أردوغان وبوتين: مصالح اقتصادية وصراعات سياسية (أسوشيتد برس) |
ملخص يحُول انتماء تركيا إلى الحلف الأطلسي وارتباطها مع روسيا بعلاقات تجارية واقتصادية وطيدة دون التصعيد، لكن الخلافات الاستراتيجية بينهما قد تؤدي إلى الوقوع في دائرة العنف والعنف المضاد إذا لم يتعاضد الطرفان للتوصل إلى حل سياسي يؤمن مصالحهما معًا. |
مقدمة
بعد قليل من التاسعة، صباح الثلاثاء 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بتوقيت تركيا المحلي، أطلقت طائرتان تركيتان من طراز (إف 16) صواريخهما على طائرة روسية من طراز (سوخوي إس يو 24)، فأسقطتها في الحال. طبقًا لرواية قيادة الأركان التركية، وجَّه الجانب العسكري التركي عشرة إنذارات للطائرة الروسية بالابتعاد عن المجال الجوي التركي، خلال خمسة دقائق، ولم تقم الطائرات التركية بإسقاط الطائرة الروسية إلا بعد أن أصرَّت على انتهاك المجال الجوي التركي. وطبقًا للجانب التركي، أيضًا، لم تكن هذه الحادثة الأولى لانتهاك المجال الجوي لتركيا منذ بدأت العملية العسكرية الروسية الجوية في سوريا في 30 سبتمبر/أيلول؛ مما دفع المسؤولين الأتراك لإبلاغ نظرائهم الروس بأن الجيش التركي سيتبع قواعد الاشتباك بصرامة مع أية طائرة تنتهك السيادة الجوية التركية.
الروس، من جهتهم، أصرُّوا على أن الطائرة التي أسقطها الأتراك كانت تحلِّق بعيدًا عن الحدود التركية بمسافة كافية، وأن انتشار حطامها المدمَّر فوق الأراضي السورية، لا التركية، دليل على أنها لم تنتهك السيادة الجوية التركية.
أثار إسقاط الطائرة الروسية أصداء على مستوى الإقليم والعالم، وأعاد التوكيد على التعقيد الذي بات يحيط بالأزمة السورية والمخاطر المترتبة عنها على الأمن الإقليمي والعالمي. هذه أول طائرة روسية تُسقطها نيران دولة عضو في حلف الناتو منذ الحرب الكورية في مطلع الخمسينات. وقد جاء إسقاط الطائرة في وقت بدا أن روسيا تستعرض عضلاتها في الشرق الأوسط لإعادة التوازن إلى علاقاتها مع الغرب الأطلسي. هذه صفعة ثقيلة لكبرياء روسيا ومخططات إدارة بوتين الجيوسياسية. ولذا، فيجب ألا يكون هناك شك في غضب موسكو وعزمها على الرد.
أين تقع جذور هذه الأزمة في العلاقات الروسية-التركية؟ وإلى أية درجة ستؤثِّر على مستقبل هذه العلاقات، التي نمت بصورة مطَّردة في السنوات العشر الماضية، سيما في جانبيها التجاري والاقتصادي، بالرغم من خلافات سياسية متكررة؟
جذور الأزمة
كما كل الدول المؤيدة للمعارضة السورية، لم تكن تركيا سعيدة بالتدخل الروسي العسكري المباشر في الأزمة السورية في نهاية سبتمبر/أيلول 2015؛ وكما معظم هذه الدول، بدت تركيا وكأنها فوجئت بحجمه ودرجته. ولكن قلق تركيا من الخطوة الروسية كان من نوع آخر؛ فالحدود التركية مع سوريا تمتد إلى أكثر من 900 كيلومتر؛ وتركيا، كما السعودية وقطر، تلعب دورًا رئيسًا في دعم المعارضة السورية المسلحة والسياسية، على السواء. إضافة إلى ذلك كله، تستضيف تركيا ما يزيد على مليون من اللاجئين السوريين، الذين لم يكن هناك شك في أنقره أن التدخل الروسي سيضيف إليهم عشرات آلاف آخرين. ومجمل القول: إن المسؤولين الأتراك يرون التدخل الروسي مجرد استخدام سافر للمأساة السورية لخدمة أهداف أخرى لصراع موسكو مع الغرب.
بيد أن العلاقات التركية-الروسية وصلت حدًّا بالغ التعقيد والتداخل خلال السنوات العشر الأخيرة؛ مما جعل ردود فعل أنقرة على الخطوة الروسية غير مباشرة. تحاشت تركيا أي صدام مباشر مع الروس في سوريا، ولكنهم، إلى جانب السعودية وقطر، لم يترددوا في رفع وتيرة دعم قوى المعارضة السورية المسلحة، لمساعدتها على مواجهة العامل الروسي الجديد في موازين القوى. بيد أن العملية الروسية في سوريا كانت تتطور بصورة بالغة الاستفزاز لتركيا والدول المؤيدة للمعارضة السورية.
أعلن الروس في بداية تدخلهم الجوي أن هدفهم الرئيس في سوريا هو مواجهة "الإرهاب"، سيما تنظيم الدولة الإسلامية ومن التحق بالجماعات "الإرهابية" السورية من مواطنين مسلمين روس. ولكن ما اتضح طوال ما يقارب الشهرين أن الغارات الروسية الجوية استهدفت كتائب الجيش الحر وقوى المعارضة السورية الأخرى بصورة أساسية، ولم يُخصِّص الطيران الروسي سوى نسبة قليلة من العمليات ضد تنظيم الدولة. ومنذ بداية النصف الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، بدأ الطيران الروسي سلسلة غارات على جبل التركمان، شمال اللاذقية، الملاصق للحدود مع تركيا والذي تقطنه أغلبية تركمانية سورية.
قبل ثلاثة أيام من حادثة إسقاط الطائرة الروسية، عقد رئيس الحكومة التركية أحمد داوود أغلو اجتماعًا عسكريًّا-أمنيًّا رفيع المستوى لمناقشة التصعيد الروسي ضد التركمان السوريين، الذين تربطهم وتركيا وشائج إثنيَّة وثقافية. والمعروف أن ليس ثمة وجود لتنظيم الدولة الإسلامية في جبل التركمان، ولا في كل منطقة المرتفعات الريفية شمال اللاذقية. المؤكد، أن اتصال وزير الخارجية التركي بنظيره الروسي للاحتجاج على استهداف الطيران الروسي للتركمان والتحذير من انتهاكات الطيران الروسي المتكررة للمجال الجوي التركي كان أحد نتائج هذا الاجتماع. ما لا يمكن توكيده، ولكن ما يجب عدم استبعاده، أن القيادة التركية أطلقت يد رئاسة أركان القوات المسلحة في التعامل بما يتطلبه الموقف من حزم للردِّ على أي انتهاك للسيادة الجوية للبلاد.
تداعيات إسقاط الطائرة
أصاب إسقاط الطائرة موسكو بما يشبه الصدمة. هذا هو الحادث الثاني، بعد تفجير تنظيم الدولة الطائرة الروسية في سيناء، الذي يمكن ربطه بالعملية الروسية في سوريا، التي حرص الرئيس الروسي على تقديمها لشعبه باعتبارها عملية نظيفة، مدروسة، وتتعلق بحماية روسيا ومصالحها وشعبها من "الإرهاب المحتمل". وما فاقم من الموقف أن المعارضة السورية المسلحة نجحت بعد حادثة إسقاط الطائرة في تدمير طائرة مروحية روسية وقتل أحد أفراد طاقمها، أثناء قيام المروحية بالبحث عن طياري الطائرة التي أسقطتها الطائرات التركية. لم يُخْفِ بوتين صدمته في أول تعليق له على الحادث، بعد ساعات قليلة على إسقاط الطائرة، حيث قال: إن بلاده تلقت طعنة في الظهر في حربها على "الإرهاب"، ووصف تركيا بأنها متورطة في دعم تنظيم الدولة الإسلامية، وأن إسقاط الطائرة الروسية لن يمر بدون رد.
في اليومين التاليين، توالت التصريحات الروسية الغاضبة، التي انتقلت من التنديد بالتصرفات إلى التهجم على القيادات التركية، مثل قول الرئيس الروسي بوتين: إن العالم كله يعرف أن أردوغان يرعى مشروعًا لأسلمة تركيا. ولكن وزير الخارجية الروسي، الذي لم يُخفِ هو الآخر غضبه، وأعلن عن إلغاء زيارة مقررة مسبقًا لأنقرة، قال بوضوح في 25 نوفمبر/تشرين الثاني: إن روسيا لا تعتزم خوض حرب مع تركيا.
الجانب التركي، من جهته، وبالرغم من تظاهرات مجموعات قومية تركية في مدينتي إسطنبول وأنقرة، حاول احتواء الأزمة. بعد ساعات من إسقاط الطائرة، حاول الرئيس التركي أردوغان إجراء مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي، ولكن الأخير لم يًجب. في اليوم التالي، أجرى وزير الخارجية التركية مكالمة مع نظيره الروسي استمرت ساعة كاملة، ولكن لافروف رفض -كما يبدو- طلب جاووش أغلو ترتيب لقاء مباشر بينهما. وبالرغم من إعراب مسؤولين في مكتب الرئيس التركي عن رغبة الأخير لقاء بوتين في باريس، على هامش قمة المناخ الدولية، إلا أن إشارة لم تصدر عن موسكو بالموافقة على لقاء الرئيسين. والواضح بصورة عامة أن الموقف التركي من الأزمة، الذي عبَّرت عنه تصريحات الرئيس أردوغان ورئيس الحكومة داوود أغلو ووزير الخارجية جاووش أغلو، دار حول المسائل التالية:
-
أن استهداف الطائرة لم يكن استهدافًا لروسيا، بل إن الطيارين الأتراك لم يعرفوا مسبقًا أن الطائرة التي أسقطوها كانت طائرة روسية. ما جرى كان مجرد التزام تركي، أُوضِح مسبقًا لكافة الأطراف المعنية، بقواعد الاشتباك المتعلقة بحماية سيادة الدولة.
-
أن تركيا ترفض الطلب الروسي بالاعتذار عن إسقاط الطائرة، لأن الطرف الذي انتهك المجال الجوي التركي هو المطالَب بالاعتذار.
-
أن تركيا لا ترغب في تصعيد الأزمة، وأنها لم تزل تنظر إلى روسيا باعتبارها دولة جارة وصديقة، تربطها بتركيا روابط عميقة ومتراكمة.
-
أن تركيا، بالرغم من ذلك، لا تجد تفسيرًا مقنعًا لسياسة روسيا في سوريا، سيما استهداف الطائرات الروسية لمناطق الأقلية التركمانية، كما للمدنيين السوريين وقوى المعارضة المعتدلة.
وربما يمكن القول: إن مسعى تركيا لاحتواء الأزمة جاء انعكاسًا لموقف الدول الرئيسية في حلف الناتو. قامت أنقرة، بعد ساعات قليلة من حادثة الطائرة، بإطلاع سفراء الدول الغربية الرئيسية في العاصمة التركية على خلفية الحادث وتفاصيله. وطلبت تركيا في اليوم نفسه عقد جلسة طارئة لحلف الناتو، قدَّم فيه الجانب التركي الأدلة على انتهاك الطائرة للمجال الجوي التركي وعلى التحذيرات المتتالية التي صدرت للطائرة قبل إسقاطها. في نهاية الاجتماع الطاريء لمجلس الناتو، خرج سكرتير عام الحلف، جنس ستولنبرغ، ليعلن تأييده للموقف التركي واعتبار تركيا قامت بما يتوجب عليها من إجراء قبل إسقاطها للطائرة. في مساء اليوم، 24 نوفمبر/تشرين الثاني، لم يتردد الرئيس الأميركي أوباما، في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الفرنسي الزائر، عن إعلان تأييده هو الآخر للموقف التركي وإدانته للهجمات الجوية الروسية على مواقع المعارضة السورية.
بيد أن الملاحَظ في موقف حلفاء الناتو، سيما في الجانب الأوروبي، توكيدهم في الوقت نفسه على ضرورة ضبط النفس والابتعاد عن التصعيد. وبدا في التصريحات البريطانية والألمانية والفرنسية، على وجه الخصوص، الرغبة في تجنُّب الدخول في مواجهة جديدة مع روسيا، أو تأزيم العلاقات معها. كانت الهجمات المسلحة في باريس قبل حادثة الطائرة بعشرة أيام صنعت مناخًا مختلفًا في العواصم الأوروبية الرئيسية، ووضعت مسألة مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية على رأس أولويات الأوروبيين الخارجية. ويرى الأوروبيون أن بالإمكان، ربما، إقناع الروس بالتركيز في هجماتهم الجوية على تنظيم الدولة ومواقعه، والمساهمة بالتالي في الجهد الدولي لاقتلاع تنظيم الدولة من سوريا.
حدود العقوبات الروسية
ليس من الواضح لماذا تكررت انتهاكات الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي منذ بدء العملية الروسية في سوريا في نهاية سبتمبر/أيلول. أحد الدوافع، ربما، هو استعراض القوة؛ أو مجرد استهتار روسي بالدور التركي في سوريا. ولكن يجب أيضًا عدم استبعاد التداخل المعقَّد للحدود التركية-السورية في منطقة الساحل الغربية. مهما كان الأمر، فالواضح أن موسكو لم تتوقع على الإطلاق أن يأتي رد الفعل التركي يومًا كما جاء عليه في 24 نوفمبر/تشرين الثاني. وكان واضحًا من تصريحات كبار المسؤولين الروس أن موسكو سترد الصفعة بصورة أو أخرى، عاجلًا أو آجلًا. الاحتمال الأول الذي جرى تداوله كان تصاعد الأزمة إلى مستوى الاشتباك العسكري، وليس بالضرورة الحرب الشاملة، سيما أن القوات الروسية في سوريا سارعت في الأيام التالية إلى زيادة معدل الغارات الجوية على منطقة جبل التركمان.
بيد أن هذا الاحتمال مستبعد؛ فتركيا، مهما كان موقف حلفائها في الناتو من حادثة الطائرة، هي عضو فاعل وبالغ الأهمية في الحلف. وبالنظر إلى أن الأوروبيين يواجهون أزمة لاجئين متفاقمة، وأن هناك توجهًا أوروبيًّا متسارعًا للانخراط في عمل عسكري ضد تنظيم الدولة في سوريا، فإن حاجتهم لتركيا أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة. بمعنى، أن موسكو تدرك أن الاشتباك العسكري مع تركيا سيؤدي في النهاية إلى اشتباك مع حلف الناتو، وأن أحدًا ليس بإمكانه في حال الاشتباك مع الناتو توقع العواقب والتداعيات. ولا ينبغي المبالغة في قراءة نشر روسيا لنظام إس 400 المضاد للطائرات في شمال سوريا، أو رسوِّ حاملة الصواريخ المضادة للطائرات موسكوفا أمام ساحل اللاذقية؛ فالخطوتان قُرِّرتا قبل حادث إسقاط الطارة الروسية، على أية حال.
الاحتمال الثاني لما يمكن أن تتخذه روسيا من إجراءات يتعلق بالمجال الاقتصادي والتجاري؛ وهو مجال كبير ومتسع بالفعل. يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 35 مليار دولار، يميل بصورة هائلة لصالح روسيا. تستورد تركيا ما يقترب من نصف حاجاتها من الغاز من روسيا، ومن المفترض أن تبدأ روسيا قريبًا أعمال بناء محطة نووية لتوليد الطاقة على ساحل ولاية مرسين التركية. تستقبل تركيا سنويًّا زهاء ثلاثة ملايين سائح روسي. من جهة أخرى، تُعتبر روسيا سوقًا مواتية لشركات المقاولات والإنشاءات التركية. وقد وصل حجم الصادرات التركية لروسيا، التي هي في معظمها من المنتجات الزراعية، في النصف الأول من 2014 خمسة مليارات دولار. ولكن هذا الرقم انخفض إلى ثلاثة ونصف مليارات من الدولارات في النصف الأول من 2015، نظرًا لضعف الاقتصاد الروسي، وتراجع الليرة التركية أمام الدولار. عمومًا، جاء تحول روسيا إلى سوق معتبرة للصادرات الزراعية التركية بعد أن لجأت روسيا لتركيا لتعويض المقاطعة الأوروبية للسوق الروسية بفعل العقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية على روسيا بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية.
خلال الأيام الأولى لأزمة إسقاط الطائرة وجَّه وزير الخارجية الروسي نداء لمواطنيه بالامتناع عن السياحة في تركيا. ولكن عددًا من شركات السياحة الروسية أعلن عن استمرار الرحلات إلى المنتجعات التركية، وعدم الرغبة في مقاطعة تركيا. كما أصدر رئيس الحكومة الروسية توجيهات لوزارات حكومته المختلفة لإعداد جملة إجراءات عقابية ضد تركيا، وأعلن عن قرار روسي بالعودة إلى فرض نظام فيزا الدخول على المواطنين الأتراك. في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، وقَّع الرئيس بوتين على جملة إجراءات عقابية ضد تركيا، بما في ذلك التوقف عن جلب العمالة التركية، ووقف إصدار تذاكر سفر إلى تركيا، بداية من 2016، وحظر استيراد منتجات تركية أخرى. ستكون هناك بلا شك عقوبات إضافية إن استمرت الأزمة بدون احتواء، مثل أن تلجأ روسيا لزيادة الضرائب الجمركية على الواردات من تركيا، إضافة إلى تعطيل حركة وسائل النقل التركية. هذه عقوبات ستترك أثرًا سلبيًّا على الاقتصاد التركي بلا شك، ولكنها تظل محدودة. مثلًا، أكَّدت غاز بروم الروسية أن إمدادات الغاز لتركيا ستستمر؛ كما أن من الصعب تصور مقاطعة شاملة للمنتجات التركية الزراعية، التي تمثِّل حاجة روسيَّة ضرورية. ولكن، إن استمرت الأزمة في التصاعد فليس مستبعدًا أن تطول العقوبات الروسية مجال الطاقة؛ بالرغم من أن العقوبات الاقتصادية والتجارية تضر بروسيا كما تضر بتركيا.
بيد أن هذا ليس كل شيء. بإمكان روسيا في المستقبل ربما إسقاط إحدى الطائرات التركية، وتبرير ذلك بخطأ ما أو بتحرش الطائرات التركية بطائرات روسية. كما يُتوقَّع أن تعزِّز روسيا علاقاتها العسكرية بوحدات حماية المجتمع (PYD) الكردية في شمال شرق سوريا، التي تعتبرها تركيا جماعات معادية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني. أمَّا توجه روسيا لتصعيد حملتها الجوية ضد المعارضة السورية المسلحة، المرتبطة بتركيا والسعودية وقطر، فلا يحمل أي جديد. فبعد شهرين من العملية الجوية الروسية في سوريا، يبدو أن صبر الروس يوشك على النفاد بعد أن فشلت قوات النظام السوري وحلفاؤه من الإيرانيين والميليشيات الشيعية في إحداث تغيير ملموس في ميزان القوى أو تغيير خطوط المواجهة.
محاذير التصعيد
تصرَّف الأتراك في حادثة الطائرة ضمن نطاق القانون والقواعد المعلنة لحماية سيادة بلادهم، ولكن موسكو لم تَرَ الأمور من هذه الزاوية، واعتبرت إسقاط الطائرة تصرفًا عدوانيًّا مهينًا. أنقرة هي الأخرى سرعان ما أدركت حجم الضربة التي وجَّهتها للكرامة الروسية، والعواقب التجارية والسياسية التي يمكن أن تنجم عن التأزم غير المسبوق في العلاقات الروسية-التركية، على الأقل منذ نهاية الأربعينات. يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني، نشر مساعد رئيس الجمهورية التركية والناطق باسم الرئاسة، إبراهيم كالن، مقالة في النسخة الإنجليزية من صحيفة صباح اليومية، قال فيها: إن الطائرة الروسية هي ضحية أخرى للحرب الدائرة في سوريا، وإن العلاقات التركية-الروسية لها من العمق ما يكفي لتجاوز الأزمة بين البلدين. بهذه اللغة وهذه المقاربة، تحاول تركيا احتواء الأزمة.
بيد أن من الصعب تصور انفراج سريع للأزمة. الدليل الأول على بداية الاحتواء سيكون على الأرجح موافقة موسكو على لقاء عالي المستوى في الأيام المقبلة بين مسؤولي البلدين. وليس ثمة ما يشير بعدُ إلى أن مثل هذا اللقاء سيحدث قريبًا. روسيا وتركيا لا تسيران نحو حرب بين البلدين، بالطبع، ولكن روسيا لن تبتلع إهانة إسقاط الطائرة بدون فرض عقوبات على تركيا، تجارية واقتصادية، على الأقل لتوكيد انطباع القدرة على الردِّ لدى الرأي العام الروسي. ساحة المواجهة الرئيسة بين أنقرة وموسكو ستظل هي الساحة السورية. في سوريا، ستصبح تركيا أكثر التزامًا بدعم قوى المعارضة، ومساعدتها على مواجهة الدعم الروسي المتصاعد لنظام الأسد. وفي سوريا، ستحاول روسيا إيقاع أذى ملموس بحلفاء تركيا، وتعزيز نفوذ خصومها؛ بما في ذلك التصدي لأي جهد لإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري.
في النهاية، ما يجب رؤيته هو أن استمرار الأزمة سيضر بكلا طرفيها؛ فمهما بلغ الضرر الذي ستُوقِعه العقوبات الروسية التجارية والاقتصادية على تركيا، فإن الضرر الذي سيقع بروسيا لن يكون أقل بكثير. وفي الوقت الذي يبدو فيه التدخل الروسي المباشر في سوريا عاجزًا عن إحراز مكاسب ملموسة لنظام الأسد، لم يعد ثمة شك في أن الحل السياسي للأزمة السورية الطاحنة سيوفِّر مخرجًا لكافة الأطراف، بما في ذلك روسيا. المزيد من التعقيد للأزمة السورية، وتراجع حظوظ المسار السياسي، ليس في مصلحة روسيا ولا تركيا، تمامًا كما أنه ليس في مصلحة سوريا وشعبها.