الصين ونزاعات المحيط الهادئ.. الأسباب والمآلات

تصاعدت نزاعات الصين مع دول الجوار لا سيما حول الحدود البحرية وملكية بعض الجزر، وذلك على السواء في بحري الصين الشرقي والجنوبي، ويعود ذلك إلى إدراك الصين أهمية القوة البحرية لحفظ أمنها ومحاولتها لم شمل ما تدعيه من أراضيها.
0efb43df41574f06a458b2714290934c_18.jpg
تتنازع السيادة على جزر سبارتلي وبارسيل في بحر الصين الجنوبي الصين وخمس دول أخرى (الجزيرة)

لم يعد الهدوء هو السمة التي كانت تميز المحيط الهادئ عن باقي أقرانه من محيطات العالم وتمنحه هذا الاسم، فقد أصبح مسرحًا لاستعراض القوة بين قوى مختلفة، وعلى وجه الخصوص بين الصين واليابان في بحر الصين الشرقي وكذلك بين الصين ودول أخرى في بحر الصين الجنوبي. وكذلك بين اليابان وكوريا الجنوبية في بحر اليابان مما قد يؤدي إلى تبعات وتداعيات على منطقتي شرق وجنوب شرق آسيا بأسرهما وربما إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.

لقد حلّت الإجراءات العملية محل التصريحات، والحملات الإعلامية والتهديدات والتحرشات المتبادلة بين سفن خفر السواحل وقوارب الصيد التي تكررت خلال الأشهر الأخيرة بشكل ملحوظ.

إن إقدام اليابان على شراء مجموعة جزر صغيرة غير مأهولة كانت ملكيتها خاصة وتعود لمواطن ياباني ومن ثَمَّ تأميمها أثار غضب الصين التي سارعت لاتخاذ سلسة إجراءات تهدف إلى تأكيد ملكيتها وسيادتها على الجزر، وعمّت مظاهرات غاضبة تخللها أعمال عنف في معظم المدن الصينية. وأرسلت بكين عدة سفن تابعة لهيئة المراقبة البحرية إلى المنطقة المتنازع عليها، كما أعلنت العلامات الرئيسية وخطوط الأساس للمياه الإقليمية المحاذية مما يعني أنه بات لزامًا على السفن العسكرية والمدنية غير الصينية استئذان السلطات الصينية والحصول على موافقتها لدخول المنطقة.

وأطلقت بكين سلسة تحذيرات حول قدرة قواتها العسكرية على حماية السيادة الوطنية وأتبعتها بسلسلة مناورات عسكرية في مناطق مختلفة ومترافقة مع سلسة تصريحات نارية بأن الصين "لن تساوم على أي شبر من ترابها الوطني"، وأن "عهد إذلال الشعب الصيني قد ولّى إلى غير رجعة" في إشارة واضحة إلى فترة الاحتلال الياباني للصين.

وترافق ذلك مع عمليات حشد جماهيري وتغذية نزعات التعصب القومي والمشاعر الوطنية لدى الجانبين، ومن ذلك أن اليابان أعلنت عن مواقف مماثلة بأنها لن تساوم ولن تقدم أي تنازل بشأن الجزر، ورفع مسؤولو البلدين قضية الجزر إلى منبر دولي بحجم الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تحولت إلى مسرح لتبادل الاتهامات والتصريحات النارية بينهما.

الجذور التاريخية لخارطة النزاع في بحر الصين الشرقي

لابد من العودة إلى تلك الحقبة التاريخية التي تحكم العلاقة بين الصين واليابان والتي لم تلتئم جراحها بعد، ولا تزال تشكل عقدة نفسية تلقي بظلالها على سلوك الصينيين أفرادًا وحكومة وتعتبر عاملاً مهمًا في استمرار الثقة المهزوزة بين الجانبين، وعقبة كأداء كان من الصعب تجاوزها طوال الأربعين عامًا الماضية منذ تطبيع العلاقات بينهما عام 1972.

وسيقتصر التقرير في استعراضه لبعض الأحداث التاريخية بين الجانبين فقط على تقلبات التبعية الجغرافية لهذه الجزر طوال تلك الحقبة، باعتبار أن "الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ" كما قال نابليون، وهي التي سترسم معالم المستقبل.

جزر "دياو يو داو" حسب الاسم الصيني وجزر "سنكا كو" كما تسميها اليابان، هي من أبرز النزاعات المهددة للسلام في بحر الصين الشرقي (رويترز-أرشيف)

أول ما يختلف عليه الجانبان هو اسم تلك الجزر حيث تطلق عليها الصين اسم "دياو يو داو" أي "جزر صيد السمك" بينما تسميها اليابان "جزر سنكا كو". ويقول الصينيون إنهم هم أول من اكتشفوها وأطلقوا عليها اسمها، واستخدموها لصيد السمك. وبأنها ظلت منذ ذلك الحين ضمن نطاق الدفاع البحري الصيني وتتبع لجزيرة تايوان طوال عهد أسرة مينغ الملكية (1368-1644)، ومع هزيمة الصين خلال الحرب الصينية-اليابانية الأولى عام 1895 تم إجبار حكومة تشينغ الصينية الحاكمة آنذاك على التوقيع على "معاهدة شيمونوسكي" والتخلي بموجبها عن جزيرة تايوان والجزر الملحقة بها (بما فيها جزر دياو يو) لصالح اليابان. وظلت كذلك حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة اليابان واستسلامها دون قيد أو شرط، الأمر الذي ترتب عليه إعادة تلك الجزر إلى الصين وفق إعلاني القاهرة وبوتسدام.

كانت الصين في ذلك الوقت تمر بحرب أهلية طاحنة بين الشيوعيين والوطنيين الذين فروا إلى جزيرة تايوان (فورموزا) وأعلنوا هناك ما سُمِّي بـ"جمهورية الصين الوطنية". ولكن سرعان ما عادت الولايات المتحدة لتوقِّع مع اليابان اتفاقية سان فرانسيسكو عام 1951 وتحصل على حق إقامة إدارة مدنية في جزيرة أوكيناوا اليابانية وتُلحق بها جزر دياو يو. واستمر ذلك حتى عام 1971 عندما قررت واشنطن إعادة أوكيناوا وملحقاتها من الجزر إلى اليابان. وهنا سارعت حكومة تايوان أو ما كان يُعرف باسم "جمهورية الصين الوطنية" إلى تسجيل اعتراضها وإعلان أحقيتها بالسيادة على تلك الجزر، وتبعتها بذلك الحكومة الصينية في بكين بخطوة مماثلة. لكن واشنطن تجاهلت الاحتجاجين وأصرّت على تسليم الجزر إلى طوكيو في 15 مايو/أيار 1972.

بدأ النزاع على تلك الجزر يأخذ منحى حادًا وجادًا مع إصدار الأمم المتحدة عام 1972 دراسة نظرية ترجّح وجود كميات كبيرة من النفط والغاز والمعادن في تلك المنطقة من بحر الصين الشرقي.

ولإطلالة أوسع على المنطقة فإن بحر الصين الشرقي هذا هو جزء من المحيط الهادئ تبلغ مساحته حوالي مليون وربع المليون كيلو متر مربع، ظل حتى القرن التاسع عشر يُعرف باسم بحر كوريا وكان بحرًا هامشيًا لم يحظ بالاهتمام الإعلامي والدولي كما هو عليه الآن، يتصل مع بحر الصين الجنوبي عند مضيق تايوان ومع بحر اليابان عبر مضيق كوريا وينفتح شمالاً على البحر الأصفر، وتطل على شواطئه كل من الصين وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان. ويعتقد الصينيون أن قصر "الملك التنين" يقع في أعماقه بالإضافة إلى اعتباره موطن الكثير من شخصياتهم الأسطورية.

الجزر المتنازع عليها هي مجموعة تضم ثماني جزر صخرية غير مأهولة أكبرها مساحة تصل إلى 4 كيلو مترات مربعة وتبعد 76 ميلاً بحريًا عن شواطئ تايوان وحوالي 92 ميلاً بحريًا عن شواطئ اليابان فيما تبتعد عن شواطئ البر الرئيسي للصين قرابة 100 ميل بحري.

على الرغم من تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين طوكيو وبكين عام 1972 على أساس تأجيل القضايا الخلافية بينهما إلا أن قضية الجزر ظلّت تشكِّل إحدى المحاور والعقبات الأساسية في العلاقات الخارجية بين الصين واليابان من جهة وبين اليابان وتايوان من جهة أخرى. لكن وبالرغم من العلاقات المعقدة بين الصين وتايوان إلا أن الجانبين يتفقان على تبعية تلك الجزر لتايوان. ولقد شكَّل قيام بعض الصينيين برفع أعلام تايوان خلال المظاهرات الغاضبة التي عمّت مختلف المدن الصينية وتجرُّؤ بعض وسائل الإعلام الصينية على نشر تلك الصور حدثًا لم يكن من السهل توقعه أو تصديقه قبل سنوات.

الجذور التاريخية لخارطة النزاع في بحر الصين الجنوبي

قبل ذلك وغير بعيد عن بحر الصين الشرقي وبالتحديد في بحر الصين الجنوبي كان التوتر بين الصين والفلبين من جهة وبين الصين وفيتنام من جهة أخرى قد وصل إلى مرحلة غير مسبوقة من التهديد باستخدام القوة العسكرية لحسم نزاع مماثل على مجموعة جزر أخرى، هي جزر سبراتلي وبارسيل التي تتنازع السيادة عليها بشكل كامل أو جزئي خمس دول، هي الصين وفيتنام وماليزيا وبروناي وإندونيسيا بالإضافة إلى تايوان. وتعتبر قضايا النزاع في بحر الصين الجنوبي واحدة من بؤر التوتر المزمنة الثلاث في شرق آسيا إلى جانب قضيتي تايوان وكوريا.

تتنازع السيادة على جزر سبارتلي وبارسيل في بحر الصين الجنوبي الصين وخمس دول أخرى (الجزيرة)

بحر الصين الجنوبي هو بحر آخر من بحار النزاع في المحيط الهادئ يمتد من سنغافورة حتى مضيق تايوان حيث يرتبط هناك ببحر الصين الشرقي وتقارب مساحته حوالي ثلاثة ملايين ونصف مليون كيلومتر مربع، ويعتبر ثاني أكثر ممرات العالم البحرية ازدحامًا بسفن التجارة الدولية.

وترى الصين أحقيتها بالسيطرة على 80% من بحر الصين الجنوبي وهذا ما ترفضه معظم الدول المطلة عليه، ويتناقض كذلك مع قانون الحدود البحرية الذي أقرته الأمم المتحدة.

وقد ازدادت حدة التوتر في المنطقة بعد اكتشاف كميات كبيرة من النفط والغاز، كما جاء ازدياد الوجود العسكري الأميركي في المنطقة مؤخرًا ليزيد من حدة تلك التوترات.

وكان التوتر قد ظل جمرًا تحت الرماد وقيد الاحتواء من خلال المباحثات والمفاوضات التي كانت بكين تجريها مع تلك الدول بشكل ثنائي، إلى أن اضطرت للموافقة على أن تتحول تلك الخلافات إلى نزاع إقليمي عندما قررت دول آسيان التفاوض ككتلة واحدة مع الصين والتوقيع على تفاهم عام 2002 يحظر على أي طرف القيام بأية إجراءات أحادية استفزازية خاصة في عمليات التنقيب عن النفط والغاز، والشروع في التفاوض على إيجاد صيغة للاستثمار المشترك للمنطقة المتنازع عليها.

لكن التطور الأهم حدث خلال القمة السادسة عشر لمنظمة دول جنوب شرق آسيا في العاصمة الفيتنامية هانوي في إبريل/نيسان 2010 عندما ألقت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون كلمة اعتبرت فيها أن "استمرار التوتر في بحر الصين الجنوبي يقوّض المصالح الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، وطالبت بضرورة إيجاد آلية دولية لحل النزاع"، ووافقت على ذلك 12 دولة لا علاقة لكثير منها بالنزاع الجاري لكنها رأت أن القوة المتصاعدة للصين تجعل من التفاهم الموقَّع قبل ثماني سنوات ليس ذا معنى. وهنا ثارت ثائرة بكين التي شعرت أنها وقعت في فخ حيك لها بليل، واعتبرت ذلك أول تدخل أميركي علني سافر بقضايا المنطقة والعودة إلى "سياسة فرّق تسُد". بينما اعتبرت وزيرة الدفاع اليابانية السابقة يوريكو كوكي في مقال لها خطاب كلينتون أنه يوازي من حيث الأهمية الإستراتيجية زيارة نيكسون إلى الصين عام 1972، والتي اعتُبرت في حينها نقطة تحول تاريخية في الإستراتيجية الأميركية.

الأهمية الجيوستراتيجية والاقتصادية لمناطق النزاع

ظلت السيطرة على المحيط الهادئ خاصة على بحري الصين الشرقي والجنوبي تشكِّل طموحًا إستراتيجيًا للقوى الكبرى على مرّ العصور؛ فهو يمثل الظاهرة البحرية المهيمنة جيوسياسيًا على مجمل منطقة جنوب شرق آسيا لإطلاله على جنوب الصين وشمال إندونيسيا وشرق فيتنام وغرب ماليزيا. ويضم بعض الممرات الإستراتيجية المهمة التي تتحكم بالنسبة الأكبر لحركة الملاحة البحرية الدولية كممر سوندا الذي يصل جنوب شرق آسيا بأستراليا وممر لومبوك الذي يربط إندونيسيا بالمحيط الهندي، لكن يبقى الممر الأهم هو ممر ملقا الذي يربط المحيط الهادئ بالهندي حيث يمر نحو 70% من ناقلات النفط في طريقها من الشرق الأوسط إلى شرق وجنوب شرق آسيا وكذلك أكثر من نصف سفن شحن التجارة الدولية.

ولقد ازدادت الأهمية الإستراتيجية للمحيط الهادئ بحيث بات من نافل القول: إن من يمتلك موطئ قدم أو على الأصح مرسى باخرة فيه سيكون قادرًا على الإسهام في تحديد وصياغة مستقبل الأوضاع الدولية سياسيًا واقتصاديًا خلال المرحلة القادمة. فقد اكتسبت منطقة آسيا/المحيط الهادئ خلال السنوات الأخيرة مزيدًا من الأهمية الإستراتيجية باعتبارها من أكثر مناطق العالم ديناميكية بعد انتقال مركز الثقل الاقتصادي إليها، وبعد أن أصبحت أحد المحركات الأهم في الاقتصاد العالمي. فوفقًا لتوقعات بنك التنمية الآسيوي سينمو الناتج المحلي لآسيا من 20 تريليون دولار الآن إلى 148 تريليون دولار عام 2050.

إن عودة واشنطن إلى المنطقة تعتبر نقطة تحول مهمة في الإستراتيجية العسكرية الأميركية ومؤشرًا واضحًا على تنامي أهمية المنطقة في الرؤية الإستراتيجية لمرحلة قادمة ربما تكون طويلة. هذا ما أكده الرئيس أوباما عندما قال بوضوح: "إننا هنا لنبقى". وهذا ما كشف عنه أيضًا وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا عندما صرح من فيتنام حول نية الولايات المتحدة نقل 60% من قدراتها العسكرية البحرية إلى منطقة آسيا/الباسيفيك بحلول عام 2020. بما في ذلك توزيع السفن العابرة للمحيطات والسفن المدمرة والغواصات، وستزيد عدد حاملات الطائرات في المنطقة إلى 6 حاملات. وفي أستراليا زادت الولايات المتحدة من عدد قواتها ليصل إلى 2500 جندي بالإضافة إلى قواتها المرابطة في اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين ومناطق أخرى. كما وقّعت واشنطن مع دول المنطقة "معاهدة الشراكة العابرة للباسفيك".

وهذا تأكيد على أن المنطقة تشهد إعادة هيكلة ستكسر التوازن القائم فيها، وأن مستقبلها سيسير وفق قواعد جديدة ترسمها واشنطن، أو أنها ستكون أحد المخططين الأساسيين لها. بل ومطالبة بكين بضرورة الالتزام باللعب وفق هذه القواعد.

أسباب تفجر النزاعات والعودة إلى حالة التوتر

يتفق المراقبون على أن قضية الجزر المتنازع عليها هي إحدى القضايا النائمة والقنابل الموقوتة لمخلفات الحرب العالمية الثانية. لكن السؤال هو: ما الذي دعا إلى إيقاظها الآن وفي هذا الوقت بالتحديد؟

  • تمر اليابان بمرحلة حرجة من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإعادة هيكلة لقواها السياسية، وتستعد لخوض انتخابات حاسمة نهاية العام الجاري في ظل انقسامات حادة في الحزب الديمقراطي الحاكم وتراجع ملحوظ في شعبيته، وفي ظل توقعات بعودة الحزب الليبرالي المعارض إلى الحكم، خاصة بعد انتخاب رئيس الوزراء السابق شنزو أبي رئيسًا للحزب وهو المعروف بجنوحه اليميني ومواقفه المتشددة تجاه الصين. ويترافق ذلك أيضًا مع تنامي النزعة اليمينية لدى الكثير من الأحزاب والقوى السياسية اليابانية التي لا تُخفي عداءها للصين. وجاء إقدام الحكومة اليابانية على شراء الجزر وتأميمها كخطوة استباقية لقطع الطريق على محافظ طوكيو المعروف بجموحه اليميني المتطرف وأحد المنافسين الأقوياء لرئيس الوزراء نودا الذي كان يسعى لشراء الجزر دون الرجوع إلى الحكومة المركزية، وذلك في إطار لعبة تنافس سياسي داخلية ربما لم تأخذ بعين الاعتبار التداعيات الإقليمية والدولية.
  • الصين كذلك ليست بأفضل حالاً من اليابان؛ فهي تستعد لعقد المؤتمر العام الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني الحاكم الوحيد للبلاد منذ تأسيسها عام 1949. حيث سينبثق عن المؤتمر قيادة جديدة للحزب والبلاد. ويأتي انعقاد المؤتمر في ظل تحولات جذرية تشهدها الصين سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسط خلافات حادة بين مراكز القوى داخل الحزب وتذمر وسخط جماهيري واسع نتيجة عجز الحزب عن تقديم حلول واضحة لأزمات وقضايا متفاقمة تواجهها الصين منذ عدة سنوات، كالبطالة والغلاء والفجوة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء واستشراء الفساد بشكل غير مسبوق بين مسؤولي الحزب والدولة. وبالتالي فإن قرار التصعيد مع اليابان وما تمثله من إرث تاريخي ونفسي على الصين حول قضية تتعلق بالسيادة والكرامة الوطنية لابد أن يدغدغ المشاعر القومية ويُكسب الحزب الشيوعي مزيدًا من الالتفاف الجماهيري الذي يفتقده ويحتاج إليه.

    وكما هو معروف فإن دور الجيش في صناعة القرار السياسي يتنامى ويزداد في وقت الأزمات، وحينما يستعر الصراع على السلطة بين مراكز القوى المختلفة. وهذا ما يبرر عنف الرد الصيني وحجم المناورات العسكرية التي أعقبت خطوة اليابان بتأميم الجزر.

  • تنامي نزعات التعصب القومي والمشاعر الوطنية لدى الجانبين الياباني والصيني التي تغذيها أحقاد الماضي إبان فترة الاحتلال الياباني للصين وما رافقه من مجازر وآلام وجراح يسهل نكْؤُها مع أي توتر أو نزاع ينشب بين الجانبين مهما صغر شأنه؛ مما يجعل المشهد في كلا البلدين عصيًا على المساومة أو إبداء المرونة في قضايا تتعلق بالسيادة والكرامة الوطنية. ويضعهما أمام اختبار حقيقي لقوة الإرادات من جهة وإرضاء الشارع والرأي العام المحلي من جهة أخرى. وهذا ما دفع بالمتظاهرين الصينيين على سبيل المثال إلى رفع صور الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ خلال تظاهراتهم الغاضبة أمام السفارة والقنصليات اليابانية في الصين، في إشارة واضحة ليس للاحتجاج على اليابان فقط ولكن لاستحضار صلابته وللتعبير عن عدم رضاهم من أداء حكومتهم الحالية في إدارة نزاع على هذه الدرجة من الأهمية يتعلق بالسيادة والكرامة الوطنية.
  • تنامي القوة الاقتصادية الصينية ونجاحها بإزاحة الاقتصاد الياباني واحتلال مكانه على عرش ثاني أكبر اقتصادات العالم عام 2010، وما رافقه من تنامي القوة العسكرية الصينية خاصة البحرية منها خلال السنوات الأخيرة. والذي أدى بالطبع إلى تغيير واضح في السلوك الدبلوماسي الصيني -الذي كان يتسم بالمرونة ويرفع شعارات الصعود السلمي والانسجام الدولي- ليصبح سلوكًا أكثر صلابة وأكثر حدة تجاه نزاعاتها الحدودية مع معظم جيرانها وخاصة تجاه اليابان. الأمر الذي دفع اليابان بدورها نحو تعزيز قدراتها الدفاعية والتوجه نحو قوى آسيوية أخرى بما فيها الهند المنافس التقليدي للصين إضافة إلى أستراليا، وعملت طوكيو كذلك على تعزيز علاقاتها الأمنية مع بعض دول منظمة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ممن لديها نزاعات حدودية بحرية مع الصين، مثل الفلبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وحثتها على إثارة قضايا نزاعاتها مع الصين. وبالمقابل توجهت بكين نحو تمتين علاقاتها مع موسكو  بالرغم من الثقة التاريخية غير السوية بينهما.
  • ازدياد التواجد العسكري واتساع رقعة النفوذ الأميركي في المنطقة خاصة بعد قرار الإدارة الأميركية الانسحاب من العراق وأفغانستان، وإعادة التركيز على منطقة آسيا والمحيط الهادئ واعتبارها حلقة رئيسية في الرؤية الإستراتيجية الأميركية للمرحلة القادمة. وأثار قلق بكين وأيقظ هواجسها عودة الحديث عن نظريتي "الخطر الصيني" و"احتواء الصين". لكنه في نفس الوقت شكّل بالنسبة لكثير من الدول الآسيوية -التي كانت تجد نفسها بين نارين أو "شرَّيْن" أحلاهما مرّ، وهما الحساسية المفرطة من ماضي اليابان والخشية الحقيقية من مستقبل الصين- شكَّل لها عودة واشنطن اللاعب الجديد القديم والقوي طوق نجاة ومنحها هامشًا إضافيًا من المناورة والاستفادة من اللعب على تناقضات الكبار وعلى حبل التوازن الإستراتيجي بين المثلث الجديد للقوى أي: بكين وطوكيو وواشنطن.
  • إن كل هذه التحولات الداخلية والإقليمية والدولية لدى القوى الفاعلة في المنطقة تدفعها نحو البدء بمحاولات لرسم خارطة جديدة تعبّر عن طموحاتها وتطلعاتها الإستراتيجية، وتعيد معها هيكلة جديدة وتوازنًا جديدًا لمستقبل التنافس الإستراتيجي بينها على ضوء المتغيرات الجارية.

 تداعيات المواجهة واحتمالات الحل

ظلّت التحديات الكبرى التي تواجه الصين طوال العقود الماضية منذ تأسيسها هي خطر الانفصال (تايوان، التبت، شينجيانغ)، أما الآن فإن الخطر الأكبر هو خطر الانضمام فقانون ترسيم الحدود البحرية الذي أقرته الأمم المتحدة سيزيد من مساحة الصين التقليدية التي تُقدَّر بتسعة ونصف مليون كيلو متر مربع ويمنحها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع جديدة، لكن في نفس الوقت سيجعلها تشترك بحدود بحرية مع أربعة عشر جارًا جديدًا بالإضافة إلى خمسة عشر جارًا قديمًا تتشابك معهم جميعًا بنزاعات حدودية وسيجعل من علاقة الصين مع جوارها الإقليمي في أسوأ مراحلها منذ عقود. وبالطبع فإن ذلك يمثل البيئة الأنسب بالنسبة لواشنطن لإقحام نفسها والتأثير في واحدة من القضايا الجوهرية التي تمس الأمن القومي الصيني لبناء حلف قوي يطوِّق الصين ويُحكم الخناق عليها، ويحد من هامش مناوراتها، ويحقق هدف واشنطن باحتواء الصين والتأثير على نموها المتصاعد.

كانت الصين في حالات سابقة من توترات مماثلة تمتلك الثقة الكاملة في إدارة مثل هذه الأزمات باعتبارها أكبر وأقوى دول المنطقة عسكريًا واقتصاديًا، وعادة ما كانت تنجح في احتوائها وتهدئتها ووأدها في مهدها؛ فقد جنحت للسلم والتفاوض حينًا واستخدمت الترهيب أحيانًا، ولجأت إلى الورقة الاقتصادية أحيانًا أخرى لممارسة الضغوط كما حصل مع الفلبين عندما قررت بكين تشديد الإجراءات على واردات الفاكهة الاستوائية ما أدى إلى خسائر فادحة لمانيلا. واستخدمتها كذلك مع اليابان نفسها عندما هددتها بوقف صادرات الأتربة النادرة فرضخت اليابان وأطلقت سراح طاقم قارب صيد صيني كان قد توغل في المياه الإقليمية اليابانية. كانت الصين تواجه دولاً صغيرة غير ذات شأن أما الآن فإنها بدأت تعيد حساباتها لأن الوجود العسكري الأميركي في المنطقة أصبح واقعًا ملموسًا. ولهذا باتت بكين تصر على أن النزاعات والخلافات القائمة بين دول المنطقة هي شأن إقليمي، وأن الدول المعنية قادرة على إيجاد الحلول لها بعيدًا عن أي تدخل خارجي في إشارة واضحة إلى الدور الأميركي.

إن عودة واشنطن إلى المنطقة جعلت من احتمالات دخول (حدوث) المنافسة الإستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة أمرًا حتميًا، وأن المواجهة بينهما باتت مسألة وقت وربما أسرع بكثير مما كان متوقعًا. لكن السؤال الذي بقي دون إجابة، هو: هل ستكون المواجهة بالوكالة وعن بُعد أم أنها قد تتحول بشكل مفاجئ ودراماتيكي إلى مواجهة مباشرة؟

نظرت بكين بتوجس إلى أول زيارة يقوم بها وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا إلى الصين وتنصيب نفسه وسيطًا بينها وبين اليابان، ورأت تلك الوساطة المزعومة أمرًا مستغربًا لأنها لا ترى الولايات المتحدة كجزء من الحل بل جزء من المشكلة، فعلى الرغم من إعلان واشنطن وقوفها على الحياد إلا أن أقوالها تختلف عن أفعالها حيث قرر بانيتا نشر منظومة صواريخ جديدة متوسطة المدى في اليابان في حين طمأنت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون نظيرها الياباني بأن "البند الخامس من الاتفاقية الأمنية الموقعة بين واشنطن وطوكيو عام 1951 يغطي منطقة الجزر المتنازع عليها"، ما يعني التزام واشنطن بالدفاع عن اليابان إذا تعرضت تلك المناطق لأي اعتداء خارجي.

انتهزت الصين فرصة أجواء التوتر هذه للإعلان عن دخول أول حاملة طائرات صينية حيز الاستخدام الفعلي في احتفال مهيب، وعلى الرغم من تأكيد بكين أن المهمة الأساسية لحاملة الطائرات هي البحث العلمي والتدريب، وعلى الرغم من أن حاملة الطائرات الجديدة لن تؤدي إلى إحداث خلل في توازن القوى في المنطقة على المدى القريب أو المتوسط، لكن هذه الخطوة لا تخلو من الرمزية وتحمل في ثناياها أكثر من رسالة.

فالصين بذلك دخلت إلى مصاف القوى الدولية الكبرى كآخر عضو في مجلس الأمن الدولي يمتلك حاملة طائرات، كما أن إطلاق اسم "لياو نينغ " على حاملة الطائرات لا يخلو من رمزية أخرى فهي إحدى المقاطعات شمال شرق الصين التي كانت أول المناطق التي خضعت للاحتلال الياباني ودفعت الثمن الأكبر من ويلاته.

والأهم من هذا وذاك يُعتبر قرار بكين الشروع في الحصول على حاملات الطائرات نقطة تحول مهمة في العقيدة الإستراتيجية الصينية التي كانت تاريخيًا قائمة على أساس حماية الحدود وتحولت الآن إلى حماية المصالح. فلم يعد سرًا سعي الصين منذ سنوات لبناء قواعد عسكرية للغواصات في مناطق جنوب الصين وسباقها مع الزمن لحيازة 80 غواصة متطورة بحلول عام 2020 (أي بما يوازي قدرة الولايات المتحدة)، ووفق تقديرات عسكرية فإن الصين ستمتلك حتى ذلك الوقت ما يزيد على 700 قطعة بحرية مزودة بأحدث أنواع الصواريخ وأجهزة الاتصال والتوجيه. ولم تعد الصين كذلك تخفي محاولاتها الدؤوبة للحصول على مواطئ أقدام وموانئ في مناطق بعيدة عن أراضيها كباكستان وبنغلاديش وسيريلانكا وموريشيوس، كما لوحظ أيضًا مشاركة الصين بشكل فاعل في عمليات مكافحة القرصنة في خليج عدن. كل ذلك مؤشرات واضحة على إدراك الصين ولو بشكل متأخر لأهمية القوة العسكرية البحرية؛ فالبحر ظل دائمًا يشكّل الخاصرة الرخوة التي أتت منها كل القوى التي احتلت الصين وساهمت بإذلالها في فترة لا تزال تشكّل عقدة نفسية للكبرياء والكرامة المهدورة سواء على مستوى الدولة أو الأفراد. وإدراكها كذلك لحقيقة أن معظم القوى الدولية التي امتلكت القوة والنفوذ عبر الزمن لم تصل إلى ذلك إلا بعد امتلاكها لقوة بحرية ضاربة ولأساطيل ضخمة.

يبدو أن بكين وطوكيو قررتا إغلاق أي باب للتفاوض يفضي إلى حل أو تسوية، وجاء خطاب رئيس الوزراء الياباني يوشيهيكو نودا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29سبتمبر/أيلول 2012 قاطعًا وحازمًا "بأن بلاده لن تقدم أي تنازل أو مساومة بشأن الجزر"، وفعل بالمثل وزير الخارجية الصيني يانغ جيى تشي من على نفس المنبر عندما اتهم اليابان بـ"سرقة الجزر". لكن ما أضافه الوزير الصيني بالقول: "إنه لمن المستغرب جدًا أن تقوم دولة مهزومة في الحرب العالمية الثانية، وكانت قد أعلنت استسلامها دون قيد أو شرط (اليابان) بالاستمرار في احتلال جزء من أراضي دولة منتصرة في تلك الحرب (الصين)". لم يحظ هذا التصريح الخطير باهتمام إعلامي وتحليلي كاف. فهو يفتح الباب واسعًا أمام بداية تفكير صيني حقيقي بالبحث عن الذرائع والمبررات في القانون الدولي التي تمنحها حق اللجوء إلى أساليب أخرى لاستعادة الجزر، والمادة 107 من ميثاق الأمم المتحدة تمنح الدول التي يتعرض جزء من أراضيها للاحتلال من قبل دول مهزومة في الحرب إلى استعادة أراضيها بكافة السبل والأساليب الممكنة.

في ظل هذه الأجواء من التصعيد المتبادل يبدو أن أيًّا من طرفي النزاع عاجز عن تقديم تنازل يفضي إلى أرضية مشتركة للجلوس على طاولة التفاوض، وستلقي حالة التوتر بظلالها بانتظار ما ستسفر عنه الاستحقاقات الانتخابية في كل من طوكيو وواشنطن، وما سيتمخض عنه المؤتمر العام الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وستحاول مختلف الأطراف الاستفادة من التوتر لخدمة أهداف سياسية داخلية.

من المتوقع أن تستمر حالة التوتر لأشهر أخرى بعد كل تلك الاستحقاقات باعتبار أن القيادات الجديدة تحتاج بكل تأكيد إلى قضية بهذا الحجم من الأهمية لتثبت أنها قادرة على إدارة أزمات كبيرة، وستبقى القضية ورقة ضغط بيد كل طرف لتحقيق مصالحه، وستبقى المواجهة المسلحة آخر ما يتمناه الجميع. ولكن في نفس الوقت إن تشابك المصالح الاقتصادية وتعقيداتها بين الأطراف المختلفة ستفرض على كل منهم إجراء حسابات دقيقة لميزان الربح والخسارة بين امتلاك مجموعة من الجزر الصغيرة رغم أهميتها الإستراتيجية وبين الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات التجارية والاقتصادية لثلاثة من أكبر اقتصادات العالم. والذي سيفضي بالنهاية إلى تأجيل البحث في القضايا الخلافية والتوافق على تعهد جميع الأطراف بعدم القيام بأية إجراءات استفزازية أحادية الجانب مع ضمان أمن وسلامة قوارب الصيد واستقرار المنطقة، وربما البحث في آليات للاستثمار المشترك للتنقيب عن النفط والغاز فيها. لكن كل ذلك سيُبقي جمر الأزمة تحت رماد يمكن أن يفجرها أي اختلال محتمل في توازن القوى الإقليمي أو الدولي.
_____________________________
عزت شحرور - متخصص في الشأن الصيني ومدير مكتب الجزيرة في بكين 

نبذة عن الكاتب