حوار غدامس وغياب القوى الليبية الفاعلة

غاب عن حوار غدامس قوى حقيقية في ليبيا، عسكرية ومجتمعية، وقوى سياسية فاعلة. وفي حين رفض مجلس شورى ثوار بنغازي الحوار ومخرجاته، لم تتمكن الأحزاب المؤيدة لفجر ليبيا من اتخاذ موقف واضح من الحوار، خشية اتهامها برفض حل سياسي ينهي الأزمة.
201410148138302734_20.jpg
ركز الحوار في غدامس على من بيده قوة الشرعية، متجاهلاً الطرف الذي يملك الهيمنة على الأرض (الأوروبية)

ملخص
انطلق حوار غدامس على حدود الجزائر برعاية البعثة الخاصة للأمم المتحدة بليبيا من قاعدة أن مجلس النواب المنعقد بطبرق صاحب الشرعية الكاملة؛ حيث ركز بالدرجة الأولى على من بيده قوة الشرعية ولو مؤقتًا، وهم أعضاء مجلس النواب الليبي، سواء المؤيدون أو المعارضون لانعقاده بطبرق، متجاهلاً الطرف الذي يملك الهيمنة على الأرض، وهو ما يعني فشلاً لمخرجات الحوار. كما أن حوار غدامس تجاهل الطرف المقابل لمجلس النواب في النزاع الدائر، وهو المؤتمر الوطني العام، الذي ينازع مجلس نواب طبرق شرعيته، وكل ما فعله برناردينو أنه جمع بين وجهي العملة.

وجمع حوار غدامس بين من هم غير معنيين بالحوار أساسًا، كونهما لا يمثلان القوى الحقيقية على الأرض، سواء أكانت قوة عسكرية مسلحة، أو قوة مجتمعية، أو قوى سياسية فاعلة. وذلك بخلاف محاولة المبعوث الأممي السابق طارق متري الذي دعا جميع أطراف القوى السياسية والمجتمعية والعسكرية إلى حوار قبيل انتخابات مجلس النواب الليبي في يونيو/حزيران الماضي.

بالمقابل، ثمة خلافات حقيقية بين قادة قوات فجر ليبيا لا على مستوى جدوى مخرجات حوار غدامس السياسية، بل أيضًا على مستوى الثقة المتبادلة بين هؤلاء القادة أنفسهم، ومع الأحزاب السياسية المؤيدة لهم. ولم تستطع الأحزاب السياسية المؤيدة لفجر ليبيا هي الأخرى اتخاذ موقف واضح وجليّ من حوار غدامس، خشية أن تُتهم بدعمها للحرب ورفضها لأي حل سياسي يُنهي الأزمة برمتها.

يعرف المشهد السياسي والعسكري الليبي انقسامًا بين قوى تحظى بالشرعية والاعتراف الدولي والإقليمي، وأخرى مهيمنة تملك أدوات الحسم العسكري على الأرض، ولا يمكن تجاهلها بسبب تأثيرها في صناعة أي تفاوض داخلي أو دولي ينهي حالة الصراع في ليبيا. وهنالك حالة استقطاب سياسي واجتماعي وانقسام ناتج عن تداعيات عملية الكرامة التي قادها اللواء المتقاعد خليفة حفتر؛ فقد حظيت العملية بتأييد قبائل بالشرق الليبي من ضواحي مدينة بنغازي، ومدينة المرج 100 كم شرق بنغازي، ومدينة البيضاء 200 كم شرق بنغازي، وقبائل مدينة طبرق مقر مجلس النواب الليبي.

المشهد العسكري والسياسي

ظهر تحالف كتائب مسلحة جديد بمدن الغرب الليبي من اثنتي عشرة مدينة تتزعمه مدينة مصراته ذات الوزن العسكري من حيث عدد المقاتلين ونوعية التسليح، تحت اسم فجر ليبيا ليواجه كتائب القعقاع والصواعق والمدني بالعاصمة طرابلس الذراع العسكرية لحزب تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل، والمؤيدة لعميلة الكرامة. ولمواجهة أيضًا ما اصطُلح على تسميته بجيش القبائل من مناطق ورشفانة بضواحي العاصمة طرابلس، والذي رفع مقاتلوه الأعلام الخضراء وتحالفوا مع حفتر.

وقد انتهت المواجهات المسلحة بين قوات فجر ليبيا وكتائب القعقاع والصواعق والمدني بسيطرة قوات فجر ليبيا على مطار طرابلس الدولي، وطرد الكتائب المؤيدة للواء حفتر من كل المرافق والمعسكرات بالعاصمة، كما سيطر تحالف كتائب فجر ليبيا على مناطق ورشفانة بالكامل.

وما زالت المعارك محتدمة في بنغازي بين القوات الموالية لحفتر، ومجلس شورى ثوار بنغازي الذي تشكَّل من كتائب مسلحة أغلبها ذو توجه إسلامي، أبرزها كتيبة 17 فبراير، وكتيبة أنصار الشريعة بقيادة محمد الزهاوي، والمصنفة كمنظمة إرهابية بحسب القوانين الأميركية. وتسعى فرنسا لاستصدار قرار من مجلس الأمن باعتبارها منظمة إرهابية على غرار تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام.

ويعرف المشهد السياسي الليبي عدة تحولات منذ انتخابات الخامس والعشرين من يونيو/حزيران الماضي التي أفرزت مجلسًا للنواب، أثار جدلاً دستوريًّا يُنظر فيه أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا الليبية، بسبب مخالفات دستورية متعلقة بانعقاده خارج مدينة بنغازي، المقر المنصوص عليه بموجب التعديل السابع للإعلان الدستوري. وقد أفرزت هذه الأزمة السياسية مطالبات من مؤيدي فجر ليبيا بعودة المؤتمر الوطني العام السابق باعتباره صاحب الولاية التشريعية، لحين تصحيح الوضع الدستوري لمجلس النواب الليبي المنعقد بطبرق شرقي ليبيا(2)؛ حيث شكَّل الأخير حكومة إنقاذ وطني برئاسة عمر الحاسي في الخامس والعشرين من أغسطس/آب الماضي، سلَّمتها قوات فجر ليبيا مقار الوزارات بالعاصمة طرابلس.

في حين وافق مجلس النواب بطبرق على التشكيلة الوزارية التي قدمها له عبد الله الثني في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول الفائت 2014(3)، والتي بدأت تمارس مهامها من مدينة البيضاء غربي طبرق 275 كلم.

وبذلك تعزز الانقسام السياسي من جهة بين برلمانين، أحدهما يحظى بدعم واعتراف دولي وهو مجلس النواب بطبرق، وآخر بطرابلس غير معترف به نظرًا لسيطرة الإسلاميين عليه؛ ومن جهة أخرى بين حكومتين، تسيطر إحداهما من خلال مؤيديها على مساحات شاسعة بليبيا، وتهيمن على مراكز القرار السيادي والمالي بالدولة كمصرف ليبيا المركزي، وأغلب منابع النفط، وأخرى تتحرك في مساحات صغيرة ومعزولة بمدينة درنة التي تسيطر عليها جماعات متشددة رافضة لبرلمان طبرق وكل ما ينبثق عنه، وبعيدة جغرافيًّا عن الإدارات المهمة بالدولة الليبية، وقرارتها لا تلقى  قوة على الأرض لتنفذها.

طبيعة الحوار بين السياسيين في غدامس وخلفياته

انطلق حوار التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول بغدامس على حدود الجزائر برعاية البعثة الخاصة للأمم المتحدة بليبيا ورئيسها برناردينو ليون، من قاعدتين أساسيتين، الأولى: أن مجلس النواب الليبي المنعقد بطبرق صاحب الشرعية الكاملة، باعتباره نتاج انتخابات 25 يونيو/حزيران الماضي. والثانية: احترام الإعلان الدستوري الليبي وتعديلاته، واعتباره مرجعية عليا لحل جميع الخلافات الدستورية والقانونية العالقة(4).

ويبدو من المنطلق الذي خطَّه برناردينو ليون لسير الحوار، أنه من الطبيعي أن يكون مقتصرًا على نواب مؤيدين لانعقاد البرلمان بطبرق، مستبعدًا في ذات الوقت أطراف الأزمة السياسية والأمنية الليبية المؤثرين، والمكونين بالأساس من تنظيمات مسلحة مسيطرة على الأرض كقوات فجر ليبيا بغرب ليبيا، ومجلس شورى ثوار بنغازي بشرقها.

ويعيب إعلان بعثة الأمم المتحدة اعتباره أن مجلس النواب الليبي يمثل الشرعية الكاملة، وأنها انتقلت من طور ومرحلة الدعم حسب مهمتها المعلنة، إلى مرحلة وطور الفصل في قضايا دستورية وقانونية ما زالت عالقة أمام المحكمة العليا الليبية؛ حيث إن أعضاءً بالمؤتمر الوطني وأحزابًا سياسية وشخصيات عامة رفعت دعاوى قضائية دستورية تطعن في شرعية مجلس النواب، وفي دستورية قانون انتخابات مجلس النواب الليبي، وبالتعديل الدستوري السابع الذي دشن مرحلة انتقالية ثالثة، جاءت نتيجة انسداد المسار السياسي بالمؤتمر الوطني بسبب الخلافات الحادة بين الإسلاميين الذين تزعمهم وقتها تحت قبة المؤتمر الوطني العام حزب العدالة والبناء، والليبراليين الذين يمثلهم حزب تحالف القوى الوطنية برئاسة محمود جبريل.

وإذا أصدرت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا حكمًا بعدم دستورية هذه الحزم المؤسِّسة للمرحلة الانتقالية الثالثة، فإن المرحلة الانتقالية الثانية ستعود بأجل زمني غير محدد إلى مربع المؤتمر الوطني العام، وهو ما يخشاه الدبلوماسيون الغربيون وعبَّروا في الأروقة الخاصة عن مخاوف من عودة مركزية القرار السياسي الليبي إلى التيار الإسلامي بالمؤتمر الوطني العام.

ومن خلال وجهة النظر تلك، فإن برناردينو ليون رئيس بعثة الأمم المتحدة بليبيا نصَّب نفسه سلطة عليا فوق سلطة المحكمة العليا الليبية، وبادر بإعلان أن مجلس النواب الليبي بطبرق صاحب شرعية كاملة، أو أنه -في أضعف الحالات- يحاول طمأنة المحكمة العليا ويبعث لها برسائل سياسية قد تغيِّر من قناعتها القانونية قبل إصدار حكمها النهائي، المنتظر أن يكون في العشرين من أكتوبر/تشرين الأول، بعد انطلاق أولى جلسات الطعون الدستورية في الثامن من أكتوبر/تشرين الفائت.

وهو ما يطرح جملة من الأسئلة حول دوافع التأجيل الحقيقية، في ظل معطيات جديدة، أبرزها زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لطرابلس في الحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، لتأكيد مساندته لمبادرة حوار غدامس برعاية مبعوثه الخاص برناردينو ليون، وقيام رئيس حكومة مجلس نواب طبرق عبد الله الثني، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، واللواء المتقاعد حفتر بزيارات مكوكية قبل موعد جلسة الفصل في شرعية مجلس نواب طبرق، ومحاولة جمع التأييد السياسي والدعم اللوجستي والعسكري، وبات الحديث عن الدعم العسكري علنًا بلا مواربة ولا انتقاد دولي أو إقليمي.

وتشير معلومات إلى أن هناك جلسة حوار مغلقة في الجزائر يوم السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري قد يشارك فيها مندوبون عن حفتر ورئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح قد تحقق لهم تقدمًا سياسيًّا قبل موعد الجلسة الثانية.

ناهيك عن الاهتمام الدولي والإقليمي والإعلامي بالأنباء الواردة بخصوص مبايعة وشيكة لتنظيم الدولة في درنة قبل 20 أكتوبر/تشرين الأول؛ مما يعني الارتكاز على واقع سياسي يقوم على محاربة الإرهاب في شرق ليبيا باعتباره لغة عالمية غير قابلة للنقاش أو الجدل.

وبالنظر إلى هذه المعطيات فإن حوار غدامس ركَّز بالدرجة الأولى على من بيده قوة الشرعية ولو مؤقتًا وهم أعضاء مجلس النواب الليبي، سواء المؤيدون أو المعارضون لانعقاده بطبرق، متجاهلاً الطرف الذي يملك الهيمنة على الأرض، وهو ما يعني فشلاً لمخرجات الحوار. كما أن حوار غدامس تجاهل الطرف المقابل لمجلس النواب في النزاع الدائر، وهو المؤتمر الوطني العام، الذي ينازع مجلس نواب طبرق شرعيته، وكل ما فعله برناردينو أنه جمع بين وجهي العملة.

حوار غدامس بين وجهي عملة واحدة

جمع حوار غدامس بين من هم غير معنيين بالحوار أساسًا، كونهما لا يمثلان القوى الحقيقية على الأرض، سواء أكانت قوة عسكرية مسلحة، أو قوة مجتمعية، أو قوى سياسية فاعلة. وذلك بخلاف محاولة المبعوث الأممي السابق طارق متري الذي دعا جميع أطراف القوى السياسية والمجتمعية والعسكرية إلى حوار قبيل انتخابات مجلس النواب الليبي في يونيو/حزيران الماضي، إلا أن حزب تحالف القوى الوطنية وكل القوى السياسية والعسكرية المؤيدة له رفضت دعوة متري معتبرة أنها محاولة منه لإنقاذ الطرف الخاسر في انتخابات مجلس النواب قبل انعقادها. بالإضافة إلى اعتماد الطرف الرافض للحوار على قوة عسكرية مسلحة جيدًا بطرابلس وبنغازي موالية لحفتر، قبل أن تلحق بها هزائم على يد قوات فجر ليبيا بطرابلس، وضرب بنيتها التحتية ببنغازي على يد مجلس شورى ثوار بنغازي.

لقد امتلكت مبادرة ودعوة متري فرصة جيدة للنجاح، كونها أشركت كل الفاعلين والمؤثرين في المشهد السياسي والأمني الليبي، إلا أن الاعتقاد من قبل محمود جبريل وخليفة حفتر بأن الفصائل المسلحة التابعة لهما بالغرب ككتائب "القعقاع، الصواعق، المدني" أو قوات حفتر بالشرق قادرة على حسم الصراع لصالحها، بالإضافة إلى التوجه الإقليمي المتشدد والقائم على أساس استئصال الإسلاميين والزحف عليهم ومحاصرتهم، أفشلا محاولة متري(6).

ويرتكب برناردينو ليون خطأ آخر باعتماده على أطراف غير قادرة في حد ذاتها على صنع الاستقرار السياسي، كونها لا تملك أدوات الحل والحسم، أو ربما يحاول مبعوث الأمم المتحدة عزل القوى العسكرية المعارضة لمجلس النواب بطبرق، وإظهارها بمظهر الميليشيات المتمردة محليًّا ودوليًّا في حال رفضت الأخيرة مخرجات حوار غدامس. وهذا ما حدث بالفعل؛ إذ رفض قادة عسكريون من فجر ليبيا، ومجلس شورى ثوار بنغازي حوار غدامس بين البرلمانيين؛ وهي نتيجة مطلوب تحقيقها من القوى الغربية الكبرى المتنفذة بمجلس الأمن الدولي. وتبدو الرسالة إما أن تنضموا إلى مجلس النواب بوضعه الحالي أو تتم إدانتكم في إجراءات لاحقة. وبالتالي، رؤية بعثة الأمم المتحدة لصناعة الاستقرار في ليبيا غير مكتملة العناصر، وغير مستوفية الشروط، إضافة إلى عدم توازنها بشكل كاف.

وبالنسبة إلى بعض أعضاء المؤتمر الوطني العام فإن الحوار الذي جرى في غدامس باطل من حيث الشكل، لأنه حوار بين وجهي عملة واحدة؛ فالنواب المقاطعون لا يمثلون الطرف المقابل لمجلس النواب، بل إن الطرف الذي يقابل مجلس النواب هو المؤتمر الوطني العام، وهو الذي يرى استمرار ولايته بسبب بطلان الانعقاد خارج المقر الدستوري. وهذا الطرف الذي يتنازع الشرعية مع مجلس النواب (الذي تعترف به بقوة بعثة الدعم) لم تتم دعوته، إمعانًا في الخوف من أي ظلال محتملة لشرعية المؤتمر الوطني العام، وذلك لتصوير الصراع الليبي على أنه بين مجموعات مسلحة في مواجهة شرعية برلمانية يمثلها مجلس النواب(7).

موقف الأطراف الليبية من حوار غدامس

ثمة خلافات حقيقية بين قادة قوات فجر ليبيا لا على مستوى جدوى مخرجات حوار غدامس السياسية، بل أيضًا على مستوى الثقة المتبادلة بين هؤلاء القادة أنفسهم، ومع الأحزاب السياسية المؤيدة لهم؛ فمثلاً أعلنت الصفحة الرسمية لعملية فجر ليبيا رفضها لوقف العملية العسكرية قبل نزع سلاح ما أسمتها بـ"الثورة المضادة" كأحد أهم بنود اتفاق حوار غدامس.

في حين نفى المتحدث باسم قوات درع ليبيا الوسطى أحمد هدية، إصدار عملية فجر ليبيا بيانًا يرفض جلسات الحوار بمدينة غدامس، مؤكدًا أنهم مع مبدأ الحوار الوطني لكن مع تلبية ثلاثة شروط، تتمثل في "تقديم الاعتذار عن البيان الصادر بوصفهم جماعة إرهابية، وأن يكون هناك موقف واضح بشأن الغارات الجوية التي شنَّها الطيران الإماراتي والمصري على طرابلس، بالإضافة إلى عمليات القصف الجوي التي يشنُّها حفتر على بعض المدن الليبية".

وهي شروط في مجملها لم تتعرض لمسألة وقف إطلاق النار بطريقة توحي بعمق الخلاف داخل أجنحة فجر ليبيا؛ حيث يرى عضو المؤتمر الوطني السابق وأحد أهم قادة العملية صلاح بادي أن الحوار في هذه الفترة ما هو إلا محاولة لإنقاذ الطرف العسكري الخاسر بطرابلس وبنغازي، ومنحه جرعة إحياء عن طريق الدول الكبرى وهيئة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

وتتجلى أزمة ثقة أخرى بين قادة فجر ليبيا تتمثل في عدم قدرتهم على إنشاء جسم سياسي يعبِّر أولاً عن الرؤية السياسية والأهداف الحقيقية من وراء استمرار العمليات العسكرية، ويفصل ثانيًا بين القادة الميدانيين والجسم السياسي حتى لا تختلط أوراق المدني السياسي بالعسكري الميداني.

ولم تستطع الأحزاب السياسية المؤيدة لفجر ليبيا هي الأخرى اتخاذ موقف واضح وجلي من حوار غدامس، خشية أن تُتهم بدعمها للحرب ورفضها لأي حل سياسي يُنهي الأزمة برمتها. وحتى في حالة دعمها لحوار غدامس ليست ثمة ضمانات تعصمها من رميها بتهمة الخيانة والتفريط في مكتسبات الموجة الثانية لثورة فبراير/شباط كما يسميها بعض القادة العسكريين من فجر ليبيا؛ فمثلاً أمسك حزب العدالة والبناء العصا من المنتصف بتأييده لموقف دار الإفتاء الليبية الداعي إلى تأجيل الحوار لحين الفصل في شرعية مجلس النواب أمام المحكمة العليا(8).

وانقسمت المؤسسة الدينية بليبيا حول توقيت حوار غدامس؛ ففي الوقت الذي عبَّرت فيه دار الإفتاء عن رؤيتها حول حوار غدامس بضرورة تعليقه إلى حين فصل الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا الليبية في شرعية مجلس النواب في بيان لها(9)؛ فقد أصدرت رابطة علماء ليبيا بيانًا رحَّبت فيه بالحوار الوطني المنعقد بمدينة غدامس، ومبارِكة ما صدر عنه من توافق وحسن نوايا(10)، وهي رابطة أغلب منتسبيها من التيار الصوفي بليبيا ومدعومة من سفير ليبيا بدولة الإمارات العربية المتحدة عارف النايض المؤيد لانعقاد مجلس النواب بطبرق.

النواب الرافضون لانعقاد مجلس النواب بطبرق بدورهم تباينت مواقفهم من دعوة برناردينو ليون لمفاوضات غدامس؛ فمثلاً رفض النائب عن طرابلس عبد الرؤوف المناعي حضور جلسة حوار غدامس، معتبرًا أن ليون مارس سياسة العصا لفرض إرادته لإنجاح حوار غدامس؛ وذلك بتهديده بالعقوبات الدولية المنصوص عليها بقرار مجلس الأمن رقم 2174، في حين اعتبر عضو مجلس النواب عن مصراته محمد إبراهيم الضراط أن نسب نجاح حوار غدامس ضئيلة، كون جدول أعمال الحوار لم يتم التشاور فيه، بل فرضه المبعوث الأممي على طرفي الحوار.

ويكاد يكون الموقف الوحيد الواضح دون انشقاقات داخلية بصفوفه من حوار غدامس هو رفض مجلس شورى ثوار بنغازي والذي يضم بين صفوفه كتائب إسلامية بعضها مصنَّف كمنظمة إرهابية حسب القوانين الأميركية ككتيبة أنصار الشريعة؛ حيث اعتبر مجلس شورى ثوار بنغازي أن حوار غدامس "محاولة لإقصاء الثوار من المشهد على الرغم من أنهم أصل فيه"، معتبرًا أن "الثوار من يقاتلون على الأرض لحماية البلاد وصونها من التدخلات الأجنبية السياسية والعسكرية"، وذلك حسب نص البيان الذي أصدره مجلس شورى الثوار(11).

في الاتجاه الآخر قبل مجلس النواب الليبي ورئاسة الأركان العامة المنبثقة منه نتائج حوار غدامس، وأعلنت الأخيرة وقفها إطلاق النار مشترطة أن توقف قيادة فجر ليبيا بطرابلس ومجلس شورى الثوار ببنغازي عملياته العسكرية، وهو تناغم في الموقف السياسي يفتقده معارضوها.

ثمة عامل آخر لا يمكن لأطراف الحوار ولا لبعثة الأمم المتحدة بليبيا تجاهله، وهو الضغط الشعبي المتمثل في مظاهرات شعبية تخرج كل جمعة والتي ترفض إجراء هذا الحوار من الأساس مع من تعتبرهم باركوا الضربة الإماراتية-المصرية الجوية لعدة مواقع بالعاصمة الليبية طرابلس، ولعملية الكرامة التي تقصف المدنيين ببنغازي ودرنة شرقي ليبيا. وهو في نهاية الأمر عامل سلبي يعوق إنجاح فكرة الحوار، كون أعضاء مجلس النواب الرافضين لبرلمان طبرق والحاضرين في حوار غدامس منتخبين من قاعدة شعبية ترفض أن يجلسوا مع برلمان طبرق.

مستقبل الحوار ضمن مشهد سياسي وعسكري متحرك

إن غياب قيادة سياسية حقيقية لعملية فجر ليبيا ومجلس شورى ثوار بنغازي، اللذين يقودان المواجهة ضد محاولة الانقلاب العسكري التي يتزعمها حفتر، بسبب بعض الحساسيات بين القيادات العسكرية والأحزاب السياسية المؤيدة لها، واعتقاد القادة العسكريين قدرتهم على إدارة ملفي الميدان والسياسة، وغياب الثقة بين جميع الأطراف، سيكون عامل هدم لأية مفاوضات تجري حاليًا أو مستقبلاً، سواء أكانت ليبية-ليبية، أم برعاية أممية دولية؛ وذلك عكس ما تتمتع به القوى الأخرى المضادة لفجر ليبيا والمؤيدة لعملية الكرامة؛ حيث يغلب على أدائها السياسي التناغم والتنسيق فيما بينها وبين الدول الإقليمية الراعية لها داخل وخارج ليبيا.

وبالإضافة إلى غياب القيادة السياسية الموحدة، فإن استبعاد طرف وإشراك طرف آخر بغدامس سيشكِّك لا في نوايا بعثة الأمم المتحدة فقط في ليبيا، بل سيجعل الطرف الحاضر للحوار عرضة لاتهامات عديدة من الآخر الغائب، أقلها النفور والكراهية وأعلاها الخيانة.

خاتمة

رغم تلويح المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بليبيا برناردينو ليون قبيل انعقاد حوار غدامس لجميع الأطراف الليبية بقرار مجلس الأمن رقم 2174 الصادر في 27 أغسطس/آب الماضي، كعصا تفرض على أطراف الصراع الليبي الالتزام بمخرجات الحوار، إلا أن هذه العصا ستظل ليِّنة في ظل عدم التدخل الأميركي كراع رسميٍ للحوار؛ حيث تنظر الولايات المتحدة للوضع الليبي من منظور أمني أوحد يهدف إلى القضاء على الإرهاب فقط، دون التفطن إلى عمق الأزمة السياسية، وجموح بعض الدول الإقليمية كمصر والإمارات العربية المتحدة في تقويض أجنحة ثورة فبراير/شباط.

لقد وقع برناردينو ليون في أسر رؤية نمطية للوساطات الدولية من جهة تنميط الوضع في ليبيا باعتباره فقط حوارًا بين ليبراليين وإسلاميين، دون النظر لعمق التغير الذي قادته ثورة السابع عشر من فبراير/شباط، وإزاحتها لنظام شمولي يحاول العودة من جديد وترتيب تحالفاته المحلية والإقليمية على أساس من ضرب مشروعية الثورة، وتدمير بناها الفكرية والسياسية والعسكرية، ومن ثم تسطيح الصراع الجاري في ليبيا، واختزاله في صور ثنائية متقابلة هامشية.

إن الانطلاق في تقييم المشهد الليبي، من قبل الساسة الدوليين والمنظمات التي تعكس سلطان الولايات المتحدة كالأمم المتحدة والناتو وصندق النقد الدولي إضافة إلى المثقف الغربي، من أن ما يحدث في ليبيا ما هو إلا صراع على السلطة وتقسيم التركة يعبِّر عن فجوة معرفية ومنهجية قد يقود الإصرار عليها عبر الضغط الأميركي إلى جرِّ ليبيا إلى أزمة سياسية وأمنية (سيادية) عميقة وطويلة الأمد.
_______________________________________
هشام الشلوي - باحث ليبي

المصادر
1- حوار صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مع خليفة حفتر بتاريخ 19 مايو/أيار 2014،
http://www.aawsat.com/home/article/100236
2- «فجر ليبيا» تدعو لانعقاد عاجل للمؤتمر الوطني العام بتاريخ 23 أغسطس/آب 2014،
http://www.alwasat.ly/ar/news/libya/32837/
3- البرلمان يمنح الثقة لحكومة عبد الله الثني بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2014،
http://www.libya-al-mostakbal.org/news/clicked/55785
4- موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بتاريخ 21 سبتمبر/أيلول 2014،
http://unsmil.unmissions.org/Default.aspx?tabid=5120&ctl=Details&mid=8563&ItemID=1975302&language=en-US
5- حوار الليبيين في مهب الخلافات، بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2014،
http://www.alquds.co.uk/?p=229405
6- لقاء لطارق متري مع موقع العربي الجديد بتاريخ 10 يونيو/حزيران 2014،
http://www.alaraby.co.uk/politics/86060c1e-35e7-4480-97b1-2aae65f2ad9a
7- منشور محمود سلامة الغرياني عضو المؤتمر الوطني على صفحته بالفيس بوك بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2014،
https://www.facebook.com/abuaasem.abuaasem/posts/10203729817979087
8- تدوينة لرئيس حزب العدالة والبناء محمد صوان على الصفحة الرسمية للحزب بتاريخ 27 سبتمبر/أيلول 2014،
https://www.facebook.com/LYabparty/photos/a.535873326425128.128934.529985843680543/871261446219646/?type=1&theater
9- دار الإفتاء الليبية تطالب بتعليق حوار غدامس بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول 2014،
http://www.libya-al-mostakbal.org/news/clicked/56126
10- رابطة علماء ليبيا ترحب بحوار غدامس بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2014، 
http://www.ajwa.net/news/view/4474
11- "مجلس ثوار بنغازي" ينضم لرافضي الحوار بين "برلمان طبرق" ومقاطعيه، بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2014،
http://www.libyaakhbar.com/libya-news/31028.html

نبذة عن الكاتب