السلفية في العراق: تقلبات الداخل وتجاذبات الخارج

أثَّر الاحتكاك العنيف مع الخارج في نشوء وتطوّر السلفية العراقية، وجعل تحولاتها تحدث كرد فعل على الأوضاع السياسية الضاغطة دون أن تتمكن من تكوين صيغة نظرية تكون مرجعية لمختلف تياراتها.
2013568330376621_20.jpg
السلفية في العراق: تقلبات الداخل وتجاذبات الخارج (الأوروبية)

يكتنف البحث في موضوع السلفية الكثير من الصعوبات، لاسيما مع ندرة الكتابات في هذا المجال. ونجد لزامًا قبل البحث في هذا الموضوع أن نقدم له بعدد من المقدمات الضرورية، لتجنب الكثير من التحليلات الخاطئة في غالب الأحيان، سيما ما يتعلق بطبيعة الجماعات المسلحة السنية في العراق وعلاقتها بالسلفية.

أولاً: أن السنة في العراق عمومًا يتمذهبون بالمذهبين الشافعي والحنفي، فيما عدا مدينة الزبير جنوب البصرة، التي ينحدر أهلها من نجد ويتمذهبون بالمذهب الحنبلي. ومن المعروف أن الحركة الوهابية وُلِدت في بيئة حنبلية نجدية.

ثانيًا: أن العراق عرف حالة عداء للوهابية بسبب الغارات الكثيرة التي شنها الإخوان الوهابيون على العراق، سواء في المناطق الحضرية أو في مواطن العشائر المنتشرة على أطراف الصحراء الفاصلة بين العراق والمملكة العربية السعودية. ويروي ياسين العمري في كتابه "الدر المكنون" أن الوهابيين كانوا يظهرون هنا وهناك غرب الفرات فيقطعون الطرق ويغيرون على القرى. وفي إحدى الغارات عام 1800، نهبوا قافلة كانت قادمة من الشام، بالقرب من بلدة عانة، وقتلوا عددًا من العانيين، وأغاروا على عانة نفسها ونهبوا بعض بيوتها وقتلوا أربعين شخصًا من سكانها، وأغاروا على كبيسة ولكنها قاتلتهم فولوا الأدبار (1). وقد ذكر الشاعر صكار الكبيسي في إحدى قصائده واقعة مهاجمة الوهابيين لمدينة كبيسة وكيف ردوهم خائبين بعد أن قتلوا مائتين منهم، يقول:

ما سمعـت ابن سـعود يـوم الدخن         ثــار أگـفا وفوده مننا بــس ونــا
تسعـين ليلـة وأشهب الملـح ينـدار        واللي ينـام نطــير النــوم عـنــا
صبحـنا عليهــم صيـحة تجـلـي        المرار ميـتيـن نگــال الفتيـلة دفنـا

ولعله من المعلوم أن معاهدة العقير التي وقعت عام 1922 بين العراق ونجد والكويت وبريطانيا، كان سببها المباشر غارات الوهابيين من نجد على أطراف العراق والكويت.

ثالثًا: لم يعرف العراق السني في تاريخه النزعة السلفية بنموذجها الوهابي إلا في حدود ضيقة.

رابعًا: لم تستطع مختلف الحركات والأحزاب الإسلامية السنية في العراق أن تنتشر أفقيًا إلا في حدود ضئيلة. ومن المهم ملاحظة أن النموذج الأكثر راديكالية للإسلام السياسي السني، الذي مثّله حزب التحرير الإسلامي (تأسس عام 1953)، وكان في مرحلة سابقة على ظهور السلفية الجهادية بصيغتها القائمة اليوم، لم يُصبْ، تنظيميًا، نجاحًا كبيرًا في العراق. وينطبق الأمر نفسه على الحزب الإسلامي (تأسس عام 1960)؛ فقد هيمنت الأحزاب الأيديولوجية العلمانية على الساحة السياسية في العراق الحديث طوال عقود: الحزب الشيوعي العراقي (تأسس عام 1934)، وحزب البعث العربي الاشتراكي (تأسس عام 1947، ودخل العراق بعد وقت قصير)، وحركة القوميين العرب (تأسست عام 1948، ودخلت العراق عام 1955).

السلفية: البحث عن تاريخ

تحاول الكتابات النادرة عن تاريخ السلفية في العراق إثبات تاريخ "قديم" للسلفية يعود إلى ما قبل ظهور الدعوة السلفية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (المتوفى سنة 1792) منتصف القرن الثامن عشر. بل يؤكد البعض أن السلفية إنما بدأت من العراق، ويتداول الحديث عن "سلفية عراقية خالصة"(2). يتحدث عباس العزاوي عن "سلفيين" عراقيين في القرن الحادي عشر للهجرة سبقوا دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب، لكنها حوربت من العلماء السنة فضلاً عن محاربة الدولة العثمانية لها(3). ويتحدث الباحث المعروف محمود شيت خطاب، في بحثه الموسوم "الإمام محمد بن عبد الوهاب في الموصل" عن قدوم الأخير إلى الموصل والدراسة على يد الملا حمد الجميلي، وأنه تأثر خلال مكوثه في الموصل بما يسميه "الدعوة السلفية" للشيخ أحمد بن الكولة، التي اعتمدت "مقاومة نفوذ المشايخ أصحاب الطرق الصوفية، ومقاومة تقديس مراقد الأولياء، وتنقية الدين من البدع بالعودة إلى التمسك بالكتاب والسنة"(4)؛ لينتهي الباحث إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب "لا ريب أنه قد تأثر بهذه الدعوة للتشابه التام بين آرائه التي دعا إليها فيما بعد، وبين مبادئ سلفيي الموصل"(5).

كما يعمد هؤلاء الباحثون إلى تأويل بعض الإشارات السريعة للتدليل على تأثر العراق بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ فيشير عباس العزاوي إلى أن "الأستاذ عبد العزيز بك بن عبد الله بك الشاوي ذهب إلى نجد للحج والمفاوضة مع آل سعود، فاقتنع بمذهبهم وحمله إلى العراق فصار داعيتهم"(6). وهو يعتمد هنا على إشارة وردت في كتاب "مطالع السعود" لمؤرخ المماليك ابن سند البصري عند ذكره لأحداث السنة الهجرية 1215  (7). ويشير ابن سند إلى أن عبد العزيز الشاوي، الذي قُتل سنة 1217 للهجرة، لما أرسله "سليمان باشا إلى الوهابية في نجد شرب بعض عقائدهم ظنًا أنها هي الحق وما عداها الباطل"(8). ويشير العزاوي أيضًا إلى تأثر الشيخ  السلفي علي بن محمد سعيد السويدي (المتوفى سنة 1822) بأفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب(9).

هذه، بالطبع، لم تكن سوى حالات فردية، لم تتحول إلى مناخ شعبي، ويصعب، على أية حال، تحديد طبيعة توجهها السلفي. على أن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، أن الشيخ محمود شكري الألوسي (المتوفى سنة 1924) تأثر بالسلفية بنموذجها الوهابي، فهو يعمد إلى شرح إحدى رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب بعنوان "فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للشيخ محمد عبد الوهاب"، يصف فيه الأخير بأنه "الإمام محيي السنة ومجدد الشريعة النبوية" (10). ويكشف كتاب الألوسي "غاية الأماني في الرد على النبهاني" بما لا يقبل الشك توجهاته في الدفاع عن الشيخ محمد عبد الوهاب، وهو أمر ليس بالهين في ظل الموقف الرسمي العثماني من الرجل. يقول الألوسي: "إن نسبة دعوى الاجتهاد إلى الوهابية -وهم على زعمه من كان موافقًا للشيخ محمد بن عبد الوهاب في الاعتقاد- افتراء وكذب وبهتان عليهم، فإن أهل نجد كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، مقلدون له في فروع الأحكام، وموافقون له في أصول الدين وعقائده، وقد صرّح الشيخ محمد بذلك في كثير من رسائله، وهو لم يدع إلى الاجتهاد، ولا دعا أحدًا من الناس إلى تقليده، بل أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فنسبة أهل نجد ومن يتبع السنن النبوية إلى الشيخ وعدهم فرقة من فرق المسلمين غير فرقة أهل السنة: ظلم وعدوان وزور وبهتان. وأعجب من ذلك أن النسبة إلى الشيخ ينبغي أن تكون المحمدية، وأما عبد الوهاب فهو أبو الشيخ محمد، والموافقة في العقائد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي للشيخ نفسه لا لأبيه، فإطلاق الوهابية على تلامذة الشيخ وموافقيه إما جهل ظاهر، وإما تنابز بالألقاب، وكلا الوجهين لا يخفى حاله"(11).

ويرفض الألوسي اتهام "الوهابية" بالتكفير، ويَعُد الأمر من "مكايد الغلاة" في التشنيع على أهل الحق ودعاة التوحيد من المؤمنين. وينقل الألوسي عن ابن تيمية: إن أصل التكفير إنما جاء من "الخوارج والروافض الذين يكفّرون أئمة المسلمين بما يعتقدون أنهم أخطأوا في الدين"، وأن هذا الأمر ليس مذهب أهل السنة والجماعة الذين لا يجيزون التكفير بمجرد الخطأ المحض "فليس كل من أخطأ يكون كافرًا ولا فاسقًا ولا عاصيًا، بل عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان"(12). أما في مسألة "المروق عن الإسلام" من خلال الغلو مثلاً، فهو "شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قُتل"(13). وينقل عن ابن تيمية في موضع آخر قوله: "إن أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي"، ومن ثم  فهو لا يخضع للاجتهاد "فلا يُكفّر إلا من كفره الله ورسوله"(14)، أي لابد له من نص قطعي الثبوت والدلالة. وهو يعلن موقفه من الصوفية بصراحة، على الرغم من معرفته بأن هذا الأمر سيُغضب أبا الهدى الصيادي (الصوفي وشيخ مشايخ الدولة العثمانية حينها)، ومن خلفه الدولة العثمانية، وهو ما يعكس موقفًا سلفيًا متشددًا، يقول: "ومن نظر إلى متصوفة زماننا وغلاته وما صرفوه من النصوص إلى ما تقتضيه شهواتهم وبدعهم رأى أمرًا منكرًا"(15).

يقرر الباحث طارق حمدي الأعظمي أن السلفيين العراقيين يختلفون مع الوهابيين في مسألتين: التكفير، والموقف من التصوف؛ فالسلفيون العراقيون يحتفظون بعلاقات ودية مع الشيعة الذين يكفرهم الوهابيون، كما أن أغلبهم على علاقة جيدة مع الصوفية؛ "فالألوسي [أبو الثناء] تلقى العلم عن شيخ المتصوفة مولانا خالد النقشبندي، ولم يرفض التصوف كله أبدًا"(16). ومنذ اللحظات الأولى لدعوة محمد بن عبد الوهاب، كانت مسألة التكفير مثار خلاف مع سلفيي العراق؛ ففي رسالة لمحمد بن عبد الوهاب إلى الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي (المتوفى سنة 1805)، أحد علماء العراق آنذاك، يبدو واضحًا أن ثمة تحفظًا "عراقيًا" على مسألة التكفير؛ لذا يحاول ابن عبد الوهاب توضيح موقفه من مسألة التكفير بالقول: "وأما التكفير فأنا أكفّر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفّره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك"(17).

السلفية العراقية: مصلحون ودعاة

عانت السلفية في العراق من ظاهرة عامة ميزت الحركات والأحزاب العراقية، وهي أنها أنتجت حركيين ومناضلين من دون إنتاج أي تنظير محلي موازٍ؛ ومن ثم ظلت هذه الحركات والأحزاب مستوردة للأفكار والتنظيرات عبر عملية تمثيل واسعة. يصدق هذا الأمر على الحزب الشيوعي العراقي، والقوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وحزب التحرير، والحزب الإسلامي، وحزب الدعوة... إلى آخر القائمة. والأسماء القليلة المتداوَلة لـ "المنظرين المحليين" لهذه الحركات والأحزاب، تظل في إطار الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فالسلفية العراقية، باستثناء الألوسيين، لم تنتج أي "تنظير" سلفي حقيقي، لاسيما أنها ظلت في إطار العمل الدعوي الفردي، أو ضمن مجاميع صغيرة، وعجزت عن تشكيل حركة أو تيار فكري. إن أسماء مشايخ سلفيين، مثل: محمد أمين الواعظ (ت 1856)، وعبد السلام محمد الشواف (ت 1900)، وحمد بن محمد العسافي (ت 1914 )، ونعمان الأعظمي (ت1936)، وعثمان الديوه جي (ت 1941)، وعبد الله النعمة (ت 1950)، وعبد الكريم الصاعقة (ت 1959)، وعبد الله الحسو (ت 1960)، ومحمد تقي الدين الهلالي (ت 1987)، ومحمد بهجة الأثري (ت 1996)، والشيخ حمدي عبد المجيد السلفي (ت 2012)، والشيخ صبحي السامرائي، والشيخ عبد الحميد نادر، ظلت في إطار العمل العلمي تأليفًا وتدريسًا، والعمل الدعوي أئمة في الجوامع، ولم تحاول أن تخرج عن هذا الإطار إلا في استثناءات قليلة.

السلفية: البحث عن هوية

يشير الشيخ عبد الحميد نادر إلى أن أول محاولة لإيجاد تنظيم سلفي كانت في بداية ستينيات القرن الماضي، عندما عمد مع مجموعة من السلفيين، من جماعة مدرسة الشيخ عبد الكريم الصاعقة (صبحي وهيب، وعبد الكريم دلي، وعبد القادر العزاوي) إلى تأسيس "جماعة الموحدين" السلفية، متأثرين بتجربة الإخوان المسلمين، التي أنتجت تجربة الحزب الإسلامي في العام 1960. وقد حاول المؤسسون الاتصال ببقية طلبة الشيخ الصاعقة، وكانت لهم اجتماعات أسبوعية في جامع الدهان. ويشير الشيخ نادر أيضًا إلى أن التنظيم عمد في وقت لاحق إلى إنشاء تنظيم عسكري ضم بعض القيادات العسكرية والأمنية السلفية، كما عمدوا من خلال هذه القيادات إلى إدخال بعض الطلبة من السلفيين إلى الكلية العسكرية، كان من بينهم سعدون القاضي، وأن بعضًا من هؤلاء الضباط، خصوصا في الحرس الجمهوري، كانوا مشاركين في ثورة/انقلاب 17 يوليو/تموز 1968، وأن صالح سرية قد دعا الجماعة إلى المشاركة في المحاولة الانقلابية التي قادها اللواء عبد الغني الراوي ضد البعثيين في عام 1970 لكنهم رفضوا ذلك. ويؤكد عبد الحميد نادر أن مسألة استخدام العنف كانت قد طرحت من بعض الأفراد في "جماعة الموحدين"، إلا أنه كان ضد هذه الفكرة تمامًا، ورفض رفضًا قاطعًا حيازة الأسلحة، أو المطابع لاستخدامها في طباعة أفكار الجماعة، وأنه كان مع فكرة الانتشار الأفقي بعيدًا عن أية مخاطر أمنية مباشرة قد يتعرضون لها. وأن هذا التفكير ساعدهم على الانتشار (18).

بدأ منتصف السبعينيات محاولة أخرى للبحث عن هوية سلفية بعيدة عن السلفية الدعوية التقليدية ذات الطابع العلمي التي وسمت السلفية العراقية تاريخيًا. ويبدو أن أصداء ما كان يجري في مصر حينها كانت المحرك الرئيسي لهذا التوجه الجديد الذي قاده شباب صغار السن؛ فقد عمد بعض هؤلاء إلى محاولة تنظيم أنفسهم بعيدًا عن "حركة الموحدين"، مع احتفاظهم بالاسم نفسه. فتم تشكيل مجلس للشورى، وصياغة نظام داخلي للجماعة. وقد تم كشف هذه الجماعة واعتقالها في العام 1979 في الموصل وبغداد، وكان من أبرز هؤلاء: أمير المجموعة ابراهيم المشهداني، ونائبه رعد عبد العزيز، فضلاً عن سعدون القاضي، ومحمود المشهداني، وقد كان الأخيران عسكريين فتم فصلهما من الجيش. وفي السجن، انقسمت المجموعة إلى قسمين بعد اختلاف الأمير ونائبه حول الموقف من العنف. فأمير الجماعة كان مع فكرة العنف، في حين رفضها نائبه. وقد برزت هذه المجموعة في منتصف الثمانينيات الذي شهد نشاطًا سلفيًا واضحًا بتأثير تداعيات الحرب العراقية-الايرانية وموقف السلفيين المؤيد للحرب من جهة، وبسبب العلاقة الجيدة حينها بين الحكومتين العراقية والسعودية(19). ويرى البعض أن الحكومة دعمتهم بشكل غير مباشر من خلال سماحها بدخول الكتب السلفية من السعودية.

ثم حدث تحول جوهري في طريقة تعاطي الأمن العراقي مع السلفيين، كنتيجة مباشرة للعلاقة العراقية-السعودية التي ساءت عقب الاحتلال العراقي للكويت وما بعدها. فقد بدأ الأمن العراقي بوضع تصنيف "للسلفيين" لأول مرة، والتعامل معهم بعنوان واحد هو "الوهابيون"، وصدرت تعليمات أمنية بمعاملة "الوهابيين" معاملة حزب الدعوة(20)، ولكن الوقائع على الأرض تكشف أن الحملة الأمنية ضد السلفيين ظلت محدودة، وعلى الرغم من الاعتقالات في صفوف السلفيين، إلا أنهم لم يتعرضوا لأحكام شديدة أو عمليات إعدام واسعة، وظل الأمر في حدود المراقبة الشديدة والتضييق الأمني. فقد استطاع السلفيون الانتشار بشكل لافت في التسعينيات، وصل الأمر ذروته في العام 1995 عندما تمكنوا من الهيمنة على بعض الجوامع، وجاءت الحملة المضادة للسلفيين والانتقاد لهم من خلال بعض علماء الدين من المختصين في العقيدة، عبر المناقشات العلنية، والمناظرات التي كانت تستقطب حشودًا كبيرة؛ الأمر الذي أدى إلى إيقاف هذا الانتشار وانحساره بشكل كبير.

واجه السلفيون حكم الإعدام لأول مرة بعد دخول القوات العراقية إلى الكويت، عندما تم إعدام أربعة أشخاص في نوفمبر/تشرين الثاني 1990، ينتمون لمجموعة عُرفت باسم "مجموعة فائز الزيدي"، وما زال السبب الحقيقي للإعدام غير معروف حتى اللحظة، وما إن كان مرتبطًا بانتمائهم السلفي أم لا؟ فقدتم اتهامهم بالتعاون مع جهة أجنبية(21). كما كانت هناك حالات إعدام لبعض الشيوخ السلفيين بعد العام 1991، حين تم إعدام الشيخ "محمود سعيدة" بسبب نشره لشريط تسجيل لشيخ السلفية في الأردن محمد ناصر الدين الألباني يكفّر فيه البعثيين(22)، وإعدام الشيخ تلعة كاظم الجنابي.

السلفية الجهادية

لم يعرف العراقيون السلفية الجهادية قبل عام 2001، فلم تظهر أية علامات حقيقية على تأثر السلفيين العراقيين بالتطورات التي كانت متعلقة بالتنظيرات السلفية في هذا المجال، لا في مرحلتها المحلية، كما كان الأمر في مصر مثلاً منذ النصف الثاني من السبعينيات، ولا في مرحلتها العابرة للحدود بعد غزو أفغانستان في العام 1980، وتنظيرات عبد الله عزام فيما عُرف بمرحلة الجهاد الأفغاني، أو الأفغان العرب، أو تنظيرات السلفيين الأردنيين. ولم يكن هناك أي تأثير للخطاب السلفي الجهادي لدى السلفيين العراقيين، وإن كان البعض يشير إلى تأثر فردي لبعض السلفيين العراقيين بالهجرة والتكفير، تحديدًا "تلعة كاظم الجنابي"، ولكن هذا التأثر الفردي ظل محدودًا، لم يتحول إلى ظاهرة أو حركة واضحة المعالم. صحيح أن مرحلة الثمانينيات شهدت بعض التفجيرات التي استهدفت محال بيع الخمور، أو محلات بيع التسجيلات الموسيقية، لكن ذلك ظل عملاً محدودًا من حيث العدد، وفرديًا لا يعبّر عن اتجاه منهجي واسع النطاق. وعلى الرغم من ذهاب بعض السلفيين العراقيين إلى أفغانستان عام 1990، إلا أن هذه الزيارة لم تُحدث أي تحول في موقف السلفيين العراقيين عمومًا من مسألة العنف(23)، خاصة وأن شيوخ السلفية العلمية/الدعوية ذوي التأثير الكبير (صبحي السامرائي وعبد الحميد نادر)،كانوا شديدي المعارضة للعنف. ولم يتغير هذا الوضع بعد العام 1991، عندما حققت السلفية، بنموذجها الوهابي، حضورًا واضحًا، وإن لم تتحول إلى ظاهرة مجتمعية.

وقد ساعدت عوامل عدة على هذا الحضور:

  1. تحول الصراع في العراق إلى صراع طائفي واضح بعد الأحداث التي أعقبت الحرب، ومن هنا كان النظام السياسي السني مضطرًا، وإن بحدود، إلى مراقبة هذه الحركات بحذر، لأنها كانت تمثل خطرًا ثانويًا جدًا قياسًا إلى الخطر الأكبر المتمثل بالإسلام السياسي الشيعي.
  2. التحول الجذري من العلمانية إلى ما سُمي بالحملة الإيمانية وهو تحول أصاب رأس النظام، وبمعزل عن مدى صدق أو عدم صدق هذا التوجه، فقد طبع مؤسسات الدولة بالكامل، حيث استُحدثت مناهج تعليم ذات توجه ديني، وحملة رسمية واسعة لبناء الجوامع، وتسهيلات كبيرة فيما يتعلق ببنائها على النفقة الخاصة مقابل إعفاءات ضريبية، ومنع التعاطي العلني للمشروبات الرُّوحية وإغلاق المحلات الخاصة بها. بل وصل الأمر إلى كيان حزب البعث نفسه؛ حيث أصبح حفظ القرآن الكريم جزءًا من مناهج الحزب، ووسيلة من وسائل الترقي الحزبي. ولابد من التنبيه هنا إلى أن بعض مظاهر هذا التحول قد بدأت منذ الثمانينيات، وإن يكن بشكل أقل وضوحًا، ويمكن التمثيل هنا بالحضور القوي الذي حققته الحركات الصوفية خاصة الطريقة القادرية/الكسنزانية، منذ بداية الثمانينيات بدعم مباشر من عزة الدوري. 
  3. بتأثير من الوضع الاقتصادي الصعب، حصل نوع من التوجه الاجتماعي الجماعي نحو التدين عمومًا؛ خاصة في ظل مناخ الحملة الإيمانية الذي طغى على كل شيء.

وهكذا شهدت سنوات التسعينيات بعض المظاهر السلفية في بعض المساجد الصغيرة، وكان أغلب هؤلاء يرتدون الدشداشة القصيرة، واللحية الطويلة، وغطاء رأس مميزًا؛ وهو زي مقتبس، ولا يمت بأية صلة للأزياء التقليدية العراقية. ولوحظ حينها التعمد في إظهار هذا الانتماء بشكل مبالغ فيه في أحيان كثيرة. وقد انتشرت هذه المظاهر بشكل رئيس بين الفئات العمرية بين 17 و25 سنة. والملاحظة المهمة هنا هي أن انتشارها كان في المناطق التي تصنف عادة بوصفها مناطق طبقة وسطى وليست المناطق الفقيرة. وقد حصلت بعض التفجيرات التي نُسبت حينها إلى المحسوبين على هؤلاء؛ ففي مدينة الفلوجة على سبيل المثال، تم استهداف سينما المدينة الوحيدة، وبعض محلات بيع الأشرطة المدمجة وأشرطة الفيديو، ومهاجمة المحلين الوحيدين المخصصين للموسيقى الشعبية في النصف الثاني من التسعينيات، وبداية الألفية الثالثة، من دون أن يكون هناك وجود حقيقي لمتن نظري واضح لهؤلاء، أو وجود تمييز واضح بين السلفية الدعوية والسلفية الجهادية، أو بينهما وبين الإسلام المحافظ التقليدي.

يربط أماتازيا بارام بين البعد العشائري ونمو الحركات السلفية في العراق بعد العام 1991، مشيرًا إلى أن "الواقع أن النظام البعثي تسامح، ولو بصعوبة جمة، مع السلفيين والوهابيين العراقيين (ذوي الجذور القبلية)، لأن القيام بعمل كاسح لإخمادهم كان سيؤدي إلى عداءات قبلية، ويضعف قاعدة القوة التي يستند إليها النظام". وهو يعتمد في هذا الاستنتاج على رؤيته الخاصة لما يسميه بالتمرد الذي يرجعه إلى مجموعة من الدوافع، وهي بمجملها "تدور حول المصالح والقيم والتقاليد القبلية، سواء أكانت اقتصادية أو ثقافية أو سياسية"(24). ويورد بارام الكثير من الوقائع غير الثابتة، والمعلومات غير الدقيقة، في محاولة لإثبات فرضيته؛ فيتحدث عن "التهريب" واسع النطاق عبر الحدود قبل 2003، وهو أمر وإن كان صحيحًا، إلا أنه كان مصدرًا محدودًا جدًا ماليًا. وكان يواجَه دائمًا بعقوبات قاسية، وصلت حد الإعدام. والأهم من ذلك أن التهريب صار مصدرًا أساسيًا بعد الحرب لا قبلها، بل يبدو الحديث عما يسميه "وقف جميع الحركات غير القانونية" غريبًا جدًا في ظل الانفلات الذي حكم وما زال يحكم الحدود العراقية بعد العام 2003. أما حديثه عن التسامح مع "السلفيين والوهابيين" بسبب ارتباطاتهم القبلية فيبدو تعميمًا غير دقيق(25).

أنصار الإسلام.. المدرسة الأولى

كان النموذج الأول الذي نقل تجربة جماعات الجهاد الإسلامي، وتجربة السلفية الجهادية، إلى العراق، هو تنظيم أنصار الإسلام الذي أنشأه الملا فاتح كريكار في السليمانية في كردستان العراق، وقد أعلن عن تشكيله في ديسمبر/كانون الأول 2001 نتيجة لاندماج ثلاث جماعات، هي: "جند الإسلام" و"حركة التوحيد" و"حماس الكردية"، واتخذ التنظيم من منطقتي الطويلة والبيارة، قرب الحدود العراقية-الايرانية، مكانًا له. وهذه المنطقة كانت المصدر الرئيس لحركات الإسلام السياسي الكردية عمومًا. وقد استطاع هذا التنظيم استقطاب العديد من السلفيين العرب والعراقيين، خصوصًا بعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان في نهاية 2001. وكان من بين السلفيين العراقيين الذين التحقوا بأنصار الإسلام "سعدون القاضي" الذي سيكون بعد 2003 واحدًا من مؤسسي أول تنظيمات السلفية الجهادية لمواجهة الاحتلال الأميركي في العراق،  وهو جيش أنصار السنة.

ويمكن تصنيف السلفية في العراق إلى أربعة اتجاهات رئيسية:

الاتجاه الأول: السلفية العلمية التقليدية، ويطلق عليها السلفية الدعوية، وهي سلفية معتدلة، أقرب إلى المعنى الاصطلاحي للسلفية بوصفها التزامًا بمنهج السلف الصالح من دون أية نزعة أيديولوجية، وهي قريبة من الإخوان المسلمين فكريًا. وهذا الاتجاه ما زال حاضرًا في المشهد السلفي العراقي، عبر جمعية الآداب الإسلامية التي تأسست منتصف الأربعينيات من القرن الماضي في جامع عادلة خاتون في بغداد، وترأسها الشيخ ابراهيم الراوي، وكان الشيخ أمجد الزهاوي رابع رئيس لها، ثم انضم إليها محمد أحمد الصواف سنة 1947، وكلاهما من مؤسسي حركة الإخوان المسلمين في العراق. ولكنهما خرجا منها لاحقًا وأسسا معًا، سنة 1949، جمعية الأخوة الإسلامية(26). وعلى الرغم من أن الجمعية لم تكن سلفية الطابع في نشأتها الأولى، إلا أنها انتهت إلى أن تكون كذلك مع هيمنة السلفيين عليها(27). وقد استعادت الجمعية الموافقات الرسمية لممارسة عملها مؤخرًا، ومن أبرز ممثليها السلفيين الشيخ صبحي البدري السامرائي رئيس الجمعية، والشيخ عبد الحميد نادر إمام جامع عادلة خاتون في بغداد نائبًا للرئيس.

الاتجاه الثاني: السلفية الجامية (نسبة إلى الشيخ محمد بن أمان الجامي)، ويُطلق عليها أحيانًا المدخلية (نسبة إلى الشيخ ربيع المدخلي)، فيما يطلق عليها مناوئوها اسم المرجئة (المرجئة في الأصل فرقة من فرق الخوارج)، وزعيمها هو الشيخ محمد خضير، ويُكنى ويلقب بأبي منار العلمي، نسبة إلى مدينة العلم شرقي تكريت ( تكريت على مسافة 160 كم شمال غربي بغداد). وقد برز اسمها في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق، من خلال مواقفها الرافضة لمواجهة الاحتلال الأميركي والتأكيد على أن "جهاد الكافر المحتل لبلاد الإسلام باطل"، وتشجيع المواطنين، تحديدًا في محافظة صلاح الدين، على الانتماء للجيش والشرطة والمشاركة في العملية السياسية، بل إن زعيمها نفسه تولى منصب مدير الوقف السني في المحافظة. وقد نشر أبو منار العلمي عام 2004 كتابًا بعنوان (دحر المثلب على جواز تولية المسلم على المسلم من كافر متغلب)، قدم له الشيخ عبد المحسن العبيكان. كانت الفكرة المركزية للكتاب هي محاولة إثبات شرعية تولي المسلمين العراقيين للمناصب في الدولة المحتلة حتى إن جاء هذا التعيين على يد قوات "كافرة" محتلة، وأن "إمامة الكافر أو من يولّيه الكفار، على المسلمين صحيحة". وهو يتابع موقف السلفية التقليدية في عدم جواز الخروج على الحاكم، وقد أفتى في ديسمبر/كانون الأول 2012 بحرمة المظاهرات ضد رئيس الوزراء نوري المالكي بوصفه وليًا للأمر في العراق.

الاتجاه الثالث: السلفية الجهادية المحلية، وهي نتاج مباشر لظاهرة أنصار الإسلام في كردستان العراق من جهة، والاحتلال الأميركي للعراق من جهة ثانية. وهي أقل تشددًا من نظيرتها الوافدة؛ وأكثر تقديرًا للعوامل التي تحكم الصراع في العراق، تحديدًا فيما يتعلق بالموقف من الشيعة؛ وأشد ارتباطًا بمجتمعها المحلي. وأهم التنظيمات السلفية الجهادية المحلية في العراق، هي:

  • الجيش الإسلامي: تأسس بعد الاحتلال الأميركي للعراق مباشرة، ويشير البعض من قادته إلى أن التفكير بتأسيس الجيش بدأ قبل ذلك تحسبًا للاحتلال الأميركي للعراق. وهو التنظيم الأكثر شهرة بين الجماعات المسلحة، وأمير الجيش حاليًا هو أمين الجنابي. وكان إسماعيل الجبوري هو أول أمير للجيش، وعُرف بتصريحاته للإعلام بعمليات الجيش باسمه الصريح في عام 2004. ومن الشخصيات الرئيسة في الجيش: د. ابراهيم الشمري الناطق الرسمي باسم الجيش منذ عام 2006، ود. أحمد الدباش عضو المكتب السياسي في الجيش الإسلامي ومسؤول العلاقات الخارجية فيه. وعلي الجبوري المسؤول الشرعي، والشيخ بشير مصلح عضو المكتب السياسي، والشيخ منقذ جبر عضو المكتب السياسي، ود. عماد الدين عبد الله عضو المكتب السياسي.
  • جيش أنصار السنة الذي أعلن عنه في 20 سبتمبر/أيلول 2003: أي بعد الاحتلال الأميركي بستة أشهر. وقد جاء في بيان التأسيس "أن الجهاد في العراق أصبح فرض عين على كل مسلم بعد أن صال العدو الكافر على أرض الإسلام، وأن الذين رفعوا لواء الجهاد المبارك هم أهل السنة والجماعة أهل التوحيد وأتباع السلف". وأضاف البيان أن الجيش تشكّل من "عددٍ من الفصائل والجماعات الجهادية المتفرقة العاملة في الساحة من الشمال إلى الجنوب". وقد وُقع البيان باسم "أبو عبد الله الحسن بن محمود أمير جيش أنصار السنة"(28).
    وقد وقع انشقاق داخل هذه الحركة في العام 2007، فتشكلت حركة "جيش أنصار السنة-الهيئة الشرعية" التي يرأسها سعدون القاضي. ومن أبرز قادة هذا التنظيم محمد حسين الجبوري.
  • جيش المجاهدين: جيش المجاهدين أسسه في نهاية عام 2004 محمد حردان العيساوي وكان أميرًا له، ومن أبرز قادته: مهند خلف العليان، والشيخ أبو جندل.
    وقد شكّلت هذه الحركات الثلاثة في 2 مايو/أيار 2007 جبهة الجهاد والإصلاح في مواجهة تنظيم القاعدة في العراق. وانضم إليها لاحقًا جيش الفاتحين ثم انسحب منها.

وقد شكّل هذا التجمع في 11أكتوبر/تشرين الأول 2007، بمشاركة حركتي المقاومة الإسلامية (حماس-العراق) والجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية (جامع)، وهما فصيلان قريبان من الإخوان المسلمين في العراق، تنظيمًا أوسع أُطلق عليه المجلس السياسي للمقاومة العراقية.

الاتجاه الرابع: السلفية الجهادية الوافدة، وغالبًا ما يطلق عليها "السلفية التكفيرية"، ويمثلها، بشكل رئيس، جماعة "التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين"، التي تحول اسمها في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2004 إلى "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" بعد إعلان ولائها لتنظيم القاعدة ، ومبايعة زعيم التنظيم الأردني أبي مصعب الزرقاوي لأسامة بن لادن "على السمع والطاعة في المنشط والمكره للجهاد في سبيل الله إمامًا"(29). وقد شكّل التنظيم الأخير مع جماعات جهادية محلية صغيرة في 15يناير/كانون الثاني 2006، ما أُطلق عليه "مجلس شورى المجاهدين في العراق"، وقد جاء في بيان إعلان تشكيل هذا المجلس أنه يضم الجماعات الجهادية الآتية: تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وجيش الطائفة المنصورة، وسرايا أنصار التوحيد، وسرايا الجهاد الإسلامي، وسرايا الغرباء، وكتائب الأهوال.

وكان من أهم الخطوات التنظيمية التي تبعت هذا الإعلان، إعلان تشكيل ما أُطلق عليه "حِلف المطيبين" في 12يونيو/حزيران 2006، ضم الحِلف، فضلاً عن مجلس شورى المجاهدين في العراق، جماعات جهادية محلية صغيرة أخرى، هي: جيش الفاتحين، وجند الصحابة، وكتائب أنصار التوحيد والسنة. وكانت الخطوة الأخيرة في هذا المسار إعلان مجلس شورى المجاهدين عن قيام "دولة العراق الإسلامية" في 15أكتوبر/تشرين الأول 2006 التي ما زالت التشكيل الجهادي الأكثر حضورًا وتأثيرًا في الساحة العراقية.

مصادر التنظير السلفي

ظلت الدعوة السلفية في العراق محدودة ليس في مدى انتشارها وحسب، بل وفي طبيعة الخطاب النظري الذي تعتمده أيضًا؛ وقد كان تأثير علماء السعودية حاضرًا بقوة، باتجاهاته المختلفة: الخط الرسمي الذي يمثله الشيخ ربيع المدخلي (الجامية)؛ الخط الحركي الذي يمثله الشيخ محمد سرور زين (السرورية)، فضلاً عن التيار الإصلاحي المتمثل بالشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي. وكان هناك تأثير كبير للشيخ محمد ناصر الدين الألباني بسلفيته المحافظة. كما تابع البعض طروحات الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وبشكل خاص في موقفه الداعي إلى المشاركة السياسية.

في المقابل كان تأثير التنظيرات السلفية الجهادية التي أخذت بالتبلور بشكل واضح بعد 2003، ومثلتها بشكل رئيس "التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين"، وصولاً إلى "دولة العراق الإسلامية" وهما النموذج العراقي للقاعدة، وبعض الفصائل السلفية المحلية الصغيرة. وكانت مصادرها الأساسية كتابات الجماعة الإسلامية المصرية، وتنظيرات أبي قتادة وأبي محمد المقدسي والظواهري، فضلاً عن تمثلاتها المحلية (الملا فاتح كريكار ثم أبي مصعب الزرقاوي).

مهاجرون وأنصار.. سلفية وافدة وسلفية محلية مستحدثة

إن الملمح الأبرز للسلفية الجهادية الوافدة والسلفية المحلية المستحدثة في العراق هو رفضها القاطع للاحتلال الأميركي للعراق وما تبعه من تحولات جذرية في بنية الدولة. وتركز مشروعها الأساسي في "مقاومة" المحتلين، و"معاقبة"  العراقيين الذين اشتركوا في العملية السياسية، أو الذين قبلوا بسلطة الدولة وعملوا في مؤسساتها المختلفة، وخصوصًا القوات الأمنية. وقد استخدم بعضهم خطابًا إسلاميًا متشددًا يوصف في بعض دراسات علم الاجتماع بـ "خطاب السيف". وهو خطاب يعتمد العنف منهجًا للتغيير، ويستمد مقدماته من كتابات أبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، ومدونات الجماعات الإسلامية المصرية التي ظهرت في السبعينيات، وكتابات الدكتور عبد الله عزام وما أنتجته تجربة الأفغان العرب من خطاب سلفي جهادي، وكتابات السلفيين الجهاديين الأردنيين. والذي يجعل "آية السيف" مقدمته النظرية الأولى في صياغة فقه الجهاد ومشروعية استعمال العنف، وهي قوله تعالى: "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" (التوبة: 5).

كان العنف هو الوسيلة الأولى والوحيدة لهذه الجماعات في تنفيذ ما تراه جهادًا وواجبًا شرعيًا، وقد وجدت هذه الجماعات في بعض الفتاوى إباحة للقتل حتى لو كان السبب الاختلافات الفقهية، والفتاوى التي تجيز قتل "المتمترسين" من الكفار الأصليين، وهم في حالة العراق القوات الأجنبية، أو الـ"الكفار" المرتدين، أي المتعاونين، وإن أدى ذلك إلى قتل "الترس"، أي "معصومي الدم" من المسلمين الأبرياء الذين يمكن أن يسقطوا عرَضًا، نتيجة للعنف المستخدم. ومن المعروف أن "مسألة الترس" تعود في جذورها إلى ابن تيمية، والتي قال بها أثناء مواجهة المغول. يقول ابن تيمية: "فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا، فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار. ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين في أحد قولي العلماء. ومن قُتل لأجل الجهاد الذي أمر به الله ورسوله -وهو في الباطن مظلوم- كان شهيدًا، وبُعث على نيته. وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين، وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون، وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم"(30). وتستمد حداثتها أيضًا من التأويلات المفرطة التي أدخلها أبو قتادة عليها، حين أفتى بها لتنظيم "الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر". يقول: "ومما أجاز فيه جمهور العلماء قتل المسلم لأخيه المسلم وهو معصوم الدم جواز قتله في حالة الترس... قال جمهور أهل العلم بجواز قتل التُرس لوجود المقصد الشرعي، والمصلحة المعتبرة، وهي تحقق النكاية في العدو، وعدم تفويت الفرصة بهزيمتهم، ونصر المسلمين"(31).

بل إن أبا قتادة يؤصل المسألة ويرجعها إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم نفسه، يقول: "وأما ضرب مواقع معينة مع التخوف من وجود معصوم الدم؛ فلا يمنع أحد من أهل العلم هذا النوع من الاختلاط القائم على التجوز العقلي أو الاحتمال اليسير، وبالتالي من منع فهو محجوج بالكثير من كلام العلماء وبنص حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في خبره عن الجيش الذي يغزو الكعبة"(32).

وأيضًا، من فتاوى أبي محمد المقدسي أحد أبرز منظري التيار السلفي الجهادي في الأردن، وقد كان مرشد أبي مصعب الزرقاوي، الذي تحدث عن "تجويز أهل العلم قتل الترس للضرورة، وإن قيدوا ذلك بشروط، وهي: أن يكون في ترك قتل الترس تعطيل للجهاد؛ أن لا يمكن التوصل إلى الكفار وقتلهم وقتالهم إلا بقتل الترس؛ أن يترتب على ترك الترس استئصال شأفة المسلمين واستباحة حرماتهم واحتلال البلد ومن ثم قتل الترس أيضًا". وإن كان قد تحدث عن ضرورة "التركيز على الأهداف العسكرية والأمنية ونحوها مما يحدث نكاية عظيمة في أعداء الله وأن يتجنبوا تعمد قتل الأطفال ونحوهم من غير المقاتلين أو غير المعينين على القتال بأي نوع من أنواع الإعانة، إلا أن يقتلوا عرضًا في التبييت أو التفجير ونحوه من أنواع القتال المشابهة التي لا يتمكن المجاهدون من تجنبهم فيها"(33).

إنه خطاب يعمد إلى المماهاة بين الشرعي/المقدس/المطلق، والسياسي/الدنيوي/النسبي، فيصير المختلف فيه سياسيًا أو فكريًا مختلفًا فيه على مستوى الخطاب الشرعي، ومن ثم ينطبق عليه حد الخارج عن الشريعة/الدين.

البحث عن تمثيل

فيما عدا محاولتين وحيدتين لإيجاد بنية تنظيمية للسلفيين في العراق في بداية الستينيات ثم في منتصف السبعينات، لا يمكن الحديث عن تيار سلفي منظم وواع بذاته سياسيًا في العراق قبل العام 2003. بعد الاحتلال، برزت بضع محاولات لتشكيل بنى تنظيمية سلفية خالصة أحيانًا، أو بمشاركة اتجاهات إسلامية أخرى، لم يعمر أي منها طويلاً. فبعد الاحتلال مباشرة تم تشكيل ما سُمي "الهيئة العليا للدعوة والإرشاد والفتوى"، التي عرّفت نفسها بأنها "هيئة علمية إسلامية سلفية تسعى إلى جمع أهل السنة والجماعة"(34)، اتخذت من جامع "أم الطبول" في بغداد مقرًا لها، بعد أن غيرت اسمه إلى "ابن تيمية" من دون الحصول على موافقة الوقف السني على تغيير اسمه. لكن هذه الهيئة اختفت تمامًا بعد اعتقال مهدي الصميدعي الأمين العام للهيئة للمرة الثانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2004 لأربع سنوات. كما عمدت بعض الشخصيات السلفية، بالاشتراك مع بعض الإخوان المسلمين والصوفية إلى تأسيس "تجمع الشورى لأهل السنة والجماعة" ليكون مرجعية سنية مفترضة، وكانت الشخصيات الرئيسة في هذا التجمع: محمد أحمد الراشد ممثلاً للإخوان المسلمين، وعبد القادر العاني ممثلاً للصوفية، وفخري القيسي ممثلاً للسلفية، وعقدت الهيئة التأسيسية للمجلس في 25 ديسمبر/كانون الأول 2003 أول اجتماع لها في جامع أم القرى في بغداد. ولكن هذا التجمع لم يستمر طويلاً. ولاحقًا دخل ممثل السلفية في التجمع وهو فخري القيسي (أمين عام مجلس شورى أهل السنة والجماعة) إلى الجهة الأخرى؛ حيث ترشح لانتخابات مجلس النواب عام 2005 ضمن قائمة "كتلة برلمان القوى الوطنية" برئاسة حازم الشعلان وزير الدفاع في وزارة د. إياد علاوي (الذي كان قائد الهجوم على الفلوجة في الحرب الثانية) لكن القيسي لم يفز فغادر العراق إلى سوريا التي لا يزال يقيم فيها إلى الآن. لكن هذا لم يمنع بعض الشخصيات السلفية من الدخول في العملية السياسية، كأعضاء في مجلس النواب؛ فالدكتور محمود المشهداني مثلاً، شغل منصب رئيس مجلس النواب بعد انتخابات 2005. 

ويحاول بعض السلفيين، حاليًا، إعادة تجربة العمل المنظم مرة أخرى؛ فقد عاد مهدي الصميدعي عام 2012 إلى بغداد بعد أن غادرها إلى سوريا عام 2008 بعد خروجه من المعتقل الأميركي، وأسس ما أسماه "هيئة إفتاء أهل السنة" وعين نفسه رئيسًا لها، وهو اليوم جزء من مشروع رئيس مجلس الوزراء العراقي نوري المالكي لتصنيع وجوه سنية داعمة له.

كما دعا بعض السلفيين الجهاديين والدعويين إلى اجتماعات لمناقشة مسألة إيجاد صيغة تنظيمية للسلفية في العراق، مع استثناء السلفية الجهادية التكفيرية التي تمثلها القاعدة ودولة العراق الإسلامية، فضلاً عن السلفية الجامية التي يمثلها أبو منار العلمي. وقد عُقد اجتماعان في إسطنبول لهذا الغرض، الأول في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2012 والثاني في يناير/كانون الثاني 2013. وتم في الاجتماع الأول الذي حضره ما بين 60 و70 شخصية سلفية عراقية يمثلون أطيافًا مختلفة (السلفيين المنخرطين في العنف مثل الجيش الإسلامي، وأنصار السنة-الهيئة الشرعية، جيش المجاهدين، والسلفيين الرافضين للعنف، وآخرين رافضين لما يعدونه فتنة)، طرح فكرة تشكيل "تجمع سلفي" باسم "الرابطة السلفية". ويؤكد البعض أن هذه الفكرة لم تكن بتأثير من التنظيمات السلفية التي ظهرت بقوة في مصر بعد الثورة، وإنها هي فكرة قد تبلورت منذ عام 2009 للتنسيق بين السلفيين عمومًا(35).
__________________________________________
يحيى الكبيسي - باحث في الشؤون السياسية العراقية

الهوامش
1- نقلاً عن علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (قم: انتشارات الشريف الرضي، 1413ه)، 1/188.
2- لقاء مع الشيخ عبد الحميد نادر.
3- ينظر: عباس العزاوي، تاريخ العقيدة الإسلامية (الرياض: دار التوحيد للنشر، 2011م)، 406-407.
4- محمود شيت خطاب، الإمام محمد بن عبدالوهاب في مدينة الموصل (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء الأول) (الرياض: عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1991م)، 1/84.
5- نفسه، 85.
6- عباس العزاوي، ذكرى أبي الثناء الألوسي (بغداد، شركة التجارة والطباعة، 1957م)، 37.
7- ابن سند البصري، مطالع السعود بأخبار الوالي داؤد (www.saadsowayan.com/articles/Tribal/t77.pdf )، 288.
8- نفسه، 292.
9- العزاوي، ذكرى أبي الثناء الألوسي، 37.
10- أبو المعالي محمود شكري الألوسي، شرح مسائل الجاهلية (صنعاء، دار الآثار، 2009)، مقدمة الشارح 17.
11- أبو المعالي محمود شكري الألوسي، غاية الأماني في الرد على النبهاني (من دون ذكر مكان الطبع ومن دون تاريخ)، ج1، 60.
12- نفسه،28 ـ 29.
13- نفسه، 30.
14- نفسه، 31.
15- نفسه، 25.
16- الأعظمي، نشوء الحركة الإسلامية السنية المعاصرة في العراق، 133.
17- عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي،  الدرر السنية في الأجوبة النجدية (دون مكان طبع، ط6، 1996م)، ج1، 82 ـ 83.
18- لقاء مع الشيخ عبد الحميد نادر.
19- لقاء مع الشيخ إياد عبد اللطيف القيسي.
20- لقاء مع اللواء الدكتور مؤيد الونداوي (مدير معهد التطوير الأمني في الأمن العام سابقًا).
21- حوار مع الشيخ إياد عبد اللطيف القيسي، وكان أخوه "جمال" أحد أعضاء المجموعة التي تم إعدامها.
22- لقاء مع د. عدنان محمد سلمان الدليمي أحد قادة الإخوان المسلمين في العراق.
23- لقاء مع الشيخ إياد القيسي.
24- أماتزيا بارام، من هم المتمردون؟ الثوار من العرب السنة في العراق، معهد السلام الأميركي، إبريل/نيسان 2005، 13. (http://www.usip.org/files/resources/sr134_arabic.pdf).
25- يشير أماتزيا بارام إلى أن نظام البعث قد أبدى "موقفًا متساهلاً" أمام تغلغل النفوذ الوهابي في بداية التسعينيات "لأن الوهابيين كانوا معادين للنظام السعودي الذي عدوه متعاونًا مع الولايات المتحدة بدرجة أوثق من أن تُحتمل"، ويبدو هذا الاستنتاج تعميمًا غير دقيق أيضًا. (يُنظر"أماتزيا بارام، العلاقات ما بين الدولة والجامع في العراق 1968 ـ 2004 (بيروت، دراسات عراقية، 2008)، 29).
26- د. عدنان محمد سلمان الدليمي، آخر المطاف- سيرة وذكريات (عمان، دار المأمون للنشر والتوزيع، 2012)،27 ـ 29.
27- لقاء مع الشيخ عبد الحميد نادر.
28- إضغط هنا
29- صحيفة الشرق الأوسط، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2004
30- جموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ج 28، 546. ويُنظَر أيضًا نفسه ج20،  52 ـ 53، حيث يقول في "مسألة التترس": "فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر، فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك".
31- أبو قتادة، جواز العمليات الاستشهادية وأنها ليست بقتل للنفس، باب حقيقة الأعمال الاستشهادية المعاصرة (منبر التوحيد والجهاد:  (66.45.228.54/a?a=MenbarTJ.
32- أبو قتادة، رسالة الرد على المجاهدين في الثغور (منبر التوحيد والجهاد: www.tawhed.ws).
33- أبو محمد المقدسي: حول فتوى مفتي السعودية بشأن العمليات الاستشهادية، (موقع منبر التوحيد والجهاد  www.tawhed.ws).
34- http://alfatwairaqi.jeeran.com34-
35- لقاء مع الشيخ إياد القيسي.

نبذة عن الكاتب