(الجزيرة) |
ملخص بقيت المسافة بين إيران والدول العربية الخليجية متوترة لأسباب تتعلق بالتاريخ الممتد من الهيمنة والنفوذ والحروب، وكذلك بالانشقاق المذهبي بين الطرفين. وتوِّجت هذه العلاقة سلبيًا بقيام الثورة لتتأسس دولة شيعية على الشاطئ الشرقي للخليج في قبالة القطب السني الذي تمثله المملكة العربية السعودية؛ مما أجّج الخلاف، وقسّم الخليجيين إلى قسمين وجدانيًا: سني مع السعودية وبقية الدول، وشيعي مع إيران. |
منذ ما يقارب الـ35 عامًا، والاتهامات المتواترة بين البحرين وإيران لا تهدأ، وخصوصًا من قبل الطرف البحريني الذي دأب على اتهام إيران بالتدخل في شؤونه الداخلية، مرة عبر تجنيدها لعناصر بحرينية من أجل زعزعة الأمن، وتقويض نظام الحكم، ومرة عبر الدعاية الإيرانية بادّعائها الحق في السيطرة على أرخبيل الجزر متناهي الصغر الواقع في أحضان الضفة الغربية من الخليج العربي. ولكن عمر هذا التوتر الذي يعيشه البلدان، غير المتساويين في أي من تفاصيلهما، يعود إلى ما هو أبعد أكثر من العقود الثلاثة الماضية. فمع تغير شكل الحُكم، وتعاقب الحكّام والساسة، وتبدّل الشخوص؛ ظلت المسألة الأساسية التي تجعل من "التوتر" العنوان الأعرض للعلاقة بين البلدين، على ما هي عليه.
امتداد في التاريخ
ظل أرخبيل البحرين واحدًا من المراكز التي ترمي القوى المتباينة، عبر التاريخ، للسيطرة عليه، لأسباب متعددة، أهمها الموقع الجغرافي لهذا الأرخبيل، ووفرة المياه العذبة فيه، والزراعة الكثيفة قياسًا بما جاوره من بلاد وأقاليم، وهذا ما جعل من البحرين عبر تاريخها ميناء بارزًا في العالم القديم. ومما يزيد من إغراء هذه القوى للسيطرة على هذه البقعة من الأرض، أنها جزر، ليس لها عمق وامتداد(1)؛ لذا فإن التحكم العسكري فيها قد يكون أسهل.
تناوب على السيطرة على البحرين وحكمها الكثير من الجهات والقوى، بدءًا من الدولة العباسية مرورًا بالكثير من القبائل حتى احتلها البرتغاليون في أوج مجدهم القصير نسبيًا، وذلك في العام 1521 لمدة ثمانين عامًا، في سبيل السيطرة على طرق التجارة، ولما أفل مجدهم، قامت الدولة الصفوية باحتلال البحرين في 1602، وبعد 181 عامًا، استطاعت أسرة آل خليفة (أحد فروع قبيلة العتوب) أن تسيطر على الجزيرة وتستخلصها، ليمتد حكمها من 1783 وحتى اليوم، مع فترات متقطعة من الحروب مع القوات العمانية وغيرها(2).
وفي السنوات التالية لسيطرة آل خليفة على البحرين، حاولت فارس أن تطرق أي باب يمكّنها من العودة لبسط سيطرتها على البحرين، وذلك في سلسلة طويلة من الوقائع يمكن انتخاب بعض منها، ومن أهمها: احتجاج فارس على إبرام بريطانيا معاهدات سلام مع الساحل العربي، ومنها البحرين في 1820 "وقد أدى إبرام هذه المعاهدة إلى احتجاج فارسي، أعقبه محاولات بلاد فارس مهاجمة البحرين ومحاولة فرض السيطرة والنفوذ عليها في أعوام 1820، 1823، 1836، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب الدعم والمساندة البريطانية للبحرين"(3).
وقد ادّعت الحكومات الفارسية المتتالية، الزندية والقاجارية، أحقّيتها في السيطرة على البحرين، وفي هذا يقول الرحالة جيمس ثيودور بنت James Theodore Bent (1852-1897): "في العام 1867 حاول شاه فارس السيطرة على البحرين، وعلى الرغم من أن ادّعاءه الوحيد لتحقيق هذا الأمر هو تكرار الادّعاءات الفارسية بشأن تبعيّة البحرين لها في عهد الصفويين، إلا أنه في الوقت نفسه، كان يعمل على مساندة بعض الأطراف ضد البعض الآخر"(4).
ولما كانت البحرين تقع في وسط الخليج العربي تقريبًا، فإن هذا يجعلها -بشكل أو بآخر- عرضة للكثير من تنافس القوى عليها. ولأنها لم تكن تستطيع أن تحافظ على كينونتها واستقلالها لفترة طويلة بمعزل عن التدخلات، كان حكامها يستخدمون كل ما هو متاح من أجل خلق التوازن بين هذه القوى، ومن ذلك الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة، الحاكم الرابع من الأسرة الخليفية على البحرين (حكم من 1842-1867) الذي كان يعمد إلى الحيلة لتلافي سيطرة واحدة من القوى الكبرى في ذلك الوقت "ومن دهائه أنه وضع في (قلعة أبي ماهر) فوق البرج الغربي من الجهة الجنوبية عَلَمًا عثمانيًا، وعلى البرج الشرقي من الجهة المذكورة أيضًا عَلَمًا إيرانيًا. فكان كلما تحكمت عليه إحدى الدولتين ادّعى النسبة إلى الأخرى، وهكذا تخلص من كل نفوذ بمدافعة الواحدة بالثانية"(5).
القرن العشرون: تعدد المناورات
من المعروف أن الغالبية من سكان البحرين قبل مجيء أسرة آل خليفة ومن ناصرهم من القبائل العربية إلى البحرين، كانوا من الشيعة العرب، وقد انتزع آل خليفة حكم البحرين من الفرس، وقد حدثت معارك في هذا الصدد، وظل قسم من الشيعة يشعرون بأن حقوقهم مهدورة، واشتكوا أنهم يعانون التمييز والسخرة وعدم إيلاء الاهتمام اللائق ببعض ما يتعلق بالممارسات الدينية وغيرها. التقطت إيران هذا التبرّم، وبقيت تضغط بذريعة تحسين أوضاع الشيعة في البحرين، وهذا ما ظهر في تقرير كتبه المقيم البريطاني في الخليج الكولونيل نوكس S.G. Knox(5) أرسله إلى الخارجية البريطانية في 11 مايو/أيار 1923 "إن اهتمامات فارس ومطالباتها بالبحرين قد أخذت شكلاً أكبر من أن تكون احتجاجات مذهبية. إن مطالبتهم ليست من أجل إزالة المظالم، ولكنها مطالبة بالسيادة على الجزيرة، وأنا أعتقد شخصيًا أن الاحتجاجات الفارسية كانت دائمًا تخفي هذه الحقيقة". ويسترسل "إن ادّعاءات فارس بالسيطرة على البحرين، حتى لو كانت مخالفة للحقيقة، فإنها خطيرة بالفعل، وقد باشرتها السلطات الفارسية ومن عدة اتجاهات دولية (...). إنني أعتقد أن الضغط على شيخ البحرين (عيسى بن علي آل خليفة) باسم إنصاف الشيعة لن يغيّر من المطالب الفارسية"(6).
ولم تيأس إيران من التذكير بين الفينة والأخرى بطموحاتها؛ فقد أرسلت احتجاجًا إلى الحكومة الإيطالية عندما قامت إحدى طائرات الأخيرة بمحاولة قصف المنشآت النفطية البحرينية إبان الحرب العالمية الثانية، في العام 1940(7)؛ وذلك على اعتبار أن إيطاليا هاجمت أراضي إيرانية.
لم يكن الشعب البحريني آنذاك بعيدًا عن هذه المطالبات؛ إذ كان يشعر بها وبجديتها، وكانت الروح القومية العروبية التي تنامت مع ثورة 1952 في مصر قد أجّجت هذا الشعور الوطني القومي الجارف، وجرى في تلك الأثناء تثبيت تسمية "الخليج العربي" بدلاً من "الخليج الفارسي" أو "خليج فارس"، وهو العنوان الذي دأبت دوائر بحرينية، رسمية وأهلية، التراسل على أساسه حتى خمسينات القرن الماضي. في الوقت الذي حذّرت مجلة "صوت البحرين"، التي صدرت في الخمسينات، من تغلغل بعض التجار "العجم"، أي: ذوي الأصول الإيرانية في الأعمال التجارية في البحرين، على اعتبار أنه نوع من الاختراق الإيراني الاقتصادي.
وهذا ما يتوافق مع شكوى البحرين في الستينات من القرن الماضي من كثرة الهجرة الإيرانية إليها، واعتبرتها هجرة منظمة ومقصودة لخلخلة النسيج الاجتماعي المحلي، وتكوين ما يشبه الطابور الخامس وسط الأهالي، وتم عرض مشكلة الهجرة الإيرانية على الجامعة العربية، في دورتها الحادية والأربعين، فأصدرت الجامعة، قرارًا في 31 مارس/آذار 1964، جاء فيه: "إن المجلس قد بحث ببالغ الاهتمام موضوع الهجرة الأجنبية إلى إمارات الخليج العربية، وما تشكّله من خطر على هذه المنطقة العربية(8).
ولم يأت هذا التحذير من فراغ؛ إذ كانت السلطات الإيرانية قد استصدرت في 1946، قرارًا من مجلسها النيابي بتخويل السلطة للحكومة الإيرانية في ممارسة سيادتها على البحرين. وفي العام نفسه ثبّتت المناهج التعليمية الإيرانية مسألة تبعية البحرين لها، وأعادت رسم خرائطها السياسية بوقوع البحرين ضمن حدودها في 1948. واحتجت في 1949 على تمثيل البحرين بوفود في الاتحاد الاقتصادي الآسيوي، واتحاد البريد الدولي. وعندما أمم الدكتور مصدّق النفط في 1951، كان القرار يسري على البحرين أيضًا. ويمكن اعتبار العام 1957 عامًا استثنائيًا في هذا السياق إذ أصدرت الحكومة الإيرانية قرارًا باعتبار البحرين المديرية الرابعة عشر لها، وخصصت لها مقعدين في مجلس النواب. ورفضت اتفاقات حدودية واقتصادية وقّعتها البحرين والمملكة العربية السعودية في 1958(9).
الاستقلال الحرج
في العام 1968 أعلنت بريطانيا نيتها الانسحاب من "شرق السويس"، وقامت بالترتيب لعملية "تسليم واستلام" مع الحكومات المحلية؛ فأدى انكشاف الغطاء البريطاني عن المنطقة، إلى تجدد الآمال الإيرانية في القيام بدور أكبر من مجرد "شرطي المنطقة"، فأعادت رسميًا المطالبة بضم البحرين لها مع الرحيل البريطاني بدءًا من 1969، فاتفقت بريطانيا وإيران على تقديم طلب مشترك إلى الأمم المتحدة باستفتاء شعب البحرين إن كان يريد الاستقلال أم الانضمام إلى إيران؛ الأمر الذي ترتب عليه تشكيل بعثة من الأمم المتحدة لهذا الغرض. وقد سبق حاكم البحرين آنذاك الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، البعثة الأممية بزيارة النجف الأشرف بالعراق في 1970 والتقى بالزعيم الشيعي آية الله السيد محسن الحكيم، وطلب منه حثّ شيعة البحرين على التصويت لصالح استقلال البحرين، ووعد باحترام حقوق الشيعة الدينية(10).
قدمت بعثة الأمم المتحدة تقريرها النهائي في 30 إبريل/نيسان 1970، والمتضمن "إن الغالبية الساحقة لسكان البحرين بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم ودياناتهم تؤيد وتريد إقامة دولة عربية ذات سيادة مستقلة، وتعلن في غير لبس الأمل في أن تنقشع سحابة المطالبة الإيرانية بصورة نهائية، مع التأكيد أنه متى ما سُوّي أمر هذه المطالبة كان ذلك أدعى لقيام علاقات أوثق مع سائر دول الخليج بما فيها إيران".
وقد كان؛ ففي العام نفسه بادرت إيران إلى اتخاذ خطوة للتقارب مع البحرين فأرسلت في 17 مايو/أيار 1970 وفدًا برئاسة وكيل وزارة الخارجية للتهنئة بصدور القرار، كما قام رئيس مجلس الدولة (آنذاك) الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة في يونيو/حزيران من العام نفسه بأول زيارة رسمية يقوم بها مسؤول بحريني إلى إيران منذ ما يقارب القرن من الزمان. ووصلت البحرين دعوة أخرى إلى حاكم البلاد آنذاك الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، من الشاه محمد رضا بهلوي، يدعوه فيها لزيارة إيران. وفي 18 ديسمبر/كانون الأول من نفس العام قام الشيخ عيسى بتلبية هذه الدعوة(11).
التحول الكبير
التحول الأكبر الذي طرأ على العلاقات البحرينية-الإيرانية خصوصًا، والخليجية-الإيرانية عمومًا، هو ما أعقب نجاح الثورة الإيرانية في فبراير/شباط 1979؛ فهذا النجاح قد عمل على إحداث تحول جذري في نظام الحكم من إمبراطوري وراثي، إلى جمهوري ثوري. ومثل غالبية الثورات في بداياتها المشحونة بالحماس، بدأت الطبقة الثورية الإيرانية تطلق الوعود للشعوب بـ"تحريرها" من الأنظمة المستبدة، وزلزلة عروش الممالك. وكان إعلان قائد الثورة آية الله الخميني أن الإسلام لا يتفق مع النظام الملكي، وغيرها من الخطب الشبيهة والتصريحات التي أدلى بها مسؤولون إيرانيون بارزون عن خلاف مع أنظمة الساحل المقابل للخليج، كانت تثير الكثير من المخاوف.
لم تمر سنة على الثورة حتى اندلعت شرارة حرب الثماني سنوات، حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران في سبتمبر/أيلول 1980، واستطاع العراق إقناع الدول الخليجية بأنه "حارس البوابة الشرقية" للوطن العربي، وأنه يصد النفوذ الإيراني ورغبته في التمدد شرقًا.
في الوقت نفسه، لم يُخْفِ عدد كبير من المواطنين الخليجيين من أتباع المذهب الجعفري، فرحهم بانتصار الثورة الإيرانية، وبدت روح الاعتزاز تظهر بصور شتى، وكان وقوف الغالبية الكبرى منهم مع إيران في حربها مع العراق، كلها من أسباب الشقاق الداخلي الخليجي، وبدا هذا في البحرين بصورة أكثر تجليًا نظرًا لطبيعة تركيبتها السكانية التي يمثل فيها الشيعة غالبية مختَلَف على نسبتها من إجمالي المواطنين. وهذا ما دفع عددًا منهم لتنظيم مظاهرات في الثالث والعشرين من فبراير/شباط 1979 ضمت عدة آلاف لتأييد الثورة الإسلامية رفعت شعارات التنديد بالولايات المتحدة والنظم الموالية لها. وكنتيجة مباشرة للثورة الإسلامية الإيرانية, تقدمت عدة شخصيات شيعية كبيرة بعريضة إلى الحكومة, كان من أهم مطالبها إقامة نظام إسلامي في البحرين على غرار النظام في إيران(12).
بينما كانت البحرين تستعد للاحتفال بمرور 200 عام على تولي آل خليفة السلطة في البلاد، أعلن الكشف في أواخر 1981، عن "محاولة انقلاب" قادها هادي المدرّسي، واتُّهم عدد من الشيعة البحرينيين بالمشاركة فيها، وبدأت سلسلة مصادمات متقطعة، وحملات دهم واعتقالات ونفي. وقد صرّح رئيس وزراء البحرين بأنه "لا يوجد في البحرين خطر داخلي، وأن الخطر الخارجي هو إيران"(13).
هذه الحادثة تعتبر التحول الأكبر والأهم في العلاقات البحرينية-الإيرانية عبر القرون التي سبقت؛ إذ كانت هذه العلاقات المتوترة تقوم على المطالبات الإيرانية عن بعد، مع تحركات في الداخل الإيراني، سواء عن طريق رسم الخرائط، أو إدماج البحرين ضمن الإقليم الإيراني، ولكن مسألة التمويل والتدريب والتحريض والإسناد، للعمل من داخل البحرين، فقد كانت هذه خطوة جديدة لم تكن لتحدث في الماضي.
منذ ذلك الحين صار من المعروف أن الكثير من الأحداث الماسّة بالأمن في البحرين يُنسب إلى جهات خارجية، وأن هذه الجهات لم تكن سوى إيران والمنظمات التابعة لها. ولم يتعلق الأمر بالبحرين وحسب، فقد اشتكت عدة دول خليجية أخرى، كالكويت والسعودية، من تدخلات إيرانية، ومحاولة زعزعة الأمن فيها، فلم يعد أمر الادّعاء بالبحرين وحدها ما يثير القلق، ولكن المسألة تعدّت إلى الدول العربية الأخرى في المنطقة، خصوصًا مع اشتداد أوار الحرب بين العراق وإيران.
في التسعينات من القرن العشرين، تراكم في البحرين الكثير من القضايا والملفات المحلية، وفي مقدمتها البطالة، وانفجرت في ديسمبر/كانون الأول 1994 في أحداث عُرفت محليًا بـ"أحداث التسعينات"، التي انتقلت من البطالة إلى المطالبة بعودة البرلمان، واستمرت حتى نهاية القرن الماضي، بوفاة أمير البحرين السابق في 1999، وكانت العلاقات البحرينية-الإيرانية على درجة عالية من التوتر جرّاءها؛ حيث دخل "حزب الله" على خط الأزمة؛ إذ أعلنت البحرين في 3 يونيو/حزيران 1996 عن وجود تنظيم "حزب الله البحريني" الذي أُشير إلى أنه يتلقى تدريباته في لبنان على يد "حزب الله" اللبناني؛ الأمر الذي ينفيه الأخير.
علاقات القرن 21
في عهدي الرئيسين الإيرانيين: هاشمي رفسنجاني، ومحمد خاتمي، شهدت العلاقات البحرينية-الإيرانية شيئًا من الهدوء الميّال إلى التحسن الطفيف. وتولّى الملك حمد بن عيسى آل خليفة الحكم، وفتح صفحات جديدة داخليًا، كان لابد أن تقابلها صفحات جديدة مع الخارج، ومع إيران بالتحديد لارتباط الملفين الداخلي والخارجي بالاستقرار الأمني. وهكذا زار الملك البحريني طهران في العام 2002 على رأس وفد كبير من مختلف الطوائف والاختصاصات لإيلاء أهمية خاصة لهذه الزيارة وما ستنعكس عنه.
إلا أن تعاقب الأحداث الداخلية في البحرين لم يكن لينبئ عن استقرار حقيقي في هذا البلد، بينما راحت العلاقات تنحو إلى التوتر من جديد بعد تولي محمود أحمدي نجاد، سدة الحكم في إيران؛ حيث عادت مسألة أحقية إيران في البحرين إلى البروز من جديد، من خلال مواقف متعددة، كذلك المقال الذي كتبه المستشار الثقافي للمرشد الأعلى ورئيس صحيفة "كيهان" حسين شريعتمداري في يوليو/تموز 2007، الذي ألهب الخلافات من جديد.
اتخذ هذا الخلاف منحى تصاعديًا جديدًا من خلال الأحداث التي شهدتها البحرين، على غرار ما حدث في بعض دول "الربيع العربي"، حيث تسوّدت الجمعيات الدينية الشيعية المعارضة هذا الحراك، ومن هنا فإن إيران كانت المتهم الأبرز في هذه الأحداث، وهي التي لم تخفِ تعاطفها ومساندة قنواتها التلفزيونية الرسمية والقنوات الرديفة لوجهة نظر المعارضة.
بعد الانتهاء العملي للاحتجاج الذي استمر شهرًا (منتصف فبراير/شباط حتى منتصف مارس/آذار 2011)، شكّلت البحرين لجنة دولية مستقلة لتقصي حقائق ما حدث، عُرفت بـ"لجنة بسيوني" نسبة إلى رئيسها محمود شريف بسيوني، والتي أكدت أنه "لا توجد أدلة قاطعة" تثبت أن إيران لعبت دورًا في تأجيج الشارع البحريني، غير أن العاهل البحريني اعتبر أن الممارسات التي تصدر عن الإعلام الإيراني دليل على التدخل السافر التي تقوم به طهران في شؤون البحرين. وعبّر ملك البحرين عن أسفه العميق للهجمة الإعلامية الشرسة في القنوات الإعلامية الرسمية الإيرانية التي تحرّض أبناء البحرين على التخريب وارتكاب أعمال العنف؛ مما أسهم في إذكاء نار الطائفية، وقال: "إن ذلك يدل دلالة واضحة على تدخل سافر لا يُحتمل في شؤون البحرين الداخلية، وإن هذا التدخل أدى إلى معاناة كبيرة للشعب والوطن"، موضحًا في هذا الصدد أن "حكومة البحرين ليست في وضع يمكّنها من تقديم أدلة على الصلات بين إيران وأحداث معينة في المملكة هذا العام"(14).
علاقات البلدين: إلى أين؟
منذ المطالبات الإيرانية الأولى بالبحرين وحتى اليوم، لابد من الوقوف على بعض الحقائق التي يتقاسمها البلدان، ومنها الفوارق الشاسعة في موازين القوى بين الدولتين، كما في الجدول المرفق، التي لا تسمح بالوقوف موقف الندية بين البلدين.
تميل البحرين إلى الاستقواء بمحيطها الخليجي الذي يشكّل عمقها الاستراتيجي، وهو عمق متعدد الجوانب من نواحيه الجغرافية، والقبائلية، والقومية، والمذهبية، وهي جميعها على النقيض من الطرف الإيراني. وإذا كانت إيران ما قبل الثورة تطالب بالبحرين كنوع من "الكبرياء" الذي لم يكن ليقبل أن تنتقل هذه الجزيرة من تبعيتها المباشرة وغير المباشرة إلى الاستقلال؛ فقد أضيف إليها بعد الثورة عاملان على الأقل، وهما: "تصدير الثورة"، والدفاع عن "المستضعفين في الأرض"، أي: الشيعة. وقد استثمرت إيران الحجّة الثانية سياسيًا عندما كانت بهلوية كما سبقت الإشارة، وبقيت تستثمرها عندما تحولت إلى جمهورية إسلامية مضافًا إليها البعد الثوري.
بقيت المسافة بين إيران والدول العربية الخليجية متوترة لأسباب تتعلق بالتاريخ الممتد من الهيمنة والنفوذ والحروب، وكذلك بالانشقاق المذهبي بين الطرفين. وتوِّجت هذه العلاقة سلبيًا بقيام الثورة لتتأسس دولة شيعية على الشاطئ الشرقي للخليج في قبالة القطب السني الذي تمثله المملكة العربية السعودية؛ مما أجّج الخلاف، وقسّم الخليجيين إلى قسمين وجدانيًا: سني مع السعودية وبقية الدول، وشيعي مع إيران.
إن قيام الثورة الإيرانية أدخل الجمهورية الوليدة في عزلة جديدة مضاعفة؛ إذ إنها باتت أكثر غربة من ذي قبل عن جاراتها، وبات من مصلحتها تصدير الثورة لتضمن بيئة متوافقة معها تقوّي مواقفها التي اتخذتها تجاه الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص، وهي "علاقات يتحكم فيها إلى حد كبير رجال الدين المتشددون ذوو السلطة، وهؤلاء يرون في التقرب من دول الخليج استسلامًا للأجندة الأميركية في المنطقة، وأن هذه الدول هي دول عميلة لها، تنفذ استراتيجيتها وبالتالي التآمر على إيران بهدف إضعاف دورها. وأيضًا هناك قطب إصلاحي معتدل يدعو إلى نهج سياسة خارجية أكثر انفتاحًا حتى تتمكن إيران من إنعاش اقتصادها وسط هذه العقوبات الدولية".(15) لذلك لم تتنازل إيران الثورة عن أية مكاسب حققتها إيران الشاه؛ فهي لم تسْعَ إلى حل مشكلة الجزر الإماراتية الثلاث، بل اتخذت عدة مواقف على مدى السنوات الثلاثين الماضية من شأنها توتير العلاقات، كون هذه الجزر قادرة على التحكم في مضيق هرمز. كما أن مطالباتها بالبحرين أضافت إلى الشكل الكلاسيكي أشكالاً أخرى من التغذية الإعلامية، وهو ما يمكن الجزم به، إضافة إلى الكثير من التقارير البحرينية والخليجية التي تشير إلى التدخل اللوجستي استثمارًا لتبرّم طائفة من الشيعة من أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتزعزع الثقة بينها وبين الحكم خصوصًا بعد قيام الثورة.
من المرجح أن العلاقات البحرينية-الإيرانية ستبقى على حال متراوحة بين التوتر والانسجام بحسب طبيعة من يتولى السلطة في إيران؛ إذ تخفت هذه التوترات مع وصول رؤساء إصلاحيين أو معتدلين، وتزداد في حال تسلم السلطة من قبل متشددين، ولكنها علاقات لا تصل، وليس متوقعا لها الوصول، إلى درجة عالية من الثقة ما دامت على الضفتين ثغرات يمكن أن تتسلل منها رغبات إذكاء الصراع والاستفادة من التوترات.
__________________________________
غسان الشهابي - كاتب بحريني مختص بحركات الإسلام السياسي والتحولات الاجتماعية والسياسية.
الإحالات
1 - طارق نافع الحمداني، البحرين في كتابات الرحالة الأوروبيين: 1507-1914، ص41-46.
2 - حسام الدين جابر سالم، العلاقات البحرينية-الإيرانية: 1979-2013، ص47.
3 - طارق نافع الحمداني، مرجع سابق، ص57.
4 - محمد النبهاني الطائي، التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية: البحرين، ص159.
5 - عمل في القنصلية البريطانية في البصرة (1894-1895)، مساعد أول للمقيم السياسي بالخليج (إبريل/نيسان 1904)، المعتمد البريطاني في البحرين (1910-1911)، المعتمد السياسي في مسقط (1911-1913)، المقيم السياسي في الخليج (1914)، المقيم البريطاني في الخليج (1923)، وتوفي في 1957.
6 - محمد عبدالقادر الجاسم، وسوسن علي الشاعر، البحرين: قصة الصراع السياسي (1904-1956)، ص70، 71.
7 - أمل الزياني، البحرين بين الاستقلال السياسي والانطلاق الدولي، ص251-264.
8 - الموقع الرسمي لرئيس وزراء البحرين http://www.bahrainprimeminister.net/iran.html . آخر زيارة للموقع 16 أغسطس/آب 2014.
9 - حسام الدين جابر سالم، مرجع سابق، ص52، 53.
10 - http://alestqlal-hb.blogspot.com/2009/08/1966.html
11- الموقع الرسمي لرئيس وزراء البحرين http://www.bahrainprimeminister.net/iran.html . آخر زيارة للموقع 16 أغسطس/آب 2014.
12 - أحمد منيسي، العلاقات البحرينية-الإيرانية بين أزمات الماضي وآفاق المستقبل، مركز التنوير للدراسات الإنسانية، www.altanweer.net ، آخر زيارة للموقع 18 أغسطس/آب 2014.
13 - حسام الدين سالم جابر، مرجع سابق، ص80.
14 - صحيفة الشرق الأوسط، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
#- تقديرات موقع ويكيبيديا.
15 - أمياي عبدالمجيد، مستقبل العلاقات الخليجية-الإيرانية، موقع الحوار المتمدن، 30 يناير/كانون الثاني 2007، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=87309 ، آخر زيارة للموقع في 17 أغسطس/آب 2014.