انتشار السلاح الليبي والتعقيدات الأمنية في إفريقيا

يقدم هذا التقرير قراءة تحليلية لانتشار السلاح الليبي في الدول الإفريقية المجاورة أو القريبة من ليبيا. ويبين القنوات التي عبر منها هذا السلاح وطبيعة الشبكات المعقدة التي تقف وراء تهريبه فضلا عن نوعياته وتقديره. ويبين التقرير المآلات الأمنية للمنطقة في ظل هذا الوضع الصعب.
2014102161023668734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
أدى انتشار السلاح الليبي بعد انهيار نظام العقيد القذافي إلى تغذية مناطق الصراع وتأزيم مناطق التوتر في منطقة الساحل الإفريقية. بدأ هذا الانتشار عن طريق تجار مدنيين ثم ما لبث أن تشكلت شبكات معقدة لتهريبه، منها ما ترعاه عشائر ومنها ما يتبع لتنظيمات وجماعات مسلحة. وتنشط هذه الشبكات والجماعات على حدود ليبيا البرية التي تزيد على أربعة آلاف كلم. وضمن أفراد هذه الشبكات رجال من الصحراء ماهرين في مسالك الصحاري وعارفين بتضاريسها، وهو ما سهل توصيل الأسلحة الليبية لنقاط توتر عديدة في مالي ونيجيريا والسودان وإفريقيا الوسطى وتونس والجزائر وغيرها. وتزداد خطورة هذا التهريب في الوقت الذي تتلاشى فيه سلطة الحكومة المركزية في ليبيا، بل وتجد ليبيا نفسها في استقطابات سياسية وعسكرية وأمنية تمنعها من السيطرة على حدودها وعلى نشاط شبكات التهريب. وقد وصل السلاح الليبي المهرب إلى 14 دولة حسب بعض التقارير التي تؤكد أيضا على أن هذا السلاح المهرب يقدر بأكثر من 45 مليون قطعة سلاح. ويبقى انتشار السلاح الليبي في إفريقيا تحديا أمنيا خطيرا لم يجد بعد من السبل والتدابير ما يوقف تدفقه مما يعني أن أفريقيا جنوب الصحراء ستظل تحت شبح التهديد لفترة زمنية مقبلة.

تطايرت شظايا السلاح الليبي بعد انهيار القوات المسلحة وقوات الشرطة الليبية الذي أعقب السقوط الدموي المفاجئ لنظام معمر القذافي، لتصل إلى مختلف المواقع المتأزمة في الجوار الليبي وبؤر التمرد في المنطقة، لقـد رفـع هـذا السقوط المـدوي، بحسـب مدير مشروع مجموعة الأزمات الدولية لشمال إفريقيا وليام لورانس، الغطاء عن مرجل يغلـي بتوترات إقليميـة وصراعات عشائرية كانت تنضـج ببطء تحت الغطاء، منـذ 45 عامًا.

سجلت ليبيا منذ استيلاء العقيد معمر القذافي عـلى مقاليد الحكم في 1 سبتمبر/أيلول 1969 مستويات قياسية من الإنفاق العسكري، سـواء من حيث الأرقام المطلقة أو من ناحية نسبته في الناتج القومي الإجمالي. فطبقًا لتقديرات 1998، سجلت ليبيا إحدى أعلى نسب الإنفاق الدفاعي في شمال إفريقيا بمبلغ قُدِّر بـ1.5 مليار دولار قياسًا للناتج القومي الإجمالي، وذلك ما يناهـز نسبـة 5.1% وهي نسبة عالية جدًّا بالمعايير العالمية، وبالرغـم من تقويض مؤسسات الدولة الليبية حاليًا ومخاوف تقسيـمها مستقبلاً، إلا أن مؤشـرات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) عن العام 2013، تؤكـد أن حجم الإنفاق على القوات المسلحة الليبية وصل إلى 1.3 مليار دولار.

ليبيا.. سوق سلاح مفتوح

بعد استيلاء القذافي على السلطة أطلـق على القوات المسلحة الليبية تسمية "جيش الشعب المسلح"، وحتى قبيل سقوط نظامـه كان الجيش الليبي يضم نحو 130 ألف مقاتل، أي ما يناهز نسبة 2% من عدد السكان، بحيث يتوزع المنخرطون في أركانه ما بين القوات الشعبية المسلحة في الخدمة APOD أو الجيش، والقوات البحرية العربية الليبية، والقوات الجوية الجماهيرية العربية الليبية LAAF. كما حظيت هذه الوحدات بمستوى جيد من التسليح، غير أن حجم العتاد المتاح لم يشفع للجيش الليبي المنظم بالصمود طويلاً خلال مواجهته للثورة، حيث عَرَّتْ سريعًا سوء تنظيمه وانعدام الخبرة والتدريب لدى قادته الميدانيين، بالإضافة إلـى سرعـة انكسار روح أفراده المعنوية أمام مضامين الحرب الإعلامية التي أفرزتها المطالب الشعبية التي بشرت بها موجة الربيع العربي، وأدارها ببراعة الثوار المدعومون بالقدرات العسكرية لحلف شمال الأطلسي (NATO)، وبذلك انهار الجيش الليبي تمامًا، تاركًا خلفـه مخازن مليئة بالذخائر وبمختلف أصناف وأحجام السـلاح، حيث قُـدِّرَ عـددها بـ87 مخزنًا دُمِّر منها 21 مخزنًا أثناء الثورة. ونظرًا لتقاتل الميليشيات المتنافسة والجماعات الإسلامية المتشددة على بسط نفوذها السياسي، والاستحواذ على الاحتياطات النفطية الكبيرة، بعد استيلائها على الأعتـدة الليبية فقـد أثار ذلك مخاوف المجتمع الدولي من سقوط السلاح الليبي في أيدي جماعات عابرة للحدود وهو ما من شأنه أن يقود إلى حصول اعتداءات مستقبلية في الخارج، وخاصة في أعقاب تداول عـدة تقارير إعلاميـة عن وجود مخاطر بتحويل مسـار محتويات مخازن الأعتدة وخاصة في ظل انعدام أية تدابير لتأمينها.

ولفهم طريقة انتشار الأسلحة الليبية وتهريبها، من اللازم التأكيد على أن عمليات نقل العتاد العسكري داخل ليبيا، بدأت بواسطـة معاملات تجارية يبرمها المدنيون لشراء ترسانة القذافي في ظل استمرار حالة الفوضى التي تعم ليبيا قبل أن تتطور مظاهر الانتشار لتصل مرحلة استولت فيها جماعات مسلحة على المخزونات الحكومية بالقوة، حتى أصبح البارود الليبي متاحًا للجميـع بعد سقوط الدولة؛ وهو الأمـر الذي جعل من هذا السلاح خطرًا يهدد بنسبة كبيرة دول الجوار، ويجعـل ليبيا في مهب ريح لا يمكن التكهـن بعواقبها أو إلى أين ستمضي ببلد عصفت به أحلام الثورة.

لأجل السيطـرة على مخازن السلاح، وحقول النفط اندلعت مئات المرات الاشتباكات بين القوات المسلحة الليبية والجماعات المسلحة المناوئة لها، والتي يتضاعف عدد أفرادها وتقوى شوكتها كلما تآلفت أكثر قواها العشائرية وانسجمت مطامعها الجهوية، مع كل ما يمثله ذلك من قيم نقيضه للحياة الديمقراطية والتعددية التي نادى بها منظرو الربيع العربي، ومن مظاهـر سقوط الثورة الليبية عودة المجتمع إلـى أطره التقليدية جلبًا للحماية وأخذًا للثأر أحايين أخرى أو تأكيدًا لمكانـة مأمولة. ومن ذلك تفشي النزاعات المستجدة على الليبيين والمرتبطة هذه المرة بجنسيـة قبائل معينـة، كالطـوارق والتبو غيرهم ممن انتهـز الفـرصة للعمل على تقوية وتعزيز وجوده وفرض أجندته في الجنوب الليبي أو للسيطرة على طرق التهريب المدرة للربح، وطبقًا للتوصيفات الأمنية الرائجة في المنطقة فإن الحدود الجنوبية بين ليبيا ومالـي والنيجر باتت شبه سائبة بحيث تتخذ منها جماعات إرهابية أو إجرامية -إلـى جانب ذلك- نقطة تمركـز لتخطيـط أنشطتها وتنسيق عمليات تخـزين ونقل وتهريب الأعتدة غير المحدودة إلى خارج ليبيا.

من البيِّن أنه على تلك الحدود البالغ طولها 4000 كلم، تشكَّلت جيوش جرَّارة من جنسيات مختلفة، ويكفي للتدليل على ذلك تصـريحات آبو موسى، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى وسط إفريقيا "وليـس من المتصور أن بعض العائدين إلى بلدانهم، وبخاصة أولئك الذين شاركوا في عمليات عسكرية أو أمنية في ليبيا، تم توظيفهم بعد العودة كمرتزقة أو حتى مقاتلين ضمن صفوف الجماعات المسلحة في المنطقة الوسطى من إفريقيا". وتكمن خطورة التصريحات فيما كشف عنه المبعوث الأممي؛ فعلـى سبيل الذكر اعترض قرابـة 80 ألفًا من التشاديين، لدى عودتهم إلى بلدهم الأصلـي، العديد من التحديات، من أبرزها: "فقدان التحويلات المالية"، مضيفًا: إن هؤلاء لـم يكن أمامهم سوى مقايضة أموالهم بالسلاح في أحسن الأحوال. إنه نفس التحذير الذي أطلقـه رئيس وزراء ليبيا، عبد الرحمن الكيب، في خطاب ألقاه بقمة الاتحاد الإفريقي سنة 2012، وقال فيه إن حدود بلاده المشتركة مع ست دول، باتت معبرًا "للمواليـن للنظام السابق المسلحين، وإن هؤلاء يشكِّلون تهديدًا للأمن القومـي الليبي والإفريقي بعامة".

بقيت نقطة غاية في الأهمية، وهـي تتعلق بانفلات العقـد المناطقي والعشائري؛ حيث إن سقوط القذافي كان بمثابة الشرارة لحرب قبلية وأحيانًا إثنية كما هو حاصل بين قبيلة التبـو وقبائـل أولاد أسليمان العربية في الصحراء المتاخمة للحدود الجنوبية مع تشـاد.

تم تسهيل نقـل وتخزين وشراء ومقايضة السلاح الليبي بفضل، رجال الصحراء العارفين جيدًا بالتضاريس الجغرافية للمنطقة بحيث عبرت القوافل حدودًا خاضعة فقط لقوانيـن قبلية أو لمشيئة مجموعات غير مرئية ممن كان له الدور فـي إزاحة الدولة المركزية وإقامـة دويلات ريعية وإمارات عشائرية تنتهي حدودها حيث تنضب آبار النفـط!

وفي المحصلة، كانت الميليشيات تقاتل ضد نظام القذافي منذ ثلاث سنوات، لكـن نفس القوى هي المسؤولـة الآن عـن جرِّ ليبيا إلى الفوضـى والفشـل، فالاشتباكات المستمرة بين الكتائب المسلحة يجعل الأمور في طريقها لمزيد من التوترات، خصوصا مع عدم كبح جماح الميليشيات المتناحرة عـن بسط سيطرتها على الاقتصاد الليبي والاستيلاء على آبار النفط من أجل تعزيز المعادلات السياسية والتنموية في ليبيا، هـذا فضـلاً عـن تعاظم دور أكثر من 1700 من الكتائب في تهريب السلاح عبر الحدود بعد الاستيلاء على مخازن الأعتدة.

من يستفيد من تهريب السلاح الليبي؟

باتت المخاوف تنتاب المنظومة الأممية والإقليمية مـن أدوار تضطلع بها جماعات متطرفة وأخرى متمردة في المتاجرة بمئات الأطنان من ترسانة الأسلحة الليبية، وتهريبها عبر الحدود، ويلقي هذا التهديد بظلاله الكئيبة على دول الجوار الليبي، التي تأثرت في العمـق بالأزمة الليبية. وفي العام 2013 نجحت صحيفة "صنداي تايمز" في تسريب تقرير صادر عـن الاستخبارات البريطانية يؤكد أن بوكو حرام استطاعت تأمين طريقها لتهريب السلاح من ليبيا إلى نيجيريا عبر تشاد، وأنه من بين السلاح المهرب مدافع مضادة للطائرات وقذائف هاون، وصواريخ أرض-جو، وقـد أصبحت مضامين ذلك التقرير حقيقة صارخة اليوم، كما مكَّن السلاح الليبي تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامـي (AQMI)، وحركات التمرد الطارقية كحركة تحرير واستقلال إقليم أزواد (MNLA) مـن السيطرة على شمال مالي، وإدخال المنطقة في حرب أهلية أعقبها دخول القوات الفرنسية والإفريقية إلى مالي بحجة طـرد "الإرهابيين". وتتعاظـم مصائب السـلاح الليبي الذي يقف أيضًا وراء حادثة إن آميناس في الجنوب الشرقـي الجزائري. لقـد ثبت، كذلك استخدام مسدسات ليبية في الاغتيالات السياسية بتونس، وفـي أحداث الشعانبي التي أُريقت فيها دماء كثيرة بواسطة أسلحة خفيفة قادمة من ليبيا، والأمثلة كثيرة ومتعددة لما خلَّفه انهيار النظام الليبي من مآس وعدم استقرار في المنطقة.

ومن المرجح أن يستفحل هذا الخطر أكثر ما دامت السلطات المركزية الليبية، غير قادرة على ضبط عمليات استرجاع الأعتدة، وإعادة هيكلة كتائب الثـوار بهدف بناء جيش وطني قوي ومؤهل.

أصدر مجلس النواب في أغسطس/آب الماضي القرار رقم (7) القاضي بحل التشكيلات المسلحة والكتائب غير النظامية، وليس من المنتظر تنفيذه نظرًا لسطوة واستئساد الميليشيات، وبدون الإسـراع بالعلاج فإن ليبيا تحت سطوة السلاح قد تتفكك إلـى دويلات كما كان الوضع قبل 1963 حين اتحدت طرابلس وفزان ثم برقـة لتأسيس المملكة الليبية المتحدة، وفي الوقت المعاصر تتجه "برقة" من جديد إلـى إقامة نظامها السياسي المستقل، مستفيدة من إمكانات ونفوذ "جيش برقة" الذي عهد بإدارتها منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2013 إلـى حكومة تضم 20 وزيرًا بحيث تشمل صلاحياتها بيـع وإنتاج وتصدير النفط!

وتعد كتائب مدينة مصراته (200 كلم شرق طرابلس) البالغ عددها 217 كتيبة أبرز قـوة عسكرية ضاربة بعد تأكيدها امتلاك الكثير من العتاد العسكري "النوعـي"، وفـي سجل هذه الكتائب أنها قاتلت إلى جانب مقاتلي كتائب الزنتان (100 كلم جنوب غرب طرابلس) والأخيرة مشكَّلة من وحدات قبلية، تنتمي إلـى أهالي منطقة "الزنتان" الصحراوية، والأخيرة غدت الآن وجهة لقاصدي تجار الأسلحة من مختلف الأنواع.

فـي السابق تحالفت القوتان للإطاحة بنظام القذافي، وهما تتصارعان اليوم للسيطرة على مطار طرابلس الدولي. وفـي الجنوب، هــدد الزعيم القبلي التباوي عيسى عبد المجيد ببيـع الأسلحة الثقيلة والدبابات وراجمات الصواريخ، إذا لـم تستجب الحكومة الليبية لدفـع مكافآت ثوار التبو البالغ عددهم 1200 مسلح، وتخوض كتائب التبو نزاعًا دمويًّا مع غرمائها المحليين كقبائل الزوية في الكفرة وأولاد أسليمان في سبها.

وعلى الحدود الجزائرية البالغ طولها 982 كلم، فقدت الحكومة المركزية في طرابلس السيطرة الفعلية على أغلب مناطقها، وفـي هذا الإطار نقلت تقارير إعلامية جزائرية تأكيدات على نفوذ 14 كتيبة مسلحة على طول الحدود الليبية، وتعد كتائب التبو أهم المجموعات المسلحة الناشطة هنالك، بالإضافة إلى كتائب ثوار غدامس والطوارق وكتيبة التولى، وكتائب أخرى من مناطق زويلة وبارجوج والقطرون.

من بين الكتائب المسلحة توجد جماعات سلفية، من بينها جماعة "أنصار الشريعة" المسؤولة عن الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، ويسود الاعتقاد لدى الجهات الليبية المناصرة للجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر أن تحركه قد يشكِّل لبنة قوية لإنقاذ السلطة المركزية من حالة الفوضى التي تعانيها ليبيا منذ الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، لكن حفتر يواجـه العديد من الميليشيات الإسلامية المسماة "فجـر ليبيا" التي شكَّلت مؤخرًا حكومة موازية.

 مخاطر انتشار السلاح الليبي في إفريقيا

نبَّه تقرير نهائي أعده فريق من خمسة خبراء لدى الأمم المتحدة ينسق عملهم الخبير الإقليمي خليل مســن؛ على استمرار تدفق الأسلحة إلى ليبيا ومنها يجري تهريبه إلـى 14 دولـة على الأقل، وسعـى الفريق أثناء فترة مهمته إلـى ترتيب زيارات لتلك الدول، قبل أن يضمِّن تقريره كذلك صورًا ووثائق وملاحق سريـة لم تُنشر للعموم. لكن التقرير يؤكد على الانتهاكات المستمرة لقرار حظر الأسلحة المفروض على ليبيا والذي يشكِّل "إحدى العقبات الكبرى في سبيل الاستقرار داخل البلد والمنطقة". إنه وبحسب التقرير الذي سُلِّم لمجلس الأمن تطبيقًا لمقتضيات القرار رقم 1773/2011 فإنه على الرغم من التطورات الإيجابية الطفيفة التي تحققت على صعيد إعادة بناء القطاع الأمني الليبي إلا أن الأسلحة في معظمها تحت سيطرة جهات مسلحة غير تابعة للدولة كما أن نظم مراقبة الحدود لا تزال ضعيفة.

وتواجه عدة بلدان في منطقة الساحل، عمليات تمرد عنيفة انطلاقًا من ليبيا، ويشكِّل شمال مالي وشمال النيجر ودارفور، دواعي رئيسية للمخاوف الأمنية في المنطقة جرَّاء تنقل الأسلحة غير المشروع الذي بات يشكِّل أكبر تحد لسلطات المنطقة، كما تمثل عمليات الاختطاف، وغيرها من الأنشطة العنيفة التي تمارسها جماعات إرهابية مثل تنظيم القاعدة في بـلاد المغرب الإسلامي، تهديدات وتحديات هائلة للأمـن القومي لعدة بلدان في المنطقة وخاصة مالي وموريتانيا والنيجر ونيجيريا، وتسهم عائدات هذه الأنشطـة -يضيف التقرير- في تعزيز القدرة الاقتصادية للمشترين الراغبين، وفـي شـراء واقتناء كميات كبيرة من الأسلحة، منها بنادق هجومية، ومدافع رشاشة، ومقذوفات آر.بي.جي ومدافع آلية ثقيلة مضادة للطائرات محمولة على مركبات، وذخيرة وقنابل يدوية، ومتفجرات من طراز سمتكس.

وبحسب تقرير مكمـل، نشرته لجنة العقوبات على ليبيا فإنه توجد أدلة واضحة على خروج كميات كبيرة من الأسلحة الليبية أثناء وبعد الثورة، ولاسيما الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة فضلاً عـن المتفجرات، وفـي هذه الحالـة فإن توريد هذه الأسلحة قـد أجَّج النشاط الإرهابي في المنطقة والإجرام المسلح والنزاعات المحلية، وخاصة في شمال مالي.

واتهم تقرير الفريق المعني بليبيا، شبكات إجرامية مؤلَّفة من فئات عرقية عابرة للحدود الليبية بفضل امتداداتها داخل البلدان الأخرى، كقبائل التبو والطوارق اللتين أشار التقرير إلى دورهما في تهريب وتأمين نقل الأعتدة نحو غرب ليبيا وجنوبها وصولاً إلى بقاع نائية في إفريقيا.

وتضمن التقرير معلومات مهمة للغاية حول مالـي؛ حيث وُثقت مجموعة كبيرة من الأعتدة الليبية، وهـي تشمل أسلحة نقلها مرتزقة من الطوارق معهم أثناء فرارهم من ليبيا في عام 2011، وقـد استطاعت الحركة الوطنية لتحرير أزواد تخزين كميات كبيرة من هذه الأسلحة في منطقة غاو وضواحيها وفي جبال آدرار إيفوغاس، وتبيـن للفريق المعني بليبيا أن عمليات النقل من ليبيا إلى مالي لا تزال تجري، ويشارك فيها العديد من الجهات الفاعلة. بما في ذلك حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا وتنظيم "المرابطون" وخلايا مرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة أنصار الدين.

وعدا النشاط البري للجماعات المسلحة في شمال مالي، يكشف التقرير أن عمليات نقل غير مشروعة للسلاح الليبي تمت برعاية الدولة جوًّا إلى جماعات مسلحة في الجمهورية العربية السورية، وبحرًا إلـى جمهورية مصر العربية؛ حيث يصل نشطاء المهربين شبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة، ومن المرجح أن تسهم تلك الأعتدة المهربة في تعزيز قدرات الجماعات الإرهابية فـي تونس، والصومال، والجزائر؛ إذ تشير التقارير الإعلامية إلـى أن جماعة بوكو حرام استطاعت توريد الأسلحة الليبية من خلال طريقين رئيسيين في شمال النيجر، وغرب تشاد.

ويُعتقد على نطاق واسع، أن حركة السيليكا المشكَّلة أساسًا من الأقلية المسلمة في جمهورية إفريقيا الوسطـى، قد استعانت في مارس/آذار 2013 بالسلاح الليبي في القيام بانقلابها العسكري، وفي إدارة الأزمة الأمنية التي أعقبت ذلك.

وتتهم الأمم المتحدة عدة دول برعاية عمليات نقل الأسلحة إلى المعارضة الليبية في بدايات الربيع العربي، وبعد ذلك من ليبيا إلى خارجها وخاصة إلى المعارضة السورية، ويشار بأصابع الاتهام إلى دور قطـري مزعوم عبر لبنان وتركيا.

مستقبل الأمن الإفريقي في ظل انتشار السلاح الليبي

تواجه المنطقة في دوائرها الجيوسياسية المختلفة تحديات إجرامية وأمنية متشابكة تتمثل في تجارة جميع أنواع السلاح وصولاً إلى تنامي عمليات الاتجار بأكثر من 45 مليون قطعة سلاح كانت بيد النظام الليبي السابق. ولتلافي الانجرار وراء الهاوية التي لا رجعة فيها، فإن المنتظم الدولي والإفريقي خاصة مطالب بتقديم العون المباشـر للحكومة الليبية في مجال تعزيز مراقبة الحدود وتنسيق العمـل المشترك بين الدول المتاخمة لليبيا من أجل تشكيل منصة رصد لمستويات انتشار السلاح الليبي بغية توقيف تهريبه إلى الخارج. وفـي هذا الصدد من المناسب أن تجد التدابير العملية التي اقترحتها دول الجوار الليبي على المستويين السياساتي والتخطيط عبر الحدود، طريقها إلى التجسيد الفوري. ومن الملائم كذلك استثمار جهود دول الميدان المكونة من موريتانيا، والجزائر، ومالي، والنيجر في مجال تعزيز أمن الحدود المشتركة وتقوية التنسيق الأمني على صعيد مواجهة وقف جلب ونشر الأعتدة الليبية الصغيرة والخفيفة وتضييق نطاق المراقبة على عمليات الاتجار التي تتفنن فيها الشبكات الإرهابية والإجرامية، التي تجوب منطقة الساحل بحرية كبيرة. ويجدر التنويه إلـى أن مواجهة التهديدات المشتركة للسلام والأمن في منطقة الساحل وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء بدون إشراك قوي وحقيقي لكل من نيجيريا وتشاد يعد فعـلاً عبثيًّا.

لقـد سرعت الانتفاضات العربية في سنة 2011 وما أعقبها من اضطراب إقليمي، من تغير الديناميات الإقليمية والإفريقية، التي تسعى شعوبها إلى طي صفحة الأنظمة التسلطية والديكتاتورية ولا تزال تدفـع في سبيل ذلك حياتها ومصائرها. أضف إلى ذلك تجديدًا حاصلاً في الأولويات الخاصة بالاستراتيجيات الإفريقية المشتركة، كحتمية التنسيق الأمنـي نظرًا لوجود مساحة شاسعة خارج سيطرة الحكومات في المنطقة، إضافة إلى أن الفراغ الأمني في ليبيا يفرض إرساء تعاون أمني مع دول الساحل من أجل المساعدة على إيقاف عمليات التمرد وتنقل المقاتلين وانتداب المتطرفين وتهريب الأسلحة وتمويل الميليشيات المتمردة، وينادي كثير من المتابعين للشأن الإفريقي بضرورة قيام تحالف دولي وإقليمي لمكافحة الجريمة العابرة للحدود ومعالجة التهديدات العابرة لها وحصر أنشطة الميليشيات الليبية بوصفها الشرارة الأولـى لتقويض الأمن في المنطقة وفي ليبيا التي باتت تقترب شيئًا فشيئًا من الحرب الأهلية أو التقسيم.

ومن شأن توسيع عمليات التنسيق الأمني بين ليبيا والدول الإفريقية أن يسهم في تغير التحديات الأمنية الراهنة. إن الحكومة الليبية التي سبق وأن طالبت بالتدخل الدولي مطالَبة الآن بالتوجه إلى الاتحاد الإفريقي من أجل حثه على تشكيل قوة إفريقية خاصة بأمن حدودها الجنوبية والشرقية، وقطـع الطريق على عمليات تمويل الميليشيات الليبية، وهنالك إمكانية لتمويل هذه القوة من مداخيل النفط الليبي، كبديل حكومـي مؤقت عـن شراء الذخيرة والسلاح الذي غالبًا ما يسقط في أيدي مجموعات الكتائب الأكثر استئسادًا على حكومة طرابلس.
_________________________________
عبيد إميجن - كاتب موريتاني مهتم بالشـأن الإفريقي

نبذة عن الكاتب