أزمة الإعلام الخاص بمصر: أكبر من مجرد ضائقة مالية

تُسلِّط الورقة الضوء على الأزمة المالية التي تعصف بالعديد من مؤسسات الإعلام الخاص التي يملكها رجال أعمال في مصر، والتي أثَّرت بشكل كبير على أداء هذه المؤسسات، وتحاول تحليل العوامل التي تقف وراء هذه الأزمة وتأثيراتها على مستقبل المشهد الإعلامي.
20151022111845812734_20.jpg
التضييق على الحريات الإعلامية وجه آخر من وجوه أزمة الإعلام في مصر (الجزيرة)

ملخص
تُسلِّط الورقة الضوء على الأزمة المالية التي تعصف بالعديد من مؤسسات الإعلام الخاص التي يملكها رجال أعمال في مصر، والتي أثَّرت بشكل كبير على أداء وعمل هذه المؤسسات، وتحاول تحليل العوامل التي تقف وراء هذه الأزمة وما إذا كانت أسبابًا مالية فقط وتأثيراتها على مستقبل المشهد الإعلامي المصري. واعتمدت الورقة أسلوب الملاحظة أداةً منهجيةً لجمع البيانات والمعطيات الخاصة بمجتمع الدراسة، والانتباه لأسباب الأزمة والعلاقة بين عناصرها والظواهر الأخرى، إضافة إلى أسلوب المقابلة مع عدد من الصحافيين والإعلاميين المصريين للحصول على المعلومات والآراء التي تُعبِّر عن الاتجاهات ووجهات النظر الخاصة بأزمة الإعلام الخاص بمصر.

ومن خلال عناصر التحليل توضح الورقة أن الأزمة المالية ليست سوى رأس جبل الجليد في أزمة متعددة الجوانب والأبعاد تعاني منها منظومة الإعلام في مصر بجناحيه العام والخاص. وترى الورقة أن الأزمة أكثر تعقيدًا من أن تُعزى إلى نقص في التمويل، أو تراجع في عائدات الإعلانات، بل هي في جوهرها أزمة هيكلية وتنظيمية؛ ترتبط بشكل وثيق بنمط المِلكية السائد وعلاقة رأس المال بالإعلام، وغياب الإطار المنظِّم لأداء وعمل وسائل الإعلام. وتخلص الورقة إلى أنه لا يمكن فصل أزمة الإعلام عن المناخ العام المتأزِّم الذي تعيشه مصر حاليًا سياسيًّا واقتصاديًّا؛ إذ تُظهر فشل كل الجهود والآمال التي انتعشت بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني في إصلاح منظومة الإعلام الحكومي والخاص ليصبح أكثر مهنية واحترافية وحرية. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى غياب الإرادة السياسية اللازمة في ظل قناعة راسخة للأنظمة المتعاقبة بأهمية السيطرة على الإعلام وجعله خادمًا لمصالحها.

وتربط الورقة الخروج من الأزمة الحالية بإدراك كل أطراف صناعة الإعلام في مصر (السُّلطة ورجال الأعمال والإعلاميين) لدور الإعلام ورسالته في تشكيل الوعي ونشر المعلومات والحقائق وليس تنفيذ ما تريده السلطة وخدمة أهدافها، أو دغدغة مشاعر الناس وتغييب وعيهم. وهذا الأمر يستدعي إجراءات وخطوات لإصلاح منظومة الإعلام المصري بما يجعلها قادرة على الوفاء بالمعايير المهنية اللازمة لأداء رسالتها، ووضع الإطار المؤسسي اللازم للرقابة على الأداء وضبط جودته. 

مقدمة

يشهد العديد من وسائل الإعلام الخاصة في مصر، والمملوكة لرجال أعمال منذ أشهر عدَّة، أزمة مالية تعصف بهذه المؤسسات لدرجة باتت تُهدِّد بتوقف نشاطها بشكل جزئي أو كلي. ولم يعد خبر إغلاق فضائية هنا أو تقليص نشاطها، أو توقف صحيفة ما عن الصدور، أمرًا يثير الرأي العام مع تكرار هذه الأخبار.

وقد طالت الأزمة المالية العديدَ من وسائل الإعلام سواء كانت صحفًا أو فضائيات؛ ما اضطر بعضها لتسريح العديد من العاملين فيها وتقليص خريطتها البرامجية، بينما تعاني أخرى من تأخُّرٍ وعَجْزٍ عن دفع رواتب وأجور الموظفين، في حين أُجبرت مؤسسات على إغلاق أبوابها والتوقف عن العمل نهائيًّا. ورغم الطابع المالي للأزمة التي يشهدها سوق الإعلام الخاص المصري فإنها ليست سوى رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته جوانب أخرى للمأزق الذي تمر به صناعة الإعلام في مصر حاليًا، وتطرح هذه الأزمة العديد من الأسئلة حول أسبابها الحقيقية وما إذا كانت تعود للتعثر المالي، أم أنها أزمة متعددة الأبعاد سواء كانت هيكلية وتنظيمية وقانونية واقتصادية؟ وهل ثمة علاقة بين هذه الأزمة وتراجع المعايير المهنية الإعلامية لدرجة أدَّت لانصراف قطاعات واسعة من الجمهور عن متابعة وسائل الإعلام؟ وهل يمكن النظر إلى هذه الأزمة بمعزل عن المناخ السياسي العام الحالي في مصر ولاسيما في ظل التضييق على الحريات الصحفية والإعلامية والقيود الكثيرة التي فُرِضت على وسائل الإعلام منذ ما بعد 30 يونيو/حزيران 2013؟ وما تداعيات وانعكاسات هذه الأزمة على مستقبل الإعلام في مصر سواء كصناعة أو كأحد آليات التحول الديمقراطي والرقابة على السلطة؟

صيرورة الإعلام الخاص في مصر

كان الإعلام في مصر حتى قيام ثورة يوليو/تموز 1952 مملوكًا في معظمه للقطاع الخاص سواء كان صحفًا أو إذاعات، لكن نظام يوليو/تموز قام بتأميم الصحافة بالكامل تقريبًا؛ حيث تم وضعها تحت سيطرة وإشراف السلطة. وباستثناء الصحف الحزبية التي ظهرت مع السماح بإنشاء أحزاب سياسية في منتصف السبعينات، استمرت هيمنة الدولة على الفضاء الإعلامي المقروء والمسموع والمرئي حتى أوائل التسعينات حين بدأ النظام يسمح للأفراد بتملك وإصدار صحف خاصة؛ حيث صدرت عدة صحف. أمَّا الإعلام التليفزيوني الخاص فإن مصر لم تعرف طريقها إليه إلا في نوفمبر/تشرين الثاني 2001 مع إطلاق أول فضائية خاصة هي قناة "دريم"؛ التي أسَّسها رجل الأعمال أحمد بهجت، والذي كان مقرَّبًا من النظام في ذلك الوقت، وكان ذلك تزامنًا مع إطلاق مصر للقمر الصناعي "نايل سات"، وبدايةً لتخفيف قبضة السلطة على الفضاء الإعلامي والسماح للقطاع الخاص بمشاركتها في هذا المجال الذي ظلَّت الحكومة تحتكره بشكل شبه كامل لعقود طويلة. ومنذ ذلك التاريخ تنامى إنشاء الفضائيات والإذاعات الخاصة بشكل ملحوظ ليصل عدد القنوات الفضائية الخاصة بحلول ديسمبر/كانون الأول 2010 نحو 69 فضائية متنوعة(1).

وقد أسهم الانتعاش الملحوظ الذي شهدته سوق الإعلام الخاص لاسيما في أواخر عهد مبارك في إنعاش الحياة الإعلامية والسياسية. ورغم أن سعي رجال الأعمال لامتلاك صحف وقنوات فضائية كان وراءه أهداف خاصة لحماية مصالحهم ونشاطاتهم الاقتصادية والاستفادة من ضعف النظام لتحقيق مزيد من المكاسب، فإنه لا يمكن إنكار الدور المهم الذي لعبه هذا الإعلام في رفع سقف الحريات والمطالبة بإصلاحات سياسية، وإفساح المجال للأصوات المعارضة للتعبير عن آرائها، وهو ما جعل هذا الإعلام أحد الروافع المهمة التي مهدت لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.

لكن العلاقة بين الإعلام الخاص والسلطة، سواء قبل الثورة أو بعدها, اتسمت دائمًا بحالة من الشدِّ والجذب وبطابع التربص والتوتر. فبينما سعت وسائل الإعلام لتوسيع هامش حريتها ومحاولة تقديم مُنتَج لا يجرؤ الإعلام الحكومي على تقديمه، وطرح قضايا وملفات شائكة وإفساح المجال لكل الآراء، فإن السلطة سعت دائمًا للهيمنة على هذا الإعلام وتطويعه لخدمة أهدافها وسياساتها. وقد تمتَّع الإعلام الخاص في أواخر عهد مبارك بهامش نسبي من الحرية، ساعده في ذلك ضعف النظام وحالة الفراغ السياسي وضعف الحياة الحزبية التي كانت تعيشها البلاد ما سمح لهذا الإعلام بالتمدد ومحاولة ملء هذا الفراغ لدرجة أن برامج "التوك-شو" المسائية الشهيرة في ذلك الوقت تحوَّلت إلى ما يشبه البرلمان لمناقشة أمراض وعلل الدولة والمجتمع(2).

ومع ذلك، ظلَّت هذه الحرية مُقيَّدة بخطوط حمراء لا يمكن لأية فضائية أو صحيفة خاصة أن تتجاوزها لاسيما أن السلطة كانت تمارس تأثيرها على الإعلام الخاص عبر العلاقات والمصالح المتشابكة لرجال الأعمال من مُلاَّك القنوات مع الدولة. لكن هذا الوضع تغيَّر بشكل كبير في أعقاب ثورة 25 يناير/كانون الثاني ورحيل مبارك؛ حيث فُتح المجال واسعًا أمام الإعلام ليُمارس حريته بصورة كبيرة، وربما بشكل مُفرِط لدرجة تحوَّلت معها هذه الحرية إلى حالة من الانفلات الإعلامي. كما شهدت سوق الإعلام الخاص في تلك الفترة انتعاشًا ملحوظًا، فرغم أن الوضع الاقتصادي كان صعبًا في تلك الفترة إلا أن تدفق الاستثمار في مجال الإعلام بدا استثناءً لدرجة أثارت علامات استفهام؛ إذ إن عدد الفضائيات التي جرى إطلاقها خلال الأشهر الثلاثة من مارس/آذار إلى مايو/أيار 2011 بلغ 22 قناة فضائية؛ وذلك وفقًا لتقرير وزارة الاستثمار.

ونتيجة حالة الاستقطاب السياسي التي عاشتها مصر طوال الفترة الماضية تحوَّل الإعلام طرفًا في هذه الحالة وربما كان أحد أسباب تفاقمها. ومع مجيء الرئيس السابق محمد مرسي تحوَّل الإعلام للهجوم العنيف ضد جماعة الإخوان المسلمين وإظهار الرئيس في صورة العاجز عن القيام بمهامه. ورغم أن مرسي حاول كَبْحَ جماح الإعلام إلا أنه لم يتمكن من ذلك، وظل الإعلام يمارس عمله دون تضييق أو مصادرة تُذْكَر؛ وصولًا لمشهد مظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 المعارضة لمرسي، والتي لعب الإعلام دورًا مهمًّا في حشد الرأي العام لها.

ومع إطاحة الجيش بالرئيس محمد مرسي عقب مشهد 3 يوليو/تموز 2013 بدأت مرحلة جديدة كليًّا في مسيرة الإعلام الخاص الذي تحوَّل بشكل كامل لتأييد السلطة الجديدة وحشد الدعم الشعبي لها بينما كثَّف هجومه بشكل هائل على جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها. ولم يعد ثمة فارق يُذْكَر بين الإعلام الخاص والحكومي في هذا الأمر، وتحوَّل الإعلام المصري بجناحيه إلى إعلام الصوت الواحد الذي يغلب عليه الطابع التعبوي والدعائي للنظام الجديد.

الصعوبات المالية

تُشكِّل المصاعب المالية التي تعصف بالعديد من الصحف والفضائيات الخاصة أحد التحديات التي تواجه سوق الإعلام في مصر حاليًا. وربما لا يبدو الإعلام المصري استثناء في هذا الصدد، فصناعة الإعلام تعاني من تراجع واضح في مصادر التمويل في عدد من الدول العربية، وحتى في بعض الدول الأوروبية، نتيجة المتغيرات الكثيرة التي طرأت على صناعة الإعلام في العالم.

آخر ضحايا هذه الأزمة صحيفة "المصري اليوم" اليومية التي كانت قاطرة الصحافة الخاصة في مصر ويملكها عدد من رجال الأعمال، والتي ترددت أنباء قوية عن وجود توجه لتوقف النسخة المطبوعة والاكتفاء بالموقع الإلكتروني. كما تتجه النيَّة لتسريح العشرات من الصحفيين العاملين فيها نتيجة الخسائر المالية الكبيرة التي تتكبَّدها ما جعلها على حافة الإفلاس كما أعلن صلاح دياب رئيس مجلس إدارة الصحيفة(3).

وقبلها بحوالي شهر توقفت النسخة الورقية لصحيفة "التحرير" عن الصدور؛ حيث أعلن مالكها الاكتفاء فقط بالموقع الإلكتروني للصحيفة، وعزا ذلك للخسائر المادية الضخمة التي مُنِيَت بها الصحيفة نتيجة تراجع عائد الإعلانات وتدني التوزيع، وقُدِّرت هذه الخسائر بنحو 50 مليون جنيه (حوالي 6,3 مليون دولار أميركي)(4).

أمَّا صحيفة "الشروق" التي يملكها الناشر إبراهيم المعلم، صاحب دار الشروق للنشر، فتعاني هي الأخرى من أزمة مالية أدَّت إلى تأخر صرف رواتب العديد من المحرِّرين فيها لشهور، في حين تقوم إدارة الصحيفة بدفع رواتب البعض الآخر على دفعات(5).

ولا يختلف الموقف كثيرًا في العديد من الفضائيات الخاصة التي تواجه أزمة مالية أجبرتها على تسريح نسبة كبيرة من العاملين، وإلغاء العديد من البرامج وخصوصًا الإخبارية والاتجاه للبرامج الترفيهية والاجتماعية لعلها تجذب المزيد من الإعلانات التي قد تمكِّنها عائداتُها من مواجهة الأزمة؛ فقد قامت قنوات "سي بي سي" و"الحياة" و"أون تي في"، وكلها مملوكة لرجال أعمال، بتسريح العديد من العاملين فيها وتخفيض رواتب من تبقى منهم. كما قام بعض القنوات بإغلاق فروع لها، مثل: سي بي سي-2 والمحور-2 ودريم 1.

فقاعة الإعلام الخاص: لماذا الآن؟

ثمة جملة من الأسباب التي تقف وراء الصعوبات المالية التي تواجه عددًا كبيرًا من الفضائيات والصحف المصرية الخاصة، والتي باتت تهدِّد بانفجار ما يصفه البعض بـ"فقاعة الإعلام الخاص" التي تضخمت بشكل كبير في السنوات الماضية ولاسيما عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني؛ إذ يُقدَّر عدد الفضائيات التي دخلت المشهد الإعلامي المصري عقب الثورة نحو 20 قناة مستفيدة من حالة السيولة والانتعاش السياسي الذي عاشته البلاد في تلك الفترة. ويمكن في هذا الصدد رصد عدد من العوامل التي تقف وراء الأزمة، أهمها:

  1. نزيف الخسائر المستمر: لم يعد بمقدور ملَّاك بعض الصحف والقنوات الخاصة من رجال الأعمال تحمُّل نزيف هذه الخسائر لاسيما في ظل تراجع عائدات الإعلانات، وكذلك التراجع الحاد في توزيع الصحف بسبب انصراف المشاهدين والقرَّاء عنها؛ إذ يُقدِّر البعض حجم توزيع الصحف المصرية مجتمِعة حاليًا بنحو 700 ألف نسخة يوميًّا مقارنة بأربعة ملايين نسخة عام 1974، وهو ما يعكس التدنِّي الفادح في توزيع هذه الصحف في بلد يبلغ تعداد سكانه نحو 90 مليون نسمة(6). وقد استتبع هذا التراجع في التوزيع تراجعًا أفدح في عائدات الإعلانات التي تجنيها هذه الصحف، والتي يفترض أنها مصدر التمويل الرئيس سواء للصحف أو الفضائيات. 
  2. تراجع عائدات الإعلانات: لا توجد إحصاءات دقيقة لحجم عائدات سوق الإعلانات في مصر إلا أنها تُقدَّر بنحو 2 ونصف مليار جنيه (حوالي 313 مليون دولار) سنويًّا بالنسبة لأكبر عشرين فضائية وقناة مصرية، بينما تنفق هذه القنوات الفضائية ما يقرب من 3 مليارات ونصف المليار؛ ما يعني أن هناك عجزًا سنويًّا يبلغ مليار جنيه. وقد أشارت دراسة حديثة شملت عدة دول، أعدَّها نادي دبي للصحافة بالتعاون مع شركة "ديليوت" العالمية للاستشارات والتدقيق، إلى انخفاض عائدات الإعلان في قطاع الفضائيات في مصر بنسبة 30% خلال الفترة من 2011 إلى 2015(7)
    ومما يفاقم الأزمة العشوائية التي تحكم سوق الإعلانات في مصر عدم وجود قواعد واضحة ما يجعل الإعلام معرَّضًا لأزمات طوال الوقت، خصوصًا مع اتجاه عدد كبير من المعلِنين إلى الإعلان عبر الصحافة الإلكترونية التي بدأت تسيطر على نسبة كبيرة من سوق الإعلان في مصر(8).
  3. الأوضاع الاقتصادية الصعبة: لا يمكن فصل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها بعض الصحف والفضائيات حاليًا عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد عمومًا في ظل التراجع الكبير في حجم الاستثمارات الأجنبية، وتباطؤ الانتعاش الاقتصادي وتوقف الكثير من المشروعات والتضخم الكبير الذي ألقى بظلاله على مشروعات رجال الأعمال من مالكي الإعلام الخاص الذين تأثَّروا بهذه الأزمة.
  4. توقف الدعم المالي الخارجي: شهدت الفترة الماضية انحسارًا كبيرًا في الدعم المالي الخارجي الذي تدفق بشكل كبير إلى سوق الإعلام المصري خلال السنوات الأخيرة. ويعود ذلك على ما يبدو إلى الحسابات السياسية لصاحب هذا المال، خصوصًا مع تبدُّل الأوضاع السياسية الداخلية والإقليمية. فأحد أسباب الأزمة التي تضرب سوق الإعلام الخاص حاليًا، في رأي البعض، هو خروج المال السياسي (الخليجي) الذي كان قد تدفَّق من أجل تحقيق أهداف سياسية إقليمية، وذلك بعدما شعر أصحاب تلك الأموال بأنهم حققوا أهدافهم(9).
  5. انحسار وتراجع الزخم السياسي: اختفت الحيوية السياسية التي كانت تتطلَّب ملاحقتَها إعلاميًّا؛ فلم يعد هناك نشاط سياسي حقيقي، بينما اختفت المعارضة والسجال السياسي. وأمام حالة الجمود السياسي وغَلَبة الصوت الواحد على المشهدين السياسي والإعلامي فَقَدَت وسائل الإعلام الكثير من جاذبيتها وحيويتها، ولم تعد قادرة على جَذْبِ الجماهير، وحتى فَزَّاعة الإخوان والحرب على الإرهاب فَقَدَت تأثيرها لاسيما مع المبالغات التي رافقت الحديث عن هذه الفزاعة التي لم تعد تقنع الكثيرين.

أزمة هيكلية

لكن الأزمة التي تواجه مؤسسات الإعلام الخاص حاليًا تبقى أعمق من مجرد نقص في التمويل أو تراجع في عائدات الإعلانات، بل هي في حقيقتها أزمة هيكلية تتعلق بالأسس التي قام عليها معظم هذه المؤسسات التي نشأت بصورة عشوائية بدون دراسة اقتصادية واضحة حول طبيعة صناعة الإعلام وحجم المنافسة أو سوق الإعلانات. ومن هنا، فإن معظم المال الذي جرى ضخُّه في هذه الفضائيات لم يكن قائمًا على دراسات جدوى سليمة بقدر ما كان يستهدف تحقيق مصالح معينة، وبمجرد إنجاز هذه الأهداف توقف الدعم.

ويتضح من خلال رصد أسباب ودوافع إنشاء العديد من الفضائيات والصحف الخاصة لاسيما بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني أن الجدوى الاقتصادية والحسابات المالية لم تكن هي الحاكمة بقدر ما كانت ثمة أهداف سياسية من وراء إنشائها؛ فعلى الرغم من حالة التراجع الواضح في النشاط الاستثماري في مختلف قطاعات الاقتصاد عقب الثورة فإن الاستثمار في مجال الإعلام الخاص بشقيه الفضائي والصحفي شهد تصاعدًا لافتًا خلال تلك الفترة؛ حيث تم ضخ مليارات الجنيهات في سوق الإعلام(10).

كما أن بعض هذه الكيانات الإعلامية كان، كما يرى البعض، نتاجًا للزواج بين رأس المال والإعلام الذي برز بشكل واضح في أواخر عهد مبارك، حين لجأ بعض رجال الأعمال لامتلاك وسائل إعلامية لاستخدامها وسيلة للضغط على نظام مبارك بهدف تحقيق مكاسب ومصالح معينة سواء شراء المشروعات وتخصيص الأراضي والحصول على قروض من البنوك بدون ضمانات، مستغلة في ذلك حالة الضعف والشيخوخة التي كان عليها هذا النظام(11).

نمط الملكية

يُسلِّط الخلل الهيكلي والإداري في مؤسسات الإعلام المصرية الخاصة، الضوء على جانب آخر من جوانب الأزمة التي تمر بها هذه المؤسسات، وهو الجانب الخاص بنمط ملكية الإعلام، والذي يعتبر أحد المداخل المهمة لفهم طبيعة الأزمة التي يعيشها هذا الإعلام لاسيما في ظل التأثير الهائل للمالكين، سواء أكانوا رجال أعمال أو الحكومة، على أداء الوسيلة الإعلامية لرسالتها وعلى سياستها وتوجُّهاتها.

فرغم تنوع نمط الملكية بين إعلام مملوك للدولة وآخر خاص يمكن القول: إنه لا يوجد في مصر حاليًا إعلام مستقل بشكل حقيقي، فإذا كانت مِلكية الدولة للإعلام الرسمي أسهمت في إضعاف وتراجع دوره وتواضع هامش الحرية المتاح أمامه وتحوُّله لأداة دعائية للسلطة، فإن دخول رأس المال الخاص في المجال الإعلامي لم يؤدِّ إلى توسيع هامش الحرية الإعلامية، كما كان متوقعًا، بل أسهم في تقييد حرية الإعلام وجعله أسيرًا لأهداف وتوجهات مالكيه الجدد، ومُعَبِّرًا عن مصالحهم. وكما تحوَّل الإعلام الرسمي إلى بوق للسلطة، تحوَّل الإعلام الخاص إلى أداة لخدمة مصالح وأهداف رجال الأعمال الاقتصادية والسياسية.

وقد فاقم من تأثير رأس المال على السياسة التحريرية للقنوات والصحف الخاصة، عدم وجود قواعد لتحديد شكل المِلكية ونسبة كل شخص في ملكية أية وسيلة إعلامية سواء كانت فضائية أو صحيفة بما يمنع احتكارها أو التأثير في أداء عملها. فعلى سبيل المثال ورغم أن قانون تنظيم الصحافة ينص على فرض ضوابط صارمة تحد من تكتل أو تركُّز المِلكية في يد فرد أو عدد قليل من الأفراد على مستوى قطاع الصحافة المطبوعة، فإنه لا يمكن الجزم بأن ثمة التزامًا صارمًا بذلك؛ إذ من الواضح أن النسبة الأكبر من الصحف الخاصة يملكها رجال أعمال كأفراد(12)، والأمر نفسه وربما أكثر سوءًا في الإعلام التليفزيوني؛ حيث تعود مِلكية الفضائيات لعدد محدد من رجال الأعمال بل إن بعضهم يمتلك أكثر من قناة في نفس الوقت مما جعل لملاك هذه المؤسسات الكلمة الفصل في سياستها الإعلامية.

ومما زاد من وطأة تأثير رأس المال على أداء الإعلام الخاص أيضًا غياب الفصل بين الملكية والإدارة والسياسة التحريرية للقنوات الفضائية، وهو ما أقَرَّ به صراحة بعض ملَّاك هذه الفضائيات(13).

ويدعم ذلك ما ذهب إليه بعض خبراء الإعلام من أن جانبًا من الأزمة المالية الحالية في سوق الإعلام الخاص يعود إلى فقدان هذه السوق لجاذبتيها بالنسبة لرجال الأعمال، فبعد مرور أكثر من عام على حُكم السيسي وجد رجال الأعمال من مالكي الصحف والفضائيات أنفسهم في مواجهة نمط مختلف من الحكم؛ فالسلطة الحالية لا تتعامل معهم وفق منطق مبارك، بل إن السيسي لا ينفك يطالبهم في المقابل بالتبرع بجزء من ثرواتهم لصالح صندوق "تحيا مصر"، في حين أن المؤسسة العسكرية أصبحت تحتكر بشكل شبه كامل معظم المشروعات الكبرى وتقوم بتوزيع تنفيذها على رجال الأعمال.

وقد يكون اتجاه أصحاب القنوات والصحف الخاصة لتقليص الإنفاق عليها وبالتالي إغلاقها عائدًا إلى أنها أصبحت عبئًا على مصالحهم مع النظام الجديد لاسيما تبرُّم وضيق السلطة من بعض البرامج أو الآراء التي تظهر على هذه الفضائيات والصحف.

غياب الغطاء القانوني والتنظيمي

إذا كان الخلل العميق في نمط الملكية وتأثير رأس المال على وسائل الإعلام الخاصة هو أحد التحديات المهمة التي تواجه هذا الإعلام بشقيه المرئي والمقروء وأدائه لرسالته، فإن ما يفاقم من هذا الوضع غياب الإطار القانوني والتنظيمي الذي ينظِّم عمل هذا الإعلام ويضبط أداءه ويحدد نمط العلاقة بين الإدارة والتحرير في كل مؤسسة، وهو ما تسبب في حالة الفوضى الإعلامية الحالية وغياب وتدني القواعد المهنية في عمل هذا الإعلام(14).

يتضمن الدستور الحالي الذي أُقِرَّ في عام 2014 عددًا من المواد والنصوص تؤكد على حرية واستقلال الصحافة والإعلام في مصر وتمنع مصادرة أو وقف أية وسيلة إعلامية بدون حكم قضائي، وتزيل الكثير من العقبات القائمة أمام حرية إصدار الصحف وإنشاء القنوات التليفزيونية، إلا أن كل هذه النصوص بقي حبرًا على ورق حتى الآن ولم تتم ترجمته إلى تشريعات تضع الإطار القانوني الذي ينظِّم عمل الإعلام ويوفر الغطاء الذي يكفل له القيام برسالته بحرية وأمان. كما أن هذا الإطار القانوني من مهامه ضبط أداء وسائل الإعلام ووضع حدٍّ لحالة الانفلات الإعلامي التي تعيشها الساحة الإعلامية حاليًا. ويعود غياب هذا الإطار القانوني المنظِّم لعمل وسائل الإعلام والصحافة إلى عدم وجود برلمان؛ حيث تعيش مصر منذ حلِّ برلمان عام 2011 حالة من الفراغ التشريعي، وقد طال هذا الفراغ مع تأجيل الانتخابات النيابية عدة مرات لأسباب مختلفة؛ فالبرلمان هو الجهة المنوط بها إصدار التشريعات والقوانين التي تترجم نصوص الدستور بما فيها المواد الخاصة بتنظيم الإعلام إلى قوانين.

لكن الفراغ التشريعي ليس السبب الوحيد في تأخر صدور القوانين المنظِّمة للعمل الاعلامي، فالسلطة لا تبدو راغبة ولا مُتحمِّسة حتى الآن لإصدار هذه القوانين وكأنها تبدو مستريحة للوضع الراهن باعتباره وضعًا ملتبسًا ويمكن السيطرة عليه. وتتذرَّع السلطة في موقفها هذا بأن الإعلاميين والمعنيين بصناعة الصحافة والإعلام غير متفقين على رؤية أو تصور موحَّد لمشاريع قوانين تنظم الإعلام، وأنهم لم يتمكنوا حتى الآن من إعداد مشروع القانون الخاص بالتشريعات الإعلامية رغم وجود أكثر من لجنة أو جهة تعمل على صياغة القانون الخاص بالتشريعات الصحفية. وبغضِّ النظر عن صحة هذه الذريعة من عدمها فإن النتيجة واحدة وهي أن الإعلام في مصر لا يزال يعمل بدون إطار تنظيمي واضح ومحدد ينظم نشاطاته، وهذا الوضع يجعل المواد والضمانات الخاصة بحرية الإعلام في الدستور الحالي حبرًا على ورق رغم ما يتضمنه من ضمانات(15)؛ وهذا ما يمنح السلطة القدرة على مصادرة وقمع الحريات الصحفية والإعلامي مثلما يحدث حاليًا. كما أن غياب التشريعات اللازمة لتنظيم وضبط المنظومة الإعلامية ومراقبة أدائها لرسالتها وإخضاعها للرقابة المجتمعية يُبْقِي على حالة الفوضى الإعلامية وتدنِّي الأداء المهني؛ التي يعاني منها الجمهور والإعلاميون أنفسهم، كما أنه يُبْقِي الإعلام تحت سيف السلطة من ناحية، ورجال الأعمال وتأثير رأس المال من ناحية أخرى(16).

رؤية السلطة لدور الإعلام

لا يمكن فهم أو تحليل الأسباب التي تقف وراء الأزمة الحالية التي تعصف بالإعلام الخاص في مصر بمعزل عن المناخ السياسي العام وموقف السلطة الحالية من الإعلام ورؤيته لدوره وأهدافه. وفي هذا الصدد تعكس تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي المتكررة، بشأن دور الإعلام وأهميته في بناء الدولة الجديدة، حتى قبل توليه السلطة، رؤيةً تنظر للإعلام بوصفه خادمًا للسلطة ومكرِّسًا لشرعيتها من خلال إقناع الرأي العام بإنجازات الحكومة والحشد والتعبئة للشعب خلفها. ولعل تصريحه الشهير عن أن "عبد الناصر كان محظوظًا؛ لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه" تصريح كاشف في هذا الإطار(17). فهذه التصريحات المتكررة حول أهمية دور الإعلام وخطورته وضرورة أن يكون في صف الشعب، تُظهر توجُّهًا لدى السيسي بضرورة أن يكون هذا الإعلام مساندًا للنظام وداعمًا لقراراته. كما سعى السيسي من خلال تعزيز علاقاته بالإعلاميين المؤيدين له ولقاءاته المتكررة معهم إلى محاولة ضبط أداء الإعلام، كما يرى البعض، وفق رؤية القيادة السياسية وتجاوبًا مع تشخيصها للمصالح الوطنية(18). كما تُظهر تأكيدات السيسي المتكررة- على الحاجة إلى اصطفاف وطني في مواجهة المخاطر التي تواجه الدولة المصرية- رغبة وتوجُّهًا لديه بضرورة قيام الإعلام بدور محوري في تعزيز هذا الاصطفاف.

لذلك، بدت السلطة أكثر ضيقًا بأي صوت ناقد، وهو ما تمثَّل في تكرار قرارات وقف طباعة الصحف ومصادرتها والتدخل في محتواها، وتكرر هذا الأمر مع صحف، مثل: صوت الأمة والصباح والمصريون والدستور والتحرير والوطن، بل وصل الأمر حدَّ إتلاف نسخ إحدى الصحف بعد طباعتها، وقد دفع ذلك لجنة الحريات بنقابة الصحفيين للتحذير من عودة الرقابة على الصحف وتهديد حرية الصحافة في مصر(19).

وعلى ضوء هذه الرؤية التي عبَّر عنها السيسي لدور الإعلام يمكن تفسير غلبة الطابع الدعائي لوسائل الإعلام سواء الحكومية أو الخاصة لمصلحة النظام وسياساته بعيدًا عن الالتزام بأي معايير مهنية، وما استتبع ذلك من تغييب لأي صوت معارض للسلطة؛ فضلًا عن حملات التضييق والانتهاكات بحق العديد من الصحفيين والإعلاميين المعارضين للنظام(20).

ووفق هذه الرؤية أيضًا فإن السيسي، الذي لا يبدو متحمسًا لإنعاش الحياة السياسية، يعتبر وسائل الإعلام، وما توفره له من دعم وتأييد، بديلًا عن المؤسسات السياسية كالأحزاب أو حتى مؤسسات الدولة كالبرلمان؛ ما جعل من الإعلام أداة سياسية في يد السلطة، وهو ما ترتَّب عليه هيمنة إعلام الصوت الواحد وسيطرة الطابع الدعائي على حساب الدور المهني لاسيما في ظل دعوات الاصطفاف الوطني ضد خطر "الإرهاب".

ورغم أن التعاون بين السلطة وملاك القنوات الفضائية من رجال الأعمال كان السمة الغالبة التي شكَّلت خطاب الإعلام المصري منذ 30 يونيو/حزيران 2013 وحتى اليوم من خلال التركيز على استهداف جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها واتهامها بالإرهاب، واستبعاد وتغييب الأصوات الناقدة للحكم الجديد، فإن الأشهر الأخيرة من حكم السيسي شهدت مؤشرات على صدام وتوتر في العلاقة بين الإعلام والسلطة التي بدت أكثر ضيقًا من المعالجات الإعلامية لبعض القضايا، وكذلك أكثر رغبة في السيطرة على الفضاء الإعلامي في إطار الرغبة في الهيمنة على الفضاء العام ككل.

ورغم بروز بعض الانتقادات لأداء السلطة والرئيس والحكومة في الإعلام فإن هذه الانتقادات بدت انعكاسًا لصراع المصالح والتوازنات بين القوى المكوِّنة والداعمة للسلطة ولاسيما بين أنصار النظام القديم ورجال الأعمال الجدد المرتبطين بنظام السيسي أكثر من كونها تعبيرًا عن توجُّه لضمان ودعم حرية الإعلام في مصر.

هكذا لجأ النظام الحالي إلى سياسة العصا والجزرة مع الإعلام، فالإعلام المؤيِّد للنظام هو إعلام وطني ومخلص، بينما الإعلام المعارض هو إعلام متهم في نظر السلطة وأنصارها بالخيانة والعمالة ولابد من التعامل معه بصورة خشنة تتراوح بين مصادرة الصحيفة أو وقف طباعتها أو منع الإعلانات عنها أو اعتقال الصحفي نفسه(21).

ويشكِّل موقف السلطة الحالية ورؤيتها لدور الإعلام إحدى العقبات الكبيرة أمام قدرة هذا الإعلام على التحرر وأداء دوره بمهنية وحرية. وفي هذا الإطار، يبدو وضع الإعلام الخاص أكثر صعوبة وتعقيدًا لاسيما أنه يجد نفسه واقعًا بين سندان تأثير مالكي هذا الإعلام من رجال الأعمال ومصالحهم وأهدافهم, وبين مطرقة السلطة الساعية والراغبة في أن يبقى هذا الإعلام في خدمتها وطوع بنانها. وهذا وجه آخر من وجوه المأزق الذي يعيشه الإعلام المصري حاليًا.

أزمة المصداقية

حين تلتقي الأزمات المالية مع الخلل الهيكلي وغياب الفصل بين الملكية وإدارة التحرير، وحين يجتمع غياب الغطاء القانوني المنظِّم للعمل الإعلامي مع مناخ سياسي تسلطي، فإن المحصلة النهائية المتوقَّعة لكل ذلك هي أزمة المصداقية التي تعيشها وسائل الإعلام حاليًا، والتي كانت نتيجتها انصراف قطاعات كبيرة من الناس عن متابعة ما يقدِّمه هذا الإعلام.

ويؤكد ذلك ما أظهرته دراسة تحليلية صدرت في أغسطس/آب عام 2014 لشركة إيبسوس المتخصصة في أبحاث السوق، من تراجع حادٍّ في نسب مشاهدة برامج التوك شو السياسية الشهيرة في مصر بين يناير/كانون الثاني ويوليو/تموز 2014؛ فعلى سبيل المثال تراجع برنامج "الحياة اليوم" من المركز الثالث إلى المركز 37، بنيما تراجع برنامج "هنا العاصمة" من المركز 8 إلى 32، و"العاشرة مساء" من 13 إلى 57 (22).

ومن هنا، يمكن القول: إن تراجع وتدني المعايير المهنية لمعظم وسائل الإعلام خلال الفترة الماضية، وبالتالي تراجع درجة المصداقية والاحترام التي تحظي بها لدى الرأي العام، هي نتيجة منطقية لكل العوامل والأسباب السابقة مجتمعة.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن تراجع المعايير والقواعد المهنية ليس وليد الأزمة الأخيرة، بل ارتبط بمرحلة ما بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني وما شهدته من اضطراب سياسي؛ إذ إن أزمة الإعلام قبل عام 2011، كما يرى كثيرون، كانت تقتصر على ضعف المعايير والقواعد المهنية وتراجع هامش الحريات في ظل حكم مبارك، لكن هذه الأزمة زادت حدتها بشكل أكبر مع التراجع الكبير في المعايير المهنية وتحوُّل الإعلام إلى طرف في الصراع السياسي المحتدم وتحوُّل المشهد إلى حالة من الانفلات والفوضى الإعلامية(23).

لكن إذا كانت الأعوام القليلة الماضية التي أعقبت ثورة 25 يناير/كانون الثاني قد شهدت تراجعًا كبيرًا في المعايير المهنية، فإن هذا التراجع تفاقم بصورة أكثر فداحة في العامين الماضيين؛ حيث دفع الإعلام ثمنًا كبيرًا من مصداقيته وصورته جرَّاء الأزمة السياسية التي تعيشها مصر منذ الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين.

ومع التوجُّهات السلطوية للنظام الجديد وسعيه للسيطرة على المجال العام بما فيه الفضاء الإعلامي تفاقمت محنة الإعلام في مصر مع محاولة ملء الفراغ السياسي، الذي خلَّفته محاولاته لتجريف المشهد السياسي من كل مكوناته، بإعلام زاعق يُمجِّد السلطة ويُروِّج لإنجازاتها ومشروعاتها سواء كانت حقيقية أم وهمية. وفي ظل هذا الوضع سعى الإعلام إلى لعب دور الأحزاب والقوى السياسية والنقابات والبرلمان في نفس الوقت، وهو ما عمَّق من أزمة المهنية ومن ثم المصداقية بشكل كبير. كما أن الإعلام في ظل هذا المشهد المضطرب سياسيًّا وإعلاميًّا تخلى طواعية أو بحكم حالة الانقسام والاستقطاب الحاد التي صاحبت الأزمة عن حياده وموضوعتيه بشكل شبه كامل، وتكرَّرت الأخطاء، بل والجرائم المهنية من قبيل:

  • انتشار الأخبار المُجَهَّلَة وغير المُدَقَّقة، والاستناد إلى ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي وإعادة نشره دون التحقُّق من صحته، وعدم الاعتذار عن الأخطاء حتى بعد أن يتبين أنها غير صحيحة.
  • الخلط بين الخبر والرأي، وتقديم الرأي باعتباره الحقيقة وأن الرأي المخالف هو الباطل.
  • انتهاك خصوصية الأفراد، وحملات الاغتيال المعنوي والتشويه لكل المعارضين للسلطة.
  • غلبة إعلام الصوت الواحد، بينما جرى تغييب الرأي الآخر بشكل شبه كامل. ولم يقتصر التغييب والحظر الإعلامي على جماعة الإخوان المسلمين وأنصار الإسلام السياسي، بوصفهم الخصم الأكبر لنظام ما بعد 30 يونيو/حزيران 2013، بل شمل غالبية الأصوات والشخصيات السياسية المعارضة أو المعترضة على سياسات النظام الجديد بمن فيها تلك التي شاركت ودعَّمت مظاهرات 30 يونيو وأيَّدت السيسي رئيسًا.

وكانت نتيجة ذلك تراجع ثقة الرأي العام فيما يقوله وينشره هذا الإعلام ومن ثم انصراف قطاعات واسعة من المصريين عن متابعته. وهكذا بدا النظام الحالي رغم كل هذا الصخب الإعلامي المؤيد له في حال انكشاف كامل أمام قطاعات كبيرة من الرأي العام في الداخل، وأمام الرأي العام الخارجي بشكل خاص، بل أصبح بعض هذا الإعلام عبئًا على النظام الجديد(24).

على ضوء ما سبق، يمكن القول: إنه إذا كانت وسائل الإعلام الخاصة لعبت دورًا مهمًّا في مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وكانت أحد العوامل المهمة التي أسهمت في رفع سقف الحريات في مصر وفي التمهيد لهذه الثورة من خلال كشفها لمواطن الفساد والعطن في نظام مبارك، فإنها تحوَّلت في مرحلة ما بعد 25 يناير/كانون الثاني، وبشكل خاص ما بعد 30 يونيو/حزيران 2013, للعب دور سلبي على الصعيدين السياسي والاجتماعي أسهم في تقليص هامش الحريات الصحفية من خلال إعلام الصوت الواحد والنمط التعبوي والدعائي الذي يقوم على إذكاء الصراع السياسي القائم وبث لغة التحريض والكراهية وتقسيم المصريين إلى فصائل متناحرة ونقل الشارع إلى الشاشات وصفحات الصحف، بينما غابت المسؤولية المهنية والأخلاقية(25). ووسط هذا المناخ الإعلامي غير المهني تبدو الأصوات الإعلامية التي تحاول الحافظ على المهنية والاستقلال والتوازن محدودة للغاية في ظل وضع سياسي متأزم وحالة من الاستقطاب والانقسام(26).

وفي هذا الإطار لا يمكن التعاطي مع الإعلام الخاص، في ضوء دوره السلبي، بوصفه متهمًا بقدر ما يمكن النظر إليه باعتباره ضحية لهذه المرحلة السياسية الانتقالية المضطربة التي تعيشها مصر منذ أكثر من أربع سنوات وما تشهده من تحولات سياسية صاخبة. فبقدر ما حَمَلَ مناخ الحرية عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني فرصًا لتطوير الإعلام واستعادته لرسالته وتحرُّره من قبضة السلطة ليكون مُعَبِّرًا عن طموحات وأحلام الناس، فإن هذه الأجواء حملت بالقدر نفسه، كما يرى البعض، خطر الإجهاز على حرية الإعلام وتحويله إعلامًا للصوت الواحد لا يخدم الجمهور بقدر ما يخدم السلطة ورجال الأعمال وشركات الإعلانات(27).

خلاصات

من خلال قراءة الأبعاد والجوانب المختلفة للأزمة التي تمر بها صناعة الإعلام الخاص في مصر حاليًا يمكن أن نخلص إلى النتائج الآتية: 

  1. إن الأزمة الحالية أكبر من مجرد نقص أو تعثر مالي، بل في جوهرها أزمة متعددة الوجوه بعضها يتعلق بالأسس الاقتصادية التي قام عليها معظم المؤسسات الإعلامية الخاصة، والبعض الآخر يتعلق بنمط لملكية وعلاقة رأس المال بالسياسة التحريرية.
  2. تكمن الأزمة في أن القائمين على الإعلام، سواء كانت السلطة أو رجال الأعمال، يتعاملون معه كأداة لتحقيق النفوذ السياسي؛ فالسلطة تريده خادمًا لأهدافها مُروِّجًا لسياستها، ورجال الأعمال يريدونه حاميًا لمصالحهم واستثماراتهم ومُروِّجًا لمواقفهم السياسية، وهو ما يجعل الإعلام وسيلة للنفوذ السياسي والمالي أكثر من كونه صناعة واستثمارًا حقيقيًّا.
  3. لا يمكن فصل الأزمة عن المناخ العام الذي تعيشه مصر حاليًا، وهو مناخ يتسم بالتأزم والانقسام السياسي والاجتماعي؛ ومن ثم فإن ما يحدث في المشهد الإعلامي ليس سوى انعكاس لهذا المناخ، وهذا يعني أن إصلاح منظومة الإعلام يبقى جزءًا من إصلاح المشهد السياسي العام وتوفير المناخ المناسب والأكثر استقرارًا بما يساعد الإعلام على أداء رسالته.
  4. تتحمل السلطة المسؤولية الأكبر عمَّا يشهده الإعلام حاليًا من تدنٍّ مهنيٍّ وفوضى إعلامية سواء من خلال تشجيعها الصامت لما يحدث من تجاوزات وجرائم مهنية أو من خلال تقاعسها عن إصدار التشريعات اللازمة لتنظيم وضبط الأداء الاعلامي.
  5. إذا كان إصلاح المنظومة الإعلامية مسألة مهمة لاسيما في فترات التحول الديمقراطي لما للإعلام من دور مهم في تشكيل الوعي الجماهيري عن قيم الديمقراطية والحرية، فإن هذه المهمة دونها عقبات عديدة على رأسها موقف السلطة من الإعلام ورؤيتها لدوره.
  6. قد يبدو المشهد الإعلامي الراهن مريحًا للسلطة الحالية لاسيما في ظل النهج السلطوي الذي يغلب على أدائها، لكن استمرار هذه الحالة من الإعلام التعبوي الزاعق؛ التي يغلب فيها الصوت الواحد، لا تقود فقط إلى انتحار الإعلام، بل ستكون نتائجه وخيمة على السلطة نفسها.
  7. الخروج من الأزمة الحالية يتوقف على إدراك كل أطراف صناعة الإعلام في مصر (السلطة ورجال الأعمال والإعلاميين) لدور الإعلام ورسالته في تشكيل الوعي ونشر المعلومات والحقائق وليس تنفيذ ما تريده السلطة وخدمة أهدافها، أو دغدغة مشاعر الناس وتغييب وعيهم. وهذا الأمر يستدعي إجراءات وخطوات لإصلاح منظومة الإعلام المصري بما يجعلها قادرة على الوفاء بالمعايير المهنية اللازمة لأداء رسالتها، ووضع الإطار المؤسسي اللازم للرقابة على الأداء وضبط جودته.
ويبقى في الختام القول: إن الأزمة التي يعيشها الإعلام المصري حاليًا تُظهر فشل كل الجهود والآمال التي انتعشت بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني في إصلاح منظومة الإعلام الحكومي والخاص ليصبح أكثر مهنية واحترافية وحرية. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى غياب الإرادة السياسية اللازمة في ظل قناعة راسخة للأنظمة المتعاقبة بأهمية السيطرة على الإعلام وجعله خادمًا لمصالحها. 
____________________________________
هوامش ومصادر
1. صلاح الدين، نفيسة، "ملكية الإعلام وتأثيرها على الأداء الإعلامي"، الهيئة العامة للاستعلامات، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2015، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2015): 
2. راجع في ذلك عوض، شحاتة، "الإعلام المصري بعد 30 يونيو: أزمة بنيوية أم مرحلة عابرة؟"، مركز الجزيرة للدراسات، 23 يونيو/حزيران 2014.
3. الخولي، محمد، "المصري اليوم تخشى النهاية الأليمة!" صحيفة الأخبار اللبنانية، 5 سبتمبر/أيلول 2015، (تاريخ الدخول: 2 أكتوبر/تشرين الأول 2015):
4. رمزي، محمود، "مالك "التحرير" يكشف كواليس الأزمة: لا علاقة للحكومة أو الأمن بإغلاق الصحيفة"، صحيفة المصري اليوم، 25 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2015):
5. اعتمدت هذه الورقة في شِقٍّ منها على عدد من المقابلات التي أجراها الباحث مع عدد من الإعلاميين والصحافيين المصريين.
6. رحيم، أحمد، "أزمة مالية تضرب الصحافة وتهدد الفضائيات"، صحيفة الحياة، 2 سبتمبر/أيلول 2015، (تاريخ الدخول: 12 سبتمبر/أيلول 2015): 
7. الخليج أونلاين، "نضوب المال السياسي وتراجع الإعلانات يهويان بالإعلام المصري"، الخليج أونلاين، 18 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 8 أكتوبر/تشرين الأول 2015):
8. بوابة إفريقيا الإخبارية، "هل تُغلَق القنوات لانهيار سوق الإعلانات في مصر"، بوابة إفريقيا الإخبارية، 8 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2015):
9. عبد العزيز، ياسر، "حالة الإعلام المصري في السنة الأولى من حكم السيسي"، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، 27 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2015):
10. مكرم، رانيا، "تقييم حالة الإعلام الخاص في مصر"، موقع جدلية، 26 يناير/كانون الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 13 سبتمبر/أيلول 2015):
11. جويدة، فاروق، "الفضائيات بين إفلاس الفكر وإفلاس المال"، الأهرام، 10 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر/أيلول 2015):
12. تقرير لمنظمة اليونسكو صدر في يناير/كانون الثاني 2013 تحت عنوان "تقييم كلي: تطوير قطاع الإعلام في جمهورية مصر العربية"، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2015): 
13. أكَّد أحمد بهجت، صاحب قناة دريم، في حوار تليفزيوني بقناة (أون تي في) بتاريخ 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 "أنا لا أصدِّق أن هناك مالكًا لقناة ليس له علاقة بالسياسة التحريرية"، وأقرَّ بأنه تدخَّل مرات عديدة وأوقف بعض البرامج، أمَّا نجيب ساويرس -صاحب قناة أون تي في- فقال إنه قد يتدخل في السياسة التحريرية نظرًا للتهديدات التي تتعرض لها مصالحه. 
14. مكرم، رانيا، "تقييم حالة الإعلام الخاص في مصر"، مرجع سابق.
15. ينص الدستور الحالي على التزام الدولة بحرية الإعلام وحظر الرقابة على وسائل الإعلام المختلفة مقروءة ومسموعة ومرئية، إلا في حالات محددة كحالة الحرب، إضافة إلى إلغاء عقوبة حبس الصحفيين في جرائم النشر.
16. شومان، محمد، "أزمة الإعلام المصري إلى أين؟"، صحيفة الحياة، 6 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2015): 
17. تصريحات للرئيس عبد الفتاح السيسي في حفل تدشين مشروع محور تنمية قناة السويس، أغسطس/آب 2014.
18. عبد العزيز، ياسر، "حالة الإعلام المصري في السنة الأولى من حكم السيسي"، مرجع سابق.
19. رجب، دعاء، "الصحفيين تحذِّر من تهديد حرية الصحافة المصرية"، موقع المصريون، 23 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول: 04 أكتوبر/تشرين الأول 2015):
20. يبلغ عدد الصحفيين القابعين في السجون في مصر حاليًا 18 صحفيًّا لأسباب تتعلق بتغطيتهم الصحافية وهو رقم قياسي في تاريخ مصر، حسب اللجنة الدولية لحماية الصحافيين في نيويورك. إضغط هنا.
- تاريخ الدخول 19 / 09/ 2015
21. "مصر تسجِّل رقمًا قياسيًّا بعدد الصحفيين المعتقلين"، السفير اللبنانية، 25 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول: 23 سبتمبر/أيلول 2015):
22. أبو الغيط، محمد، الإعلام المصري يغرق ماليًّا والحل سياسي طبعًا"، صحيفة المدن الإلكترونية، 24 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 17 أكتوبر/تشرين الأول 2015):
23. عسيلة، صبحي، "معركة القوانين المكملة: الإعلام المصري بين مطرقة الحكومة وتقاعس الإعلاميين، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يناير/كانون الثاني 2015، (تاريخ الدخول:16 أكتوبر/تشرين الأول 2015): إضغط هنا
24. السناوي، عبد الله، "انكشاف الإعلام المصري"، صحيفة الشروق، 18 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 12 أكتوبر/تشرين الأول 2015): 
25. جويدة، فاروق، "الفضائيات بين إفلاس الفكر وإفلاس المال"، مرجع سابق.
26. عبد الله، رشا، "الإعلام المصري في خضم الثورة"، مؤسسة كارنيغي للشرق الأوسط، 16 يوليو/تموز 2014، (تاريخ الدخول: 14 أكتوبر/تشرين الأول 2015):
27. شومان، محمد، "أزمة الإعلام المصري إلى أين؟"، مرجع سابق.