المسلمون في إثيوبيا بين الحاضر وآفاق المستقبل

يتناول الباحث قضية المسلمين في إثيوبيا واقفًا على المراحل المختلفة التي مرَّ بها وضعهم السياسي وعلاقاتهم بالشأن العام ومُبرِزًا في الوقت نفسه تموضعهم الراهن في المشهد الحزبي والسياسي ومستشرفًا مستقبلهم في هذه الدولة التي تعرف تجاذبات سياسية عميقة.
2015426819170580_20.jpg
قدَّر نسبة المسلمين في إثيوبيا بحوالي 60%، حسب الإحصائيات غير الرسمية (الجزيرة)

ملخص
ظلَّ المسلمون بإثيوبيا مهمَّشين طيلة الحكم اليساري مع منغيستو هيلا مريام ولم يكن حظهم في الحضور بأحسن قبل ذلك في العهد الملَكي مع هيلاسلاسي. إلا أن الانفراج الديمقراطي الذي عرفته البلاد مع رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي غيَّر من وضعيتهم السياسية فقد أسهم في دخول المسلمين الإثيوبيين في الحياة العامة ووصل الأمر إلى تعيين اثني عشر وزيرًا مسلمًا في إحدى حكومات زيناوي. ومع وصول هيلا ماريام ديسالين للحكم تكرَّس حضور المسلمين في الشأن العام سواء تعلق الأمر بالوظائف السامية أو بالحضور الفاعل في النشاط المدني، وبرز سياسيون مسلمون في المعارضة وأخذوا مواقع مهمة في المشهد الحزبي.

غير أن الوضع السياسي والأمني لإثيوبيا في ظل التجاذبات بين رئيس الوزراء ديسالين والجيش قد يعود بالبلاد إلى وضع سياسي شبيه بالأوضاع السابقة حيث كان المسلمون في إثيوبيا مهمَّشين.

والمسلمون بإثيوبيا مطالَبون بفهم أعمق لمجريات الأحداث والتقلبات السياسية في البلاد بدلًا من تكريس الخلافات العِرقية والجَهَوية بينهم وتفشي الانقسام. ومن المقلق بالنسبة لمسلمي إثيوبيا النتائج التي يمكن أن تترتب على الانتخابات القادمة وما قد يصاحب حملاتها من تحريض طائفي مذهبي بيِّن، وقد بدأت ملامحه تلوح في الأفق كالتنافس بين الصوفية التقليدية والحركات الإسلامية من جهة وبين المسلمين السنَّة والأحباش اللبنانيين الشيعة من ناحية أخرى والذي تشجِّعه السلطات الإثيوبية لتبرير إقصاء السنَّة من المشهد السياسي؛ وهو ما يفتح مستقبل المسلمين في إثيوبيا على أكثر من احتمال.

إثيوبيا بلد يقع في شرق إفريقيا، وتبلغ مساحته 1,127,127 كيلومترًا مربعًا، ويبلغ تعداد سكانه حوالي 92 مليون نسمة(1).

تُقدَّر نسبة المسلمين في إثيوبيا بحوالي 60%، حسب الإحصائيات غير الرسمية، ونسبة المسيحيين بمختلف مذاهبهم بـ47%، حسب الإحصائيات الرسمية، ونسبة الوثنيين بـ3%(2).

بزغ فجر الإسلام وتكونت نواة المجتمع المسلم الأول في إثيوبيا قبل هجرة المسلمين إلى المدنية المنورة، ثم شرع الإسلام ينتشر في أدغال إثيوبيا على فترات زمنية متتالية حتى أصبح الدين الغالب، ولكن سرعان ما أثار هذا الانتشار حفيظة المسيحيين وأدى إلى صراع عقدي/سياسي امتد لأكثر من ستة قرون بين المسلمين والمسيحيين بدءًا من الإمارات الإسلامية الممتدة من الزيلع وانتهاء بحركة أحمد بن إبراهيم (جرين) في هرر، والممالك المسيحية الإثيوبية والتي انتهت بهزيمة المسلمين 1887 بتدخل دولي ممثل في دولة البرتغال والكنيسة الكاثوليكية العالمية وظهور الاستعمار الأوروبي وهيمنته على القرن الإفريقي(3).

المسلمون الإثيوبيون ومراحل التحول

يتمحور وضع المسلمين في إثيوبيا حول أربع مراحل سياسية، المرحلة الأولى: وهي مرحلة المَلَكية المطلقة والتي امتدت لقرون كثيرة وغاب عنها دور المسلمين في المشاركة السياسية والاقتصادية والتعليمية، وهي المرحلة التي انتهت بوفاة الملك الإثيوبي الراحل هيلاسلاسي في عام 1974. وقد عانى المسلمون في عهده أشد أنواع الحرمان حتى بتغيير أسماء أطفالهم ليتمكنوا من تسجيلهم في المدارس الحكومية(4).

المرحلة الثانية: وبوصول النظام الشيوعي بقيادة منجستو هيلا مريام إلى الحُكم ازداد وضع المسلمين في إثيوبيا سوءًا لأسباب سياسية عدَّة، منها: الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وظهور جبهات إسلامية وقومية مسلَّحة مختلفة المرامي والمقاصد في المنطقة، والصراع الإثيوبي-الإريتري من جهة والصراع الإثيوبي-الصومالي من جهة أخرى. وقد حارب منجستو جميع المظاهر الدينية المسيحية والإسلامية على حدٍّ سواء(5).

المرحلة الثالثة: ويرجع الفضل الأكبر في الانفراج السياسي للمسلمين في إثيوبيا إلى مرحلة الديمقراطية والتعددية الحزبية والنظام الفيدرالي في الحكم بقيادة رئيس الوزراء الراحل مليس زناوي، وفي عهده تنفَّس المسلمون الصَّعداء ورأوا أنهم جزء أساسي من الوطن وأبدوا الثقة بالحكومة بعد إعطائهم نوعًا من الحرية السياسية والمشاركة في الحكم؛ فمثلًا كانت حكومة مليس تضم 12 وزيرًا مسلمًا، إضافة إلى إنشاء برامج تعليمية وتدريبية للمسلمين في كافة المناطق المسلمة المهمَّشة مثل فتح أول كلية إسلامية في أديس أبابا، وتزامن مع هذا أيضًا إنعاش الاقتصاد في المناطق المسلمة. ورغم أن إثيوبيا تعتبر دولة حبيسة ليس لها منفذ بحري ودولة تعاقبت فيها أنظمة مَلَكية وديكتاتورية لعدة قرون تمنع الحرية السياسية والاقتصاد الحر إلا أن هذا الكبت السياسي والاقتصادي زال تدريجيًّا بوصول مليس زناوي إلى سُدَّة الحكم، وبدأ صوت المسلمين يُسمَع في أروقة الحكومة والدوائر الحكومية المختلفة لأول مرة في التاريخ الإثيوبي السياسي كما ازدادت استثمارات دول الخليج في إثيوبيا وتم إرسال آلاف من العمال الإثيوبيين إلى دول الخليج(6).

وفي عهده تم تقسيم إثيوبيا إلى تسعة أقاليم لكل إقليم حُكمه الداخلي ورئيسه المحلي مع دستور فيدرالي مرن يحدُّ الحدود بين تلك الأقاليم والحقوق الدستورية لكل إقليم ويُقرُّ أيضًا حق تقرير المصير والانفصال وتقاسم الثروة والسلطة. نتج هذا الدستور عن مخاض مرير وصراع سياسي مسلَّح، راح ضحيته آلاف من الأرواح البشرية، وتشريد قسري أجبر آلافًا من المسلمين وغير المسلمين على الهجرة إلى دول الجوار وإلى العالم الغربي. ويعتبر هذا الدستور النواة الأولى والبوتقة التي ينصهر فيها جميع ألوان الطيف الإثيوبي. وبهذا الدستور وجد المسلمون بعض الحقوق المستحقة من مشاركة سياسية وتعليمية واقتصادية والتي لم تكن موجودة في الدساتير الإثيوبية في العهد الملكي والنظام العسكري(7).

وكانت إثيوبيا في العقدين السابقين تعاني من المعارضة المسلحة القومية والإسلامية والتي كانت تنطلق من دول الجوار من الصومال وأريتريا والسودان. وبمرور الزمن اتخذت غالبية المعارضة المسلحة المسلمة في إثيوبيا النهج السلمي ونبذت العنف السياسي المسلح، وأدت تلك المصالحة السياسية إلى الشراكة في الحكم والاستقرار والتنمية الاقتصادية، وتسعى الجماعات المسلحة التي انخرطت في دوائر الحكومة العميقة إلى خلق جوٍّ سياسي جديد. هذا وتراقب السلطات الإثيوبية بعين حذر وريبة الأنشطة السياسية للمعارضة حيث إن إثيوبيا محاطة بحرًا بالمسلمين من جميع جهاتها. وفي العقدين الأخيرة شهدت البلاد واحدة من أعنف المعارك في إفريقيا بين جبهة أورومو والاتحاد الإسلامي والجبهة الوطنية لتحرير أوغادين والتي تناضل من أجل انفصال المنطقة الصومالية/الإثيوبية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الجيش قد شنَّ الحرب ضد حركة الشباب بمساعدة مالية وكذلك لوجستية من الولايات المتحدة. ولا يوجد في الوقت الراهن تهديد عسكري مسلح إذ إن أغلبية الفئات المسلحة انخرطت في العملية السلمية ووقَّعت اتفاقيات السلم مع رئيس الوزراء الأسبق أما الحركات المسلحة فليس لها دور يُذكر على الساحة الإثيوبية في الوقت الحاضر(8).

ومما يؤخذ على سياسة مليس الراحل خلق اضطهاد ديني مسيَّس إذ زرع طائفة الأحباش الشيعية اللبنانية في البلاد وسلَّمها قيادة "المجلس الأعلى للمسلمين" بالتعاون مع إيران وإسرائيل لإقصاء المسلمين السنَّة من المشهد الديني، ونشر التشيع في إثيوبيا، والذي أخذ في الانتشار في شرق إفريقيا بصورة ملحوظة. وقد قامت أكبر مظاهرة احتجاجية سلمية في إثيوبيا ما بين 2012-2013، وتم اعتقال 12 عالمًا في هذا الشأن والذين هم في غيابات السجون إلى يومنا هذا. ورغم أن المجلس الأعلى عاد بيد المسلمين إلا أن السلطات الإثيوبية فتحت للأحباش الشيعة مشاريع خيرية للتغلغل في مناطق المسلمين.

المرحلة الرابعة: وبوفاة رئيس الوزراء مليس زناوي هبَّت على المسلمين رياح سياسية جديدة فبدأت مشاركتهم في السياسة والحكم تزداد؛ حيث تولوا، لأول مرة في تاريخهم السياسي، منصب نائب رئيس الوزراء ومناصب قيادية عليا، إضافة إلى انتشار التعليم العصري الحديث في المجتمع المسلم بفتح المدارس والجامعات النظامية في المناطق المسلمة المهمَّشة سابقًا والتي كانت تتبع نظام التعليم التقليدي من الحلقات والمدارس الإسلامية الابتدائية ذات النهج العربي غير المعترف به لدى السلطات الإثيوبية. وكانت إثيوبيا تمثل المركز العلمي للمسلمين في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا عامة وخاصة مركز هرر ولا تزال تؤدي دورها، وفي الآونة الأخيرة بدءًا من تسعينات القرن الماضي ونتيجة للانفراج السياسي اتجه المسلمون أيضًا إلى دمج التعليم العصري في مؤسساتهم العلمية مما أدى إلى نهضة ثقافية علمية دمجت بين النظام التقليدي القديم والنظام الحديث مثل جامعة جكجكا وفروع لعدة جامعات في المناطق المسلمة. أمَّا بالنسبة للتعليم الأكاديمي فخلال القراءات المحلية يبدو واضحًا أن هناك نسبة لا يُستهان بها من المسلمين على درجات عالية إدارية وعلمية والذين يشكِّلون جزءًا معقولًا في البلد بتخصصات مختلفة كالطب والهندسة والقانون والتربية وغيرها من العلوم الحديثة(9).

ومما يؤخذ على سياسة التعليم في إثيوبيا الحالية أن المناهج التعليمية ولاسيما مادتي التاريخ والجغرفيا في كل المراحل المختلفة تكرِّس تجميد نضال أبطال الطائفة المسيحية فقط، بينما تهمل أبطال المسلمين في المناهج الدراسية مما يخلق الاحتقان في نفوس طلبة المسلمين وعدم إحساسهم بالمواطنة والانتماء للوطن، ويخلق في نفس الوقت الفجوة بين الطلبة المسلمين والمسيحيين(10).

 وضع المسلمين في إثيوبيا: هل انتهى عهد التهميش؟

دخلت الحالة السياسية الإثيوبية منعطفًا سياسيًّا جديدًا بعد وفاة رئيس الوزراء الراحل مليس زناوي؛ فبتقلد نائبه هيلا مريام منصب رئيس الوزراء، والذي ينتمي إلى أقليات العِرقية الإثيوبية، ظهر صراع سياسي بين قومية التِّجْري، التي ينتمي إليها رئيس الوزراء الراحل، ورئيس الوزراء الجديد حول النفوذ السياسي في البلد. والواضح أن قومية التجري حكمت إثيوبيا من 1991 إلى 2012 وتسيطر على السياسة والاقتصاد وجميع أروقة الدولة العميقة إلى يومنا هذا ولاسيما الجيش. وكلما اقتربت الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في مايو/أيار 2015، ازدادت التنافسات السياسية والاستقطابات واستعراض العضلات في جميع الأقاليم الإثيوبية بين جميع ألوان الطيف في البلد حول السلطة. ولا تتجنب القومية الأمهرية الصراع السياسي الحالي، وهي التي تستمد قوتها من إرثها الثقافي وخبرتها السابقة في الحكم وعلاقتها الواسعة مع الغرب ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، كما لا يبتعد الطموح السياسي عن الطبقة المسلمة والتي أصبحت بدورها ورقة سياسية توضع في الحسبان وذلك بثقلها الاقتصادي ودورها السياسي المتنامي. وتمثل إثيوبيا يوغسلافيا القرن الإفريقي إذ تسودها الجماعات الإثنية العِرقية المختلفة في الدين واللغة والعادات والانتماءات السياسية الأمر الذي يشكِّل تهديدًا مباشرًا لتماسك الجبهة الداخلية في البلد(11).

ومن الملامح الأخرى إنعاش الاقتصاد نتيجة الاستقرار السياسي الذي تنعم به البلاد في الوقت الحالي، وينمو الاقتصاد بصورة مذهلة حسب التقارير الإحصائية الحكومية والعالمية وخاصة اقتصاد المناطق المسلمة وذلك بإنشاء شركات التصدير والواردات والتي تمتد إلى دول الخليج وآسيا والصين وتركيا. تزامن هذا مع تطوير الزراعة والثروة الحيوانية نتيجة استمرار المواسم المطرية وانخفاض نسبة الجفاف والتصحر في المناطق الزراعية ومناطق الرعي. وكانت إثيوبيا سابقًا تتعرض لقحط وجفاف مزمن نتيجة سوء التخطيط للحكومات الملَكية والعسكرية السابقة، ولكن بتطبيق النظام الفيدرالي في الحكم وإقرار نظام تطوير الاقتصاد ووضع ميزانية قومية، بدأت استراتيجية الاكتفاء الذاتي في إثيوبيا تنمو بشكل ملحوظ.

من أبرز الملامح السياسية في الوقت الحالي عودة التنافس السياسي الذي تغلَّب عليه رئيس الوزراء الراحل في عام 2005 بانتخابات شُكِّك في نزاهتها آنذاك والتي فاز بها مليس زناوي وترتَّب عليها اعتقال رموز المعارضة، ورغم أن الولايات المتحدة الأميركية أبدت عدم شعورها بالرضى عن الوضع السياسي في إثيوبيا إلا أن مليس كسب الدعم الأميركي والغربي بإرسال قواته إلى الصومال لكبح جماح المحاكم الإسلامية والتي اتهمتها أميركا والغرب عمومًا بتصدير الإسلام السياسي المتطرف وتهديد مصالحها القومية في القرن الإفريقي. وأبقى رئيس الوزراء الحالي الجيش الإثيوبي في الصومال تحت مظلة الاتحاد الإفريقي ولم يُحدث تغييرًا يُذكر(12).

ومن الأشياء التي يلاحظها المراقب للسياسية الإثيوبية الراهنة خلوُّ الساحة الإثيوبية من شخصية سياسية قوية تلتف حولها غالبية المجتمع الإثيوبي، والثابت أن إثيوبيا دأبت عبر الأنظمة السابقة بشخصية مَلَكية أو عسكرية أو كاريزمية مدنية مثل مليس زناوي تحكم البلاد بقبضة من حديد، ولكن الأوضاع الحالية حبلى بالمخاطر والمفاجآت السياسية. ويُولي الغرب ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية اهتمامًا لاستقرار إثيوبيا لثقلها الديمغرافي والجيوسياسي في شرق إفريقيا عامة وفي القرن الإفريقي خاصة.

الأحزاب الإثيوبية: ومن الملامح البارزة في الوقت الحاضر في إثيوبيا ظهور معارضة سلمية، مثل: (حزب عفر الوطني الديمقراطي، وجبهة الوحدة الديمقراطية الشعبية لبني شنقول، وجبهة التحالف من أجل الوحدة والديمقراطية، وحركة قوميات جوارج الديمقراطية، وحركة أورومو الفيدرالية الديمقراطية، وكونجرس شعب أورومو، وحزب الشعب الصومالي الديمقراطي، والقوات المتحدة الإثيوبية الديمقراطية)، وتهدف إلى تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلد وكانت جُرمًا وممنوعة قبل مليس زناوي. ويشكِّل المسلمون جزءًا كبيرًا من الأحزاب المعارضة السلمية، ويبدو واضحًا أن الدور السياسي للمعارضة المسلحة يتلاشى في ظل الانفراج السياسي في عهد مليس وفي ظل الفترة الانتقالية الحالية لعدة أسباب، منها: انهيار الحكومة الصومالية المركزية والتي كانت قاعدة انطلاق للمعارضة المسلَّحة القومية والإسلامية الإثيوبية، وانتهاء الحرب الباردة، وظهور سياسة القطب الواحد، وتلاشي نفوذ الحكومة الإريترية، وانتشار القوات الإفريقية في الصومال(13).

إذا ألقينا نظرة سريعة على القيادات الحالية للمسلمين في إثيوبيا فإننا نلمس دماء جديدة تتطلع إلى تغيير الإرث الثقافي القديم وتسعى لاختراق الحواجز والعقبات الفعلية التي وضعتها الأنظمة الإثيوبية المستبدة وتلك الوهمية الموضوعة من قبل القيادات المسلمة والتي بذلت كل جهدها بالنضال المسلح وأهملت النضال السياسي السلمي. ويبدو واضحًا أن الرياح تهب حاليًا نحو الاستفادة من النضال السياسي الذي وضع لبناته غاندي في القرن التاسع عشر ونلسون مانديلا في ستينات القرن الماضي. وقد أدرك قادة المسلمين الجدد أن البكاء على الأطلال والتحدث عن الماضي لا يُجدي شيئًا ولا يقود إلى المستقبل؛ فالأمم تُبنى بقراءة الماضي وفهم الحاضر والتخطيط الدقيق للمستقبل، والنقد الذاتي وتفسير المقدس وغير المقدس وتقليص مساحة الثوابت وتوسيع مساحة المتغيرات، وقد أُشكِل هذا على قادة المناضلين المسلمين القدماء في إثيوبيا. هذا وقد قام قادة المسلمين في إثيوبيا في الوقت الراهن بتصحيح المفاهيم المذكورة بعد نضال طويل امتد لفترة طويلة.

ولعل المسلمين في إثيوبيا قد يدركون حاليًا أن ورقة الإرهاب في إثيوبيا ستصبح هي الورقة الوحيدة التي ستستخدمها السلطات الإثيوبية لإقصائهم مرة أخرى من المشهد السياسي وتأثيرهم على الانتخابات القادمة والتي تستوجب ضرورة اليقظة والحنكة السياسية واستمرارهم على الأقل في التمثيل الرمزي في الحكومات الإقليمية حتى يتمكنوا من بناء مشروعاتهم التعليمية والاقتصادية المستقبلية.

ويرى البعض أن مسار الديمقراطية في إثيوبيا شكلي وشعار برَّاق يراد به تحسين صورة النظام خارجيًّا وأن الوضع السياسي لم يتغير وأن الطغيان السياسي على المسلمين قد أخذ شكلًا جديدًا، وما زالت البلاد من ضمن أسوأ بلدان العالم في سجل حقوق الإنسان حسب تقارير وإحصائيات منظمات حقوق الإنسان العالمية(14)، وأن الحركات المسلمة التي انخرطت في عملية المصالحة مع النظام تلقَّت ضغوطات غربية واستسلمت للأمر الواقع الزائل وخانت أهداف نضال المسلمين التاريخي وباعت مصيرهم بعَرَض بخس.

الانتخابات: إن الانتخابات القادمة ستكون أيضًا واحدة من المشاهد السياسية المهيمنة على المسلمين، ولذلك، فإن كثيرًا من الناس غير راضين عن الحزب الحاكم وسوف تكون الانتخابات القادمة فرصة لإظهار عدم رضاهم؛ وهذا يمكن أن يحدث إذا أصبحت أحزاب المعارضة المسلمة وغير المسلمة قوية ونشطة. وقد ألمح رئيس الوزراء الحالي هيلا مريام إلى أنه يحارب الفساد الإداري الذي تغلغل في كل مؤسسات الدولة والشركات الكبرى ومؤسسة الجيش.

والأزمة السياسية الداخلية التي يواجهها رئيس الوزراء الحالي هي الجيش القوي؛ فلقد بلغ الجيش الإثيوبي خلال فترة حكم مليس مستويات كبيرة من النفوذ وأصبح يمتلك شركات ورؤوس أموال لقطاعات عملاقة لا تُعد في إثيوبيا. وتسعى الحكومة إلى تقليل هذه السلطة وحصر مهام الجيش بشكل محدد في المجال العسكري وإبعاده عن السياسة. والواقع أن اجتثاث جذور الجيش من السياسة يكتنفه مخاطر وسيكون محل اختبار لسياسة رئيس الوزراء الحالي(15).

وأي طارئ سياسي جديد يُتوقع أن يغيِّر في الساحة الإثيوبية وربما يغيِّر من المعادلة السياسية برمتها غير أن التقارب بين الحزب الحاكم والمعارضة المسلمة السلمية سيكون من أهم نتائجه المتوقعة دفع المعارضة التقليدية الهشَّة سواء في الداخل أو في الغرب والمهجر -والتي كانت قوية في عهد مليس- إلى القبول بلعبة التفاوض السياسي مع الحزب الحاكم والرضى بتكوين حكومة عريضة القاعدة للخروج من المأزق السياسي الحالي.

في المقابل، يؤكد بعض التحاليل السياسية أن الصراع بين ضباط الجيش التجري ورئيس الوزراء هيلا مريام ربما يؤدي إلى انقلاب عسكري لا تُحمد عقباه والذي يُرجع العملية السياسية برمَّتها إلى الوراء. وتطفو على السطح المناورات السياسية بين الطرفين، ويكون للولايات المتحدة دور بارز في ترجيح الكفة والمعادلة السياسية. وقد رشح الحزب الحاكم "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" رئيس الوزراء الحالي هيلا مريام، الذي يتمتع بتأييد القوميات الإثيوبية وكذلك الأقليات الإثيوبية عدا قومية التجري المسيطرة على الجيش، ويُعتبر فوزه نصرًا للمسلمين ولإثيوبيا وذلك لعدة أسباب، منها: أنه من الأقليات، ومدني وأستاذ جامعي، ومن سياساته الانفتاح والأسواق الحرة وميله نحو السياسة الغربية، والتي يعارضها الجيش ورئيس الوزراء الراحل والذي اتجه نحو الصين في آخر عهده.

ويرى بعض المحللين في الغرب أن مصير إثيوبيا على المحك؛ فإذا نجح الجيش في الانقلاب العسكري فإن وضع المسلمين سيعود إلى عهد التهميش والاضطهاد السياسي والديني وربما يقود الانقلاب أيضًا إلى حرب أهلية تحرق الأخضر واليابس؛ أو تقسيم البلاد على أسنَّة البندقية وأنهار من الدم والاقتتال العِرقي الطائفي؛ أو يحدث حلٌّ سحري بولادة قادر ذي وعي فاعل يُخرج إثيوبيا من الأمواج السياسية العكرة موحَّدة إلى برِّ الأمان. وتضم الدراسات الغربية الحديثة إثيوبيا إلى الدول الفاشلة نتيجة لعدم تماسك تركيبة الجبهة الداخلية وانتشار رُوح الإثنية العرقية والطائفية واختلاف اللغات والعادات. وتخلق الدراسة الغربية الحديثة قلقًا بين المستثمرين العالميين وفي الاقتصاد الإثيوبي والذي يشهد قفزة كبيرة في التاريخ الإثيوبي(16).

مستقبل المسلمين في إثيوبيا والحسابات الدقيقة

يصعب على المراقب السياسي التنبؤ بمستقبل الوضع الحالي للمسلمين في إثيوبيا لكثرة الزوايا، ويمكن تناوله من عدة زوايا:

أولًا: غياب الوعي السياسي: فقراءة التاريخ والسياسة الدولية والقُطرية والإقليمية والمحلية عوامل أساسية لوضع خارطة واستراتيجيات سياسية مستقبلية لتفادي أخطاء الماضي، وقد قال الدكتور أحمد شلبي: "التاريخ شعاع من الماضي ينير الحاضر والمستقبل"، ويبدو أن المسلمين في إثيوبيا لم يدركوا مجريات الأحداث والتقلبات السياسية في إثيوبيا. ومع قُرب الانتخابات الرئاسية في إثيوبيا لا يوجد برنامج سياسي واضح للمسلمين.

ثانيًا: غياب الوحدة بين المسلمين في إثيوبيا: حيث تسودهم الخلافات العِرقية والقومية التي يكرسها الدستور نفسه؛ فهناك انتماء طائفي جديد على الساحة وذلك بظهور طائفة الأحباش اللبنانية الشيعية والذي يحجب المسلمين عن الرؤية السياسية المستقبلية؛ فالانقسامات الطائفية من العوامل الأساسية التي تحدُّ من دورهم السياسي المستقبلي، ولو أن شعور الوحدة موجود إلا أن تخطي الطوق العِرقي وطرحه جانبًا لا يزال عَقَبة في طريق مستقبلهم السياسي.

ثالثًا: غياب كيان واحد أو حزب سياسي أو مظلة سياسية تجمع المسلمين: فكل إقليم له حزبه السياسي وحكومته الإقليمية ولا توجد رؤية موحدة أو حتى تنسيق واحد يجمع المسلمين لخوض الانتخابات القادمة تحت مظلة واحدة تمثل كل ألوان الطيف.

رابعًا: الوضع الاقتصادي الضعيف: ورغم أن وضع المسلمين الاقتصادي ينمو في الآونة الأخيرة إلا أنه لم يصل إلى مرحلة قوية يمكن الاعتماد عليه فيها كورقة سياسية للتأثير في سياسة الحكومة والكيانات السياسية. وباستمرار اليقظة والتطور من النواحي التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية فإن الأجيال القادمة سيكون لها دور كبير في رسم السياسة الإثيوبية.

خامسًا: انعدام الرؤية المستقبلية لرسم خطوط التعاون الاستراتيجيِّ بين المسلمين وأحزاب المعارضة الأخرى من جهة والحزب الحاكم من جهة أخرى.

وتبدو المعادلة السياسية في إثيوبيا أصعب وأشد تعقيدًا مما يظن كثير من المحللين السياسيين المحليين والعالميين، وقد فتحت وفاة مليس زناوي كل الملفات المغلقة على الصعيد الداخلي الإثيوبي وعلى الصعيد القُطري والإقليمي. ولم يكن في نفس الوقت في حساب قادة البيت الأبيض ظهور معارضة مسلمة سلمية. ومن أشد العوامل التي يمكن أن تقلب موازين السياسة الإثيوبية الصراع بين ضباط الجيش ورئيس الوزراء من جهة والأحزاب المعارضة والحزب الحاكم من ناحية أخرى حول السلطة والنفوذ.

وفي هذا الظرف تبرز جملة من الأسئلة حول مستقبل المسلمين في إثيوبيا ودورهم في المرحلة القادمة: ما مستقبل المسلمين في إثيوبيا؟ ما متطلبات العمل السياسي المطلوب؟ كيف يتعامل المسلمون مع القوى السياسية الإثيوبية الأخرى؟ وتقييم حجم القوى السياسية الإثيوبية الأخرى الفاعلة في المشهد السياسي حاليًا.

ويلاحظ المتتبِّع حال المسلمين أنه بعد عَقدين من النضال المسلح المرير تراجع الخطاب العسكري في لغة القادة وعند شرائح كثيرة في تنظيماتهم وتقدمت لغة المشاركة والإصلاح واحترام أخلاقيات الحوار فيما بينها ومع القوى السياسية الأخرى واحترام أتباع الديانة المسيحية والمذاهب الأخرى في البلد.

ذلك أن مغزى السياسة الرئيسية ليس النجاح العسكري فقط بل المكسب السياسي السلمي الذي يستند إلى الروح السلمية التي تحمي مصالح المجتمع. فالسياسة حين تخطط وتوجه إلى بناء مستقبل الأجيال إنما تستهدف الحصول على رضى أغلبية المجتمع لكي تمتلك سلطة التغيير. وقلَّما يُحقَّق بالكفاح المسلح شيء يُذكر لاسيما إثيوبيا التي يحميها الغرب. وقد قطع المسلمون في إثيوبيا شوطًا معقولًا في هذا الطريق منذ انخراطهم في المسار السلمي، ولكن خطاب الانفتاح السلمي لم يصنع على أرض الواقع تحالفات مع الأحزاب الإثيوبية الأخرى ولم يشقَّ معالم طريقه بشكل واضح بعد ويكاد يشوبه الضبابية والغموض.

وما يُقلق المسلمين في إثيوبيا، والكثير من المسلمين في الدول المجاورة، هو النتائج التي يمكن أن تترتب على الانتخابات القادمة والتحريض الطائفي المذهبي بين المسلمين المتمثل بين الصوفية التقليدية والحركات الإسلامية من جهة وبين المسلمين والأحباش اللبنانيين الشيعة من ناحية أخرى والذي تشجعه السلطات الإثيوبية لتبرير إقصائهم من المشهد السياسي، واحتمال عودة النضال المسلح في الساحة مرة أخرى.

من خلال هذا التتبع والعرض لمسيرة وضع المسلمين السياسي وعوامل التشابك والتداخل فيها نخلص إلى نتيجة مفادها أن المسلمين في إثيوبيا لا يملكون شخصيات قيادية موهوبة كاريزمية ولا كيانًا سياسيًّا أو رُوحيًّا تلتف حوله غالبية المجتمعات الإسلامية في هذا الظرف السياسي العكر في الساحة الإثيوبية. ومن ناحية أخرى فإن مصيرهم ومستقبلهم السياسي مرهون بتصرفاتهم وفهمهم قضايا العصر الجديد والتفاعل معها بحنكة إضافة إلى فهم سياسة التحالفات والاستفادة من التجارب السابقة والحديثة.
___________________________________
د. محمود يوسف - باحث متخصص في شؤون القرن الإفريقي

الإحالات
1- هاشم، صلاح: الشمال الشرقي الإفريقي، العصور الوسيطة، ط عَمَّان، الأردن، 1988.
2-  حمدي، الطاهر: قصة الصومال، (د. ت) 1977.
3- المعارف، ممتاز: الأحباش بين مأرب وأكسوم، منشورات المكتبة العصرية، ط بيروت، لبنان. ت. 1975.
4- أحمد، نوران (2013): الإسلام في إثيوبيا: تحديات وآمال www.el-wasat.com/portal/news.
5-  تقرير منتدى الأقليات المسلمة (2013): واقع المسلمين في إثيوبيا بين الغثائية والضياع،  www.ansarsunna.com/showthread.
6- نفس المرجع السابق، ص14.
7- نفس المرجع السابق، ص16.
8- مقابلة مع شخص طلب عدم ذكر اسمه، (حول أوضاع المسلمين في إثيوبيا)، 15 مارس/آذار 2015.
9- مقابلة مع شخص طلب عدم ذكر اسمه، (حول أوضاع المسلمين في إثيوبيا)، 5 مارس/آذار 2015.
10- مقابلة مع شخص طلب عدم ذكر اسمه، (حول أوضاع المسلمين في إثيوبيا)، 5 مارس/آذار 2015.
11- علي، عبد الرحمن، أثر غياب زيناوي على إثيوبيا والقرن الإفريقي، مركز الجزيرة للدراسات، شرق إفريقيا، 2013، ترجمة سيدي أحمد ولد محمد www.studies aljazeerah.net reports/../2013.
12- www.article 19.org/../Ethiopian elections an apportunity to change Dec 2,2014
13. Ibid p.17
14-   www.youtube.com/watch?v=ikVl6auH83w Feb 4, 2015 - Uploaded by E- Veracity  Documentary:U.S Policy:ETHIOPIA A FAILED STATE! .... such as airtime, harassment by local police, and ...
15- www.state.gov/documents/organization/220323.pdf ETHIOPIA. Country Reports on  Human Rights Practices for 2013 ... Ababa. Human Rights Watch reported abuses, including torture, occurred at. Maekelawi.
16. Ibid, p. 25

نبذة عن الكاتب