حسابات معقدة: الموقف الأردني من الأزمة العراقية

يتخوف الأردن من تأثيرات صعود الدولة الإسلامية بالعراق على أمنه، لكنه يوازن في موقفه بين حاجاته إلى التعاون مع بغداد في مجال الطاقة وتعاطفه مع المكون السني العراقي الذي يعاني من سياسة المالكي الإقصائية.
201471710511117734_20.jpg
السلطات الأردنية تواجه احتجاجات داخلية مستمرة (أسوسيتد بريس)

ملخص

تتعدد مصادر التهديد التي يفرضها تطور الأوضاع في العراق على الأردن، إقليميًا وداخليًا؛ فعلى الصعيد الإقليمي، يخلق التزاوج بين الحالتين العراقية والسورية الشعور بقلق من دومينو فوضى أمنية إقليمية تخلق توترات ومصادر تهديد غير تقليدية على طول الحدود الأردنية الممتدة شمالاً وشرقًا، مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في الجوار العراقي وما يحمله من علاقة عداء تاريخية مع النظام الأردني.
بالإضافة إلى التداعيات الإنسانية التي تثير قلق الأردن من احتمال حدوث موجة لجوء ثالثة عراقية جديدة، وما يفرضه ذلك مع وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين من أزمة موارد وبنية تحتية لدى الأردن، فإن التحدي الجوهري للسياسة الأردنية يتمثل في اجتراح معادلة جديدة في مواجهة مصالحه المتضاربة تجاه الأوضاع السياسية في العراق، ما بين مصالح تجارية وسياسية مع النظام الجديد من جهة، ومصالح استراتيجية مع حلفائه الإقليميين وعلاقته بالمجتمع السني العراقي من جهة ثانية، وفي التعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام من جهة ثالثة.

مقدمة

دفعت التطورات الأخيرة في العراق بجملة من الأسئلة والنقاشات نحو النخبة السياسية الأردنية وأصحاب القرار، ولعل السؤال الأكثر حضورًا في الإعلام المحلي والعربي والغربي تمثل فيما إن كان صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام يشكل خطرًا فعليًا على الأردن؟ وهو السؤال الذي ارتفعت وتيرة تكراره مع الأنباء التي تحدثت عن اقتراب "تنظيم الدولة" من الحدود العراقية-الأردنية، ومع إشارة الرئيس الأميركي باراك أوباما وعدد من المسؤولين الغربيين إلى أن التنظيم يهدد أمن المنطقة ودولها، ومن بينها "الأردن"(1) .

رد الفعل الأردني على هذه التساؤلات وما تثيره من "فوبيا" مضخمة إعلاميًا عن قوة التنظيم، تمثل في رفع حالة التأهب العسكري الأردني على الحدود الشرقية، وتدعيم القوات المسلحة الأردنية على تلك الجبهة، استعدادًا لأي خطر محتمل، وتضمنت "الرسالة العسكرية" الأردنية جانبًا إعلاميًا عبر دعوة قسم التوجيه المعنوي في الجيش الأردني الإعلاميين والصحفيين الراغبين إلى زيارة الحدود الأردنية مع العراق لمشاهدة استعداد القوات المسلحة وتجهيزاتها في "برقية طمأنة" للرأي العام الأردني والعالمي بعدم وجود داعٍ للمبالغة في القلق(2).

في الأثناء تم التشاور بين وزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية والأردن والإمارات حول أخذ الترتيبات اللازمة والتنسيق لمواجهة الأخطار المترتبة على صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" في المنطقة، من دون الإفصاح إعلاميًا عن طبيعة هذه الاستعدادات، وفيما إن كانت تشمل التدخل فيما يجري في العراق حاليًا(3).

هذه التطورات والتداعيات المباشرة تعيد صوغ التساؤلات المطروحة بصورة دقيقة حول القراءة الأردنية الرسمية لما يحدث في العراق، وفيما إذا كانت تشكل خطرًا جديا على الأمن الوطني الأردني؟ وما طبيعة هذه الخطر؟ وما السيناريوهات المتوقعة لهذه التطورات وانعكاساتها على الأردن؟ وكيف يستعد الأردن لمواجهة ذلك؟

1. اضطراب إقليمي: مصادر تهديد غير تقليدية

رغم أن "تنظيم الدولة الإسلامية" يمثل هاجسًا يتصدر الاهتمام الإعلامي والسياسي الأردني؛ إلا أن مصدر القلق الحقيقي للأردن يتجاوز هذا "العنوان" إلى الوضع العراقي عمومًا، وإلى حالة الفوضى الأمنية التي تجتاح العراق وتلوح بتطورات قادمة أكثر خطورة تقترب به نحو المشهد السوري، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تداعيات إقليمية على دول الجوار، وفي مقدمتها الأردن، الذي لا يزال يعاني من آثار وتداعيات الأزمة السورية، على أكثر من مستوى؛ أمنيًا وإنسانيًا واقتصاديًا.
لا يخفي مسؤولون سياسيون أردنيون رفيعون (يرفضون التصريح الرسمي بذلك) أنهم يرون أن جوهر المشكلة يتمثل في سياسات الحكومة العراقية ذات الطابع الطائفي، التي أسفرت عن انتفاضة سنية مسلحة اجتاحت أغلب المناطق السنية، لا تقف عند صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" بل في عودة الأزمة الطائفية إلى المسرح السياسي العراقي، وتراجع فرص الحل السياسي واحتمالاته. وحتى لو تم تغيير رئيس الحكومة العراقية، أو التوافق على حكومة جديدة أوسع تمثيلاً، فإن الوضع الراهن مؤذِن بصراع سياسي-عسكري كبير، قد يتحول إلى "حرب داخلية"؛ ما يؤذِن بحالة من الفوضى، التي بالضرورة ستعبر انعكاساتها ونتائجها الحدود العراقية إلى الجوار(4).

هذه المعطيات تخلق مصادر تهديد أمنية غير تقليدية للأردن، وتعزز شعورًا بحصار الأردن عبر فوضى أمنية سياسية محيطة، وصعود قوى مثل تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة على علاقة عداء شديدة مع النظام الأردني. وإذا تمكنت هذه القوى من الاقتراب من الحدود؛ فإن ذلك يعزز من هذا القلق الرسمي، وهو ما حدث فعليًا في سوريا؛ إذ عززت جبهة النصرة حضورها ووجودها في المنطقة الجنوبية (حوران) المحاذية للحدود الشمالية، في الوقت الذي بدأت فيه مؤشرات على تعزيز تنظيم الدولة وجوده في محافظة الأنبار المحاذية لحدود الأردن الشرقية.

حالة الحصار، إن جاز التعبير، ليست جديدة على خبرة النظام السياسي الأردني؛ إذ واجه حصارًا إقليميًا في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات، عبر الأنظمة القومية اليسارية العربية، التي تناقضت وتباينت سياساتها مع النظام الأردني، واتهمها النظام بالعمل على إسقاطه لإقامة نظام قريب منها؛ إلا أن المعطيات الجديدة تختلف في العديد من الزوايا، وفي مقدمتها أننا لا نتحدث عن سياسات معادية، بل عن "دومينو" من الفوضى والفراغ السياسي، الذي يحمل أبعادًا أمنية داخلية وإقليمية من جهة، وعواقب إنسانية من جهة أخرى، مثل احتمال تدفق مزيد من اللاجئين إلى الحدود، في الوقت الذي يعاني فيه الأردن من أزمة اقتصادية خانقة وشح كبير في المواد الطبيعية، مثل المياه، من جهةٍ أخرى، وهي أوضاع قد تترك تأثيرًا كبيرًا على الاستقرار الإقليمي وعلى حماية "الأمن الوطني" في حال استمرت طويلاً، كما يذهب العديد من التوقعات، بما في ذلك القراءة الرسمية الأردنية.

2. معضلة التعامل مع التناقضات الدولية والإقليمية

ثمة "برقيات طمأنة" عملت السلطات الأردنية على بثها منذ اندلاع الأحداث العراقية في الأسابيع الأخيرة، تتمثل في تعزيز التواجد العسكري الأردن والتصريحات التي تؤكد الاستعداد للتعامل مع أي مصادر تهديد قادمة من الجهة الشرقية؛ إلا أن هذه الاستعدادات تتعلق بالمصادر المباشرة للتهديد، مثل انتشار الصراع العراقي نحو الأردن(5)، لكنها لا تجيب على المصادر غير المباشرة، الأكثر تأثيرًا، التي تحدثنا عنها في الفقرات السابقة، وتتمثل في دومينو الفوضى الإقليمية وصعود الجماعات الإسلامية المعادية للنظام الأردني في الجوار، بل وانخراط أعداد كبيرة من الأردنيين في تلك التنظيمات.

تكمن معضلة الأردن الرئيسة في التعامل مع الأوضاع في العراق في أن القراءة الرسمية الأردنية، غير المعلنة، تضع اللوم على حكومة نوري المالكي، وإدراك صانع القرار الأردني لما يحدث بوصفه "انتفاضة سنية" مسلحة؛ ما يعني أن السبب الجوهري للأزمة يتمثل في الحكومة العراقية. لكن على الطرف الآخر من المعادلة، فإن نتائج هذه الأزمة تتمثل في صعود الفوضى الأمنية الإقليمية ونمو حالة التشدد والراديكالية الدينية حتى في أوساط المجتمع السني العراقي، وتحديدًا تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي يمثل العدو رقم واحد للأردن في المنطقة. وربما تفسر هذه المعضلة إصرار وزير الخارجية الأردني، ناصر جودة، على وصف الوضع العراقي بـ"الضبابية"، وتجنب الحكومة الأردنية إلى الآن إصدار مواقف واضحة، كما هي حال حليفيها: الولايات المتحدة والسعودية، تحمّل طرفًا معينًا مسؤولية الأحداث الجارية(6).

تزيد طبيعة العلاقة مع حكومة نوري المالكي من حجم المعضلة الأردنية في التعامل مع الملف العراقي؛ إذ أخذت عملية إصلاح العلاقة مع الحكومة العراقية المقربة من طهران وقتًا كبيرًا من الأردن، ووصل "تطبيع" العلاقات مع الحكومة العراقية، ومحاولة تجاوز العراقيل والعقبات إلى حد التفكير جديًا بمشروع استراتيجي يعوّل عليه الأردن كثيرًا لحل مشكلته الجوهرية، أي: الطاقة. إذ اتفق الطرفان على إقامة أنبوب نفط يمتد من الأراضي العراقية إلى ميناء العقبة الأردني، وهو الخط الذي يمكن أن يمنح الأردن ميزات كبيرة ويخفف من أزمته الاقتصادية، عبر الحصول على حصة من هذا النفط بأسعار رخيصة، خلال الأعوام القليلة القادمة، بعد أن بدأ الطرف العراقي بإجراءات واقعية لتنفيذ هذا الاتفاق(7).

عاد هذا الرهان الأردني في تحسين العلاقات مع حكومة المالكي ليصطدم من جديد بالأزمة الأخيرة الممتدة والأوضاع الأمنية المتردية هناك، ويدفع صانع القرار في عمّان إلى تفضيل خيار الانتظار والمراقبة لما ستؤول إليه الأزمة، خاصة أن الأسماء البديلة المطروحة لقيادة الحكومة العراقية الجديدة، في حال وصلت الأطراف المختلفة إلى "صفقة" تنحي المالكي، ليست محل الترحيب الأردني، ويقع في مقدمتها أحمد الجلبي، الذي تربطه بالأردن علاقة خصومة تاريخية تمتد إلى قرابة عقدين من الزمن.

يمكن تلخيص الخيارات الأردنية في التعامل مع الحالة العراقية بالتريث والانتظار، أولاً، لما ستسفر عنه التطورات المتسارعة الراهنة، وثانيًا، لما سينتج داخل الحالة السنية العراقية من موازين قوى جديدة، فيما إذا كان تنظيم "الدولة الإسلامية" سيتمكن من "إدامة" قوته والهيمنة على محافظات متعددة، أم سيتعرض لنكسة ثانية في علاقته مع المجتمع السني، كما حدث في العام 2008، عندما اصطدم بالفصائل الإسلامية الأخرى (مثل: الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وحماس العراق)، ثم انقلبت عليه "الحاضنة السنية"، وتولت "الصحوات العشائرية" محاربته وإضعافه؟

لكن، وبالرغم من التحفظ السياسي الأردني في اتخاذ موقف واضح من الأحداث العراقية، إلا أن النظام الأردني لن يتردد في الدخول في أي ترتيبات أمنية وعسكرية إقليمية لمواجهة تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، لأنه يرى في هذا التنظيم مصدرًا مباشرًا لتهديد الأمن الوطني، وهنالك ثأر كبير بين الطرفين، يمتد إلى مرحلة زعيم القاعدة السابق في العراق، الأردني أحمد الخلايلة (أبو مصعب الزرقاوي)، الذي تولى الإشراف والتخطيط لتفجيرات فنادق عمان (في العام 2005)؛ وهو ما دفع بالنظام الأردني للمساهمة في تأسيس الصحوات العشائرية ودعمها، بخاصة في الأنبار، وفي المساهمة في الجهود الاستخباراتية التي أدت إلى مقتل الزرقاوي نفسه في 2006.

وفقًا لهذه المعطيات، فإن لحظة الانتظار والاستكشاف الرسمية الأردنية لما يجري في العراق لن تأخذ وقتًا طويلاً، وإذا ما أسفرت التطورات عن صدام مماثل لما يحدث في سوريا بين النظام الحالي في بغداد والقوى السنية، وتراجعت فرص الحل السياسي هناك، فإن الأردن سيسعى عبر علاقاته ونفوذه مع قوى وشخصيات سنية عراقية إلى إضعاف تنظيم الدولة الإسلامية، كما حدث عندما دعم الأردن فكرة الصحوات سابقًا، وإن كانت عملية استنساخ مشروع الصحوات لن تجد نجاحًا شبيهًا بما حدث سابقًا؛ إذ حدثت هجرة معاكسة منها إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" في الأعوام الأخيرة.

لا تغيب هذه الخلاصة عن صانع القرار في عمّان، الذي سيجد نفسه أمام سؤال مهم في إيجاد معادلة توازن بين اعتبارات متعارضة؛ فمن جانب، يحتاج إلى صون مصالح حلفائه التي تساهم بدرجة حيوية في صوغ السياسة الخارجية الأردنية، لكن إذا فشلت "الصفقة الإقليمية" في اجتراح حل سياسي للأزمة العراقية، فسيكون الأردن أمام تناقض جوهري بين الدعم الأميركي للنظام العراقي من جهة، والموقف السعودي ضده من جهة أخرى؛ وبين عدم قدرته على اتخاذ موقف معادٍ للمجتمع السني العراقي، من جهة، وقلقه الشديد من صعود تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى.

المشكلة الأخرى التي تؤرق الأردن تتمثل في احتمال تدفق موجة جديدة من اللاجئين العراقيين إلى الأردن، مثل تلك التي حدثت بعد حربي 1991 و2003، في ظل الآثار الأكثر سلبية على الاقتصاد الأردني للاجئين السوريين، وإن كانت احتمالات حصول موجة نزوح عراقية كبيرة باتجاه الحدود الأردنية أقل من الحالة السورية التي لا تفصلها عن الأردن صحراء الأنبار الشاسعة، وتمتاز بتشابك جغرافي اجتماعي. مع ذلك، فقد بدأت أصوات تتحدث في الدوائر المغلقة عن ضرورة القيام بإجراءات احترازية، دوليًا وإقليميًا، مثل إقامة مخيم للاجئين داخل الحدود العراقية، وليس في الأراضي الأردنية. لكن مثل هذه السيناريوهات سترتبط (في قرار المجتمع الدولي) بإفرازات الأوضاع الراهنة والمعطيات التي ستنتج عنها في المرحلة القادمة.

3. الخطر من الخارج أم الداخل؟

تقود تلك المؤشرات المتضاربة والمتنوعة في قراءة النظام الأردني للأوضاع العراقية إلى أحد أهم جوانب القلق الأردني، والذي يتمثل في صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام داخل العراق وسوريا على السواء، علاوة على جبهة النصرة، التي تعد الممثل الشرعي لشبكة القاعدة في سوريا. هذا القلق الأردني يقع على مستويات متعددة، ربما أقلها شأنًا هو الحديث عن تمدد التنظيم حاليًا باتجاه الأراضي الأردنية، عبر الحدود العراقية، فمثل هذا السيناريو، الذي دفع إلى وضع القوات الأردنية في تلك المنطقة في حالة تأهب واستعداد، مستبعد تمامًا على المدى القصير، وغير مطروح لا في منطق تفكير تنظيم الدولة من جهة، ولا حتى في حسابات صانع القرار الأردني من جهة أخرى. لماذا؟

باختصار وببساطة، أولاً، لأن الأردن لا يقع على خارطة أولويات التنظيم، الذي يفكر في المناطق السنية في العراق، ويُعدّ لما يسميه: "غزوة بغداد الكبرى"، وفي المناطق الحدودية مع سوريا، لإيجاد رابط جغرافي استراتيجي في المساحات التي يسيطر عليها. وثانيًا، وهو الأهم، لأن الحالة الأردنية تختلف في حيثياتها ومعطياتها بالكلية عن العراقية والسورية، فلا يوجد صدام طائفي ولا فوضى داخلية أمنية.

أما على المديات المتوسطة والبعيدة، وفيما إذا تمكن تنظيم الدولة من تثبيت أقدامه من جديد في الساحة العراقية، وعزز حضوره مع تجذر الأزمات السياسية والأمنية هناك، فذلك، بالضرورة، سيسفر عن تحديات ومصادر تهديد أمني للأردن، بخاصة في منطقة الأنبار المحاذية للأردن. مثل هذا الاحتمال سيخلق توترًا مستمرًا على الحدود، ومصدر إزعاج وتهديد، وربما إغلاق كامل للحدود البرية التي تربط البلدين وتعطل المصالح التجارية وحركة العبور، ويعزز حالة الراديكالية السنية الإقليمية.

ويتمثل المستوى الآخر الأكثر أهمية وخطورة، وربما لا يجد إلى اليوم قراءة معمّقة من قبل المسؤولين الأردنيين، في مصدر "الخطر الداخلي" وتمدد هذا التنظيم أو التيار السلفي الجهادي المحلي، وهو التيار الذي بالرغم من أنه يعاني من انقسام شديد بين مؤيدي تنظيم الدولة وجبهة النصرة، إلا أن المعطيات والمؤشرات تؤكد أنه تضاعف خلال الأعوام الأخيرة، بالتزامن مع الحالة السورية وتداعياتها الإقليمية. وبالرغم من عدم توفر أرقام وإحصائيات دقيقة ومؤكدة حول عدد السلفيين الجهاديين الأردنيين المشاركين مع جبهة النصرة أو تنظيم "الدولة الإسلامية" في سوريا؛ إلا أن أغلب التقديرات الرسمية وفي أوساط التيار تتحدث عما بين 2000-2500 فرد، أغلبهم يقاتلون إلى جوار هذين الفصيلين، وأصبح أغلبهم يمتلك خبرة أمنية وعسكرية(8).

مثل هذا الرقم الكبير يُضاف إليه المئات من أبناء التيار الجهادي، ممن يحاكَمون في محكمة أمن الدولة أو المحكومين في قضايا أمنية، وعشرات القيادات الفكرية والميدانية، يدفع إلى التساؤل عن حجم التيار في الأردن، وعن البيئة التي تنتجه، وعن الشروط والأسباب الكامنة وراء صعوده الملحوظ خلال الأعوام الأخيرة.

يرى خبراء وسياسيون أردنيون أن الأردن لا يتوافر على "بيئة حاضنة" للتيار السلفي الجهادي، وهي ملاحظة قد تكون صحيحة جزئيًا، لكن مثل هذا النمو المتسارع يعني وجود بيئة منتجة لهذا التيار، على أية حال؛ وهي مرحلة لا تبتعد كثيرًا عن مستوى "الحاضنة الاجتماعية"(9). أما الفرق بين الحالتين، فيتمثل في أن الحاضنة الاجتماعية توفر "شبكات حماية اجتماعية" للتيار ومجتمعًا صديقًا له وقبولاً ورضى اجتماعيًا عامًا، أما البيئة المنتجة فتتمثل في وجود عوامل وشروط تؤدي إلى انتشاره وصعوده لكن من دون وجود شبكات حماية اجتماعية صلبة ولا قبول اجتماعي عام به. وإن كان بعض الأحداث الأخيرة في محافظة معان الأردنية (من صدام بين المجتمع المحلي وقوى الأمن بالتوازي مع انتشار التيار وحضوره في المحافظة) يؤشر إلى تشكل أولي لمثل هذه الحاضنة في بعض المناطق.

يعزز انفجار الأزمة العراقية، بالتزامن مع الأزمة السورية، من احتمالات انتشار وصعود التيار وخلق بيئة إقليمية محفزة لنموه الداخلي، مع عوامل داخلية أخرى؛ وربما يصوغ هذا وذاك التحدي الداخلي السلفي الجهادي، مع ملاحظة أن الجيل الشاب الجديد أقرب إلى أفكار تنظيم الدولة الإسلامية، بينما جيل الشيوخ في التيار (مثل أبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني) أقرب إلى جبهة النصرة؛ أي إن جيل الشباب الجديد أكثر راديكالية من الجيل السابق(10).

الخاتمة

تتعدد مصادر التهديد التي يفرضها تطور الأوضاع في العراق على الأردن، إقليميًا وداخليًا؛ فعلى الصعيد الإقليمي، يخلق التزاوج بين الحالتين العراقية والسورية الشعور بقلق من دومينو فوضى أمنية إقليمية تخلق توترات ومصادر تهديد غير تقليدية على طول الحدود الأردنية الممتدة شمالاً وشرقًا، مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في الجوار العراقي وما يحمله من علاقة عداء تاريخية مع النظام الأردني.

بالإضافة إلى التداعيات الإنسانية التي تثير قلق الأردن من احتمال حدوث موجة لجوء ثالثة عراقية جديدة، وما يفرضه ذلك مع وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين من أزمة موارد وبنية تحتية لدى الأردن، فإن التحدي الجوهري للسياسة الأردنية يتمثل في اجتراح معادلة جديدة في مواجهة مصالحه المتضاربة تجاه الأوضاع السياسية في العراق، ما بين مصالح تجارية وسياسية مع النظام الجديد من جهة، ومصالح استراتيجية مع حلفائه الإقليميين وعلاقته بالمجتمع السني العراقي من جهة ثانية، وفي التعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام من جهة ثالثة.

بالرغم من أن القلق الأردني من تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام نحو الأردن في المرحلة القادمة لم يزل منخفضًا، إلا أن قدرة التنظيم على تثبيت أقدامه في العراق، بخاصة في الأنبار، تخلق مشكلات متعددة للأمن الوطني الأردني. ولكن، يبقى أحد أهم مصادر القلق الأمني هو النمو المتسارع والملحوظ للتيار السلفي الجهادي المحلي الأردني، الذي يشارك اليوم آلاف من أنصاره إلى جوار جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية. وفي حال عادت الحيوية للساحة العراقية، فإن القلق من تنامي هذا التيار وتجذره يصبح أكبر بكثير من السابق.
_________________________________________________________________

هوامش:
1) حول تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما: تقرير صحيفة النهار البيروتية "داعش يتوغل في الأنبار إلى حدود الأردن وأوباما يخشى على الاستقرار في كل المنطقة، صحيفة النهار، 27 حزيران، 2014.
2) حول هذه الاستعدادات: تقرير "الجيش يرفع حالة التأهب القصوى على الحدود الأردنية العراقية"، صحيفة الدستور اليومية الأردنية، 23 يونيو/حزيران 2014.
3) حول هذه المشاورات تقرير "مشاورات أميركية أردنية سعودية إماراتية لمواجهة داعش"، صحيفة الغد اليومية الأردنية، 27 يونيو/حزيران 2014.
4) في مقابلات خاصة مع الباحث بين 23-26 يونيو/حزيران 2014.
5) حول هذه الرسائل، أنظر تصريحات قائد هيئة الأركان المشتركة الأردنية، الفريق مشعل الزبن التي تؤكد استعداد القوات الأردنية للتعامل مع خرق الحدود العراقية، صحيفة الرأي الأردنية، 17 يونيو/ حزيران 2014.
6) 6أنظر حول الموقف الرسمي الأردني، تغريد الرشق، "المشهد العراقي مختلط.. وتريث أردني في إظهار موقف علني"، صحيفة الغد اليومية الأردنية، 17 يونيو/حزيران 2014.
7) أنظر حول اتفاق خط النفط العراقي، تقرير "الأردن يوقع اتفاقية مدّ أنبوب النفط العراقي"، الرأي اليومية الأردنية، 10 أبريل/نيسان 2013.
8) حول الجهاديين الأردنيين في سورية؛ أنظر مقالة محمد أبو رمان، "الأسئلة الأردنية في الطفرة الداعشية"، صحيفة الغد اليومية الأردنية، 25 يونيو/حزيران 2014.
9) حول مدى وجود "حاضنة اجتماعية" لتنظيم الدولة الإسلامية، أنظر: تغريد الرشق "محللون: لا بيئة حاضنة لداعش في الأردن"، صحيفة الغد اليومية الأردنية، 24 يونيو/حزيران 2014.
10) أنظر حول الخلافات السلفية الجهادية الأردنية بين جبهة النصرة وداعش: موفق كمال، "فتوى منتظرة للمقدسي حول داعش"، صحيفة الغد اليومية الأردنية، 23 يونيو/حزيران 2014.
انتهى

نبذة عن الكاتب