يقدم هذا التقرير تصورًا حول مسارات العلاقات السورية الإيرانية، والأسباب التي تساعد على تفسير التمسك الإيراني بالنظام السوري. كما يقدم التقرير الأهداف التي تحكم السلوك الإيراني نحو سوريا، وطبيعة تأثير التطورات الإيرانية الداخلية على ذلك السلوك، كما يحاول التقرير تقييم مدى إمكانية تغير السلوك الإيراني لاسيما في ظل نشاط الدور التركي والتحالف الدولي الآخذ في التشكل ضد سوريا.
حول العلاقات وسِرِّ المحافظة عليها
يفسر التاريخ الطويل المتماسك للعلاقات السورية-الإيرانية جزءًا من الأحجية وراء فهم التمسك الإيراني الكبير بالنظام السياسي في سوريا. لقد جاء تطور العلاقة في ظل ظروف أزمة بالنسبة للبلدين، فقد شهد عقد الثمانينيات ظهور الجمهورية الإسلامية، وظهر معها قلق دولي من الدولة الوليدة وشعاراتها، وانقطعت علاقاتها مع واشنطن.
ثم تبع ذلك بدء الحرب العراقية-الإيرانية؛ فصار البحث عن حلفاء هدفا بحد ذاته بالنسبة إلى إيران، حلفاء سياسيين، وحلفاء من أجل المساعدة في الجهد العسكري. وكانت الجمهورية الإسلامية ترى في الاتحاد السوفيتي القائم آنذاك شيطانًا صغيرًا، في وقت وكانت سوريا إحدى الدول المحسوبة على المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي آنذاك. ولكن هذا لم يمنع إيران من إقامة علاقة معها لاسيما أن سوريا تمتاز بموقعها الجغرافي؛ فهي تطل على فلسطين التي كانت الثورة -ومن ثَمَّ الجمهورية الإسلامية- تضعها في أعلى خطابها السياسي الموجَّه للعالم.
كانت سوريا من جهتها ترى أن الدور الأميركي يتنامى في المنطقة لاسيما في لبنان، وربما أحست بخطر ذلك الوجود العسكري كذلك، وبالتالي فإن الخطاب الثوري المعادي للغرب والولايات المتحدة قد وجد نفسه موحِّدًا لخطاب البلدين.
يُضاف إلى ذلك أن إيران كانت تنظر بعين الأهمية إلى لبنان حتى في ظل نظام الشاه، ولكن الفرق بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية أن البعد المذهبي قد بدا واضحًا أكثر من ذي قبل، كما أن شكل تكوين العلاقة يحتاج إلى مساعدة من نوع خاص يتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى علاقات تؤسس لدور ومكانة لطهران في المنطقة، خاصة وأن سوريا كانت مفوضة من الدول النافذة بأن تلعب دورًا في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية؛ مما جعل منها هدفًا أكثر إغراء لإيران. ولا ننسى في هذا السياق العلاقة السيئة التي كانت موجودة بين حزب البعث بشقيه السوري والعراقي، والتي جعلت سوريا تقف دون حرج إلى جانب طهران في حرب السنوات الثماني بين بغداد وطهران.
دخلت العلاقة فصلاً مهمًّا بعد الاجتياح العراقي للكويت في العام 1990؛ ففي تلك الفترة ومن أجل إخراج العراق من الكويت وضع البلدان نفسيهما في الجبهة المعارضة لما فعله النظام السياسي في العراق، وهو الأمر الذي ما كان يعني حينها إلا التواجد في الجبهة التي قادتها الولايات المتحدة لإخراج العراق من الكويت؛ فأرسلت سوريا قواتها للمشاركة بقيادة الجنرال علي حبيب الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للدفاع السوري واستُبدِل في شهر أغسطس/آب 2011. وأصبح العنوان الأبرز لوصف العلاقة بين طهران ودمشق أن هناك توافقًا سياسيًّا في حركتهما، حتى جاء مؤتمر مدريد 1993.
اختارت دمشق المشاركة في المؤتمر الذي انتقدته إيران وانتقدت الدول المشاركة فيه بشدة. وقيل حينها: إن العلاقات بين البلدين شهدت نوعا من البرود، لكنها لم تصل إلى حد الأزمة؛ فقد نجحت دمشق حينها في إقناع إيران بأن مسار التسوية لن يرافقه تطبيع مع إسرائيل، والأهم أنه قد ينتج عن هذا المسار إرجاع لهضبة الجولان السورية. ولم تُخفِ قوى دولية كواشنطن وأخرى أوروبية وكذلك إقليمية قلقها من تلك العلاقة لكن إيران وسوريا كانتا تعملان على تنمية علاقاتهما سياسيًّا وكذلك اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وكانت سوريا القبلة الثالثة للزائرين الإيرانيين، وهي الأولى التي يمكن زيارتها بأقل إجراءات ممكنة.
استمرت العلاقة في طريقها الآمن الذي يحرسه النظامان، وقد لعب وقوف البلدين في محور الدول التي ساندت ما يسمى بـ "الحرب على الإرهاب" التي أدت إلى غزو العراق في العام 2003، واستطاع النظامان تطويق تأثير الانتقادات التي لم تتوقف للدور "الإيراني السلبي" في البلد العربي العراق. وفي الوقت الذي كانت سوريا تُتهم من قِبَل واشنطن بالسماح للمتطوعين بمقاتلة أميركا بالمرور عبر أراضيها، كانت إيران تدافع وترى أن الولايات المتحدة تصدِّر عجزها عن توفير الأمن في العراق بصفتها دول محتلة. لقد كان واضحًا أن دمشق كانت تحترم بشكل كبير المصالح الإيرانية في العراق كجزء من مواجهتها مع واشنطن، وهو الأمر نفسه الذي تعوِّل عليه إيران حين حافظت على نفس المسار من العلاقات بعد العام 2005؛ حيث أُجبِرت سوريا على الانسحاب من لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، حينها تمكن البلدان من المحافظة على شرايين التعاون الكبيرة بينهما، وتعزز لدى البلدين فكرة الاستهداف من قبل الولايات المتحدة مما دفع بهما نحو مزيد من التقارب.
لقد كان جليًّا أن العلاقات بين البلدين استعصت على التلاعب بها والتأثير في مسارها من قِبل أطراف إقليمية ودولية، وكان جليًّا أن الطرفين نجحا خلال مراحل الأزمات في تقديم تفسير يصف العلاقات بين البلدين بأنها تعطي لكل طرف منهما القدرة على التأثير في الطرف الآخر للتعامل مع الملفات المستعصية؛ ومن ذلك أن الأوربيين وهم في حمأة التفاوض مع إيران حول الملف النووي، طرحوا احتمال اللجوء لسوريا بغية التأثير على طهران لتبدي قدرًا من المرونة في موقفها المتعلق ببرنامجها النووي.
وعلى صعيد متصل كان واضحًا أن المحور الذي شكَّله البلدان "محور الممانعة او المقاومة" والذي ضم حركات المقاومة الإسلامية، مثل: حزب الله وحماس والفصائل الفلسطينية المعارضة للتسوية السياسية مع إسرائيل، قد لعب دورًا في تعزيز القناعة لدى الطرفين بأنهما لاعبان يقويان كلما كانا متقاربين، وأن هذا التقارب يزيد في تعظيم رصيد كل منهما. وعزز ذلك تعاون اقتصادي وصل بلغة الأرقام إلى اكثر من 5 مليارات دولار من التبادل التجاري، وإلى تعاون عسكري وأمني وتبادل للمعلومات لاسيما فيما يتعلق بالجماعات الكردية المعارضة. وتقدمت العلاقات خلال العقود الأربعة الماضية بطريقة دفعت كل من الدولتين لوضع تلك العلاقة في أعلى سلم أولوياتها، فهي تؤمِّن ما هو أكثر من عوائد اقتصادية واجتماعية وسياسية، إنها المكانة التي ترى الدولتان أن استمرار العلاقات بينهما هو ضمانتها.
أسباب مساندة إيران لدمشق
بدأت المتابعة الإيرانية للحراك الشعبي في سوريا بمراقبة صامتة انتهت إلى موقف معلن بأن ما يحدث هو أمر داخلي سوري ولا يجوز التدخل فيه من قبل أي طرف.
موقف عبرت عنه المؤسسة الرسمية الإيرانية التي تبدو متفقة حوله؛ فالموضوع السوري شأنه شأن الموضوع العراقي، ومن قبله الموضوع الأفغاني وكذلك الملف النووي الإيراني، كلها قضايا يلعب مجلس الأمن القومي الإيراني دورًا في رعايتها كملفات، هذا المجلس الذي تتمثل فيه كل أقطاب السلطة من المرشد الأعلى إلى رئيس الجمهورية، وكذلك مجلس الشورى ووزارتي الخارجية والدفاع والمؤسسة العسكرية والأمنية، من هنا فإن هناك قدرًا كبيرًا من الانسجام داخل مؤسسات الدولة الرسمية حول الموقف من سوريا، وانعكس ذلك واضحًا في التصريحات الرسمية سواء من قبل المرشد أو من قبل رئيس الجمهورية، وكذلك مجلس الشورى ووزارة الخارجية التي اعتبر الناطق باسمها رامين مهمانبرست يوم السادس عشر من أغسطس/آب 2011 أن الأزمة السورية شأن داخلي لا يجوز التدخل فيه؛ لأن ذلك له عواقبه السلبية على سوريا والمنطقة كما قال.
ولا ينفي هذا أن هناك موقفًا ربما بدا مختلفًا لكنه ظهر لمرة واحدة ثم ما لبث أن اختفى، إنه موقف رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رافسنجاني الذي اعتبر الشعب السوري في حركته "ثوريًّا مقاومًا". على صعيد آخر فقد بدا تعاطف الحركة الخضراء بزعامة مير حسين موسوي المرشح الخاسر في الانتخابات الرئاسية التاسعة مع الحراك الشعبي السوري، معتبرًا أن الحراك الذي حصل في إيران بعد انتخابات الرئاسة في العام 2009 ليس ببعيد عما يحدث في سوريا، لأن كليهما ينشدان الديمقراطية والحرية والعدالة. والأهم ربما هو تنبيه الحركة إلى تبعات الموقف الإيراني الرسمي على مصالح إيران على المدى البعيد في إشارة إلى العلاقات العربية-الإيرانية وما سيلحقها من تأثيرات في دول ما بعد الثورات العربية.
لقد ألقى الانقسام بين المؤسسة الرسمية والقوى المعارضة بزعامة الحركة الخضراء ظلاله على مواقف صادرة من مؤسسة المرجعة الدينية التي هي أيضا منقسمة بين المؤسسة الرسمية وبين القوى الإصلاحية؛ ففي حين يعتبر آية الله مكارم الشيرازي المقرَّب من المؤسسة الرسمية أن دعم النظام السياسي في سوريا "واجب شرعي"، يرى بالمقابل آية الله دستغيب عضو مجلس خبراء القيادة وأحد المقربين من القوى الإصلاحية أن على النظام السياسي الإيراني "المحافظة على الأموال الإيرانية لا إرسالها إلى النظام السياسي في دمشق لقمع الشعب". لكن هذا الانقسام لا ينفي أن صوت المؤسسة الرسمية هو المسموع وهو المؤثر.
من هنا يُطرَح التساؤل حول هذا الحرص الإيراني الرسمي على التمسك بالنظام السياسي في سوريا؛ فسعيه تجاوز المساندة الإعلامية والسياسية إلى محاولة الدفع بروسيا للعب دور في مجلس الأمن لتعطيل أية قرارات دولية باتجاه سوريا. ويصبح السؤال أكثر إلحاحًا مع التقييم بأن هذا الحرص يبدو متعارضًا مع مبادئ الثورة التي قامت في إيران في العام 1979 والتي تستند إلى الدفاع عن المستضعفين ومقاومة قوى الاستبداد والاستكبار.
الإجابة ببساطة تتعلق بالتعريف الذي تتبناه إيران لما يحدث في سوريا، فما يحدث "مؤامرة"، وهي مؤامرة تستهدف سوريا وكذلك إيران، والنظام السوري ليس مستبدًّا بل يرغب في الاصلاح، والذين يتحركون في سوريا ليسوا مستضعفين، وعليه لا ينطبق عليهم شرط المساندة؛ وعليه فمساندة النظام الرسمي السوري وفق النظرة الإيرانية تلك هي عين الصواب، فهي بناء على هذا التعريف إنما تدافع عن محور أعطى لإيران وكذلك لسوريا وزنًا إقليميًّا ودوليًّا متزايدًا، هذا المحور يتعلق بمقاومة إسرائيل، وهو أمر لطالما نال شعبية لدى الرأي العام العربي؛ لذلك فالتخلي عن سوريا -وفق النظرة الإيرانية- هو تخلٍّ عن مبادئ الثورة الإيرانية.
القراءة الإيرانية تلك تعتمد على تقييم سابق بأن سوريا في قائمة الأهداف الدولية التي تسعى قوى الاستكبار إلى تغيير النظام السياسي فيها، وهي قراءة تبدو بعيدة عن حراك شعبي بدأ مطالبًا بالإصلاح ولم يلْقَ آذانًا صاغية كما يرى أهل الحراك، وفي الحقيقة فإن لحظة الحراك الشعبي في سوريا هي اللحظة التي لم يرغبها الكثيرون لتغيير النظام السياسي بما فيهم واشنطن نفسها، وربما يعتقد النظام في سوريا ومعه إيران أن أهمية سوريا ستمنع التغيير في دمشق.
ولعل هذا الانطباع تعزز لدمشق وبعدها طهران بسب تأخر الرد الدولي على ما يحدث في سوريا. لقد تأخر عزم ما يُسمى بالمجتمع الدولي على التعامل مع سوريا لأكثر من خمسة أشهر لأن الإرادة الدولية المزعومة كانت تفضِّل بقاء النظام الحاكم، وهو الأمر الذي لا زالت طهران تعول عليه رغم البداية المتسارعة لتشكيل تحالف دولي ضد النظام السياسي في دمشق، تحالف يبدو أنه لا يرغب في أقل من إنهاء حقبة حكم الأسد في سوريا. إن الفهم الإيراني المشار إليه يجعل إيران لا تتردد في مساندة النظام السياسي في دمشق؛ لأن المحافظة على نظام الأسد في سوريا اليوم يعد مصلحة سياسية عليا ذات أولوية للجمهورية الإسلامية في إيران.
إن القراءة الإيرانية للمشهد العربي الجديد فيما بعد تعاظم الحراك الشعبي، تتجاهل أمرا مهمًّا في ذلك المشهد، ألا وهو المتعلق بموقف الرأي العام العربي الجديد من إيران. لقد بنت الجمهورية الإسلامية سياستها بالتزام خطاب المقاومة ومعارضة السياسات الأميركية والعداء لإسرائيل؛ ولهذا كانت دائمًا قريبة من الشعوب وتحظى بدعمها، ولم تكن معنية بمواقف الحكومات، وكان التصور الإيجابي لدى الشعوب عن إيران يزيد من الشرعية السياسية الداخلية للنظام الإيراني، كما أنه نوع من الضمان السياسي على مستوى الإقليم والعالم.
وبدا واضحا أن الحراك الشعبي العربي نبه الجميع إلى أن زمام المبادرة قد أخذته الشعوب، وأن هذا الزمام يركز على إصلاح البيت العربي من الداخل، فلو كان البيت آمنًا ومستقرًّا لما عبث العابثون وجعلوا الشعوب لقمة سائغة على موائد اللئام. هذا الرأي العام قال أخيرًا: إن موقفه من الماضي يتغير بما في ذلك موقفه من إيران؛ فمستويات الإعجاب العالية التي كانت إيران تحظى بها تراجعت بشكل لافت؛ ففي بلد مثل مصر كانت طهران تحظى فيه بإعجاب كبير تراجع التصور الإيجابي إلى 37% بعد أن كان 89% في العام 2006، كما تراجع في المملكة العربية السعودية إلى 6% بعد أن كان التصور الإيجابي 85% (*). فهذا الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة غلوب في الولايات المتحدة يُظهر بوضوح تراجع شعبية إيران في عصر الثورات العربية، ولعل لبنان هو الحالة الوحيدة التي حافظت فيها إيران على شعبيتها، وتبدو إيران بموقفها من الحراك الشعبي السوري كمن خسر الرأي العام العربي وهي التي خسرت الحكومات من قبل.
صحيح أن الاستطلاع لم يكن يشمل سوريا لكن هتافات السوريين التي تناقلتها وسائل الاعلام في بعض المدن السورية ربما تعبر عن حالة عدم رضا شعبية واضحة من إيران، وهي مرشحة للتزايد لاسيما أمام تجاهل طهران ما يحدث للفلسطينيين في مخيم الرمل قرب اللاذقية، وهذا الأخير يطرح تساؤلاً حول معنى دعم القضية الفلسطينية وفي نفس الوقت عدم انتقاد ما حصل ويحصل في مخيمات اللجوء الفلسطيني في سوريا!!
لقد لعب الموقف الإيراني في العراق، وكذلك ظهور لاعب جديد مثل تركيا التي بدت سياستها أكثر توازنًا بالنسبة للرأي العام العربي من سياسة طهران، لعب هذان العاملان دورًا مهمًّا في التغيير المتنامي في الرأي العام العربي، لكن السؤال المشروع هو: إلى أي مدى تأثرت العلاقة السورية-الإيرانية بدور اللاعب الناشط تركيا؟
طهران-دمشق واللاعب التركي
لا يبدو البلدان: تركيا وطهران متفقين على تعريف واحد للحراك الشعبي السوري، فما تراه تركيا حراكًا مشروعًا حري بالدولة السورية الاهتمام به والاستجابة له، تراه طهران مؤامرة على استقرار سوريا؛ وعليه فالدولة السورية تدافع عن نفسها في وجه المتآمرين. وهذا التباين الكبير في المواقف سيُلقي لا شك بظلاله على مستقبل العلاقة بين البلدين، وفي حال تشكل نوع من التحالف الدولي ضد النظام في دمشق فعندئذٍ سيتعزز التصور الإيراني بوجود مؤامرة، وخاصة إن لعبت أنقرة والرياض دورًا ما فيه، فستصبح القضية عندئذٍ مثار ريبة إيرانية، وستتزايد إشارات التضامن الإيراني مع النظام السوري.
بالنسبة لتركيا فهي ترى أن سوريا حديقتها الأمامية على العالم العربي، تماما كما كانت إيران ترى في العراق أنه الحديقة الأمامية لها في العالم العربي، وهو الأمر الذي بنت عليه إيران دورها في تشكيل عراق ما بعد صدام. من هنا ركزت السياسة التركية على ضرورة أن تقبل إيران بدور قيادي لتركيا في سوريا؛ لأن أنقرة لم تحسم أمرها بعدُ حول تغيير النظام السياسي في سوريا، كما أن حقائق الجغرافيا السياسية تُحسَب لصالحها.
الأمر الآخر هو أن تركيا وغيرها من دول الإقليم ربما ترى أن السياسة الإيرانية وتطبيقاتها في العراق ولبنان تعزز من الطائفية، في حين يبدو النموذج التركي أكثر انفتاحًا على الجميع ولديه رصيد من النجاحات الديمقراطية الداخلية وكذلك في السياسة الخارجية التي بدت واضحة في الانفتاح على الفرقاء اللبنانيين وكذلك الفرقاء الفلسطينيين. في حين تبدو إيران في موقف ضعيف في ظل انحيازها إلى تيار معين في لبنان، وكذلك بعد الظلال السلبية التي ألقتها الانتخابات الرئاسية الإيرانية في العام 2009 على صورة إيران في المنطقة والعالم.
لا شك أن العلاقة الإيرانية-التركية بالغة الأهمية بالنسبة لكلا البلدين، لكنها لا تماثل نفس الأهمية بالنسبة لعلاقة تركيا مع سوريا؛ فتركيا تبدو في سلوكها السياسي كدولة "بالغة" تجاوزت في سلوكها الداخلي أمراض الاستبداد ونقص الشرعية؛ فهي تتصرف -فيما يبدو- بقدر كبير من المسؤولية المستندة إلى حقائق من الاستقرار والقبول الإقليمي والدولي لدورها، وهذا كله يعطيها تفوقًا من جهة كونها قادرة إلى حدٍّ كبير على إدارة أزمة علاقاتها مع إيران في مواجهة أي موقف متشدد قادم من سوريا. وتعرف دمشق وطهران أن القبول الذي تحظى به تركيا كان مفيدًا في تجسير علاقات إيران وسوريا مع المجتمع الدولي ولو في بعض الملفات، وتكفي هنا الإشارة إلى نجاح تركيا في إقناع واشنطن بوقف الحديث عن تغيير النظام في دمشق، وكذلك إبرام صفقة تبادل اليورانيوم المخصب مع إيران والبرازيل.
ويبدو أن الموقف التركي من سوريا قد بدأ يؤثر على علاقتها مع طهران ودمشق؛ وليس تراجعُ التنسيق الأمني بين سوريا وإيران من جهة وتركيا من جهة أخرى -والذي كان منتظمًا- إلا دليلاً على ذلك التأثير.
خاتمة
لا شك أن إيران تراقب بدقة تطورات الأوضاع المتعلقة بسوريا، وهي بالتأكيد غير راغبة في إبداء أي نوع من التراجع في موقفها الداعم لدمشق، لاسيما في ظل مطالبات دولية متزايدة تدعو إلى تنحي الرئيس السوري بشار الأسد؛ لأن هذا سيعزز من القناعة الدولية بأن ما يجري في المدن السورية غير مقبول، فأي انتقاد إيراني سيكون له تبعاته على النظام السوري.
وما يقلق إيران في تطورات المشهد السوري أن أي تنسيق إقليمي أو دولي حول مستقبل سوريا قد يستثني إيران، وهذا الاستثناء قائم على أساس أن طهران ليس لها علاقة مع أية معارضة سورية كما هو الحال في العراق، كما أن موقفها خلال الأشهر الخمسة الماضية لن يشجع أيًّا من جماعات المعارضة السورية على بناء أي جسور للتواصل؛ من هنا فإن حدوث أي تنسيق سيكون أمرًا جللاً بالنسبة إلى طهران لا يقل في خطورته عن سقوط النظام السياسي في دمشق؛ ومن هنا فقد تشهد المرحلة المقبلة نوعًا من الحوار التركي-الإيراني حول ماهية الخيارات المطروحة لسوريا ما بعد الأسد؛ حيث إن طهران لا تستطيع أن تتجاوز أنقرة في حال ما تطورت المواقف إلى الحديث عن مستقبل سوريا. وفي سياق غير بعيد قد تعمد إيران في الموضوع السوري إلى تكرار محاولتها لإفشال أي نوع من التحالف الدولي ضدها في موضوع الملف النووي؛ إذ هي تدفع بروسيا للعب دور في مجلس الأمن، كما أنها ستسعى إلى محاولة التشكيك في أدوار اللاعبين الإقليميين مع التركيز على الأطماع الأجنبية لاسيما الأميركية، الأمر الذي قد يُرجئ بعض التوافقات حول طريقة التعامل مع النظام السياسي في سوريا.
وعلى كل سيكون للموقف الإيراني من الحراك الشعبي السوري تأثيراته على قضية فلسطين والاستقرار في لبنان، وغير بعيد ربما إثارة مزيد من الزوابع السياسية حول الانقسامات الطائفية في المنطقة، وستطول هذه التأثيرات الأمن الإنساني والإقليمي لعقود قادمة.
وحاليًا، فإن الأزمة السورية التي بدأت داخلية في طريقها للتدويل الذي تأخر لأكثر من خمسة شهور، ولا تملك إيران أن توقفه لاسيما في ظل التراجع الذي تشهده سياسة إيران الخارجية وتحديدًا منذ العام 2005، من هنا فإنه من المؤكد أن يتطور الموقف الإيراني إما في اتجاه الدعم للنظام السياسي في سوريا، أو باتجاه انخراط تدريجي في الأزمة إذا ما أُخِذت إلى مجلس الأمن وتزايدت المطالبات برفع الغطاء السياسي عن النظام في سوريا. إن إيران التي يراها الرأي العام العربي اليوم تتصرف كدولة تسوقها مصالحها لا مبادئ الثورة، ستبحث يقينا عن مصلحة النظام فيها وضمان استمراره، وهي بالتأكيد لا ترغب في خسارة الرأي العام العربي وكذلك علاقتها مع سوريا وتركيا في الوقت نفسه.
____________________
أكاديمي متخصص في تاريخ إيران المعاصر والشرق الأوسط، جامعة قطر
هامش
(*) انظر الاستطلاع الذي أجراه المعهد العربي الاميركي في يونيو/حزيران الماضي وحمل عنوان: موقف العرب من إيران، 2011.