المشهد السياسي التونسي: حسابات الخروج من الأزمة السياسية

أفضى الحوار الوطني في تونس إلى اختيار مهدي جمعة رئيسا للحكومة التي ستقود عملية الانتهاء من الدستور وصولا للانتخابات. وتنتظر الحكومة ملفات حارقة أمنيا وسياسيا واقتصاديا. ومع ما يمثله التصويت على مواد الدستور من إشارات إيجابية فإنه يصعب توقع اتجاهات الأحداث بسبب استمرار احتمالات الاغتيال السياسي.
20141782743205734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
أفضى مسلسل الحوار الوطني في تونس إلى اختيار وزير الصناعة في حكومة علي العريض مهدي جمعة (51 عامًا) رئيسًا للحكومة التي ستتولى قيادة المرحلة المقبلة، في اتجاه الانتهاء من إقرار الدستور والوصول إلى الانتخابات. وقد خلق اختيار جمعة حالة من الانفراج، لكون الحوار قد وصل إلى نتيجة.

وقد ساهم الحوار من ناحية أخرى في حصول هزات في بنية أحزاب سياسية وأبرز تناقضاتها، مثال ذلك خروج الحزب الجمهوري من الاتحاد من أجل تونس. وتعرف الخريطة الحزبية تغييرًا في بنيتها وتوجهاتها، مع بروز عدد من رجال الأعمال في الحياة السياسية من جديد.

وتنتظر الحكومة الجديدة ملفات حارقة أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا؛ فإضافة للجوانب الدستورية وتركيبة الحكومة وتوازناتها، هنالك تحدي توفير الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات بعد الانتهاء من معركة الاتفاق على الدستور.

ومع ما تمثله بداية عملية التصويت داخل المجلس الوطني التأسيسي على مواد الدستور من إشارات إيجابية بالنسبة لمجمل العملية الانتقالية فإن وقائع كثيرة في المشهد السياسي التونسي تعقد من مهمة توقع اتجاهات الأحداث كما حصل سابقًا مع سلسلة الاغتيالات السياسية التي تُرجع العملية السياسية إلى المربع الأول. ويبقى حدوث عمليات اغتيال سياسي مستقبلاً أمرًا واردًا بسبب وجود خاسرين في المرحلة الانتقالية.

أفضى مسلسل الحوار الوطني في تونس يوم السبت 14 ديسمبر/كانون الأول إلى اختيار وزير الصناعة في حكومة علي العريض مهدي جمعة (51 عامًا) رئيسًا للحكومة التي ستتولى قيادة المرحلة المقبلة، في اتجاه الانتهاء من إقرار الدستور والوصول إلى الانتخابات. وفي حين اعتبرته المعارضة قريبًا من النهضة أو الترويكا عمومًا ينفي كثيرون من الترويكا أنه محسوب عليهم. وقد خلق اختيار جمعة حالة من الانفراج، لكون الحوار قد وصل إلى نتيجة؛ فالحل قد وُجد لكنه لم يُرضِ جميع الأطراف.

وفي حين سجلت أطراف سياسية اعتراضها على اختيار جمعة عن طريق آلية الانتخاب عوض آلية التوافق كما تقتضيه مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تتطلب وفاقًا أكبر؛ فإن غالبية الأحزاب قد ارتاحت لهذا الخيار رغم الاعتراضات الموجودة، خاصة في صلب المعارضة الممثلة خاصة بجبهة الإنقاذ ومكوناتها المختلفة مثل الجبهة الشعبية والاتحاد من أجل تونس، أو الرافضين أساسًا للحوار لأنهم لم يشاركوا منذ البداية في هذا المسار.

 المشهد السياسي وتزامن المسارين الحكومي والتأسيسي

بقدر ما يمثل نجاح الحوار الوطني في انتخاب رئيس حكومة جديد فرصة لتجاوز الأزمة السياسية التي تعيشها تونس؛ فإن نجاح هذه التجربة يتمثل في مدى قدرة الحكومة الجديدة على معالجة الملفات الأمنية والاقتصادية، ويبقى رأس الأولويات المطروحة سياسيًا في هذه المرحلة هو استكمال بناء مؤسسات المرحلة الانتقالية، ومواصلة مسار التوافق السياسي بين المكونات السياسية، تفاديًا لحدوث أية انتكاسات تربك التوازنات السياسية من جديد.

وفي حين تنص خارطة الطريق التي وضعها الرباعي الراعي للحوار الوطني (الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وعمادة المحامين) على تشكيل حكومة كفاءات وطنية، وإقرار مشروع الدستور، وتحديد موعد الانتخابات بعد تشكيل هيئة مستقلة للإشراف عليها، تحرص حركة النهضة على التأكيد على ضرورة تحقيق التزامن بين المسارين الحكومي والتأسيسي؛ حيث يفترض في المجلس التأسيسي التعجيل بإقرار مشروع الدستور والهيئة الانتخابية، وتحديد موعد الانتخابات القادمة. وهو مجموع الضمانات الأساسية لإنجاح المرحلة الانتقالية، والتي على أساسها قبلت حركة النهضة بالتخلي عن رئاسة الحكومة لفائدة حكومة كفاءات وطنية. ويقترب من هذا الموقف موقف التحالف الديمقراطي (يسار الوسط المعتدل الذي يصف نفسه بتيار الطريق الثالث) الذي ظل يصر منذ تفجر الأزمة السياسية الأخيرة عقب اغتيال محمد البراهمي زعيم التيار الديمقراطي، على الحفاظ على المجلس الوطني التأسيسي، باعتباره سلطة منتخبة وشرعية.

تفاعلات المشهد الحزبي

يعتبر المشهد السياسي في تونس بشكل عام مشهدًا متحولاً، وهو ليس بمعزل عن الأوضاع الإقليمية والقرار الدولي؛ وهذا عنصر أساسي ومؤثر. ويضم المشهد أحزابًا متصارعة على أساس منطق التنافي الأيديولوجي؛ حيث إن التعاطي مع التجربة الديمقراطية الحديثة بعد الثورة في تونس يختلف عن القواعد المعروفة في الديمقراطية، من حيث وجود استقطاب ثنائي واضح، فنجد أن المعارضة مثلاً تسمي حكومة الترويكا رغم تنوعها بـ"حكومة النهضة". بالمقابل تصف النهضة أيضًا بعض أطياف المعارضة بـ"أيتام بن علي" على اعتبار أنها إعادة تشكيل للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، خصوصًا نداء تونس الذي يعيش حاليًا أزمة سياسية تهدد تماسكه الداخلي، وقد عرف مؤخرًا عددًا من الاستقالات أرجعها بعض المنسحبين إلى وجود اتجاه داخل هذا الحزب لإعادة إنتاج حزب التجمع من جديد.

ومع وجود إمكانات لنشأة أشكال ائتلافية عديدة، تبقى القوى الأساسية في البلاد في وضعيتها شبه النهائية؛ فهنالك اليسار والإسلاميون وأحزاب الوسط مع الإشارة إلى عودة بعض رموز النظام القديم. ويبقى عنوان الصراع هو بين نظام قديم ونظام جديد يسعى للولادة، متجنبًا استصحاب مقومات الاستبداد من المرحلة السابقة.

ويعرف المشهد السياسي بروزًا لمنظمات المجتمع المدني بسبب فشل الأحزاب السياسية في تحقيق التوافق فيما بينها على مشروع وطني جامع، وإيجاد صيغة للخروج من الأزمة السياسية قبل ظهور مبادرة الاتحاد العام التونسي الشغل، التي صارت مبادرة رباعية قبلتها الأحزاب الرئيسية بعد تعديلها.

ويستبعد مراقبون استقرار الوضع السياسي وأن يتخذ صبغته النهائية حتى بعد الانتخابات القادمة إن تمت بالشفافية المرجوة، ليبقى الصراع مفتوحًا بين القوى السياسية الأساسية حتى بعد الانتخابات، وبين مكونات من النظام القديم والنظام الجديد.

لقد تأثر المشهد السياسي التونسي بالنموذج المصري بشكل كبير، خاصة أن ما وقع في مصر حصل على وقع أحداث الاغتيالات في تونس والتي يتوقع كثير من المراقبين إمكانية حدوثها في أية لحظة لخلط الأوراق السياسية، وذلك كلما اقتربت المواعيد السياسية القادمة سواء الاتفاق على الدستور أو غير ذلك من تفاصيل خارطة الطريق.

وفي هذا السياق يبدو وزن المعارضة في الشارع ضمن هذا المشهد ضعيفًا، لكن نتيجة للأحداث الأمنية فقد حصل نوع من الالتفاف حولها، ساهمت وسائل الإعلام في تغذيته لتصبح المعارضة قادرة على التأثير في جزء من الشارع. وقد أدى ذلك إلى تراجع الترويكا في الفترة السابقة نتيجة ارتباك الأداء السياسي والإداري، وذلك مقابل اكتساب المعارضة وزنًا سياسيًا لا يساوي وزنها في الشارع. وساهم الإعلام والمال ومنظمات مهنية في دعم المعارضة ظاهريًا وتقوية أحزاب النظام القديم بشكل أقل وضوحًا.

ولم يعرف أداء الترويكا في الملف الأمني وملف التنمية إنجازات كبيرة حسب بعض المراقبين. ويشير التقييم الموضوعي إلى أن الترويكا حكمت ظاهريًا، ولكن بقيت قوى النظام القديم ممسكة بمفاتيح وملفات أساسية داخل مؤسسات الدولة، خصوصًا في مجال المال والإدارة والإعلام؛ وهي مفاتيح أساسية للتأثير.

عرفت الترويكا هزات كثيرة وتعثرات لصعوبة الظرفية، من انفلات أمني وضغوطات الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية، ثم العوامل الخارجية خصوصًا الأزمة الاقتصادية التي تعرفها أوروبا. بالإضافة إلى محدودية التجربة السياسية ككل، وتجربة التحالف السياسي في السلطة بين مكوناتها بشكل خاص؛ مما جعلها ترتبك في أدائها في كثير من الملفات الاجتماعية والاقتصادية.

لقد صمدت تجربة الترويكا بتركيبتها غير المتجانسة، لأكثر من سنتين في مواجهة تحديات عديدة. وهي عمليًا لم تكن تسيطر على جانب كبير من القرار الإداري أو القضاء أو الإعلام الذي لا يدخر جهدًا في مواجهتها؛ وهنا ينبغي الإشارة إلى أن المعارضة قد عملت على تعبئة جميع القوى المناوئة للترويكا، ولحركة النهضة بشكل خاص؛ حيث انتفى التناقض الأيديولوجي بين اليساريين والليبراليين والدستوريين القدامى والتجمعيين، وذلك في إطار جبهة واسعة تبدأ من نداء تونس وتنتهي عند حزب العمال التونسي.

الحوار الوطني يبرز تناقضات المعارضة

إن الحوار الوطني وما نتج عنه حسب بعض المراقبين أقرب لكونه "هدنة وليس حلاً نهائيًا"؛ حيث ينظر كل طرف للحوار الوطني من منطلق أجندته الخاصة. وقد قبلت حركة النهضة على سبيل المثال بمبدأ الانسحاب من المشهد الحكومي حتى لا تسقط البلاد في تجاذب أقوى قد يؤدي لمستوى أعقد من التصعيد أو المواجهات.

لقد ساهم الحوار في حصول هزات في بنية الأحزاب السياسية وبروز تناقضات بين قياداتها، مثال ذلك خروج الحزب الجمهوري من الاتحاد من أجل تونس. ويبدو أن الخريطة الحزبية بشكل عام تعرف تغييرًا في بنيتها وتوجهاتها، مع الإشارة إلى بروز عدد من رجال المال والأعمال في الحياة السياسية من جديد، مثل رجل الأعمال سليم الرياحي الذي أسس حزب "الاتحاد الوطني الحر". وفوزي اللومي الذي ترشح لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي على رأس قائمة مستقلة ثم انخرط في حزب نداء تونس. وكذلك رجل الأعمال البحري الجلاصي الذي فاز في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي واستطاع أن يشكّل كتلة نيابية في المجلس التأسيسي.

ومن بين نتائج الحوار غير المقصودة بدء تفكك جبهة الإنقاذ؛ فانسحاب الحزب الجمهوري من الحوار وضع جبهة الإنقاذ في حرج وهو يهدد بتفتت الاتحاد من أجل تونس. ثم مشاركة الجبهة الشعبية بمكوناتها اليسارية الراديكالية مشاركة متحفظة ومحتشمة في جلسات الحوار وذلك رغم اعتقادها أن الحكومة القادمة ليست حكومة وفاق. ولدى الجبهة شروط لقبول نتائج الحوار، من ضمنها إعادة النظر في مضمون الميزانية المالية لسنة 2014 بالإضافة إلى تشكيل لجنة للنظر في التعيينات التي حصلت في الوزارات والمسؤوليات. ويبقى السؤال مطروحًا حول مبرر استمرار جبهة الإنقاذ في الوجود؛ حيث ستتجه الأحزاب منفردة إلى الاستعداد للمحطات الانتخابية القادمة.

لقد شارك جزء من المعارضة في الحوار وجلس الى طاولة التفاوض، ويرجع ذلك لكونه اختبر قدرته في الشارع؛ حيث تبين عدم قدرة المعارضة على تحريك الشارع، فبقي أمامها عدد من الأوراق للمناورة ومن أهمها الاتحاد العام التونسي للشغل؛ ويبدو حاليًا أن هذه الورقة قد قُسمت نصفين هي الأخرى: جزءًا مع التصعيد وجزءًا مع التهدئة. ويلاحَظ أن الأمين العام للاتحاد حسين العباسي يدافع عن نتيجة الحوار الوطني الأخيرة، ويعتبر أنه مسؤول عنها أخلاقيًا ورمزيًا إلى حد بعيد. ويبقى سيناريو انتقال جزء من الأزمة السياسية إلى الاتحاد العام نفسه أمرًا واردًا بما في ذلك فرز سياسي داخله.

ولعل التناقضات التي تعانيها المعارضة ستظهر بشكل أوضح في المحطات القادمة أثناء تشكيل الحكومة؛ حيث سيصعب على المعارضة تجاوز هذه التناقضات. وفي حين يبدو أن تعاطي حركة النهضة مع جملة من المتغيرات وتنازلاتها يساعد في تجنيب البلاد الانزلاق نحو العنف والتصعيد، فإنها مع ذلك تغامر بجزء من قاعدتها الانتخابية التي قد تتأثر بحسابات النهضة السياسية.

لقد أظهرت نتائج الحوار الوطني ومحطته الأخيرة أثناء اختيار مهدي جمعة تناقضات المعارضة التي لم تعد تمثل تلك الكتلة المتماسكة؛ فما يجمعها هو هدف تفكيك المنظومة السياسية القائمة والبحث عن المواقع التفاوضية الفضلى. وفي الوقت الذي لم تستطع فيه المعارضة استثمار المكاسب التي حصّلتها بشكل جيد؛ حيث يظهر أداؤها أقل نضجًا أمام الرأي العام مقارنة بسلوك الترويكا أو النهضة التي "وصلت السلطة بالانتخابات وتغادرها بالحوار"؛ فإن النهضة تستثمر تناقضات المعارضة بشكل جيد، وتعمل على إبرازها. ويؤدي منح التنازلات الممكنة إلى إظهار أنها تريد أن تجد حلاً للأزمة السياسية، بينما يريد معارضوها الاستحواذ على السلطة التنفيذية من خارج صناديق الاقتراع.

لقد رفعت المعارضة منذ اغتيال محمد البراهمي سقف مطالبها بشكل كبير، وطالبت بحل المجلس الوطني التأسيسي وإقالة الحكومة وحل كثير من المؤسسات التي انبثقت عن انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. وبعد أن حاولت الضغط بواسطة الشارع وبالاستعانة بالمنظمات الوطنية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل، وبعد عدم وجود استجابة كافية من الشارع بدأت تتراجع تدريجيًا وقبلت ببقاء المجلس الوطني التأسيسي وطالبت، ضمن خارطة الطريق التي اقترحها الاتحاد العام التونسي للشغل وباقي المنظمات الراعية للحوار الوطني، بتغيير الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة.

ويمثل الاتفاق على أن يشكّل الحكومة الجديدة وزير كان منتميًا لحكومة الترويكا حسب منظور كثير من المراقبين نصرًا للترويكا؛ حيث إن الحكومة الجديدة بطريقة أو بأخرى تعتبر امتدادًا للحكومة الحالية.

إن أحد أهم التحديات التي تواجه الرباعي الراعي للحوار والأحزاب المشاركة يتمثل في ضرورة تحديد المعايير التي بها يمكن تمييز عنصر الاستقلالية في الوزراء القادمين؛ حيث من الصعب إيجاد وزراء مستقلين من الناحية الفكرية على الأقل، وإن كانوا مستقلين من الناحية التنظيمية، وهم في المحصلة مطالبون بدرجة من الاستقلالية ومجبرون على عدم الترشح للانتخابات القادمة.

ومن أبرز التحديات التي تواجهها المعارضة محدودية قدراتها على توظيف الشارع الذي قد لا يدفعه للعودة إلى أوضاع احتجاجية سوى عوامل أخرى خارج القواعد الديمقراطية مثل الاغتيالات السياسية التي يعتقد كثير من المراقبين أن حلقاتها لم تنته بعد، ويدل على ذلك درجة الحماية الأمنية التي تخصص للقيادات السياسية.

وبالمقابل، يسعى حزب النهضة للبقاء سليمًا لضمان وضع أفضل في المستقبل. وهو بلا شك قد تعرض لكثير من الضغوط الخارجية التي جعلته يتنازل عن عدد من المكاسب السياسية على أمل العودة في انتخابات أخرى؛ حيث يمتلك جزءًا واسعًا ومنظمًا من الشارع. ويبدو أن النهضة قد تركت كثيرًا من الريش في هذه المعركة، لكن النهضة بالمقابل لم ترد على التصعيد بالتصعيد المضاد، وذلك للدفع باتجاه حدوث تحولات سلمية، باستثناء بعض التظاهرات التي حاولت النهضة من خلالها إرسال رسائل تعكس حضورها  الميداني.

تحديات الحكومة

ملفات حارقة تنتظر الحكومة الجديدة أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا؛ فإضافة للجوانب الدستورية وتركيبة الحكومة وتوازناتها، هنالك تحدي توفير الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات بعد الانتهاء من معركة الاتفاق على الدستور. ويتوقع مراقبون أن تكون هذه الحكومة أضعف حكومة بعد الثورة، لعدم التزام الأحزاب السياسية بالدفاع عنها؛ حيث تقبل بها في أحسن الحالات قبول المضطر والمتربص في آن واحد. ويُتوقع أن تتجه الترويكا وخاصة حركة النهضة إلى إيجاد نوع من التمايز عن الحكومة، ومحاولة إظهار أن حكومتها السابقة لم تكن أسوأ في إدارة الدولة. بالإضافة إلى القرارات غير الشعبية التي ربما ستضطر لاتخاذها الحكومة الجديدة؛ مما قد يفتح الباب أمام سيناريو عودة الاحتجاجات في الشارع.

ويعتبر البعض أن انسحاب النهضة من الحكومة قد جنّبها تحمل قرارات واختيارات صعبة ستضطر هذه الحكومة إلى اتخاذها؛ فالملف الاقتصادي سيكون مؤثرًا في هذه المرحلة، وسيكون أمام الحكومة اجتياز الأشهر الأولى لإثبات قدراتها.

وعلى المستوى الأمني، وإن اكتسبت أجهزة الأمن خبرة في التوقي من العمليات المسلحة والاغتيال، يبقى سيناريو حدوث عمليات اغتيال نوعية واردًا في أية لحظة، ليعيد خلط الأوراق وإرباك التوازنات من جديد.

أما سياسيًا، فيُتوقع أن تساعد الحكومة الجديدة على تحقيق نوع من الهدنة، لكن من دون إنهاء المعركة. وباعتبارها حكومة غير حزبية فإن بعض الأحزاب ستتعامل معها بشيء من الانتهازية السياسية، لتساندها في حال نجاحها وتعارضها عند فشلها. ومن ناحية ثانية قد تتجه الترويكا والنهضة بشكل واضح إلى الدفع باتجاه نقل مركز الثقل السياسي من الحكومة إلى المجلس التأسيسي.

ويكمن أحد أهم التحديات المطروحة أمام الحكومة المرتقبة في إنجاز الحد الأدنى؛ حيث من الصعب مطالبتها بإنجازات اقتصادية واجتماعية كبيرة، ولعل من يطالبها بإنجازات من هذا النوع هو من يريد فعلاً إظهار فشلها في إدارة البلاد.

ويشكّل عامل التنافس السياسي حول تركيبة الحكومة وأسماء وزرائها، بالإضافة إلى مراجعة التعيينات القديمة تحديًا مهمًا. وفي هذا السياق تتهم المعارضة حركة النهضة بتعيين عدد كبير من كوادرها. في المقابل، تقترح النهضة -التي تنفي ذلك- مراجعة كل التعيينات، بما فيها تلك التي حصلت في عهد حكومة الباجي قايد السبسي التي سبقتها. وتبقى إشكالية صلاحيات الحكومة مقارنة بالمجلس التأسيسي، وإلى أي حد هي خاضعة لقرار وفيتو المجلس التأسيسي، واحدة من التحديات الأساسية. حيث إن المجلس التأسيسي هو الضمانة الوحيدة للوصول للانتخابات، ومن الصعب على الترويكا أو النهضة بشكل خاص التنازل عن صلاحيات هذا المجلس الذي تحتل فيه وحلفاؤها أغلبية المقاعد.

خاتمة

يبدو أن هنالك نوعًا من القبول الخارجي لدى الدول المعنية بالوضع التونسي، خصوصًا الولايات المتحدة وفرنسا والجارة الجزائر، بحيث يستقر المشهد السياسي على معادلة "المزج بين القديم والجديد"، والحفاظ على جزء من المشهد السياسي القديم مع إضافة ألوان سياسية جديدة؛ حيث هنالك رغبة أميركية أوروبية حسب مراقبين في أن يكون الانتقال الديمقراطي وفق هذه المعادلة.

ومع ما تمثله بداية عملية التصويت داخل المجلس الوطني التأسيسي على مواد الدستور من إشارات إيجابية بالنسبة لمجمل العملية الانتقالية فإن وقائع كثيرة في المشهد السياسي التونسي تعقّد من مهمة توقع اتجاهات الأحداث كما حصل سابقًا مع سلسلة الاغتيالات السياسية التي تُرجع العملية السياسية إلى المربع الأول. ويبقى حدوث عمليات اغتيال سياسي مستقبلاً أمرًا واردًا حسب عدد من المراقبين بسبب وجود خاسرين في المرحلة الانتقالية ورافضين لمنطق وقواعد الديمقراطية، ويائسين من صناديق الاقتراع. ويبرز ذلك بشكل خاص كلما اتجه مسار الحوار الوطني والعملية السياسية بشكل عام إلى الاقتراب من المحطة الدستورية والانتخابية. 
___________________________________
* كمال القصير - باحث في مركز الجزيرة للدراسات "مشرف دراسات المغرب العربي"

نبذة عن الكاتب