صلاحيات متضاربة: أزمة القضاء والسلطة السياسية في مصر

تندرج الأزمة بين القضاء المصري والسلطة التنفيذية في سياق الانسداد السياسي الأوسع، وسترجح كفة أحد الطرفين بتداعيات احتجاجات 30 يونيو/حزيران على الرئيس محمد مرسي.
20137111391471734_20.jpg
مصريون يدعون إلى تطهير القضاء في تظاهرة بالقاهرة (أسوشيتد برس)

تعاني مصر حاليًا من توترات عديدة نجمت عن تعقيدات المرحلة الانتقالية؛ وتعد الأزمة الراهنة بين السلطة التنفيذية والقضاء مسألة محورية يتحدد بناء على تطوراتها شكل وتوازنات النظام السياسي بعد الثورة.

يقتضي تحليل هذه الأزمة وتفاعلاتها وما يمكن أن تؤول إليه، معرفة أطرافها، وما يملكه كل طرف من أدوات ويريد تحقيقه من أهداف، وذلك في إطار من تطورات جرت، ولا تزال، منذ اندلاع ثورة 25 يناير.

مأزق الاستقطاب

طرفا الأزمة هما السلطة التنفيذية والسلطة القضائية. تتمثل السلطة التنفيذية بالأساس في رئيس الجمهورية القادم من جماعة الإخوان المسلمين والمدعوم، بصفة عامة، من تيار الإسلام السياسي بشرائحه المختلفة. ويتشكل هذا التيار، فضلاً عن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي، من حزب النور الممثل للدعوة السلفية، وحزب الوسط، وحزب البناء والتنمية، وهو الذراع السياسي للجماعة الإسلامية. أما الطرف الثاني في هذه الأزمة، فهو القضاء المصري الذي يتكون من ثلاث مؤسسات منفصلة عن بعضها البعض من حيث النشأة والاختصاصات والتوجه، وهي القضاء العام، والنيابة العامة جزء منه؛ والقضاء الإداري؛ والقضاء الدستوري (المحكمة الدستورية العليا). هذا التباين في تركيبة القضاء المصري هو الذي جعل تدخل، أو انخراط القضاء المصري في العملية السياسية، بشكل أو بآخر، يثير تساؤلات ترتبط بشكل وثيق برهانات الأزمة الجارية ومآلاتها.

القضاء المصري في مجموعه كان يقوم، مع أعمدة أخرى، على مبدأ عدم الانخراط في السياسة، وقد ظل هذا المبدأ يمثل، على امتداد عقود طويلة، ميزة أساسية من خصائص العمل القضائي في مصر؛ فحفظ للقضاء مكانة مهمة داخل الدولة المصرية. وقد مثّل العام 2000 نقطة تحول شديدة الأهمية بالنسبة للسلطة القضائية، حيث انطلق الإشراف القضائي على الانتخابات العامة في هذا العام، فترتبت آثارٌ سياسية هائلة على ذلك في نتائج الانتخابات البرلمانية. غير أن ما يعنينا في هذا السياق أن هذا الحدث مثّل -إن جاز القول-ـ "نقطة التماس الأولى" بين القضاء والسلطة الحاكمة في ذلك الحين، ومن ثمّ تدشين حقبة جديدة في التاريخ القضائي والسياسي المصري، حيث بات القضاء "في الواجهة العامة"، فضلاً عن وظيفته القضائية البحتة.

استمرت الحال، مع توتر واضح في العلاقة بين القضاء والحكم، خلال الانتخابات النيابية والرئاسية في العام 2005، حتى أُقصي القضاء عن إدارة الانتخابات بموجب تعديلات دستورية جرت في العام 2007.

نادي القضاة: رأس الحربة

لا يستقيم الحديث عن طرفي الأزمة من دون الحديث عن أحد أهم اللاعبين الأساسيين فيها، وهو نادي القضاة. كانت نشأة النادي في العام 1939 بمثابة "نقابة للقضاة"، للدفاع عن مصالحهم والذود عن استقلالية القضاء. وقد دخل نادي القضاة إلى قلب الأحداث، صانعًا أو موجهًا، مع تمكين القضاة من الإشراف على العملية الانتخابية ابتداء من نهاية العام 2000؛ حيث اختط النادي لنفسه خطًا اتسم بطابع المواجهة مع السلطة الحاكمة لتحقيق الإشراف القضائي غير المنقوص على العملية الانتخابية، حتى لا تُتهم السلطة القضائية بالتقصير إذا شاب الانتخابات شيء من التزوير، ولتحقيق الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، ووقف تدخل السلطة التنفيذية في أعمالها. استمر نادي القضاة، منذ تولي الرئيس محمد مرسي مهامه، في القيام بدور مؤثر في الأزمات المتوالية بين القضاء والسلطة التنفيذية؛ حتى إنه يمكن القول: إن نادي القضاة -كونه منتخبًا من عموم قضاة مصر- هو رأس حربة المؤسسة القضائية، الذي يثير الكثير من الجدل حول مواقفه.

تحصين القرارات ونزع الشرعية

بمجيء شهر يونيو/حزيران من العام 2012 (حيث كان قد انقضى ستة عشر شهرًا من عمر الثورة المصرية من دون صدام بين القضاء والحكم ممثلاً في القوات المسلحة)، صدر حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب، وحل المجلس، وهو حكم ما زالت آثاره ممتدة إلى اللحظة. كما صدر قبل ذلك بأيام قليلة -في الثاني من يونيو/حزيران- حكم محكمة جنايات القاهرة بشأن "محاكمة القرن" للرئيس المخلوع حسني مبارك وبعض أركان نظامه، وهو الحكم الذي أثار استنكار قطاع من المصريين بسبب تبرئة كل القيادات الأمنية في وزارة الداخلية إبان أحداث الثورة وما قبلها. في إبريل/نيسان من العام نفسه، قررت محكمة القضاء الإداري بطلان تشكيل الجمعية التأسيسية، التي شُكّلت في مارس/آذار من العام ذاته لكتابة الدستور الجديد. من نافلة القول، أن الجهات المتضررة من تلك الأحكام، اعتبرتها موقفًا موجهًا بالأساس ضد تيار الإسلام السياسي الذي كان مسيطرًا بأغلبيته على مجلس الشعب -قبل حله- وبالتالي على الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور.

جاء رئيس الجمهورية المنتخب على رأس الدولة المصرية، في الأول من يوليو/تموز من العام 2012، وعلى رأس أجندته إكمال المرحلة الانتقالية، ولا يتم ذلك من دون "التعامل" مع المؤسستين الأهم في الدولة المصرية: المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية. في سبيل ذلك، أجرى رئيس الجمهورية تحركين رئيسيين:

  1. الأول: الإعلان الدستوري الصادر في 12 من أغسطس/آب من العام 2012، وكان بالأساس للتعامل مع الجيش، حيث أنهى الازدواج الذي كان قائمًا على رأس السلطة المصرية؛ إذ كانت السلطة التشريعية في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبذلك امتلك رئيس الجمهورية كامل السلطتين. قوبلت هذه الخطوة برضى شعبي كبير؛ إذ كان الرأي العام يرغب في إبعاد الجيش عن الحياة السياسية، لاسيما وقد أدار البلاد إدارة غير ناجحة طوال عام ونصف العام.
  2. أما التحرك الثاني، والأهم في هذا السياق، فهو الإعلان الدستوري الثاني الصادر في 21 من نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وقد كان الهدف الرئيس من ذلك الإعلان، كما بدا من نصوصه، منع القضاء من الحكم ببطلان مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية أو إلغاء أي من قرارات رئيس الجمهورية. رسّخ هذا الإعلان حالة الاستقطاب السياسي المسيطرة على مصر إلى الآن. كما أن إخفاق هذا الإعلان الدستوري في تحقيق كامل أهدافه يرجع لكون المؤسسة القضائية متعددة الجهات؛ فالسلطة القضائية -كما سبقت الإشارة- مركبة وليست ذات رئاسة واحدة، كما أن الأحكام القضائية المثيرة للجدل تعد من حيث المبدأ نتاج اجتهاد "فردي"؛ ما يعني أن المسألة لا تأخذ طابع "ترتيبات" اتفقت عليها الهيئة القضائية في مواجهة السلطة التنفيذية، وذلك بعكس الحال في المؤسسة العسكرية ذات القيادة الواحدة والرؤية الواحدة.

قوبل إعلان نوفمبر الدستوري باحتجاج قطاع من المصريين، وترتبت عليه نتائج بالغة الدلالة، أهمها، من جهة، اتحاد الهيئات القضائية في تعاملها مع السلطة الحاكمة؛ إذ استشعر القضاة، على اختلاف توجهاتهم، أن مخاطر جمّة تواجه استقلال السلطة القضائية من جانب السلطة التنفيذية، التي تسعى إلى إظهار القضاء بمظهر "المعوق" لحركة الثورة. ومن جهة أخرى، تبنت المعارضة السياسية المصرية تخوفات القضاة واستخدمتها في الاعتراض على الرئيس محمد مرسي واتهامه بمحاولة إخضاع القضاء حتى تسيطر جماعة الاخوان على مؤسسات الدولة المصرية؛ وهو ما انتهى إلى جعل القضاء أحد أكبر "القوى المعارضة" في المعادلة السياسية المصرية.

الإصلاح أم الإخضاع؟

يرفع النظام الحاكم شعار إصلاح القضاء، أو تطهيره، كأهداف يريد تحقيقها، انطلاقًا من الاعتقاد بأن القضاء كان معوقًا لإتمام المرحلة الانتقالية، وعقبة في طريق إقامة المؤسسات الدستورية، ومن أن القضاء أصلاً يحتاج إلى إصلاح كبير وقد حان وقته لاسيما مع "الإخفاقات القضائية" المتوالية. ومع أن القضاء المصري يحتاج إلى اصلاح يعالج مواطن الفساد ومواضع الخلل المتعددة في بنيته، وصولاً إلى تبني قواعد واضحة وعادلة للتعيين في المناصب القضائية، ورفع مستوى الكفاءة الفنية للقضاة؛ فإن هذا الإصلاح ينبغي أن يراعي الحفاظ على الاستقلال القضائي الكامل عن السلطة التنفيذية. غير أن الأزمة، هي نتاج الطريقة التي طُرحت بها مسألة الإصلاح القضائي، والتوقيت الذي جاءت فيه هذه الدعوة.

يحمل القضاء والقضاة، في الجهة المقابلة، قناعة راسخة بأنهم في حالة "دفاع شرعي" عن المهنة، وعن الشرعية ودولة القانون، وأن أي حديث عن الإصلاح في هذا الظرف الدقيق ما هو إلا "كلام ظاهره الحق يراد به الباطل"، لاسيما وأن القضاة والمعارضة يعتقدون أن الهدف الأهم للنظام الحاكم ما هو إلا السيطرة على القضاء وتقويض دعائمه لأجل إعادة تشكيله بما يتفق ومصالح السلطة التنفيذية، وهو الهدف الذي ظهر، حسبهم، في تعيين النائب العام الحالي، وإعادة تشكيل قضاة المحكمة الدستورية العليا، وأخيرًا محاولة "عزل" مئات أو آلاف من القضاة عن طريق خفض سن المعاش. ما يزيد من حدة المواجهة أن القضاء في مجموعه يتعامل مع الشأن القضائي بمنطق "المالك والمتصرف الأوحد" في الشؤون الخاصة به، وهو ما يجعل القضاء في حالة "استنفار" وتشكك في أية خطوة تشي بتدخل في الشأن أو العمل القضائي. 

يمكن القول، من ثمّ، بأن حالة كاملة من عدم اليقين وانعدام الثقة تسود، ليس فحسب العلاقة بين القضاء والنظام الحاكم، بل والحياة العامة كلها في مصر. وليس من المنطقي الحديث عن "مشروعية" أهداف أي من طرفي الأزمة ومدى عدالتها، بل الأمر كله محكوم بمنطق القوة، ووسائل الضغط والتأثير التي يملكها كل طرف. بحسب ميزان القوة هذا، وإلى أي الطرفين سيميل، سيتحدد المسار المحتمل لهذه الأزمة.

أوراق الضغط

يتمثل النظام الحاكم في أعلى منصب في الدولة: رئيس الجمهورية، وهو الموقع الذي ينظر إليه المصريون بهيبة وإجلال لأسباب تاريخية واجتماعية عديدة، غير أنه من المستبعد أن يتحرك رئيس الجمهورية نحو أية خطوات تصعيدية في الوقت الحالي، نظرًا للجدل الشديد الذي أثاره إعلان 21 من نوفمبر/تشرين الثاني سالف الذكر، ولضمان عدم اهتزاز صورة الرئاسة أكثر مما تقدم. لذلك، فإن مجلس الشورى (الغرفة التشريعية القائمة)، الأداة الأكثر نشاطًا في الوقت الحالي للتعامل مع أزمة القضاء؛ إذ يسيطر التيار الإسلامي على جل مقاعد المجلس. ويهدد مجلس الشورى الآن برفع ورقة تعديل قانون السلطة القضائية وتخفيض سن معاش القضاة ليصير ستين عامًا بدلاً من سبعين عامًا، وهو ما سيترتب عليه "إخراج" أو "عزل" عدد كبير من القضاة العاملين.

مثلت هذه المسألة ذروة الخلاف بين القضاء ونظام الحكم؛ فعلى امتداد الشهرين الماضيين، ثار الجدل حول حق مجلس الشورى في التشريع ابتداء، ثم حول حقه في إصدار قانون السلطة القضائية ذاته. ويبدو من تحركات مجلس الشورى أن مسألة تعديل قانون السلطة القضائية هي بالفعل ورقة ضغط فعالة، كان من ثمارها أن المحكمة الدستورية العليا حرصت عندما أصدرت حكمها الأخير في الثاني من يونيو/حزيران 2013 بعدم دستورية قانون مجلس الشورى (والجمعية التأسيسية) أن تتجنب حل مجلس الشورى، وإنما قررت استمراره في مهمته إلى حين انتخاب مجلس النواب الجديد. تلك نتيجة بالغة الأهمية حققت نجاحًا للنظام الحاكم لم يكن ليتحقق لو لم يكن أمر تعديل قانون السلطة القضائية قائمًا. ولعل الأمر يتأكد إذا عُلم أن تعديل قانون السلطة القضائية يترتب عليه "عزل" تسعة قضاة من أصل أحد عشر قاضيًا من قضاة المحكمة الدستورية العليا. يملك النظام الحاكم أيضًا ورقة الدعم الشعبي من مؤيدي تيار الإسلام السياسي، وهي الورقة التي استخدمت بالفعل في الحشد والتظاهر ضد القضاء في عديد المناسبات والوقائع. إلا أن استخدام هذه الأداة، في سياق أزمة مع القضاة، يخصم أكثر مما يضيف؛ إذ إن القضاء في نهاية المطاف ليس مؤسسة سياسية يمكن التعامل معها بمنطق الهتاف والحشد.

على الجانب الآخر، يستحوذ القضاء على عدد من الأدوات شديدة التأثير، أعلاها بالقطع هو "الأحكام القضائية"، وهي الأحكام التي تواترت تقريبًا على نزع الشرعية عن أعمال السلطة الحاكمة، سواء فيما يتعلق بالبرلمان أو الجمعية التأسيسية أو الدستور نفسه، أو عن مجلس الشورى. فعلى الرغم من أن حكم المحكمة الدستورية العليا لم ينته إلى حل مجلس الشورى، إلا أن الحكم قرر بوضوح بطلان تشكيل المجلس، وهي إشارة لا تخفى إلى أن شرعية المجلس إن لم تكن منعدمة فهي منقوصة. ومن ناحية ثانية، فإن الدور الذي يلعبه نادي قضاة مصر في الدفاع عن القضاء، والقدرة التي يمتلكها على الحشد القضائي، يمثلان وسيلة مهمة من وسائل "جذب الأنظار" لمواجهة السلطة التنفيذية، خاصة أن نادي القضاة يعتمد على استراتيجية تصعيدية تجذب الأضواء إليه مباشرة؛ ففي شهر مايو/أيار 2013، على سبيل المثال، قام نادي القضاة بدعوة رئيس الاتحاد العالمي للقضاة إلى القاهرة وعقد مؤتمرًا صحفيًا ليعدّد فيه ما يراه انتهاكًا وعدوانًا على القضاة. ولا شك أن مثل هذه الخطوة ترمي إلى تدويل مطالب القضاة للضغط على السلطة التنفيذية.

يحظى القضاء، فوق ما تقدم، بدعم ثلاث جهات على قدر كبير من الأهمية:

  1. الأولى: هي الإعلام؛ فالغالبية من القنوات الفضائية صاحبة التأثير الكبير في تشكيل الرأي العام تدعم المعارضة، ومن ثم تؤيد القضاء بوصفه المؤسسة الكبرى، "حامية دولة القانون في مواجهة السلطة التنفيذية وجماعة الإخوان".
  2. الثانية: هي دعم التيار السياسي المدني بكافة فصائله واتجاهاته؛ إذ يعّول التيار المدني على القضاء في تقويض النظام الحاكم وتعويق حركته. أما الدعم الأكبر للقضاء فيأتي من شريحة واسعة من الشعب المصري تكنّ الاحترام لفكرة القضاء المصري، بغض النظر عن التقارير حول فساد بعض القضاة، وتعتبره مؤسسة بيروقراطية عريقة ومتجذرة في الواقع المصري، تمثل عاملاً من عوامل توازن الدولة وتماسكها.

 المسار والمآل

لا يبدو لأزمة الثقة ولحالة الاستقطاب هذه من تسوية في الأفق المنظور، وربما يتأكد ذلك من حالة الاحتقان السياسي التي تتسع يومًا بعد الآخر في مصر. وتجدر الإشارة إلى أن ثمة طريقًا كانت، وربما ما زالت، مفتوحة للسير نحو تسوية مقبولة بين القضاء والسلطة التنفيذية؛ هذه الطريق هي ما يُعرف بمؤتمر العدالة. يعد هذا الأخير بمثابة اجتماع عام لمناقشة الشأن القضائي بكافة جوانبه، وصولاً إلى إصلاح المنظومة القضائية من خلال ما ينتهي إليه المجتمعون، والقضاة في مقدمتهم، من توصيات واقتراحات.

في مطلع شهر مايو/أيار الماضي 2013، بادر مجلس القضاء الأعلى، لدى لقائه رئيس الجمهورية، باقتراح عقد مؤتمر العدالة الثاني (عُقد الأول في 1986) بهدف تخفيف حدة الاحتقان بين القضاء والنظام الحاكم، ولمناقشة كافة المشاكل والتحديات التي يواجهها القضاة في أجواء يسودها الهدوء والتروي. كان الشرط الأساس، من جانب القضاة، هو توقف مجلس الشورى عن مناقشة تعديلات قانون السلطة القضائية لحين انتهاء أعمال المؤتمر ووضع التوصيات التي تنتج عنه موضع التنفيذ في قوانين جديدة يصدرها مجلس النواب المزمع انتخابه نهاية العام الجاري. قيل أيضًا في تبرير اشتراط ذلك: إنه لا معنى من عقد المؤتمر طالما أن مجلس الشورى مستمر في مناقشة القانون وإصداره. عقب البدء في التحضير للمؤتمر، بعد أن توافقت رئاسة الجمهورية والقضاة على عقده، أعلن مجلس الشورى استمراره في مناقشة قانون السلطة القضائية، فأوقفت التحضيرات للمؤتمر، أو علّقت.

الحاصل الآن، أن تعليق مؤتمر العدالة، واستمرار عدد من الملفات المفتوحة المسببة للاحتقان، كقانون السلطة القضائية الذي يصر مجلس الشورى على مناقشته وإصداره، وأزمة تعيين النائب العام المستمرة منذ ثمانية أشهر تقريبًا، قد يزيد الأوضاع توترًا. كل ذلك بالطبع يضيف إلى أزمة الثقة وحالة الاستقطاب السياسي العامة في البلاد.

غير أن المؤكد أن الأزمة بين القضاء و النظام الحاكم، بعد المظاهرات الحاشدة في 30 يونيو/حزيران 2013، أضحت جزءًا داخل إطار أوسع من أزمة سياسية تعيشها الدولة والمجتمع المصريين، و سيتوقف رجحان أحد مساري التصعيد أو التسوية على تداعيات 30 يونيو/حزيران.

في هذا الإطار، سيكون منحى المسار بحسب "تعاطي" الرئيس محمد مرسي مع تلك التظاهرات، و تأثره بنتائجها إن سلباً أو إيجاباً. فمرور التظاهرات ومسألة سحب الثقة من رئيس الجمهورية من دون تداعيات تؤثر كثيرا على النظام سيترتب عليه اكتساب حكم الرئيس مرسي شرعية جديدة في مفتتح عامه الثاني، وهو ما يرفع احتمال صدام أقوى مع القضاء، أو ربما، تغيير استراتيجية التعامل بالكلية، تجنبا لأخطاء الماضي، بالسعي الجاد لإيجاد تسوية مع القضاء لربما باستئناف أعمال مؤتمر العدالة. في الجانب المقابل، فإن نجاح التظاهرات في إحداث ضغط حقيقي على رئيس الجمهورية، و هو المرجح، قد يرغمه على القبول بتسوية واسعة بشأن كافة الملفات السياسية الملتهبة وفي مقدمتها الملف القضائي.
______________________________
يوسف عوف - باحث قانوني في جامعة القاهرة والجامعة الأميركية بواشنطن

نبذة عن الكاتب