بلدان المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء خلال الحرب الكبرى (1914-1918)

مع عودة الاهتمام بمعرفة أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى بمناسبة ذكراها المئوية، تعددت المؤتمرات والكتب والمقالات التي سلطت الضوء على مساهمة العرب الكبيرة في تلك الحرب وقلة ما جنوه منها، عدا القتل والدمار. لكن بعض القراءات العربية اتسمت بتبني الرؤية المركزية الأوروبية لتلك الحرب.
201561510811298734_20.jpg
مُجندون عرب في قوات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى (المصدر: مطوية مؤتمر الحرب العالمية الأولى)
ملخص
يتكرر الحديث اليوم في محافل غربية وعربية عن نهاية اتفاق سايكس بيكو، الذي تقاسمت بموجبه  القوى الأوروبية في 16 مايو 1916 أراضي الدولة العثمانية، وذهب آخرون إلى اعتبار الحروب الجارية اليوم في المنطقة مُقدمة لـ"سايكس بيكو جديد". ويُبرر هذا الجدل عودة المؤرخين اليوم إلى استجلاء تداعيات الحرب العالمية الأولى على العالم العربي، باعتبارها ذروة نهب ثرواته وتجنيد أبنائه للقتال في حرب أوروبية – أوروبية لا مصلحة له فيها. وتناولت سلسلة من الندوات التي عُقدت في المغرب العربي وفرنسا موضوع "التعبئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والذهنيَّة لبلدان المغرب العربي ودول إفريقيا جنوب الصحراء خلال الحرب الكبرى" في مناسبة مرور قرن على تلك الحرب. غير أنها لم تُسلط ما يكفي من الضوء على الانتهاكات والمذابح التي راح ضحيتها المُجندون الذين رفضوا الخدمة في جيوش دول تحتل بلدانهم. كما أن بعض الدراسات المُتداولة عن تلك الحرب تناول قسما من العالم العربي (شمال أفريقيا) بمعزل عن القسم الآخر المُكمِّل له في المشرق. وهذا ما يطرح ضرورة بلورة قراءة للتاريخ تنطلق من الجنوب لتصحيح الرؤية الأحادية الأوروبية للحرب الكبرى، التي أخفت كثيرًا من الوقائع، ومنها المذابح التي نفَّذها الجيش الفرنسي في حق سكان القرى والأرياف التي انتفضت أثناء الحرب في كل من المغرب والجزائر وتونس وليبيا ضد الغزو العسكري الأوروبي.

ما زالت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وتداعياتها على المنطقة العربية تُثير الجدل في المحافل الأكاديمية، خصوصًا أن الرؤى الغربية لسياقاتها ونتائجها تختلف عن القراءة العربية لتلك النتائج، باعتبارها (أي الحرب) شكَّلت إطارًا ومُنطلقًا لتقسيم المشرق والقضاء المُبرم على تركة الدولة العثمانية. مع ذلك، اتسم مسار الحرب في البلدان العربية بخصوصيات متفاوتة بين مشرق ومغرب، أدَّت أحيانًا إلى تناول قسم من ذلك الحيز الجغرافي والحضاري بمعزل عن القسم الآخر المُكمِّل له. وظهر هذا التقسيم أحيانًا من خلال بعض الندوات والمؤتمرات التي أُقيمت في ذكرى مرور قرن على اندلاع تلك الحرب التي غيَّرت وجه العالم، ومن ضمنه العالم العربي. من بين تلك الفعاليات المؤتمر التاريخي الذي استضافته تونس وخُصِّص لدرس مُجريات الحرب العالمية الأولى في شمال إفريقيا ونتائجها على مختلف الأصعدة. وجرت الدورة الأولى من هذا المؤتمر في الرباط يومي 28 و29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وكان محورها الرئيس مصادر دراسة الحرب الكبرى، فيما عُقدت الثانية في تونس يومي 28 و29 مايو/أيار 2015 وتناولت بالبحث "التعبئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والذهنيَّة لبلدان المغرب العربي ودول إفريقيا جنوب الصحراء خلال الحرب الكبرى"، وستُعقد الثالثة والأخيرة في باريس أواخر العام الجاري، وسيكون موضوعها "الإرث الثقيل للحرب على فرنسا وإفريقيا".

أسهمت في هذا المشروع عدة مؤسَّسات ومراكز بحث ومعاهد وجامعات، هي: المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، والأرشيف الوطني التونسي، ومعهد البحوث المغاربية المعاصرة (تونس)، وجامعة باريس 1 بانتيون السوربون، ومعهد العالم الإفريقي ((IMAF، ومعهد "الحرب والسلم"، والأرشيف الوطني الفرنسي، والأرشيف الدبلوماسي بنانت، وأرشيف المغرب، والجمعية المغربية للبحث التاريخي، ومعهد الدراسات الإفريقية. وألقت هذه الدورة أضواء على جوانب غير مطروقة من تلك الحرب وركَّزت على الأدوار التي اضطلعت بها بلدان شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء في المجهود الحربي الفرنسي وتضحياتها الجسيمة اقتصاديًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، كما تطرقت إلى انعكاسات الحرب على شعوب تلك البلدان. وشكَّل موضوع تعبئة المُجنَّدين العرب من الجزائر وتونس والمغرب للمشاركة في الحرب إلى جانب فرنسا محورًا مهمًّا تناولته الأوراق البحثية، كاشفة من خلال رسائل المجندين والمراسلات العسكرية والدبلوماسية قساوة الظروف التي عاشها هؤلاء المجندون، خاصة في الخنادق شمال فرنسا خلال حرب المواقع سنتي 1915 و1916. فقد قضى أكثر من نصف المُجنَّدين في تلك الخنادق نتيجة البرد القارس، وكذلك لوضعهم في الصفوف الأولى ما جعلهم عُرضة للقتل بالأسلحة الكيميائية أو التقليدية (على سبيل المثال بلغ عدد القتلى والجرحى والمفقودين من المُجنَّدين المغاربة 11 ألفًا، أي: 26 في المئة من إجمالي القوات التي شاركت في الحرب).

من جهة أخرى، بحث المؤتمر تموين بلدان شمال إفريقيا لفرنسا أثناء الحرب بالمنتجات الزراعية وقطعان الماشية والمواد المنجمية، وخاصة الفوسفات ومشتقاته، ما فرض اللجوء إلى تقسيط المواد الغذائية على سكَّان تلك البلدان وإحداث بطاقات تموين، وهو ما أوهن بدوره اقتصادات المستعمرات ونَشَر الفقر والمجاعة والأوبئة بين سكانها الأصليين. وتطرق لعمليات التمرد التي نفَّذها مُجنَّدون مثل رفضهم ركوب البواخر في ميناء بنزرت (تونس)؛ ما جعل الضباط الفرنسيين يقتلون منهم أعدادًا كبيرة لم يستطع المؤرِّخون إحصاءها بالتحديد إلى اليوم "كي يكونوا عبرة للمجنَّدين الآخرين".

على الصعيد السياسي قدَّم رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك، جورج كليمنصو (1917-1922)، وعودًا لشعوب المستعمرات مُحاوِلًا الإيهام بوجود إخاء بين فرنسا وتلك الشعوب المُحتلة عليها. وتجسّد ذلك في الخطاب الدعائي لوسائل الإعلام الرسمية المُوجهة للمسلمين وكذلك في نشر الأغاني والموسيقى العسكرية في المدارس، في مقابل حظر الصحف الوطنية؛ إذ لم تستمر في الصدور أثناء الحرب سوى صحيفة "الزهرة" في تونس وصحيفة "السعادة" في المغرب المرتبطتين بالإدارة الفرنسية.

أمَّا الجانب الآخر للحرب فيتعلق بالخيال والذاكرة المرتبطين بالدعاية في المستعمرات، ومنها الأشعار والأغاني والروايات والمذكرات الفردية ومختلف التعابير الفنية التي تشكِّل جزءًا من ذاكرة تاريخ الحرب الكبرى ومن إرثها.

رغم أهمية النقاش الدائر حول الحرب العالمية الأولى بمناسبة مئويتها تظل هناك نقائص وهنات منهجية يمكن اختصارها في النقاط الثلاث الآتية:

  • هناك حيادية مُفرِطة تجاه ما قام به الاستعمار في المغرب والجزائر وتونس على صعيدي التجنيد والتعبئة الاقتصادية يرافقها تغييب شبه كامل لجرائم الحرب المُرتكبة في حق المجنَّدين، فضلًا عن الفظائع التي رافقت إخماد أعمال المقاومة. وهذا ما يطرح ضرورة بلورة قراءة للتاريخ تنطلق من الجنوب لتصحيح الرؤية الأحادية الأوروبية للحرب الكبرى، التي أخفت كثيرًا من الوقائع، ومنها المذابح التي نفَّذها الجيش الفرنسي في حق سكان القرى والأرياف التي انتفضت أثناء الحرب في كل من المغرب والجزائر وتونس وليبيا ضد الغزو العسكري الفرنسي.
  • كما أن تحديد تاريخ اندلاع الحرب باغتيال فرانسوا فرديناند وليّ عهد الإمبراطورية النمساوية-المجرية في سراييفو عام 1914 ليس دقيقًا، وهو ينبع من رؤية مركزية أوروبية، فبداية الحرب يمكن إرجاعُها إلى الحرب الإيطالية-العثمانية في ليبيا سنة 1912، التي أطلقت يد إيطاليا لاستعمار هذه الأخيرة، أو إلى الصراع الألماني-الفرنسي على المغرب، خصوصًا بعد زيارة الإمبراطور غليوم الثاني (1888-1914) إلى طنجة (1905)، وهي منافسة انتهت باحتلال فرنسا للمغرب في 1912، أم ربما إلى اغتيال الصدر الأعظم للدولة العثمانية محمود شوكت باشا في 1913 وهو على باب الصدارة العظمى في إستانبول، وقد ظلَّ الحادث "لغزًا" حيَّر المؤرخين حتى اليوم.
    بهذا المعنى نحتاج إلى التعمق أكثر في دراسة السياق الجيوسياسي للحرب الكبرى، واستخدام منهج الدراسة المقارنة مع أوضاع بلدان جنوب الصحراء (مالي والسودان الفرنسي وتشاد والسنغال وأيضًا موريتانيا)، التي جنَّدت السلطات الاستعمارية قسمًا من أبنائها وأرسلتهم إلى شمال إفريقيا لإخماد الثورات وحركات العصيان المناهضة للاحتلال. وهكذا اكتفى المؤتمر بدراسات مونوغرافية، وإن أتى بعضُها بالجديد مثل البحث الخاص بتداعيات الحرب على ليبيا.
  • في هذا السياق أيضًا تجدر الإشارة إلى أن منطقة شمال إفريقيا ليست وحدة سياسية وجغرافية معزولة عن المشرق العربي الذي أبصر تغييرات جوهرية بمناسبة تلك الحرب، أبرزها الاتفاق السري بين فرنسوا جورج بيكو ومارك سايكس (فرنسا وبريطانيا) لتقاسم جلد "الرجل المريض" أي: الإمبراطورية العثمانية. وكان لهذا الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في 16 مايو/أيار 1916، تداعيات غير مباشرة لكنها مهمة على المغرب العربي، وطبعًا على المشرق العربي في الدرجة الأولى.

قُصارى القول: إن إحياء مئوية الحرب الكبرى ليس مناسبة لسرد الوقائع التاريخية وحسب، وإنما هو في الأساس محطة للتفكير والاعتبار، إلا أن هذا الهدف لن يتحقق ما لم نَغُص في الوثائق التي ما زالت بكرًا وما لم تُنزع الأقنعة وتظهر الحقائق ناصعة بلا جراحات تجميلية، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لاستخلاص الدرس من الحروب المُدمرة للإنسانية وبناء سلم عالمي حقيقي.
_____________________________
رشيد خشانة - باحث في مركز الجزيرة للدراسات

نبذة عن الكاتب