديكالية والتطرف والعنف مرة أخرى، وغيرها من خلاصات واستنتاجات مبكرة، منبثقة من رحم تداعيات الحالة المصرية اليوم.

تنجُم جملة من الأسئلة والتساؤلات عن هذه التطورات والتحولات وما تستبطنه الفرضيات المختلفة في تداعيات التطورات المصرية على الحركات الإسلامية في العالم العربي؛ فيم إذا كان "الإخوان" سيتمسكون بعد هذه الأحداث بالديمقراطية والسلمية أم أنهم سيلجؤون إلى خيار العنف أو سيناريو التقوقع والتفكير الراديكالي؟ وفيم إذا كانت استجابة هذه الحركات ستكون واحدة لو أُطيح بأبرز التجارب الإسلامية في الحكم، في الفترة القادمة، مثل: تونس والمغرب بعد مصر، أم أننا سنكون أمام تداعيات متباينة ومختلفة؟

تناقش المقالة هذه الفرضيات عبر استعراض المتغيرات والاحتمالات التي تؤثر على خيارات الإخوان المسلمين والسيناريوهات السياسية لمستقبل الجماعة في مصر بداية، ثم الانتقال إلى دراسة تأثير ذلك من زوايا مختلفة على التجارب الإسلامية -الإخوانية الأخرى- سواء على صعيد التداعيات المباشرة، أو المتغيرات والاحتمالات المتوقعة خلال المرحلة المقبلة.

التشاكل مع المرحلة الناصرية

ما حملته الأيام التالية على انقلاب 3 يوليو/تموز، من اعتصامات واحتجاجات ومسيرات كبيرة مؤيدة للإسلاميين في الميادين والشوارع، عزز من فرضيات أخرى تبناها باحثون متخصصون في شؤون الجماعات الإسلامية، ورفضوا فيها الإقرار بمقولات أفول الإسلام السياسي، إنما تحدثوا عن عودة الإسلاميين إلى ما يسمى بـ"لحظة المحنة" في تجربة الحركة الإسلامية، وهي المرحلة المعروفة التي تعرضت فيها جماعة الإخوان المسلمين في مصر في حكم الرئيس السابق جمال عبد الناصر، إلى التعذيب والاعتقالات والإعدامات والحظر، وتعايشت مع تداعيات تلك المرحلة ومخرجاتها عقودًا طويلة، تحت المراقبة والضغط والتهديد والمحاكمة والسجن(2).

خلال الفترة الأولى من المحنة، التي تلت الصدام مع الجيش المصري، منذ العام 1954، برز فكر سيد قطب، الذي هيمن على أفكار أبناء الإخوان، ووجد امتدادًا له لاحقًا عبر الحركات الجهادية والإسلامية الراديكالية، ونجد تكثيفًا أيديولوجيًا سياسيًا له في كتاب "معالم في الطريق"، الذي أشبه ما يكون بـ(مانفيستو) "الإسلام الراديكالي"؛ إذ أعلن فيه سيد قطب مبدأ "المفاصلة" مع الأنظمة القائمة، ورفض "منطق الصفقة" و"حلول منتصف الطريق"، ورفض المساومة على إقامة الدولة الإسلامية(3).

بالفعل استحضر أبناء الإخوان المسلمين وأنصار الجماعة سيد قطب عبر مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة غداة الانقلاب، وبدا واضحًا أنهم وجدوا فيما كتبه -قبل قرابة نصف قرن- أنيسًا لهم في تفسير ما حدث مع الجماعة في مرحلة لاحقة، من عودة قاسية إلى الاعتقال والقتل والسجن والاتهام والملاحقة، وكأن فترة حكم محمد مرسي وانتصاراتهم الكبيرة في انتخابات مجلس الشعب والرئاسة لم تكن سوى "حلم يقظة" قصير جدًا، عادت بعده الجماعة إلى روايتها التقليدية؛ "المحنة"، وإن كان بعض المقربين من الحركة يرون أن ما تعرضت له اليوم من ابتلاء وامتحان خلال أسابيع قليلة تجاوز في مداه وقسوته ما عانته الجماعة خلال عقد ونصف مع حكم عبد الناصر، وكل ما واجهته مع فترتي السادات وحسني مبارك!

ثمة ما يفسر "استدعاء" فكر سيد قطب في اللحظة الراهنة لدى شباب الإخوان المسلمين من زاويتين رئيستين:
الزاوية الأولى: أن هؤلاء الشباب وجدوا، فيما كتبه قطب، تفسيرًا مرضيًا ومقنعًا لهم، لما يحدث خلال الفترة الراهنة؛ إذ يلخص ذلك أحد قياداتهم الشابة بالتساؤل: "ماذا يريدون من الإخوان المسلمين؟ لقد قدمت الجماعة تنازلات أيديولوجية كبيرة، تخلوا عن مفهوم الدولة الإسلامية، وقبلوا تمامًا ونهائيًا بنتائج "صندوق الاقتراع"، وحاولوا بناء شراكات خلال فترة حكمهم إلا أن الصدود كان من القوى السياسية الأخرى!"(4).

يكمل هذا الشاب قراءته للمشهد -التي تتقاطع بالضرورة مع شريحة واسعة من الشباب الإخواني- "من الواضح أن الإسلاميين مرفوضون، على كل الأحوال، والديمقراطية المقبولة والمطلوبة هي التي لا تأتي بالتيار الإسلامي إلى الحكم، إلا إذا تخلى عن هويته وجذوره فقط، وهو ما يصعب إقناع الإسلاميين به، ما يعني أن الطريق الديمقراطي مسدود أمامنا!"(5).

النتيجة التي يخلص إليها، ضمنيًا، هذا "القول" تتمثل بأن الجماعة لا تجد خيارًا غير المواجهة مع الجيش والقوى السياسية الأخرى، التي تقف في صف العسكر.

لا يبتعد عن ذلك السيناريو الجزائري، بعد العام 1992، حينما انقلب الجيش على نتائج صناديق الاقتراع، التي منحت الأغلبية لجبهة الإنقاذ الإسلامية حينذاك، ودخلت الجبهة ومعها التيار الإسلامي في مواجهات مسلحة مع الجيش الجزائري، في الأعوام التالية، انتهت إلى سيطرة الجيش على مقاليد السلطة والحكم هناك.

أما الزاوية الثانية؛ التي تفسر العودة إلى سيد قطب، فتتمثل بسؤال الهوية، في ظل حالة "الاستقطاب والانقسام" الجلية بين العلمانيين والإسلاميين؛ إذ وقفت أغلب القوى القومية واليسارية والليبرالية في البداية مع الانقلاب العسكري، وكذلك الإعلام وأوساط الفنانين والقوى الممثلة للأقباط؛ ما انعكس -لدى أبناء التيار الإسلامي- في الشعور بأن جوهر القضية هو الصراع على هوية مصر وروحها الحضارية، وما يرتبط بذلك من أبعاد دستورية وقانونية، وهو ما وجدنا صداه يتردد في شعارات ميدان رابعة العدوية وهتافاته وفي الخطاب الإسلامي، الذي يؤكد على أهمية حماية "الهوية الإسلامية" لمصر(6).

مثل هذا المناخ السياسي، الذي يعلو فيه "صوت الهوية"، فإن ما قدمه سيد قطب على هذا الصعيد يبدو مؤثرًا ومهمًا؛ إذ تحدث عن "الجماعة المؤمنة" في مواجهة الجاهلية(7).

يترتب على استحضار سيد قطب عمليًا، في الحد الأدنى، العودة إلى فكرة الصراع والصدام بين الإخوان والنظام الجديد، والدخول معه في مواجهة، وعودة الجماعة إلى طرح خطاب الهوية بصورة صارخة وواضحة.

أما في الحد الأعلى، فإن ذلك قد يؤذن باللجوء إلى السلاح والعنف في مواجهة الحملات الأمنية والاعتقال والمحاكمات والقتل، من قبل اتجاهات في التيار الإسلامي كانت قد أعلنت خلال السنوات الماضية "مراجعات فكرية" تخلت بموجبها عن السلاح والعمل السري، مثل الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد الإسلامي.

التمسك بالسلمية والديمقراطية بوصفهما خيارًا استراتيجيًا

بخلاف الفرضية السابقة، فإن خطاب الجماعة لا يزال يصر على الالتزام بالديمقراطية وبصندوق الاقتراع وبالخيار السلمي. بالرغم من كل ما حدث في ميداني رابعة العدوية والنهضة، ومن الزج بقادة جماعة الإخوان المسلمين في السجون والمعتقلات، ومن الضربات الأمنية التي وُجّهت للجماعة، والتلويح بحلها وحظرها، والهجوم الإعلامي على الجماعة، ومحاولة الزج بها عبر الدعاية الرسمية (للجيش والإعلام الرسمي والخاص في مصر) في إطار "الحرب على الإرهاب"، واتهامها بالعنف والتطرف؛ ما أفرز مناخًا سياسيًا وإعلاميًا، يصفه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بـ"التسميم السياسي"(8).

إلى متى يمكن أن تحتمل الجماعة ذلك، وتستمر على هذا المنوال (الالتزام بالديمقراطية والسلمية)؟ وكم ستبقى قادرة على ضبط ليس فقط أفرادها، بل التيارات والجماعات الإسلامية الأخرى المتحالفة معها، والأفراد الذين يرفضون الانقلاب؟

الجواب على ذلك يرتبط بتطورات الأوضاع على أرض الواقع، والسيناريوهات السياسية المحتملة؛ إذ لم تنجح (إلى الآن) الأعمال والدعاية التي تقوم بها المؤسسة العسكرية بالتعاون مع أغلب وسائل الإعلام المصرية، في إنهاء المسيرات والمظاهرات، وفض الشارع عن جماعة الإخوان المسلمين، حتى بعد وقوع أحداث الانقضاض على اعتصامي رابعة العدوية وميدان النهضة.

لا يزال الانقلاب العسكري يعاني من عدم قدرته على فرض آلياته وخارطة الطريق التي وضعها، فإذا أدى ذلك إلى تراجع مخرجات الانقلاب والوصول إلى "صيغة سياسية" تُبقي الإخوان وحلفاءهم من التيار الإسلامي في دائرة "اللعبة السياسية"، والانتخابات، فإن الإخوان سيتمسكون -وفق المؤشرات الراهنة- بالديمقراطية والسلمية في خطابهم السياسي.

أما إذا توقعنا نجاح السيناريو العسكري، وتم حل الجماعة وإقصاؤها من المشهد السياسي، وتجذرت حالة "الانسداد السياسي"، ولم يجد أعضاء الجماعة وأبناء التيار الإسلامي عمومًا أطرًا سياسية علنية للتعبير عن مواقفهم وآرائهم السياسية، وتلاشى الأمل بتحقيق انتصار سياسي سلمي في مواجهة الانقلاب؛ فإن خيار العودة إلى "فكر المحنة" والرؤية الراديكالية للتغيير، وقضية الهوية سيكون أمرًا محتملاً.

وإذا كان من المستبعد أن تتخلى جماعة الإخوان رسميًا عن خطابها السلمي والالتزام الديمقراطي، فإن "هجرة" أعداد من أفرادها، بخاصة جيل الشباب، نحو الانغلاق أو التقوقع على الذات، أو حتى باتجاه الفكر الراديكالي، في العلاقة مع الدولة ومؤسساتها، هو احتمال ممكن.

بالرغم من عدم استبعاد هذا "الخيار الأخير"؛ إلا أن تجربة الإسلاميين عمومًا مع فكرة الصدام والمواجهة لا تشجع على العودة إلى ذلك؛ فهو خيار يقع خارج سياقات الرهانات الحالية للجماعة وحتى أغلب التيارات الإسلامية الراديكالية سابقًا. وربما هذا على المدى الأبعد يمنح الأرضية المطلوبة لولادة "النموذج الإسلامي" التركي، أي حركة إسلامية أكثر تطورًا في خطابها الأيديولوجي وطرحها السياسي، تعيد هيكلة شعاراتها وأفكارها، بما يتجاوز معوقات المؤسسة العسكرية والخصوم السياسيين للإسلاميين، كما فعل حزب العدالة والتنمية التركي.

تطوير التجربة الإسلامية باتجاه النموذج التركي، تحت وطأة التشابه في دور المؤسسة العسكرية في الحالتين، التي تحول دون وصول الإسلاميين إلى السلطة، يتطلب شرطًا آخر وهو وجود إطار ديمقراطي وآليات انتخابية ومؤسسات تمثيلية مستقلة، فنفوذ الجيش التركي في العملية الديمقراطية والسياسية يقتصر هناك على ما يسمى بحماية القيم العلمانية-الأتاتوركية، بينما في الحالة المصرية، فإن المؤسستين العسكرية والأمنية تتغلغلان في تفاصيل كثيرة، ولهما نفوذ واسع في الاقتصاد والإعلام والسياسة، ما يحد من ديناميكية اللعبة الديمقراطية وقدرتها على دفع الإسلاميين إلى تطوير خطابهم السياسي، لدرجة قريبة من نموذج العدالة والتنمية التركي.

مع ذلك، وإذا كانت هنالك إشكالية حقيقية في فكرة استنساخ "النموذج التركي"، بصورته وجوهره، فإن المراجعة المحتملة من الإخوان ربما تؤدي إلى صيغة متطورة، ليست بالضرورة مطبوعة عن الأتراك، لكنها تستدرك على ما يسميه مراقبون "أخطاء الإخوان" في المرحلة الانتقالية الماضية، وتقدم خطابًا أكثر مرونة وإدراكًا لموازين القوى ولإنجاح التجربة، لتصبح ذات طابع وطني ديمقراطي يتجاوز الإطار الأيديولوجي والحركي الإخواني التقليدي.

سيناريو "المحنة الأخيرة"؛ أفول الإخوان

تمكنت الجماعة تاريخيًا من العودة وترميم بنيتها الداخلية سريعًا في كل مرة تتعرض فيها لضربات أمنية قاسية للجماعة، وهي حالة أصبح لدى الجماعة خبرة تاريخية في التعامل معها. بيد أن ضياء رشوان، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، وأحد مؤيدي الانقلاب العسكري، يشكّك في أن تكون هذه المحنة مثل التجارب السابقة للإخوان؛ إذ يرى أن "المحنة" الحالية تأتي بعد أن جرّب الشارع المصري الإخوان في السلطة، وسقطت "أسطورة" النموذج الإخواني، فهم اليوم يواجهون الشارع والإعلام وكثيرًا من القوى السياسية، وليس فقط الجيش، ويؤشر عنوان مقالة رشوان إلى توقعاته بعدم قدرة الجماعة على الخروج من "المحنة الأخيرة" الحالية(9).

يتجاهل رشوان، وهو حاليًا من خصوم جماعة الإخوان في المشهد المصري، في مجادلته، أنه ينحاز لوجهة نظر سياسية، من دون أن يستقرئ الشروط الموضوعية المختلفة المحيطة بالتجربة الحالية، فهنالك جمهور عريض آخر رافض للانقلاب العسكري، ويشعر بالتعاطف مع جماعة الإخوان، بما تعرضت له خلال فترة قصيرة، من قتل واعتقالات وإهانات، وصلت إلى حد قتل أبناء قيادات الجماعة(10).

ولا تقف هذه الفرضية، أيضًا، عند المقارنة المنهجية الصحيحة بين ما حدث بعد العام 1954، والانقلاب العسكري الحالي؛ إذ كان عبد الناصر يمتلك أيضًا شعبية عارمة وواسعة، ويحظى بدعم كبير من الإعلام المصري، في وقت تغيب فيه الآلة الإعلامية المضادة المؤيدة للجماعة، وذلك قبل العولمة وفي زمن الاحتكار السلطوي لوسائل الإعلام، ولم تكن "الصورة الإعلامية" تنتقل خلال دقائق معدودة من أرض الحدث إلى الشبكة العنكبوتية، وهي الظروف والحيثيات التاريخية التي عززت من أفكار سيد قطب في أوساط الجماعة والتيار الإسلامي عمومًا؛ إذ كانت تحمل في طياتها غضبًا موازيًا ليس فقط على السلطة، بل على المجتمع، الذي انحاز أغلب فئاته وجماهيره نحو عبد الناصر، وتركت الجماعة تواجه مصيرًا كارثيًا خلال تلك المرحلة.

 جدلية العوامل الداخلية والخارجية

إذا كانت الصورة لا تزال غير مستقرة، ومفتوحة على احتمالات متعددة لمصير جماعة الإخوان المسلمين في داخل مصر؛ ما يجعل من فرضية "أفول الإسلام السياسي" متعجلة وغير مبنية على منطق علمي رصين، فبالضرورة ستكون هذه الفرضية أضعف خارج مصر، فضلاً أننا أمام حالات وأمثلة متنوعة ومتعددة في التعامل مع الربيع العربي وسؤال السلطة، كما هي حال تونس والمغرب، وحركات لم تصل إلى السلطة، كما هي الحال في الأردن، أو حالات أخرى متحالفة مع السلطة العسكرية منذ سنوات طويلة، كما هي الحال السودانية!

مع ذلك، فإن هنالك تداعيات وتأثيرًا لما يحدث في مصر على مستقبل الحركات الإسلامية، لماذا؟

  • أولاً: لما تحتله جماعة الإخوان المسلمين في مصر تاريخيًا من دور مركزي لدى جماعات الإخوان المسلمين في العالم، ليس فقط على صعيد التنظيم العالمي للإخوان، وقيادته، لكن على صعيد التأثير المعنوي والأيديولوجي، ابتداءً من مؤسس الجماعة، حسن البنا، مرورًا بسيد قطب، وصولاً إلى الجماعات الجهادية التي تأثرت أفكارها بمحنة الإخوان في المرحلة الناصرية، مثل: محمد عبد السلام فرج، وأيمن الظواهري، وغيرهم.

    فأي سيناريو ستفرزه اللحظة الراهنة لمصير إخوان مصر، وما سينجم عنه من خطاب وفكر تتبناه الجماعة أو الإسلاميون عمومًا سيجد ظلالاً وأصداء معنوية ونفسية له في العالم العربي، لكنه سيكون تأثيرًا مقيدًا بالعوامل الداخلية، التي تمثل المتغير الأول في تحديد مستقبل هذه الجماعات.

  • ثانيًا: لأن ما يحدث في مصر له سياق إقليمي ودولي، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال الترحيب والدعم الكبير، الذي حظي به الانقلاب العسكري من ثلاث دول عربية، هي: السعودية والإمارات والأردن، سواء على الصعيد الدبلوماسي أو الاقتصادي أو حتى الإعلامي والمعنوي، ما يعكس وجود "أجندة إقليمية" عربية معادية للإسلام السياسي ولإدماجه في السلطة في مرحلة الربيع العربي، يتبنى هذه الأجندة عمليًا وواقعيًا ما يسمى "محور الاعتدال العربي"، مع دور مركزي للدول الثلاثة المذكورة.
  • ثالثًا: لأن ما يحدث في دول الربيع العربي (مثل: مصر، وتونس، وليبيا، واليمن)، وبدرجة أكبر مصر لمكانتها الاستراتيجية وأهميتها في المشرق، له تداعيات على الحالة الشعبية العربية، فنجاح هذه التجارب الديمقراطية-الإسلامية الجديدة يُنظر له بوصفه "نموذجًا" قابلاً للتصدير للدول الأخرى، وتحديدًا الملكيات التي تخشى من انتقال عدوى الربيع العربي إليها، وهو ما ستستفيد منه المعارضة، ومن بينها الحركات الإسلامية، كما هي الحال في الأردن والكويت والسعودية والجزائر. والعكس صحيح، ففشل مثل هذه التجارب وتخبطها، أو نجاح الثورات المضادة لها، يصب في مصلحة الأنظمة العربية التقليدية المتبقية، ويضعف من "المحفزات" المعنوية لدى الشعوب للسير على خطى الثورات والانتفاضات السابقة.

مع أخذ هذه الأبعاد بعين الاعتبار إلا أنها تمثل مجتمعة "العامل الخارجي"، الذي إذا لم يتزاوج مع "العامل الداخلي، سيبقى تأثيره "محددًا"، وما نراه على أرض الواقع في تجارب "الإخوان المسلمين" الأخرى يعزز فرضية ضرورة عدم التسرع في التعميم وإصدار النتائج، والتأني في إطلاق خلاصات حول مصائر الجماعة أو حتى حركات الإسلام السياسي الأخرى.

ففي المغرب، بالرغم مما تعانيه الحكومة التوافقية، التي يشارك فيها حزب العدالة والتنمية، من مشكلات وأزمات، بخاصة بعد تفكك التحالف الحاكم، إلا أن حيثياتها وشروطها الحالية تختلف عما نراه في التجربة المصرية، فالعامل المهم في هذه التجربة ليس العسكر، بل المخزن-مؤسسة القصر الملكي، كما أن البلاد لم تشهد ثورة شبيهة بما حدث في كل من تونس ومصر؛ إذ بادر الملك إلى القيام بإصلاحات دستورية وسياسية، أفسحت المجال أمام الانتخابات النيابية الأخيرة، وتشكيل حكومة ائتلافية(11).

وفي حال فشل حزب العدالة والتنمية في تحقيق وعوده الانتخابية وبرامجه السياسية، فسيعود إلى مقاعد المعارضة، وهي نتيجة طبيعية في إطار اللعبة الديمقراطية، ولا تتشابه بحال مع التجربة المصرية، التي أطيح فيها بالرئيس المنتخب وبمجلس الشورى، وتم القفز على دستور حظي بالقبول في استفتاء شعبي، عبر مؤسسة الجيش بالتحالف مع القوى المناوئة للإخوان وتأييد شريحة اجتماعية لهذا الإجراء.

وفي الأردن، تبدو المعادلة مختلفة تمامًا؛ إذ لا تزال جماعة الإخوان المسلمين، (ومعها حزب جبهة العمل السياسي، الذي يمثلها في اللعبة السياسية) مصرة على مقاطعة الانتخابات النيابية والبلدية، كما حدث في آخر عامين، ولم تصل إلى تفاهمات مع النظام الملكي، الذي قدم إصلاحات دستورية وسياسية، نظرت لها المعارضة، بما فيها جماعة الإخوان، بوصفها دون الحد المطلوب، ولا تزال العلاقة بين الدولة والإخوان في حالة شد وجذب والأزمة السياسية في البلاد تراوح مكانها.

وبالرغم من انطلاق أصوات قريبة من المؤسسة الأمنية والتيار المحافظ تدفع باتجاه استنساخ النموذج المصري، عبر إعادة هيكلة الوجود القانوني للجماعة، وترفع راية النصر عليها، بعد الضربة العسكرية والأمنية التي تلقتها في القاهرة، إلا أن مثل هذا السيناريو مستبعد وغير مطروح، ضمن معطيات المعادلة الداخلية؛ إذ لا تتشابه الخبرة التاريخية في تعامل النظام مع الجماعة مع الخبرة المصرية، وإن كانت العلاقة بين الطرفين تشهد أزمة كبيرة منذ أعوام(12).

أما النموذج الثالث، فهو التونسي، وهو الأقرب إلى المصري، من زوايا متعددة؛ فالإسلاميون في الحكم، وجاءوا إليه بعد عقود من الحظر والملاحقة الأمنية، وعلى إثر ثورة شعبية، ويواجهون اليوم معارضة علمانية نشيطة، وعملية توليد لحركة "تمرد" شبيهة بالحركة المصرية، إلا أن استجابة حزب النهضة لهذه التطورات تختلف عن استجابة جماعة الإخوان في مصر؛ إذ أبدى الحزب مرونة شديدة، واستعدادًا لإعادة تشكيل الحكومة، وهيكلة لجنة صياغة الدستور(13)، فضلاً عن أن للنهضة شركاء في الحكم من خارج الوسط الإسلامي، كما قامت الحكومة بحسم الجدل مع التيار الإسلامي، الذي يوصف بالتشدد، أنصار الشريعة، عبر إعلانه "تنظيمًا إرهابيًا"، وتحميله مسؤولية اغتيال اثنين من المعارضين العلمانيين البارزين(14).

تبدو حركة حماس الأكثر تضررًا من بين الحركات الإسلامية، خارج مصر، مما حدث بعد انقلاب 3 يوليو/تموز؛ إذ تعرضت هي الأخرى لهجوم إعلامي وسياسي شرس من الإعلام المصري والتيار السياسي المعادي للإخوان، وجرى التعامل معها وكأنها عدو للشعب المصري، وتحميلها، أيضًا، مسؤولية مباشرة عما يحدث في قطاع سيناء من مواجهات بين الجيش والقوى المسلحة، وأصبحت العلاقة معها بمثابة "تهمة" يعاقب عليها القانون.

الخاتمة

مقولة: "أفول الإسلام السياسي" (في مصر) كان بالإمكان أن تجد حججًا قوية تسندها، فيما لو نجحت المؤسسة العسكرية في تثبيت صورة الثورة الشعبية في 30 يونيو/حزيران ضد "حكم الجماعة"، وتمرير ما حدث بعد ذلك بوصفه "حماية للديمقراطية" من "الفاشية الإخوانية" (وفق الرواية الإعلامية التي تبناها الإعلام المؤيد للجيش)؛ إلا أن الصورة اهتزت كثيرًا، مع خروج مظاهرات حاشدة تأييدًا للجماعة، ومع استخدام العنف بدرجة كبيرة في مواجهتها، واعتقال قياداتها، ومقتل آلاف المؤيدين لها، واعتقال وجرح آخرين، والعودة إلى استخدام وسائل التعذيب والاضطهاد، كما في الأنظمة السلطوية.

مصائر الإسلام السياسي ستتأثر بالضرورة بالمعدل العام لهذه التجارب في أكثر من دولة، بعد أن تصبح الصورة أكثر استقرارًا ووضوحًا، وهو ما يحتاج إلى انتظار الأعوام القادمة وما تحمله من تطورات واحتمالات ونتائج لهذه المرحلة الانتقالية.

الأهم من هذا وذاك أن تجربة الإسلام السياسي ليست محكومة فقط بما يطفو على السطح السياسي في هذا البلد أو ذاك، أو بمدى نجاح أحد التيارات المعبّرة عن هذا الاتجاه، فهي مرتبطة بما هو أعمق من ذلك بكثير؛ بسؤال الهوية الحضارية والثقافية لهذه المجتمعات، وجوابها على سؤال العلاقة بين الدين والسياسة والعلاقة مع الذات، قبل العلاقة مع الآخر؛ فجماعات الإسلام السياسي -عمومًا- تتبنى حلم تيار اجتماعي عريض وواسع متمسك بدور حيوي للدين، وهو ما يتطلب تسويات فكرية مجتمعية وثقافية عميقة في الإجابة على هذه الأسئلة البنيوية، وهو ما لا يمكن أن يُحَل عبر ضربة أمنية أو إقصاء سياسي، أو حتى يفقد بريقه بخسارة انتخابات في مرحلة من المراحل أو كسبها!
_________________________________________________
د.محمد أبو رمان، باحث متخصص في شؤون الحركات الإسلامية.

المصادر
1- انظر: محمد حسن البنا، الأحزاب الدينية، أخبار اليوم، 1سبتمبر/أيلول 2013، يمكن قراءة المقال على الرابط التالي: http://akhbar.akhbarelyom.com/news/newdetails/151095/6/بسم-الله.html ، وكذلك: ناهض حتر، أفول عصر الإسلام السياسي، صحيفة الأخبار اللبنانية، 7 ديسمبر/كانون الأول 2012.وانظر كذلك: "علاء الأسواني: سقوط مرسي نهاية للإسلام السياسي في مصر"، بوابة الأهرام الالكترونية، 11 يوليو/تموز 2013، على الرابط التالي: http://gate.ahram.org.eg/News/371483.aspx ، وكذلك: "الأسد يعتبر سقوط مرسي نهاية للإسلام السياسي"، صحيفة الدستور المصرية، 11 يوليو/تموز 2013، على الرابط التالي: http://gate.ahram.org.eg/News/371483.aspx
2- انظر:  Khalil Al-Anani,The Brotherhood revives its Mehna narrative, Foreign Policy, 15-7-2013، يمكن قراءة المقال على الرابط   التالي: إضغط هنا، انظر كذلك: "محلل: القمع سيعيد الإخوان لأيام عبد الناصر"، على موقع السي إن إن العربي، 15 أغسطس/آب 2013، الرابط التالي: http://arabic.cnn.com/2013/middle_east/8/15/fawaz.gerges/index.html
3- حول فكر سيد قطب ودوره في الحركة الإسلامية وكتاب معالم في الطريق، انظر: محمد أبو رمان، الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي: المقاربات، القوى، الأولويات، الاستراتيجيات، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2010، ص185-190.
4- في مقابلة خاصة مع الباحث في مدينة السلط،  5 أغسطس/آب 2013.
5- المصدر السابق نفسه.
6- انظر: "هتافات إسلامية.. إسلامية تغلب أصوات تحليق الأباتشي برابعة"، 19 يوليو/تموز 2013، موقع مفكرة الإسلام، يمكن قراءة الخبر على الرابط التالي: http://www.islammemo.cc/akhbar/arab/2013/07/19/176786.html
7- انظر: سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، ط6، 1979، ص5-10.
8- انظر: "سيف عبد الفتاح: ما يحدث الآن في مصر عملية تسميم سياسي"، جريدة الشعب الجديد المصرية، الموقع الإلكتروني، 20 أغسطس/آب2013، يمكن قراءة الخبر على الرابط التالي: http://elshaab.org/thread.php?ID=70513
9- ضياء رشوان، "المحنة الأخيرة" للإخوان المسلمين، المصري اليوم، 25 أغسطس/آب 2013، يمكن الوصول إليها عبر الرابط الإلكتروني التالي: http://www.almasryalyoum.com/node/2062381 ، ويمكن قراءة رأي مشابه في: عبد العليم محمود، أسئلة المصير لجماعة الإخوان المسلمين، موقع البوابة نيوز، 15 أغسطس/آب 2013، يمكن قراءة المقال على الرابط التالي: http://www.albawabhnews.com/articles/111127
10- ضياء رشوان، المحنة الأخيرة للإخوان المسلمين، مرجع سابق.
11- انظر: محمود معروف، مفاوضات عسيرة تنتظر بنكيران لتشكيل الحكومة المغربية، موقع سويس إنفو، 26 يوليو/تموز 2013، يمكن قراءة التقرير على الرابط التالي: http://www.swissinfo.ch/ara/detail/content.html?cid=36537936
12-  انظر: محمد أبو رمان، إخوان الأردن تحت طائلة "الصدمة المصرية"، موقع المونتور الإلكتروني، 19 يوليو/تموز 2013، يمكن قراءته على الرابط التالي: http://www.al-monitor.com/pulse/ar/contents/articles/opinion/2013/07/jordan-egypt-muslim-brotherhood.html
13- انظر: تقرير "النهضة التونسية تسعى إلى حلول توافقية"، صحيفة الخليج، 12 أغسطس/آب 2013، يمكن قراءته على الرابط التالي: http://www.alkhaleej.ae/portal/e24fe87b-fd74-4272-a22b-1ddb39a1d23f.aspx
14-  انظر: "مخاوف بتونس من تبعات تجريم (أنصار الشريعة)"، الجزيرة نت، يمكن قراءة التقرير على الرابط التالي: http://www.aljazeera.net/news/pages/fbef6949-65f5-426d-abb6-29c42e8a5516