تركيا وروسيا: تقارب اقتصادي وتباعد سياسي

تجمع بين تركيا وروسيا مصالح اقتصادية كبيرة وتفرِّق بينهما ملفات سياسية شائكة، أبرزها الملف السوري، فبينما تسعى تركيا إلى اسقاط النظام تستميت روسيا في الدفاع عنه، لكنهما لا يسيطران على هذا الملف كليا لأن هناك لاعبين آخرين باستطاعتهم أن يغيروا قواعد اللعبة الحالية.
201343093220721734_20.jpg
 

بعد زيارتين متتاليتين قام بهما وزير الخارجية الأميركية جون كيري، وصل إلى تركيا وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، 17إبريل/نيسان 2012، في زيارة رسمية اكتسبت الكثير من الأهمية. لقاءات لافروف ووزير الخارجية التركية، أحمد داوود أوغلو، على هامش المؤتمرات والمنتديات الدولية، لا تنقطع، ولكن هذا اللقاء كان الأول بين الوزيرين هذا العام، المكرس كلية لقضايا العلاقات بين روسيا وتركيا، سيما أن لافروف يزور تركيا بمناسبة الانعقاد الثالث لمجموعة التخطيط الاستراتيجي للعلاقات بين البلدين. ورغم أن أعمال المجموعة يُنظر لها باهتمام كبير في تركيا وروسيا، بالنظر إلى التاريخ الحافل بالصراع والتدافع بينهما، لكن الأزمة السورية هي ما استدعى اهتمام المراقبين، لأنها الأزمة الأكثر حدة ودموية ووحشية في المشرق، ويقف البلدان منها في موقعين متناقضين.

فكيف، إذن، ينظم الأتراك والروس العلاقات بينهما؟ وأي أثر يتركه خلافهما الكبير حول سورية على هذه العلاقات؟

مأسسة العلاقات وتعزيزها

في حديث أدلى به فلاديمير بوتين قبل سنوات، قال الرئيس الروسي بطريقته المباشرة: إن موسكو لم تكن تأخذ تركيا في السابق مأخذ الجد، وإنها اعتادت في سياق العلاقات مع أنقرة أن تتحدث مع الأميركيين وليس مع الأتراك، ملمحًا إلى أن روسيا نظرت إلى تركيا باعتبارها دولة لا تتمتع باستقلال القرار الخارجي. ولكن موسكو، يكمل بوتين، فوجئت بتصويت البرلمان التركي في مطلع 2003 ضد السماح للقوات الأميركية باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق وفتح جبهة شمالية ضد نظام صدام حسين. برلمان 2003، الذي اتخذ ذاك القرار، هو بالطبع برلمان يتمتع فيه حزب العدالة والتنمية، الذي لم يزل يحكم تركيا حتى الآن، بأول أغلبية له.

منذ 2003، بدأت العلاقات الروسية-التركية تأخذ منحى مختلفًا عن حقبة الحرب الباردة، التي اعتُبرت خلالها تركيا، باعتبارها عضوًا في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، دولة مواجهة في الانقسام بين الكتلة الشيوعية والكتلة الغربية. والمدهش، بالنظر إلى الاضطرابات في شمالي القوقاز والبلقان، حيث اصطدمت سياستا أنقرة وموسكو، أن هذه العلاقات تطورت بصورة حثيثة. الدوافع الرئيسة لهذا التطور تتعلق بعدة عوامل:

  1. تعطي الدولتان، التركية والروسية، أولوية للعلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما، ولحاجة كلتيهما الكبيرة للأخرى. تحتاج تركيا إمدادات نفط وغاز من روسيا، وتعمل على توطيد أقدام منتجاتها الصناعية في السوق الروسي الكبير؛ بينما تنظر روسيا إلى ضرورة تنوع شركائها الاقتصاديين وعدم الاقتصار على الدول الأوروبية الرئيسة.
  2. تلتقي مصالح البلدين الاقتصادية وتصطدم في المخططات الاستراتيجية المختلفة لمد أنابيب النفط والغاز بين دول بحر قزوين، ووسط آسيا، والمشرق العربي، من جهة، والسوق الأوروبية، من جهة أخرى، وتحتاجان بالتالي لتنظيم مصالحهما بصورة عقلانية.
  3. وفي صورة مشابهة، تتقاطع سياسات البلدين وتصطدم في شمال القوقاز، سيما الموقف من جورجيا وأرمينيا وأذربيجان؛ وفي البلقان، سيما الموقف من صربيا والبوسنة وكوسوفو. ولمنع الخلافات السياسية من التفاقم، لابد من اتصالات وثيقة ودائمة بين العاصمتين.
  4. أن تركيا، العثمانية والجمهورية كانت، ولم تزل وستبقى، نافذة روسيا الضرورية على المتوسط.

في مسعى لمأسسة العلاقات بينهما، اتفق قادة البلدين على تأسيس مجلس التعاون التركي-الروسي، في مايو/أيار 2010، خلال زيارة الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيدف؛ ومجموعة التخطيط الاستراتيجي هي جزء من هذا المجلس. ويلتقي قادة البلدين الآن بصورة منتظمة سنويًا، كان آخرها اللقاء الذي جمع رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بإسطنبول في ديسمبر/كانون الأول 2012.

روسيا اليوم هي واحدة من أكبر شركاء تركيا التجاريين، بحجم تبادل تجاري وصل إلى 26 مليار دولار في العام الماضي 2012. ولكن ميزان التبادل التجاري يميل لصالح روسيا، نظرًا لأنها المصدّر الأول للغاز إلى تركيا. وقد صرَّح وزير الطاقة التركي مؤخرًا بأن ربع إنتاج تركيا من الكهرباء يعتمد على واردات الغاز الطبيعي الروسية. في لقائهما بإسطنبول، أعاد لافروف وداوود أوغلو من جديد التوكيد على رغبة البلدين في رفع مستوى التبادل التجاري بينهما إلى 100 مليار دولار خلال العامين القادمين. وكان البلدان قد اتفقا مسبقًا على أن تبني روسيا أول محطة تركية نووية لتوليد الطاقة على الساحل التركي شرق المتوسط، باستثمار يبلغ 20 مليار دولار.

ألغت الحكومتان مؤخرًا شرط سمة الدخول عن سفر مواطنيهما بين البلدين، كما خفّفا الرسوم الجمركية عن السلع المتبادلة؛ الأمر الذي يصب لصالح المنتجات التركية المصدّرة إلى روسيا. وتستقبل تركيا أعدادًا متزايدة من السياح الروس، بينما يتجه فائض المال الروسي، سواء المال الخاص أو العام، للاستثمار في تركيا بمعدلات متزايدة. فبالنظر إلى انهيار السوق المالي القبرصي، الذي كان المستودع الرئيس للأموال الروسية، والأزمة الاقتصادية والمالية المستمرة في السوق الأوروبية، يجد الروس أن السوق التركية أكثر أمانًا ومردودًا.

هذا الانتعاش الملموس في العلاقات التجارية والاقتصادية، لا يقابله بالضرورة توافق سياسي مواز تجاه القضايا الإقليمية المشتركة.

خلافات سياسية

باتجاه الأوضاع في القوقاز إلى الاستقرار، لم يتبق من خلاف جوهري بين موسكو وأنقرة سوى الاعتراف باستقلال كوسوفو. ولكن مسألة الاعتراف بكوسوفو، التي يُعتبر استقلالها، تحت إشراف أممي، أمر واقع، لا تتعلق بالموقف الروسي وحسب، بل بعدد كبير من دول العالم؛ وهي بالتالي ليست محل جدل بين العاصمتين. في شمال القوقاز، الخلافات أكثر عمقًا، وإن كانت من النوع المكتوم والأقل حدة. تقف أنقرة، مثلاً، إلى جانب أذربيجان في صراعها مع أرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ، بينما تعتبر أرمينيا حليفًا روسيًا. وتسعى روسيا إلى إعادة سيطرتها على جورجيا، التي تقع في مدخل الممر القوقازي الاستراتيجي إلى روسيا. ولكن أنقرة تتعاطف مع توجهات الاستقلال الجورجية، وتأمل بأن تبقى جورجيا أقرب إلى الولايات المتحدة ودول الناتو، ودولة عازلة بين تركيا وروسيا. عودة جورجيا إلى الحضن الروسي، كما كانت أثناء طوال معظم القرن العشرين، يعني عودة التماس البري المباشر بين تركيا وروسيا؛ الأمر غير المرحب به في أنقرة.

بيد أن أيًا من ملفات الخلاف في شمال القوقاز لا يشكّل عبئًا مباشرًا على العلاقات؛ فليس ثمة حرب مشتعلة بين أذربيجان وأرمينيا؛ كما أن روسيا تبدو مكتفية، في الوقت الحاضر، بعملية تقسيم جورجيا التي أنجزتها في هجومها الكاسح على الجارة الصغرى في صيف 2008.

ولا يختلف الملف القبرصي كثيرًا؛ حيث تنتهج روسيا سياسة أرثوذكسية تقليدية وتدعم حكومة قبرص اليونانية ضد قبرص التركية. ولأن الروس استخدموا النظام المالي القبرصي بصورة هائلة في السنوات الأخيرة، فقد رحبت موسكو بضم قبرص اليونانية للاتحاد الأوروبي، بالرغم من الاحتجاج التركي وتعثر محاولات إعادة توحيد الجزيرة، لما سيحصده المستثمرون الروس في البنوك القبرصية من فوائد وتسهيلات. ولكن عبء العلاقة الروسية الخاصة جدًا بقبرص اليونانية لا يبدو أنه يثير قلقًا تركيًا كبيرًا. فمن جهة، وكما قال الوزير التركي للشؤون الأوروبية إرغن باغيس (17إبريل/نيسان)، باءت محاولات آباء استقلال قبرص (يقصد بريطانيا وتركيا واليونان) لإنقاذ "زواج" يونانيي الجزيرة وأتراكها بالفشل، لأن الطرفين ينامان في "سريرين منفصلين" منذ عقود. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ترك الانهيار الاقتصادي–المالي في قبرص أثرًا بالغًا على توجهات الاستثمار الروسية وثقة الروس في قادة الجزيرة، سيما بعد أن لاح لأيام خطر مصادرة حكومة الجزيرة لنسب معينة من الاستثمارات المالية الأجنبية في البنوك القبرصية لإنقاذ المالية العامة. الحقيقة، أن وضع قبرص المتدهور يعتبر أحد أسباب حماس روسيا المتزايد للاستثمار في تركيا.

الملف الأكثر حدة وإلحاحًا في دائرة الخلافات السياسية التركية-الروسية هو بالتأكيد ملف الأزمة السورية. والراجح أن سورية احتلت موقعًا متقدمًا في مباحثات لافروف وداوود أوغلو، كما حدث في عدة لقاءات سابقة بين قادة البلدين خلال العامين الماضيين.

في المؤتمر الصحفي الذي عقده وزيرا الخارجية بعد انتهاء مباحثاتهما، لم يكن لافروف يحتاج كلمات أكثر لإيضاح حجم الخلاف بين موقفي البلدين من الأزمة السورية. قبل ثلاثة أيام فقط من لقاء مجموعة أصدقاء سورية في المدينة نفسها، إسطنبول، المقرر في 20 إبريل/نيسان، انتقد لافروف المجموعة بحدة ووصفها بأنها صديقة لقطاع واحد وحسب من المعارضة السورية، وأن أعمالها ذات أثر سلبي على جهود إيجاد حل للأزمة طبقًا لإعلان جنيف (الصادر في يونيو/حزيران 2012، والذي نص على تشكيل حكومة انتقالية، يختارها السوريون أنفسهم).

إضافة إلى ذلك، أكد لافروف على رفضه للجهود التي تعمل على تنحي الأسد عن السلطة، وقال: إن محاولة عزل أحد طرفي الأزمة لا يخدم قضية الحوار بين أطراف الأزمة. وانتقد وزير الخارجية الروسي الدول التي تدعم الثوار السوريين، مؤكدًا على أن ليس ثمة حل عسكري في سورية. كما انتقد الجامعة العربية لمنحها مقعد سورية للائتلاف الوطني السوري، الذي يعتبر الإطار الجامع للمعارضة السورية في الخارج.

بصورة عامة، كما بصورة تفصيلية، عبَّرت تصريحات لافروف عن مواقف مناهضة للسياسة التركية تجاه سورية. من جهته، قال وزير الخارجية التركي إن بلاده تبحث عن أرضية مشتركة لحل الأزمة السورية، مؤكدًا على أن الحوار مع روسيا سيستمر. وأشار داوو أوغلو إلى أن استمرار الأزمة يمثل عبئًا كبيرًا على تركيا، التي تستضيف أكثر من 300 ألف لاجئ سوري، إضافة إلى التهديد التي تمثله لأمن تركيا، مؤكدًا على أن حكومته لن تتردد في اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية أمن البلاد. وبدون أن يتوجه مباشرة للافروف، قال داوود أوغلو: إن "سورية تخص الشعب السوري، وليس أية دولة أخرى، وسورية ليست ملكية خاصة لبشار الأسد. الشعب السوري لابد أن يُسمح له بتقرير مستقبله. ونحن في تركيا مستعدون لأن ندعم بفاعلية الجهود لتحقيق هذا الهدف".

براغماتية روسية-تركية

خلال زيارة بوتين لتركيا في ديسمبر/كانون الأول الماضي 2012، وبعد مباحثاته مع أردوغان، كان واضحًا أن الخلاف بين البلدين حول سورية لم يزل واسعًا، بالرغم من أن بوتين استخدم لغة تصالحية، مشيرًا إلى أن ما يهم موسكو هو الشعب السوري وليس مستقبل الأسد. ولكن الخلاف حول سورية، على أية حال، لم يمنع الدولتين من توقيع 11 اتفاقية إضافية لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما. في لقاء وزيري الخارجية هذه المرة، كان الخلاف حول سورية أكثر وضوحًا وصراحة، وكانت لغة لافروف أقل دبلوماسية. ولكن ذلك لم يمنع لافروف وداوود أوغلو من التوكيد على أن البلدين في طريقهما لرفع معدل التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار سنويًا خلال العامين المقبلين.

ثمة خلافات سياسية أخرى بين تركيا وروسيا، بعضها يعود إلى تاريخ شائك من الصراع طوال قرون، وبعضها الآخر يعود لاعتبارات جيو-سياسية حديثة؛ بعضها مكتوم ومزمن، وبعضها مرشح للتصاعد بين آونة وأخرى. ويُعتقد أن لغة لافروف المباشرة حول سورية لم تكن مصادفة، بل ولّدتها تطورات فاجأت موسكو ولعبت فيها أنقرة دورًا ملموسًا، مثل قرار الائتلاف الوطني السوري تشكيل حكومة مؤقتة، لإدارة المناطق المحررة، ومنح الائتلاف مقعد سورية في الجامعة العربية. كلا التطورين نُظر إليه في موسكو باعتباره ضربة ثقيلة للمقاربة الروسية للأزمة، التي تقوم على حوار بين النظام والمعارضة، يؤدي لتشكيل حكومة انتقالية ائتلافية، مع بقاء الأسد على رأس الدولة.

مهما كان الأمر، فالواضح، حتى الآن على الأقل، أن تركيا وروسيا تعرفان حجم الخلافات بينهما وتقدران ضرورة معالجة هذه الخلافات بالتهميش، وبالتجاهل، وبمحاولة البحث عن توافق، بدون أن تؤثر على تطوير علاقاتهما الاقتصادية والتجارية. وليس ثمة شك في أن هذه العقلانية في النظر إلى الخلافات، والبراغماتية البالغة في معالجتها، خدمت البلدين إلى حد كبير حتى الآن. ولكن أحدًا لا يعرف ما الذي يمكن أن يحدث لهذه العلاقات التجارية والاقتصادية المتنامية في حال تفاقمت إحدى مسائل الخلاف وأصبحت أكثر حدة. لا يوجد في الوقت الحاضر، مثلاً، مؤشر على تدخل غربي عسكري وشيك في الأزمة السورية. ولكن ماذا لو تطورت الأزمة بصورة تخرج عن حسابات الأطراف المختلفة، ووقع مثل هذا التدخل، بتأييد أو مشاركة تركية؟