آفاق الوضع الأمني والسياسي في شمال مالي

منطقة الساحل مقبلة على تطورات خطيرة ستكون لها انعكاسات كبيرة وتأثيرات مخيفة على كافة دول المنطقة، ذلك أن المد السلفي الجهادي المتنامي في إفريقيا السمراء وانتعاش نزعات التجزئة والانفصال الفئوي لا يعرف الحدود ولن يقتصر حتمًا على مالي وحدها.
20128298244968734_20.jpg
منطقة الساحل مقبلة على تطورات خطيرة، ذلك أن المد السلفي الجهادي المتنامي في إفريقيا السمراء وانتعاش نزعات التجزئة والانفصال الفئوي لا يعرف الحدود ولن يقتصر حتمًا على مالي وحدها (الجزيرة)

منذ اندلاع الحرب الداخلية ذات الأطراف المتداخلة والأهداف المتشابكة في شمال مالي، ظل العالم يتساءل عن المآلات المحتملة لتلك الحرب "الخلفية" الدائرة في إحدى أكثر بؤر العالم فقرًا وبؤسًا وفي ركن قصي من القارة الإفريقية حيث يتعايش الإرهاب مع الفقر والظلم مع الاضطهاد والمعاناة. ذلك أن كلاًّ من الأطراف الثلاثة الرئيسية المباشرة فيها يسعى إلى تحقيق أقصى ما يمكن الوصول إليه إستراتيجيًّا لفرض أمر واقع يدفع ببقية الأطراف إلى الركون إلى حلقة مفاوضات قد تكون طويلة ومضنية يكسب من خلالها الطرف المهيمن (وهو بلا شك الحركات الجهادية السلفية المتحالفة مع أباطرة التهريب وتجار الأسلحة) مزيدًا من الوقت لترسيخ الأمر الواقع بتعزيز مركزه و فرض أجندته.

الحرب المباغتة

بدأت الحرب الدائرة حاليًا في شمال مالي أو في ما يُعرف منذ عقود بإقليم أزواد في أواسط شهر يناير/كانون الثاني 2012. ويُجمع المراقبون على أنها انعكاس مباشر لانهيار النظام الليبي الذي كان يعتبر الحاضنة الأساسية لمختلف الحركات الانفصالية في المنطقة، خاصة الطارقية منها، والتي كانت تنشط في مالي أساسًا وفي النيجر أحيانًا ولو بشكل أقل انتظامًا. كما أنها جاءت لتشكِّل حلقة متقدمة في مسلسل انهيار الدولة في مالي والذي بدأ تدريجيًّا منذ بداية العشرية الحالية بعد عودة الجنرال المتقاعد من الجيش، آمادو توماني توري، إلى الحكم إثر انتخابات الثاني عشر من مايو /أيار سنة 2002، حيث تميز حكمه بالمرونة إلى حد الهوان.

رغم الاحتقان الشديد الذي يخيم منذ أكثر من عقد على التخوم الصحراوية لمالي على طول الخطوط الحدودية التي تربط البلد بكلٍّ من موريتانيا والنيجر والجزائر بفعل سيطرة مجموعات منظمة ولكنها غير مصنفة كشبكات تهريب المخدرات والاتجار بالمحظورات، والناشطة تحت وصاية فصائل المجموعات المحسوبة على الحركات الجهادية المعادية للأنظمة القائمة، لم يكن أكثر المراقبين فطنة يتوقع حربًا من قبيل ما يحدث منذ منتصف يناير/كانون الثاني 2012 في الشمال المالي، خاصة أن موازين القوى كانت مختلة وغاية في الضبابية. ومع ذلك، ظل احتمال نشوب حرب واسعة بمبادرة من تلك الجماعات مستبعدًا، خاصة أن الدولة المالية ظلت تتجاهل الخطر الجاثم على تخومها، معتبرة أنه غير ذي بال ما دام بعيدًا عن المركز في باماكو وعن كبريات المدن؛ مما جعلها تنأى بنفسها عن أية مواجهة مفتوحة مع تلك القوى، تاركة لها حرية التنقل والتصرف في مجالها الواسع والمفتوح على أكثر من منفذ.

ومع أنه بات من شبه المسلَّم به إقليميًّا ودوليًّا أن تحالف الجماعات المسلحة والموسومة بكونها إرهابية ومن ممتهني التهريب تمكّن من بسط سيطرته على مساحة تتجاوز 60% من إجمالي الرقعة الترابية لمالي (أي ثلثا أراضي البلد)، وأنه من  المستحيل القضاء على هذا التحالف وتفكيكه بمجهود دولة واحدة على انفراد؛ لذلك ظلت القوى الإقليمية ودول الجوار تنظر (دون حراك ومع غياب أية إرادة مشتركة لتنسيق جاد يمكِّن من القيام بمبادرة عسكرية تحسم الموقف) بكثير من القلق إلى تحول الصحراء إلى قاعدة خلفية للجماعات المسلحة المتشددة وملاذ آمن لشبكات التهريب العابرة للقارات. هذا ما جعل حكومة آمادو توماني توري تتهرب من مسؤولياتها وتستخدم ورقة انفلات السلطة في شمال بلادها، بما يشكِّله من تهديد للجوار، ورقة ضغط لحمل الجميع على التعاون العسكري العاجل من أجل تحرير "الربع السائب" من مالي. لكن الدول المعنية ظلت تماطل وتختلق الذرائع من أجل التنصل من "الواجب" متجاهلة بذلك الخطر الجاثم. إلا أن تطورات الوضع في ليبيا قلبت، وبوتيرة متسارعة، كل الموازين، وجعلت ما لم يكن في الحسبان على المدى المنظور واقعًا يهدد كافة المنطقة المغاربية-الساحلية، ويطرح إشكالية عصية على المجتمع الدولي برمته؛ فالجماعات الجهادية التي كانت تتخفى في الفيافي والصحاري، طريدة الدول والحكومات وأجهزة المخابرات، تعيش من الفدى المحصلة من ريع اختطاف الرهائن ومن "إتاوات" حماية مسالك التهريب، أصبحت تتحكم في فضاء جغرافي واسع يعادل مساحة دولة كفرنسا.

"الهدية" الليبية والتأطير البربري

ظل نظام معمر القذافي، ولسنوات طويلة، الموجِّه الأساسي لمجريات الأمور في العديد من بلدان الصحراء والساحل، خاصة في النيجر ومالي؛ حيث كان يمسك بملف حركات الانفصال الطارقية المعقد، ويوجهه حسب هواه ومزاجه تبعًا لما يرى أنه صمام أمان يضمن الحفاظ على محورية النفوذ الليبي في المنطقة. ويكمن السر في التأثيرات الليبية على هذا الملف في كون الجماهيرية هي البلد الذي استوعب آلاف الشباب من "الملثمين" بعد موجات الجفاف الماحقة التي ضربت المنطقة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ومكّن ذلك التواجد المكثف لشبان بلا مؤهلات ولا تكوين تربوي يُذكَر الحكومة الليبية من الحصول على مجندين يمكن استخدامهم كمرتزقة في حروبها التوسعية، كما حدث في تشاد ضد نظام حسين حبري في بداية ثمانينيات القرون الماضي، أو لإيفادهم كألوية "مجاهدة" لتحرير فلسطين ولبنان من الغزو الإسرائيلي في نفس الحقبة. كما استُخدموا في حروب استنزاف ضد بعض الأنظمة التي لا تروق توجهاتها لحكام طرابلس المزاجيين حينها. وكثيرًا ما استُخدمت هذه الورقة، خاصة في إفريقيا.

وعندما انحسر الدور الليبي في تلك الصراعات، بدأت المجموعات الطارقية تفكر جديًّا في بعث "روح الثورة" في مطالبها المحلية في دول الأصل؛ مما ولد نزعة متجددة في التوجهات الانفصالية التي أُجهضت مرارًا؛ فكانت حركة التمرد الأولى، بعد تلك المجهَضة في المهد سنة 1960، تلك التي اندلعت في العام 1990 تحت إمرة إياد آغ غالي مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير أزواد والذي تحول بعد ذلك من ثوري يساري إلي شيخ سلفي يقود حركة أنصار الدين، أحد أذرع القاعدة في المغرب الإسلامي الأكثر تطرفًا والأوسع انتشارًا في الأوساط الشعبية الطارقية حاليًا.

لكن الحركة الانفصالية في التسعينيات سرعان ما انقسمت على نفسها لأسباب عقدية أو قبلية محضة، وإن نجحت في فرض نفسها كشريك سياسي فاعل في اتفاق تمنراست لسنة 1991 مع الحكومة المالية تحت رعاية جزائرية. وأفضى نفس الاتفاق إلى توقيع الميثاق الوطني لسنة 1992 مع الحكومة المالية والذي تقبل بموجبه منح صلاحيات محلية موسعة لأقاليم الشمال ووضع خطة تنموية خاصة بها، تشمل زيادة وتوسيع الاستثمار الحكومي في التنمية المحلية بخلق البني التحتية وتأمين مواطن الشغل للمقاتلين الطوارق ودمجهم في المنظومة الإدارية والعسكرية والأمنية للدولة المالية. إلا أن ذلك لم يضع حدًّا للحركات المسلحة المطالبة بالانفصال، حيث عاد التمرد للواجهة سنة 94-95 ثم في مايو/أيار 2006 قبل أن تتدخل الجزائر مجددًا لاحتضان صلح سُمِّي باتفاق الجزائر وُقِّع في 4 يوليو/تموز 2006.

تعهدت ليبيا بإيواء الرافضين للاتفاق الأخير (2006)، وقامت بدمجهم في نسيجها العسكري من خلال إغراق بعض الوحدات الأمنية الليبية بعناصر طارقية. ومن بين هؤلاء، العقيد محمد آغ ناجم الذي أصبح، فيما بعد، أحد قيادات كتائب القذافي الشهيرة. وقد لعب آغ ناجم لاحقًا -إبان الثورة على نظام القذافي- دورًا مهمًّا في تهريب السلاح الليبي نحو الجبهات الخلفية التي كان يتواجد فيها عناصر حليفه إبراهيم آغ باهنغا الذي كان يحضِّر لتوسيع نطاق تمرده المسلح الجديد الذي أطلقه سنة 2006 قبل أن يستأنفه سنة 2009 بالتواطئ مع قوى إقليمية تنظر بعين الريبة والحنق إلى استكانة باماكو في مواجهة القاعدة في المغرب الإسلامي. إلا أن آغ باهنغا لقي مصرعه إثر حادث سير في شهر أغسطس/آب سنة 2011 قبل أن تكتمل رحلة نقل السلاح الليبي إلى معاقل المتمردين في الشمال المالي، وبات لزامًا على أنصاره التأقلم السريع مع معطى غياب "المنظِّر".

بعد شهرين من وفاة آغ باهنغا، قررت حركتان من الطوارق، هما الحركة الوطنية لأزواد وهي مشكَّلة أساسًا من مثقفين يقيمون في أوروبا وموريتانيا وبوركينا فاسو والفصيل العسكري لحركة آغ باهنغا، المعروف  بـ "تحالف الـ23 مايو لطوارق مالي والنيجر"، الاندماج في الحركة الوطنية لتحرير أزواد. ووُقِّع محضر الاندماج في 16 أكتوبر /تشرين الأول 2011 دون أن يسترعي ذلك انتباه أحد. ولعب المؤتمر الأمازيغي العالمي (الذي يتخذ من باريس مركزًا له) دورًا مهمًّا في الاتفاق، بل وساهم، بشكل فعّال، من خلال آلة إعلامية ضخمة، في فرض وجود الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وتقديمها للعالم كمنظمة تحرير ليبرالية تتبني الفكر الديمقراطي ذا المرجعية العلمانية.

ويتواتر على نطاق واسع أن عناصر الحركة الذين استفادوا من التحاق وحدات كاملة من الجيش النظامي الليبي المدحور، مدججة بالعتاد والسلاح، هي من أطلق شرارة الحرب في 17 يناير/كانون الثاني 2012 من مدينة مناكا حتى ضواحي آغلهوك، وإن كانت قد حصلت، في عملياتها الخاطفة، على سند معتبر من القاعدة وحلفائها في الميدان. و توالت "فتوحات" الحركة حتى سيطرت على كبريات مدن الشمال بمباركة ومساندة حذرة من الحركات الجهادية، وأصبحت بذلك تحكم قبضتها على شريط ممتد على آلاف الكيلومترات من مناكا على حدود النيجر حتى ليرى على مرمي حجر من الحدود الموريتانية.

في نشوة انتصاراتها الخاطفة أمام الجيش المالي المنهار، سارعت الحركة إلى إعلان استقلال إقليم أزواد من جانب واحد في السادس من  إبريل/نيسان 2012، متخذة من غاو عاصمة للدولة الوليدة. كما قامت بتسمية  مجلس انتقالي يضم 28 عضوًا عُهد إليه بالتسيير المؤقت للأمور تحت رئاسة بلال آغ الشريف المنتسب لعائلة أرستقراطية من قبيلة الإيفوقاس والمقرَّب من بوركينا فاسو وبعضوية العقيد آغ ناجم، الضابط السابق في كتائب القذافي، كوزير للدفاع، من بين رموز عدة. لكن الحركة وجدت نفسها في عزلة دولية كبيرة حيث لم تعترف بها أية دولة في العالم، نظرًا للعديد من الاعتبارات والتي من بينها أن الطوارق، رأس حربة الحركة الانفصالية، لا يشكِّلون أكثر من 10% من سكان الإقليم الذي يتقاسمونه مع مجموعات سكانية أخرى كالسونغاي والفلان والعرب؛ إضافة إلى أن الطرح القومي المتزمت الذي يدافع به بعض قادة المنظمة عن مشروع دولتهم أثار الكثير من المخاوف والتحفظات لدى المجموعات الأخرى، بما فيها العرب، التي ترى في جمهورية أزواد مشروع دولة طارقية الثقافة والتوجه وبربرية "الهوية". كما أن الاتهامات المتواترة من قبل منظمات إنسانية محايدة ضد مقاتلي الحركة بارتكاب فظاعات وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في الشمال المالي (بما فيها مذبحة آغلهوك ضد أكثر من مائة جندي مالي، وغيرها من جرائم القتل والتصفية الجسدية البشعة والاغتصاب) ضد المنحدرين من القوميات الأخرى لم تكن لتخدم صورة المشروع السياسي الأزوادي. 

وبعد أقل من ثلاثة أشهر على إعلان الاستقلال، اندحرت القوة "الكاسحة" للحركة الوطنية لتحرير أزواد أمام فلول الجهاديين من أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد، حلفاء القاعدة في المغرب الإسلامي التي أظهرت الأحداث لاحقًا أنها السيد الفعلي في المنطقة. ولم يشفع للحركة الاستقلالية محاولاتها المتكررة للتقارب مع الكتيبة الطارقية للقاعدة، أنصار الدين، لحيازة الشرعية السياسية ميدانيًّا ولا كسب ما يمكن اعتباره مهادنة ضمنية مع الأصوليين الرافضين لفكرة الانفصال من حيث المبدأ والساعين لتحقيق هدفهم المعلن وهو إنشاء دولة الخلافة الإسلامية في كافة ربوع غرب إفريقيا و"تطبيق شرع الله فيها"، ولسان حالهم يردد من أعلى المنابر الإعلامية: "دولة الشريعة لا دويلة الانفصال"!!

"الجهاديون" يكسبون الرهان مؤقتًا

غطت الضجة الإعلامية الكثيفة لحلفاء الحركة الوطنية لتحرير أزواد على كثير من تفاصيل المشهد ميدانيًّا؛ حيث كانت الخلية الناشطة في باريس والمؤازَرة من قِبل الحركة الأمازيغية العالمية و"ملحقات" من الإدارة الفرنسية وناشطين في بعض دول المنطقة كموريتانيا وبوركينا فاسو، تسوق كل الانتصارات المحقَّقة ميدانيًّا كحصيلة للحركة، غاضة الطرف عن الحقيقة الجوهرية المرّة وهي أن مقاتلي القاعدة ومشتقاتها هم الذين يقومون بالعمل الأهم في ساحات المعارك. وقد سلكت القاعدة إستراتيجية ذكية في ذلك، وهي: "دع الخصم الصغير يتلذذ بأوهام انتصاراته المزعومة للوقيعة بمن هو أكبر منه". وفعلاً كان لمخططيها ما أرادوا في الجولة المستمرة حتى الآن من السجال، فأخلت غاو وكافة الشمال من أتباع الحركة الانفصالية التي لجأت إلى مرتفعات زكاكة شمالي كيدال حيث يعسكر مقاتلوها انتظارًا لإعادة تجميع الصفوف. وتقدِّر بعض التقارير الصحفية عدد المقاتلين المنضوين تحت لواء الحركة بقرابة 600 متطوع.

ولما أنقشع غبار المعركة للسيطرة على الشمال وظهرت الموازين على حقيقتها، بدت منطقة أزواد كإقليم مستباح يدرك المرء، للوهلة الأولي على الأقل، أن الغلبة فيه للجماعات الجهادية المؤطَّرة تحت إمرة مختار بلمختار أحد زعماء القاعدة في المنطقة وهو المنسق الرئيس لأنشطة التنظيم ومسيِّره الميداني. وتعتمد هذه الحركات على قرابة ألفي مقاتل يتوزعون كالنحو التالي: القاعدة: 600 مقاتل، أنصار الدين: 700 مقاتل، حركة التوحيد والجهاد ومتطوعو بوكو حرام: 300 مقاتل. إضافة إلى متطوعين توافدوا مؤخرًا على الإقليم من آسيا، خاصة من الباكستان والهند وأفغانستان ومن بعض الدول العربية. ويُقدَّر عدد هؤلاء بقرابة 300 متطوع. وقد شرعت فصائل من هذه الحركات في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بإقامة الحدود في حالات زنا وسُكْر وسرقة، رغم إخفاقها الجلي في توفير الخدمات اليومية الأساسية وتأمين الناس وتسهيل أساليب الحياة لهم؛ مما جعل أعداد النازحين من الماليين نحو دول الجوار تزداد يوميًّا لتتجاوز أكثر من نصف مليون شخص موزعين أساسًا بين الجزائر والنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو.

ويبدو من خلال تطورات الوضع وتقلباته أن وراء الحرب الخاطفة التي دارت في الشمال المالي تفاهمات مبدئية مسبقة بين السلفيين الجهاديين بتفريعاتهم الثلاثة (أنصار الدين، التوحيد والجهاد، القاعدة) وتنظيم الحركة الوطنية لتحرير أزواد على أن تضع الأطراف خلافاتها جانبًا حتى يتم التخلص من القبضة العسكرية المالية ثم التفرغ بعد ذلك لإيجاد أرضية للتفاهم والعمل المشترك. لكن تلك التفاهمات انهارت فجأة عندما أرادت الحركة العلمانية، بإيعاز من سندها القوي في باريس وبعض دول المنطقة، احتواء القاعدة ومحاولة حصر دورها في الميدان تمهيدًا لطردها من الإقليم، طبقًا للإستراتيجية التي تم اعتمادها في باريس ونواكشوط، على الأقل، كشرط لدعم الحركة الأزوادية منذ انطلاقتها. ولكن ما حصل هو أن القاعدة وأخواتها عززت من مركزها وضاعفت من خطورة التهديد الذي ظلت تمثله على المنطقة والعالم بعد أن خلت لها الساحة وبدأت العمل كدولة تسيطر على ربوع تمتد على أكثر من 830 ألف كيلو متر مربع.

"المركز" في كف عفريت

أدى تهاوي "الدفاعات الأمامية" للجيش المالي والانهيار الكامل لوحداته أمام تحالف الانفصاليين الطوارق والحركات الجهادية إلى سقوط كبريات مدن ومن ثَمَّ قرى الشمال المالي تباعًا؛ مما ولَّد موجة استياء واسعة في كافة الأوساط السياسية والشعبية والأمنية في البلد. وبدأت أصابع الاتهام توجَّه للرئيس آمادو توماني توري "بالتولي يوم الزحف" وبإضعاف الجيش وغض الطرف عن المتمردين الطوارق وحتى بالتواطؤ مع القاعدة والتستر على رشى كان يقدمها التنظيم الموسوم بالإرهابي لكبار الضباط والموظفين لبسط نفوذه وإحكام سيطرته على النسيج الاقتصادي للمنطقة.

في 21 مارس/آذار 2012 قامت وحدة عسكرية من القبعات الخضر المتمركزة في ثكنة كاتي بضواحي باماكو بمهاجمة القصر الرئاسي الواقع على مرتفعات كولوبا في قلب العاصمة المالية. ولم ينج الرئيس تورى بجلده إلا بدعم من السفارة الأميركية التي أرسلت له سيارة مدرعة وآوته بعدما نجح شبان من حرسه الخاص في إخراجه خلسة من القصر. وتبني المنقلبون على الرئيس (الذي كان يستعد لتنظيم انتخابات رئاسية في إبريل/نيسان 2012 ثم ينقل بعدها السلطة لرئيس جديد منتخب) خطابًا شعبويًّا يرتكز على الشروع الفوري في إعادة تنظيم الجيش المنهار وتسليحه، ووضع كافة الإمكانيات تحت تصرفه من أجل استعادة الشمال وطرد الجماعات المسلحة منه.

أمام ارتباك القادة الجدد في تحديد معالم وآليات تطبيق برنامجهم، بدا بديهيًّا، منذ الأيام الأولى بعد الإطاحة بالرئيس توماني تورى، أن ما حدث في باماكو لم يكن، في حقيقته، سوى استغلال لتعطش بعض صغار الضباط للسلطة من قبل بعض القوي السياسية لقلب الموازين الانتخابية التي كانت تميل لصالح أنصار الرئيس المنتهية ولايته والحيلولة بذلك دون تنظيم الاستحقاق المنتظر. عمّق الانقلاب هوة الخلافات الداخلية وصرف الأنظار عن تقدم المتمردين والجهاديين على كافة جبهات القتال في الشمال بعد إرباك ما تبقى من الوحدات العسكرية التي ظلت تحاول الدفاع عمّا يمكن حمايته وتقاتل من دون قيادة مركزية. كما ترك الانقلاب المدنيين الذين يعيشون في ولايات الشمال الثلاث (كيدال، غاو، تمبكتو) وحدهم في مواجهة سطوة ما يسمى الإرهاب ونقمة الانفصاليين في ظل أزمات متلاحقة جرّاء تناقص للمواد الضرورية للحياة كالماء والدواء والكهرباء وغيرها. ولم يزد الفرض القسري لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على السكان الأمر إلا سوءًا وتعقدًا.

وحيال هذا التطور المعقد، أجمعت كافة الأطراف الدولية المؤثرة والوازنة كالأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والاتحاد الأوروبي وكافة دول الجوار على إدانة الانقلاب. وشكَّلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا -التي جمدت عضوية مالي- لجنة للاتصال برئاسة الرئيس البوركيني، بليز كومباوري، عُهِد إليها القيام بمجهود الوساطة للتوصل إلى حل توافقي ينهي الأزمة الدستورية والسياسية في الجنوب ويفضي إلى استرجاع الوحدة الترابية للبلد. ونددت المنظمة الإقليمية بمساعي الانفصال وهددت باللجوء للقوة بغية فرض عودة الأجزاء المحتلة لسيطرة السلطة المركزية في باماكو. إلا أن الاستقطاب الحاد في الجنوب، بين المؤيدين للانقلاب ومناوئيه، أربك الحسابات الدبلوماسية للوسيط البوركيني الذي نجح، بعد جولات مضنية من المباحثات، في التوصل إلى صيغة دستورية لحل الأزمة بتطبيق حيثيات الدستور، وتحجيم دور الانقلابيين، وتشكيل حكومة انتقالية تتولى تسيير الأمور تمهيدًا لإعادة ترتيب الأوراق الداخلية والعمل على خلق الظروف المناسبة لاستعادة الشمال.

وبمقتضى الخطة، عُيِّن السيد جاكوندا تراوري، رئيس الجمعية الوطنية والمقرب من الرئيس المخلوع، رئيسًا انتقاليا للدولة؛ في حين سمى الفيزيائي-الفلكي موديبو جارا، صهر الرئيس السابق، الجنرال موسي تراوري (الذي أطاح به آمادو توماني توري في انقلاب عسكري سنة 1991 بعد 23 سنة من الحكم) والمقرَّب من الانقلابيين، رئيسًا للوزراء لفترة انتقالية. وأدى تلكؤ معسكر العسكر إلى تعثر المساعي وشل العمل الحكومي؛ بل إن الرئيس الانتقالي تعرض لاعتداء جسدي بشع في مقر عمله برئاسة الجمهورية، في 21 مايو /أيار 2012، على أيدي متظاهرين محسوبين على العسكر وعلى القوى السياسية الرافضة لخطة قيادة تراوري للمرحلة الانتقالية، مما استدعي نقله إلى باريس لتلقي العلاج. وبعد ما يربو على شهرين من "المنفى الاستشفائي"، عاد الرئيس تراوري في 27 يوليو /تموز 2012 إلى باماكو حاملاً معه خطة سياسية جديدة للتعجيل بمسلسل الخروج من الأزمة ومن دوامة التجاذب الذي منح لمحتلي الشمال الوقت الكافي لترتيب أوراقهم تحسبًا لأي عمل عسكري قد يوجه ضدهم.

وتقوم الخطة التي عرضها الرئيس الانتقالي على الشعب عبر خطاب علني يوم 29 يوليو /تموز 2012 على تشكيل مجلس أعلى للدولة يضم الرئيس ونائبين يتولى أحدهما الشؤون السياسية، خاصة منها الترتيب لتنظيم انتخابات عامة في أسرع ما يمكن؛ في حين يعهد للثاني بتنسيق العمل الأمني وإصلاح المؤسسة العسكرية مع صلاحيات خاصة لوضع خطة لاسترجاع الشمال. ويتم كذلك تعيين حكومة وحدة وطنية تضم مختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية لضمان حسن سير العمل الحكومي في هذه المرحلة ومنح المجتمع الدولي شريكًا مقبولاً يمكن الاعتماد عليه بجدارة. كما عرض الرئيس تشكيل مجلس وطني انتقالي تتم استشارته في القضايا الملحة، يضم ممثلي كافة الأطياف والتوجهات السياسية والفكرية والاجتماعية في البلد.

وفي مسعى لمنح فرصة للحلول التفاوضية لتجاوز معضل الانفصال في الشمال، اقترحت خطة الرئيس إنشاء لجنة وطنية للمفاوضات تكلف بالتنسيق مع الوساطة الإقليمية بمفاوضة الجماعات المسلحة بغية إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية للأزمة قد تكفي كافة الفرقاء شر اللجوء للقوة لحسم الموقف في أي اتجاه.

وأخيرًا جدد الرئيس ثقته في قوى الأمن المالية التي فرطت في سلامته سابقًا بإعلانه تأكيد توليها تأمين سلامة المؤسسات والشخصيات السياسية في باماكو؛ مما يُستَشف منه رفضه الضمني لمقترح المنظمة الإقليمية بنشر قوات خاصة لتأمين المؤسسات الانتقالية وضمان سلامة القيمين عليها من الرسميين.

وحتى كتابة هذا المقال، لا تزال المساعي والمفاوضات جارية لتطبيق الخطوات الأولى للخطة، وهي إنشاء وتشكيل الهيئات المقترحة والتي ستتمتع بالشرعية المطلوبة لتحريك الملف بصورة جدية على كافة الصعد، خاصة منها العسكرية.

الجوار وتناقض المصالح

وقفت دول الجوار المالي مواقف تتأرجح بين القلق والحذر حيال الحرب الدائرة شمالاً والأزمة السياسية  المستفحلة جنوبًا، وظلت كل دولة تتمسك بأجندة مصالحها الخاصة معمقة بذلك الخلافات الدفينة التي حالت دائمًا دون إمكانية الانخراط في تنسيق جدي لمواجهة مخاطر ما بات يعرف بالإرهاب في المنطقة. فرغم آلية "دول الميدان" التي تجمع مالي نفسها بكل من موريتانيا والجزائر والنيجر وما تقوم عليه من إرادة معلنة لمواجهة التحدي الأمني، لا تزال مستويات التفاعل مع تطورات الوضع الميداني محدودة. ذلك أن الجزائر التي تعتبر القوة العسكرية الإقليمية الأهم ترفض، وبشكل شبه مقدس، أي عمل عسكري خارج حدودها. كما تعترض على كل صيغة للتعاون مع أطراف أخرى من خارج دول الميدان قد يكون من انعكاساتها المباشرة نشر قوات أجنبية على حدودها. ويعتقد بعض المراقبين أن الجزائر التي صدَّرت الظاهرة إلي الجوار من أرحام حركتها الإسلامية الراديكالية في التسعينيات لا تريد أية محاصرة عسكرية للمقاتلين الجهاديين الذين سيُرغمون، تحت الضغط العسكري، على هجر مواقعهم في الصحاري والأحراش المالية النائية والعودة إلى الداخل في العمق الجزائري والتصعيد من وتيرة ضغطهم المتواصل على الأمن الجزائري.

وقد حاولت الجزائر، مبكرًا، ربط اتصالات مباشرة ومتكررة مع جماعتي أنصار الدين والتوحيد والجهاد في مسعى إلى مهادنتها من أجل الحصول على تحرير دبلوماسييها الثلاثة المختطفين من قنصليتها في غاو يوم 5 إبريل /نيسان 2012. ولم تفلح الضغوط الفرنسية المتواصلة والتي كان آخرها في 5 يوليو/تموز 2012 بمناسبة زيارة وزير الخارجية الفرنسي الجديد، لوران فابيس، في حمل الجزائر على مراجعة موقفها من العمل العسكري المحتمل لتحرير الشمال المالي و"تطهيره" من العناصر الجهادية. ولا تزال الجزائر تصر على تغليب الحلول السياسية والدبلوماسية لتجاوز الأزمة السياسية في باماكو ومشكلة الشمال المالي مع إمكانية النظر في السبل الأخرى الكفيلة بتحجيم القاعدة في المنطقة عندما تكون الظروف مواتية. وتحسبًا لأي طارئ، عمدت الجزائر إلي إرسال ما يزيد على عشرة آلاف جندي لإغلاق المنافذ الحدودية الفاصلة بينها وبين كل من النيجر ومالي وموريتانيا مع مهمة خاصة بتطويق المسالك الصحراوية المهجورة. 

من جهتها، ظلت موريتانيا، إلى وقت قريب، الدولة الوحيدة في المنطقة التي دفعت بقواتها المسلحة لمقارعة القاعدة في أعماق الأراضي المالية ردًّا على هجمات سابقة ضدها في لمغيطي (2005) والغلاوية (2007) وتورين (2008)، وغيرها من العمليات النوعية كاغتيال السياح الفرنسيين في ألاك (2007)، واغتيال مواطن أميركي في نواكشوط (2009)، ومحاولات تفجير فاشلة في نواكشوط والنعمة، إضافة إلي عمليات اختطاف لرهائن غربيين من التراب الموريتاني. وكان الهدف المباشر المعلن للعمليات العسكرية الموريتانية هو إبعاد نقاط تجمع عناصر القاعدة من الخطوط الحدودية مع موريتانيا.

كما ظلت الحكومة الحالية تأخذ على النظام المخلوع في باماكو عدم جديته في محاربة الإرهاب وتركه الشمال المالي تحت سيطرة "الجماعات المارقة". وأدى هذا الموقف إلى تبني الحكومة الموريتانية إستراتيجية مساندة الحركات الانفصالية في الشمال تأطيرًا وتمويلاً، في محاولة لخلق بديل عن الحكومة المركزية في باماكو يمكن الاعتماد عليه لاحقًا لاحتواء القاعدة وطردها من الإقليم. وليس إذًا من الصدفة أن تكون نواكشوط هي المركز الأول لتواجد قادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد والعاصمة السياسية المؤقتة لدولة أزواد، حيث يستفيد قادة الانفصال فيها من عامل القرب من الميدان. كما يحظون بمساندة معتبرة وعلنية من العديد من الحركات والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني المحلي وبعض الشخصيات الوازنة في توجهات النظام الحاكم.

وقد قلب الانهيار المذل لمقاتلي الحركة الوطنية لتحرير أزواد أمام عناصر القاعدة كل الحسابات الموريتانية حتى إن قادة البلد الذين كانوا يُعتبرون، حتى وقت قريب، من أشد المتحمسين لعمل عسكري كاسح ضد القاعدة وحلفائها، أصبحوا يناشدون الأطراف تغليب الحلول السياسية والدبلوماسية للخروج من المأزق وينأون بأنفسهم عن احتمال المشاركة في أي عمل عسكري في الشمال المالي ما بقي "الجهاديون" بعيدًا عن الحدود مع موريتانيا!!

الواقع أن القلق الموريتاني نابع أساسًا من عدة عوامل، من أهمها الحضور النسبي الكبير لعدد الموريتانيين المنخرطين في صفوف المنظمات الجهادية، وعلى الأخص في كتيبة الملثمين بقيادة بلعور أو في كتيبة عبد الحميد أبو زيد. كما بدؤوا في تولي مهام ومسؤوليات قيادية مؤثرة في تنظيم التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا على غرار مفتيه، حمادة ولد محمد خيرو. وما تخشاه موريتانيا كذلك هو أن يتحول التأثير المتنامي لرعاياها في التنظيمات الجهادية الناشطة في مالي إلى نقطة استقطاب للشباب في العمق الداخلي للنسيج العقدي والسياسي في البلد لما قد يكون له من انعكاس على العديد من الأمور وليس أقلها شأنًا القفز على الدور التاريخي للإسلام الصوفي المنتشر وتجاوزه إلى قراءات "دخيلة" تغذي بؤر التوتر والتجاذب داخل المؤسسة الدينية المحلية.

ومع احتمال تحول البلد إلى ملاذ للجماعات الجهادية في حال مهاجمتها من قبل بعض القوى الإقليمية، بادرت الحكومة إلى إغلاق الحدود مع مالي منذ اندلاع المعارك فيها، مكتفية بفتح نقاط محدودة لاستقبال اللاجئين النازحين من الشمال المالي الذين بلغ عددهم قرابة المليون لاجئ. كل ذلك في ظل تواتر الأنباء حول وضع القوى العسكرية في حالة تأهب قصوى مع وجود عناصر من الجيشين الفرنسي والأميركي للدعم الفني والتأطير.

أما النيجر فحساباتها أكثر دقة وتأثيرًا على المشهد؛ حيث تعتبر منطقة آزواغ الآهلة ببعض السكان من الأصول الطارقية عرضة لعدوى الانفصال، تمامًا كما حدث في التسعينيات عندما أطلق حركيون من الطوارق، أسوة بأشقائهم في مالي، حركات تمرد ضد الحكومة المركزية في نيامي. ورغم الاختلافات الطفيفة التي لا تكاد تكون ملموسة في الواقع بين حال الطوارق في مالي والنيجر، فإن الحكومة في نيامي تبدو أكثر استعدادًا وتنظيمًا من نظيرتها في باماكو لاحتواء أي حراك داخلي مرتقب. ولذلك لم تتردد  نيامي لحظة في الانخراط في صف الدول المنادية بالتعجيل بإجراءات اللجوء للقوة العسكرية لدحر الانفصاليين الطوارق والقضاء على القاعدة وفروعها. ولتمرير ذلك التوجه، ما فتئ النيجر يعبئ على كافة الجبهات، سواء في إطار المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا أو في إطار تنسيق دول الميدان، إضافة إلى المساعي المنفردة في الإطار الثنائي سواء مع فرنسا أو مع الولايات المتحدة أو مع الاتحاد الأوروبي.

وفي كل الأحوال، لم تخف الحكومة النيجرية استعدادها للمشاركة بوحدات من قواتها المسلحة في أي مجهود عسكري، دولي أو إقليمي، لطرد القاعدة من الشمال المالي وإجهاض مشروع الانفصال الذي يُعتبر انتهاكًا لمبدأ الإبقاء واحترام الحدود الموروثة عن الاستعمار كما أقرته منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963.

المجهود الدولي وشبح الحرب

يبدو المجتمع الدولي في حيرة من أمره حيال ما يجري في مالي نظرًا لتداخل بعدي الأزمة السياسية في باماكو ومشكل الانفصال شمالاً مع معطى سيطرة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على الإقليم الشمالي بالكامل. فبينما تسعي المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لإعادة ترتيب الأوراق الداخلية جنوبًا لتجاوز الأزمة السياسية وخلق أكبر إجماع ممكن يمكن التأسيس عليه للمطالبة بتدخل عسكري في الشمال، تبدو بقية الأطراف الدولية، بما فيها بعض دول الجوار، متشائمة إلى حدٍّ بعيد من نتائج أي تدخل عسكري محتمل. فوحدها فرنسا تضع كل ثقلها في الميزان من أجل الدفع نحو الحل العسكري السريع من خلال التعهد بتقديم كل الوسائل العسكرية والمالية المطلوبة لجيوش المنطقة التي تخطط من جانبها لإرسال حوالي 3300 جندي للقيام بالمهمة، شرط أن تكون مالي قد استرجعت فعلاً شيئًا من عافيتها السياسية واستقرار مؤسساتها، وشرعت جديًّا في إعادة ترتيب وضع مؤسستها العسكرية المتداعية.

كما أن ذلك التدخل يبقي مرهونًا بمظلة دولية عبر قرار من مجلس الأمن، سعت المنظومة الإقليمية المعنية إلى استصداره على مرتين دون جدوى، ذلك أن الخطة العسكرية المقدمة وآجال التدخل ومصادر التمويل والأهداف المنشودة ما زالت غامضة في أذهان العديد من الفاعلين الدوليين المؤثرين، كالولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة ذاتها.

ويلاحظ المراقبون عدم تحمس الولايات المتحدة، هذه المرة، للاندفاع في العمل العسكري المباشر في مسألة قد يُصنَّف أحد شقيها بأنه من باب مكافحة ما بات يعرف بالإرهاب، مفضلة التريث وانتظار ما ستؤول إليه المساعي الإقليمية بشأن التحضير للتدخل العسكري. وربما يكون لموقف دولة كالجزائر وزنه في التقديرات الأميركية للوضع. وفي كل الأحوال، تستطيع الولايات المتحدة، إن أرادت ذلك، أن تشارك بفعالية في المجهود الحربي ضد القاعدة في المغرب العربي من خلال ترسانتها الضخمة وتواجدها الخفي ولكنه مكثف في  العديد من دول المنطقة عبر نشر الجنود وعمل الطائرات الشبح من دون طيار، إضافة إلي مهام الإسناد والتأطير لصالح الجيوش المشاركة في العمليات. غير أنه وحتى تحرير هذا المقال، تبقى الولايات المتحدة على موقف الساعي إلى تجنب الحل العسكري وتشجع على العمل في المجال السياسي والإنساني لاحتواء الأزمة. 

أما دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، فيبدو أن جناح الدول المنادية بالحرب والتي يتقاطع موقفها مع التوجهات الفرنسية، يكثف المشاورات والتنسيق من أجل إقناع المنظومة الدولية بضرورة القيام بعمل عسكري واسع لاستئصال الإرهاب من الساحل ووأد النزعات الانفصالية فيه؛ ففي اجتماع لهم في باماكو يومي 12 و13 أغسطس/آب 2012، تبنى قادة الجيوش لدول المجموعة خطة عسكرية تنفذ على ثلاث مراحل:

  • المرحلة الأولى: نشر قوات برية في باماكو وفي المناطق المحاذية للشمال لتأمين المؤسسات والقيام بمهام الاستطلاع والتحضير.
  • المرحلة الثانية: تشكيل القيادة الموحدة التي سيعهد إليها بالتنسيق الميداني للعمل العسكري. ومن المرتقب أن تكون نيجيريا هي التي تقود ذلك الأمر نظرًا لكونها الدولة الوحيدة القادرة على تأمين الغطاء الجوي لأي عمليات ميدانية في المنطقة.
  • المرحلة الثالثة: الشروع الفعلي في العمليات العسكرية باستهداف معاقل الحركات المسيطرة على الأرض لتأمين تحرير الشمال المالي من قبضتها.

ولا تستبعد بعض الأوساط أن تطلب المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا مساعدة في مجال الإسناد الجوي واللوجستي من الناتو. ولا يُتوقع أن يقبل الناتو المشاركة، ولو رمزيًّا، في أي نشاط عسكري في المنطقة بغياب قرار من مجلس الأمن يتبنى العمل العسكري ويجيزه. وهذا يعيدنا إلى المربع الأول: هل ستكون الحكومة في باماكو جاهزة في الآجال المطلوبة من قبل المجموعة الدولية للقيام بالمبادرات السياسية والدبلوماسية اللازمة لتحريك مساطر مجلس الأمن الطويلة والمعقدة في مثل هذه الأوضاع؟

مهما يكن، فإن منطقة الساحل مقبلة على تطورات خطيرة ستكون لها انعكاسات كبيرة وتأثيرات مخيفة على كافة دوله، ذلك أن المد السلفي الجهادي المتنامي في إفريقيا السمراء وانتعاش نزعات التجزئة والانفصال الفئوي لا يعرف الحدود ولن يقتصر حتمًا على مالي وحدها.
_________________________
عبد الله ممادو باه - كاتب صحفي وباحث في حقوق الإنسان- مهتم بالشؤون الإفريقية 

نبذة عن الكاتب