أزمة حزب نداء تونس: تصدعات تُفاقِم أزمة الحكومة

تتزامن أزمة حزب نداء تونس مع تصاعد الاضطرابات الأمنية بالبلاد، وهو ما يهدد بتفاقم أزمات الحكومة والتأثير في بنيتها التي يمثل حزب النداء عمودها الفقري؛ حيث يخفي الصراع داخل الحزب سعيًا بين مكوناته للظفر بأكبر قدر من السلطة، يهدد ببعثرة جهود الخروج من مرحلة انتقالية معقدة.
20151281231410734_20.jpg
اجتماعات متواصلة لرأب الصدع بين قيادات "نداء تونس" (الجزيرة)

ملخص
بدأت الأزمة في حزب النداء بمجرد وصول مؤسِّسه لرئاسة الجمهورية واستقالته المفروضة بحكم الدستور من أية مسؤولية داخله، وهو ما أفسح المجال لتفجُّر التناقضات بين قيادات الصف الثاني في الحزب. ويمكن تلخيص الصراع في كونه أحد مظاهر حرب المواقع داخل الحزب والدولة. وقد مثَّل انخراط الشخصيات الرسمية الأولى في البلاد في هذا الصراع مؤشرًا على إمكانية تصدير أزمة الحزب لمؤسسات الدولة.

وفي حين يعتبر اليساريون أن نداء تونس هو ثمرة خطة تواصلية وسياسية صاغوا هُمْ أهم فصولها، وأن ذلك يستدعي أن يكونوا، رغم أقلية عددهم مقارنة بالتجمعيين (الذين ينتمون لحزب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، أي التجمع الدستوري الديمقراطي)، في مواقع القيادة؛ يعتقد التجمعيون أن اليسار قد أنجز مهمته، وأن الخطاب الحادَّ ضد الإسلاميين الذي روَّجوه قبل الانتخابات حان موعد القطع معه والتمسك بالتحالف مع النهضة كصيغة تحالف قادرة على منح الحكم الجديد ما يحتاج إليه من استقرار. وقد أصبحت الحكومة التي صمدت لعشرة أشهر تقريبًا، تنتظر نهاية هذه الأزمة، والاتجاه الذي سيأخذه حزب الأغلبية، للقيام بترميم الشروخات التي أصابتها.

بدأت أزمة حزب نداء تونس تأخذ أحد أهم منعرجاتها في سياق يضرب فيه العنف العاصمة التونسية ليحدث صدمة أجبرت الرأي العام والفاعلين السياسيين على إعادة ترتيب أولويَّاتهم وتأجيل مواصلة الصراعات التي بدأت تحتدم بين نقابات الأعراف والشغَّالين، أو بين القوى المتقابلة في الحزب الحاكم. وحصل هجوم شارع "محمد الخامس" الذي استهدف حافلة لنقل أعوان الأمن الرئاسي، وهم من قوات النخبة، عندما كان رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي يستعد لإلقاء خطاب للتونسيين حول أزمة الحزب الذي أسَّسه؛ ما اضطره لإلغائه. لكنه عاد وألقى كلمة مسجَّلة مساء الأحد الماضي طرح فيها رؤيته لأزمة الحزب وسبل الخروج منها بطريقة أكَّدت انحيازه لطرف دون آخر في الصراع الذي يشقُّ الحزب، لكن في نفس الوقت أكدت عجزه عن حلِّ الأزمة وتصديرها للجنة يُستبعد أن تكون لها سلطة أو قدرة على منع تفجر الحزب.

 جذور أزمة "النداء" واللاعبون الأساسيون

ما تشهده تونس حاليًا هو الفصل الثاني من الصراع بين شقين أساسيين في الحزب، ذلك الصراع الذي عُرف فصله الأول في الربيع الماضي عندما تبادلت قيادات الحزب (الذي لم تمضِ آنذاك على فوزه بالانتخابات التشريعية والرئاسية سوى أشهر قليلة) الانتقادات وأحيانًا الشتائم في وسائل الإعلام. وبدأت الأزمة في حزب النداء بمجرد وصول مؤسِّسه لرئاسة الجمهورية واستقالته المفروضة بحكم الدستور من أيَّة مسؤولية داخله، وهو ما أفسح المجال لتفجر التناقضات بين قيادات الصف الثاني في الحزب. ويمكن تلخيص الصراع في كونه أحد مظاهر حرب المواقع داخل الحزب والدولة، ويبقى ذلك مجرد تلخيص لمسألة أشد تعقيدًا.

إن من أهم أسباب الأزمة الحالية التي تعصف بحزب الأغلبية طريقة تشكُّل هذا الحزب منذ ثلاث سنوات في سياق الصراع ضد حكومة الترويكا التي أتت بها انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، حيث بدا "نداء تونس" فضاء لتحشيد معارضي الترويكا أكثر منه حزبًا متينَ الهيكلة وواضح الرؤية، دعمه رجال أعمال كبار وانضم إليه تقريبًا كل الفضاء الذي كان يشكِّله التجمع الدستوري الديمقراطي، حزب زين العابدين بن علي الذي وقع حلُّه بعد الثورة مباشرة، وانضمت لهذه الحزب روافد أخرى، لعل أهمها جزء من المحسوبين على اليسار الذي دخل المعركة ضد الترويكا عمومًا وضد الإسلاميين بالخصوص بكثير من الحماس، واستطاعت هذه التركيبة تحشيد جزء مهم من المعارضة وبخاصة "الجبهة الشعبية" التي تضم أحزاب اليسار وأقصى اليسار وبعض المكونات القومية في إطار "جبهة الإنقاذ". وكان من المنتظر بحسب هذه التركيبة أن تبدأ الأزمات بالظهور بمجرد وصول هذا الخليط السياسي إلى الحُكم، ليطالب كل طرف بأحقيته في استثمار الانتصار الانتخابي الذي تحقَّق وتحصين مواقعه داخل الحزب وفي مواقع القرار بالدولة.

في هذا السياق، كان طبيعيًّا أن يعتبر اليساريون أن نداء تونس هو ثمرة خطة تواصلية وسياسية صاغوا هم أهم فصولها، وأنَّ ذلك يستدعي أن يكونوا، رغم أقلية عددهم مقارنة بالتجمعيين، في مواقع القيادة. أمَّا التجمعيون (نسبة للتجمع) فقد اعتقدوا أن اليسار قد أنجز مهمته، وأن الخطاب الحادَّ ضد الإسلاميين الذي روَّجوه قبل الانتخابات حان موعد القطع معه على ضوء التحالف الجديد بين النداء والنهضة، أي صيغة التحالف الوحيدة القادرة على منح الحكم الجديد ما يحتاج إليه من استقرار. سيكون اليساريون إذن الخاسر الأكبر من تحالف حزبهم مع الإسلاميين في البرلمان والحكومة، وسيُحرَمون من تولي أية مناصب مهمة في السلطة التنفيذية.

يلخِّص المتابعون الأزمة الحالية على أنها صراع بين شِقِّ الأمين العام، محسن مرزوق، الذي نشط ضمن تشكيل الوطنيين الديمقراطيين اليساري لفترة هامة من مسيرته السياسية، وشِقِّ ابن الرئيس، حافظ قايد السبسي، في حين أن الصراع أكثر تعقيدًا من هذا التلخيص؛ فالتشكيلة "التجريبية" التي أعلنها الحبيب الصيد لحكومته الأولى والتي تم إلغاؤها لتقديم تشكيلة أخرى بمشاركة حركة النهضة أظهرت انقسامًا حادًّا داخل النداء حول مساهمة النهضة في الحكم؛ ما اضطر رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لليِّ ذراع الرافضين بالتلويح بإمكانية حجب الثقة في البرلمان والفشل في تقديم تشكيلة حكومية. كما أن لهذا الصراع بعض الأبعاد الإقليمية حيث إن المواجهة بين الشقين بدت في مرحلة معينة مرتبطة بوعود بإقصاء الإسلاميين من فضاء الحكم في مقابل التمويلات السخية قبل وبعد الانتخابات، وفي علاقة بما يحدث على الساحتين المصرية والليبية.

لا أحد بين أنصار مرزوق، ولا هو نفسه، من ينتمي هيكليا وتنظيميا اليوم إلى اليسار، لكن البارزين منهم كان لهم ماض يساري. وهذا الأمر يكاد يكون متعلقًا بطبيعة جزء من النخبة السياسية التونسية حيث إن اليسار أصبح نوعًا من الليبرالية الاقتصادية مع حساسية حادَّة ضد كل ما هو إسلامي؛ ما أعطى في المحصِّلة يسارًا ثقافيًّا. لذلك، فإن توصيف أنصار الأمين العام بأنهم يساريون ليس سوى تلخيص لتوجه ثقافي في مقابل الإسلاميين ومن لا يرى حرجًا من التحالف أو التعامل معهم.

تفجَّر خلاف الربيع الماضي داخل النداء عندما وقع توزيع المناصب بطريقة حرمت جزءًا كبيرًا من القيادات الندائية من مواقع في السلطة التنفيذية ما بدا وكأنه بداية إقصاء، وأجبر عددًا كبيرًا من أصحاب الطموحات على البقاء في المجلس النيابي. ولاحقًا أُجبر الأمين العام على مغادرة موقعه المهم قرب الرئيس كمستشار سياسي ما سيحرمه من أي تأثير على توجهات الرئاسة ومن التحرك بصفة رسمية خاصة عندما بدأ يتصرف كوريث له حتى قبل أن يهدأ غبار الانتخابات. بدأت معركة وراثة الرئيس بصفة مبكرة جدًّا من طرف محسن مرزوق؛ ما أثار حفيظة الرئيس نفسه والمقربين منه، عائلة وحزبًا.

نُقِل ذلك الخلاف إلى الحزب؛ حيث ستقع تجزئة المعركة من أجل الرئاسة إلى فصول أصبح من أهمها تلك المتعلقة بطبيعة المؤتمر الأول لنداء تونس؛ ففي حين يرى الأمين العام أن هذا المؤتمر يجب أن يكون انتخابيًّا؛ ما يتطلب سنة ونصف السنة من الاستعداد على أدنى تقدير، يدعو ابن الرئيس إلى تثبيت الهياكل الموجودة (التي يسيطر على معظمها بسبب توليه مهمة المسؤول عن الهياكل لفترة طويلة). في المحصلة، يسعى الأمين العام لإطالة أمد معركة المؤتمر حتى يستطيع في الأثناء السيطرة على الحزب، في حين يسعى ابن الرئيس إلى إعطاء شرعية أكبر للهياكل الموجودة التي ترتبط به.

تصدير أزمة "النداء" إلى مؤسسات الدولة

أعطى انخراط الشخصيات الرسمية الأولى في البلاد في هذا الصراع الأزمة بُعدًا أكثر حدَّة؛ فرغم الحياد الظاهري للرئيس، إلا أن انتقادات لا تُعوِزها الموضوعية تعتبره منخرطًا بقوة في هذه الأزمة، شخصًا وعائلة وإمكانيات. وكان أحد المؤشرات على ذلك أن مدير ديوان الرئيس قد انضم بعد طول تردد إلى ابن الرئيس في هذا الصراع مسخِّرًا إمكانيات الرئاسة لمساعدته في الحسم ضد الأمين العام محسن مرزوق (يُذكر أن الأمين العام كان مستشارًا سياسيًّا في القصر قبل أن يدفعه الرئيس لمغادرة موقعه والذهاب للأمانة العامة للحزب). وأدَّى ذلك إلى تأثُّر مصداقية الرئاسة سلبًا، وقد عقَّد الأمرَ الخطابُ الذي ألقاه رئيس الجمهورية مساء الأحد الماضي وأعلن فيه عن مسعى لفضِّ الأزمة، لكنه مسعى تبنَّى فيه بطريقة كاملة رؤية ابنه حافظ قايد السبسي.

وكذلك الشأن بالنسبة لرئيس مجلس نواب الشعب، محمد الناصر، وهو الرئيس الحالي لنداء تونس، الذي أصبح في صُلب الأزمة وتصاعدت الأصوات من داخل نواب الحزب ذاته بعزله من رئاسة النداء. وأدَّى ذلك إلى تضرُّر النشاط النيابي الذي توقَّف لأسبوعين تقريبًا، خاصة عندما وقَّع أكثر من ثلاثين نائبًا رسالة استقالتهم من كتلة النداء قبل أن يُجمِّدوها لاحقًا. أمَّا الحكومة فقد اصطفَّ كل وزرائها الندائيين إلى جانب ابن الرئيس، ما عدا الوزير المكلَّف بالعلاقات مع البرلمان، لزهر العكرمي، الذي قدَّم استقالته من الحكومة للتفرغ للمعركة ضد ابن الرئيس. وأصابت الأزمة الحكومة بنوع من الشلل أُضيف لصعوباتها القديمة؛ حيث تبدو اليوم عاجزة عن اتخاذ مبادرات لمواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتحدي أعمال العنف.

ورغم تأكيد رئيس الحكومة قبل شهر أنه لا يفكِّر في القيام بتعديل حكومي، إلا أن أزمة النداء وتعكر الوضع العام جعلاه يؤكد هذا الأسبوع إبَّان تقديمه بيان الحكومة حول الميزانية الجديدة في البرلمان على أن التعديل الوزاري قادم قريبًا، وبشكل عميق. وينتظر الحبيب الصيد نهاية أزمة النِّداء للحسم في اتجاه التعديل الحكومي، ويُنتظر لاحقًا أن يُجبر ممثلو الشِّق المهزوم الذين عُيِّنوا مسؤولين كبارًا في المحافظات على ترك أماكنهم لشخصيات جديدة موالية للشق المنتصر. وفي هذا السياق، تحدث رئيس الجمهورية عن أن الصراع داخل النداء أصبح يتجاوز الحزب ليمسَّ حُسن سير دواليب الدولة، ويحدُّ من نجاعة الحرب ضد الأخطار التي تتهدد البلاد. خاصة أن الحزب يشرف على كل مؤسسات الدولة، وهو ما يُعطي انطباعًا لدى رجال الإدارة والقيادات الأمنية الحساسة خاصةً بأن هذه الحكومة راحلة قريبًا، وأن حزب الأغلبية آيل للانقسام وربما التفكك؛ ما يمنعهم من إبداء أي حماس في عملهم. بل إن المعارضة رغم ضعفها داخل البرلمان قد طالبت لأول مرة بمساءلة رئيس الجمهورية على خلفية خطابه الأخير، الذي رأت فيه خرقًا من طرف الرئيس للفصل السادس والسبعين من الدستور الذي ينص على تفرغ الرئيس لنشاطه الرسمي والاستقالة من أية وظيفة داخل حزبه.

للمرة الثانية في أقل من ثلاثة أشهر، وبمناسبة الصراع داخل الحزب، يجد رئيس الجمهورية نفسه في مواجهة حملة تشكيك في كونه رئيسًا لكل التونسيين. وخسر الرئيس معركة "قانون المصالحة" الذي تقدم فيه بمشروع للمجلس النيابي (يدعو القانون للعفو عن رجال الأعمال الذين تورطوا طيلة حقبة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في ممارسات اقتصادية فاسدة، والعفو عن الموظفين الذين سهَّلوا لهم ذلك) رغم الأغلبية الساحقة التي يتمتع بها في المجلس، حيث أظهرته المعارضة كمدافع عن الفاسدين في مواجهة الفقراء؛ مما مسَّ مصداقيته السياسية، وهو ما دفع إلى تجميد هذا القانون وعدم تقديمه للنقاش في البرلمان. أمَّا المرة الثانية، فتخصيصه معظم جهده لحل أزمة حزبه، وعدم نجاحه في أن يكون رئيس الندائيين؛ حيث بدا رئيًسا لشِقِّ ابنه داخل هذا الحزب.

وضعية التحالف الحكومي والسيناريوهات الممكنة

أصبحت الحكومة، التي صمدت لعشرة أشهر تقريبًا، تنتظر نهاية هذه الأزمة، والاتجاه الذي سيأخذه حزب الأغلبية، للقيام بترميم الشروخات التي أصابتها (بالإضافة إلى وزير العلاقة بالبرلمان، فقد وقعت إقالة وزير العدل ولم يُعوَّض إلى الآن) والقيام بتحوير تركيبتها وربما هيكلتها لاحقًا. ويتوقع محلِّلون أن الأمر لن يتعلق بتحوير بسيط، وأن تركيبة التحالف الرباعي الحاكم حاليًا قد تشهد تغييرًا عميقًا. وليس هناك، فيما يبدو، منافس لرئيس الحكومة الحالي على موقعه؛ حيث يحوز رضى الحزبين الأكبرين، كما أن صعوبة الوضع لا تُغري بالمنافسة على هذا المنصب في هذه الظرفية. ويتوقع مراقبون أن يغادر حزب "آفاق" التحالف الحكومي، بعد الفضيحة التي أصابت أمينه العام، فوزي عبد الرحمن، ووزير الاستثمار الحالي، ياسين إبراهيم، بسبب العقد السري مع بنك لازار الفرنسي. أمَّا "الاتحاد الوطني الحر" الممثل بعدد من الوزراء في الحكومة فهو يعيش أعراض التفكك بسبب الصعوبات المالية الكبيرة لرئيسه رجل الأعمال المثير للجدل، سليم الرياحي، كما أن وزراءه في الحكومة لم ينجحوا في تحقيق الحد الأدنى من المهام التي كُلِّفوا بها.

ويتوقع محللون أن تكون مشاركة النهضة في الحكومة الجديدة أكبر، وهو أمر لن تقبل به النهضة إلا مرغمة؛ حيث تسعى باستمرار إلى تلافي التورط المباشر في إدارة شؤون الحكم وترغب على الإبقاء على التحالف في البرلمان فحسب. هذه مؤشرات على الصعوبات التي تعترض رئيس الحكومة في تقديم أية تشكيلة جديدة، خاصة أن المعارضة في البرلمان ستكون أشد من سابقتها بانضمام نواب حزب النداء المنشقين للهجمات عليها. لكن الثابت في خضم هذه الأزمة هو أن التحالف بين النهضة والنداء سيكون أقوى من السابق، وهو تحالف سيبقى متمتعًا بأغلبية مريحة داخل المجلس في كل الحالات، وسيدفعه قُدُمًا تخلُّص النداء مما يسميه الإسلاميون "الشِّقَّ الاستئصالي" الذي يتزعمه الأمين العام الحالي للحزب الأغلبي، محسن مرزوق. لكن حكومة قائمة على النهضة والنداء ستكون هشَّة سياسيًّا ولو تمتعت بما يكفيها من أصوات داخل البرلمان؛ حيث سيجد الجميع سببًا لمهاجمتها.

مع وجود مؤشرات حكم سيئة، لا يبدو أن مهمة الحكومة القادمة ستكون أسهل من سابقتها، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والأمني. وربما يقع أكبر جزء من العمل في الحكومة القادمة، بسبب أزمة النداء، على النهضة دون غيرها؛ فالحركة التي تحملت تذمُّر أنصارها من التحالف مع النظام القديم، تجد نفسها الآن في خضم تحالف مع حزب تنهكه الصراعات. وقد يزيد الوضع حدَّةً الانقسامُ داخل "حزب الرئيس"، وهو انقسام وإن كان سيبعد "الاستئصاليين" حسب النهضة، عن مواقع القيادة، إلا أنه سيُضعف من الحزب الرئيسي بخسارته النخبة المثقفة التي "بيَّضته" وقدَّمته للساحة كحزب جديد لا علاقة له بالنظام القديم، بل وانقلابها عليه ومهاجمته بلا هوادة.

لا شيء في الدستور يُجبر رئيس الجمهورية على حلِّ المجلس والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة؛ فالراحلون لن يؤثِّروا كثيرًا على التوازنات طالما بقيت النهضة على مساندتها للحكومة والرئيس. ولا يمنع الدستور استمرار المجلس على ما هو عليه من توازنات، بل إن المنطق السياسي يحفِّز عليه ويجعل الانتخابات التشريعية المبكرة مغامرة لا يقوى عليها الحزبان الأغلبيان. وسيتحمل الحزبان انشقاقًا محدودًا في كتلة النداء بالمجلس، لكنه لن يكون بإمكانهما تلافي الانتخابات المبكرة إذا لم تتوقف الانشقاقات، وهو سيناريو وارد أيضًا.

يبدو أن تمديد الصراع داخل النداء مصلحة مشتركة لشقيه إلى حدِّ الآن؛ فابن الرئيس يسعى (عن طريق منح المزيد من الوقت للمساعي التوفيقية) إلى ترضية عدد من نواب الشِّقِّ المقابل في المجلس لثنيهم عن الاستقالة من الكتلة الأغلبية حتى يحرم غريمه الأمين العام من الخروج قويًّا من هذه المعركة. ويريد هذا الأخير ربح الوقت لتبديد الشكوك في انخراط الرئيس مباشرة إلى جانب ابنه في الصراع واتباعه منحى التوريث في الحزب والدولة (وهي إحدى نقاط القوة في خطاب الأمين العام وأنصاره). لكن الأمين العام مجبر من ناحية أخرى على الإسراع في اتخاذ "القرار المؤلم" كما أسماه لوقف الانجراف في صفوفه؛ وهو ما يعني مغادرة الحزب وتأسيس حزب جديد بما لا يقل عن ثلاثين نائبًا في المجلس. ويُقدِّر شقُّ ابن الرئيس أن الأمين العام لن يأخذ معه في أفضل الأحوال أكثر من نصف هذا العدد، وهو توقُّع له ما يبرره لأن الجناح المناهض لمرزوق يراهن على تقديم ترضيات للنواب الذين هددوا بالاستقالة عن طريق وعود بالتعيينات في مناصب تنفيذية، وضغوط على المتصلبين منهم).

لكن لا شيء يضمن أن هذا الانشقاق سيكون الأخير في النداء؛ حيث يضم كل صف طامحين كثرًا يعتبرون هذه المعركة وانجلاءها القريب فرصة لبروزهم هم أيضًا، وترك المواقع الثانوية أخيرًا. ويتوقَّع محلِّلون أن انعقاد مؤتمر النداء بالصيغة التي اختارها ابن الرئيس سيُفسح المجال أمام الطموحات الجديدة، وأنه سيشكِّل نقطة انطلاق صراع آخر لا أحد يعلم إن كان سيسفر لاحقًا عن انشقاق جديد. وكذلك الشأن بالنسبة لمجموعة الأمين العام الذي يجد صعوبات جمَّة في السيطرة على أكبر أنصاره في المعركة الحالية. وفي حال تواصلت الانشقاقات، سيجد كل من زعيم حركة النهضة ورئيس الجمهورية نفسيهما أمام خطر فقدان الأغلبية النيابية، حينها لن يمكنهما تجنب انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، ولن يكونا متأكديْن من الفوز بها.

خاتمة

لخص رئيس الجمهورية في خطابه الأخير أزمة النداء بكونها أزمة قيادة، واستنكر الأبعاد التي اتخذتها بوصف حزب النداء يقود حاليًا البلاد؛ ما يحيلنا على أن الأزمة الحالية في تونس في أحد وجوهها أزمة قيادة أيضًا، في سياق أزمة يشتد طوقها على الاقتصاد والمجتمع، وفي خضم حرب تشنها المجموعات المسلحة التي تحسن اختيار أكثر الأهداف إيلامًا. وخلف أزمة القيادات تتبدى أزمة جيلين سياسيين، يمثِّل قايد السبسي بماضيه البراغماتي العريق أحدهما ومن ورائه التجمعيون، في مقابل جيل أفضل تكوينًا وأشد تمرسًا بالصراعات الأيديولوجية يرمز إليه محسن مرزوق. وفي هذا السياق أصدر حوالي خمسين مثقفًا يوم الثلاثاء في جريدة "المغرب" (المملوكة لرجل الأعمال المنصف السلامي المصطف حاليًا إلى جانب محسن مرزوق) بيانًا يُعربون فيه عن خيبة أملهم في النداء وتوجهات مؤسِّسه ويدعون إلى إطار حزبي جديد يعيد تبني سياسة القطع مع الإسلاميين، وهو ما اعتُبر اصطفافًا من أبرز وجوه اليسار الثقافي في المعركة إلى جانب محسن مرزوق، ويعد بفصل جديد من الأزمة داخل النداء.