المفاوضات المالية-الأزوادية في الجزائر: قراءة في وثائق المفاوضات وسيناريوهات المستقبل

يقدم الكاتب المتخصص في قضايا الساحل الإفريقي سيدي أعمر شيخنا قراءة لطبيعة الوساطة التي تقوم بها الجزائر بين طرفي النزاع المالي، والتي تحظى برعاية إقليمية ودولية. ويقف الكاتب عند تشعبات الوساطة والتعرجات التي فرضتها طبيعة الخلاف ويختم بقراءته لسيناريوهات التي قد تؤول إليها هذه الوساطة.
201412298557688734_20.jpg
المفاوضات بين وفد الحكومة المالية ووفود الحركات السياسية العسكرية بالجزائر العاصمة في يوليو/تموز الماضي (الجزيرة)

ملخص
تهتم الجزائر منذ زمن طويل بأزمة شمال المالي أو ما بات يعرف بقضية أزواد، وهو النزاع الذي يشتعل منذ عقود بين سكان هذا الإقليم وبين الحكومة المركزية في بماكو. ومع النصف الثاني من سنة 2014 تزعمت الجزائر مجموعة الوسطاء الإقليميين ساعية للوساطة بين الطرفين، لكن تباعد وجهات النظر بين الطرفين وضعت الوساطة الجزائرية في مواجهة تحد صعب؛ ولعل عمق الأزمة وعدم توصل الوسطاء لتشخيصها تشخيصا شاملا هو ما جعل الوساطة تتعثر في مسيرتها أكثر من مرة، وجعل الطرف الأزوادي يعتبر مجموعة الوسطاء أميل لموقف الحكومة المركزية منها لموقف الأزواديين.

هنالك اختلافات تفصيلية تتعلق بنمط الحكم وعلى رأسه خيار الفيدرالية وطبيعة الخدمات التنموية وتحديد المسؤوليات الدستورية والقانونية وتوزيع الثروات والإشكالات الأمنية، وهي نقاط خلاف لم تستطع الوساطة الجزائرية، ومن خلفها المجموعة الإقليمية والدولية الساعية لحلحلة المشكل الأزوادي، أن تقرب وجهات النظر حولها.

وسيبقى السؤال مطروحا هل تتجه مالي نحو حل يرضي الطرفين المتصارعين، ويفتح المجال أمام حل فيدرالي تصبو إليه ساكنة أزواد، أم سيفتح المجال أمام حكم لامركزي تتشبث به الحكومة المركزية في بماكو، أم سيكون هناك سيناريو يجمع بين الخيارين ويعطي مقاربة تتوصل لهندسة دستورية وسياسية خاصة أعلى من سقف اللامركزية الذي تطرح مالي ولكنه دون سقف الدولة الفيدرالية التي تنادي بها منسقية القوى الأزوادية؟

دخل مسار الجزائر التفاوضي بين الحكومة المالية ومنسقية الحركات الأزوادية(1) الذي انطلق في يوليو/تموز 2014م برعاية إقليمية ودولية مرحلة شديدة الحساسية، وقد ظهر ذلك جليًّا في التناقض الصارخ بين التصورات والحلول المطروحة لحل الأزمة المستعصية منذ خمسة عقود. وتقود الجزائر مجموعة الوسطاء التي تتشكَّل من المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وا?تحاد ا?فريقي، وا?مم المتحدة، وا?تحاد ا?وروبي، ومنظمة التعاون ا?س?مي، وبوركينافاسو، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد كأعضاء في فريق الوساطة. وتهدف خريطة الطريق التي تمت المصادقة عليها من جميع الأطراف يوم 24 يوليو/تموز 2014 في الجزائر؛ إلى الوصول إلى اتفاق س?م شامل ومستديم، يُفضي لحل نهائي ل?زمة المالية-الأزوادية.

تأكيد الدور الإقليمي الجزائري

وتسعى الدبلوماسية الجزائرية من قيادة مسار الجزائر التفاوضي بين أطراف الأزمة المالية، والذي يحظى بدعم إقليمي ودولي، إلى تأكيد محورية الدور الجزائري على المستوى الإقليمي؛ وهو دور تؤهلها له اعتبارات جيوستراتيجية عديدة، تريد الجزائر من خلالها أن تظهر بمظهر الدولة الرافضة للتدخل الخارجي والساعية في حل أزمات المنطقة بالحوار والتفاوض كما تعكس ذلك مواقفها من الأزمتين: المالية والليبية.

وفي شأن الأزمة المالية-الأزوادية تثق مالي والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا ومن خلفهم فرنسا والاتحاد الإفريقي بالموقف الجزائري من الأزمة، بناء على مجموعة من الاعتبارات الخاصة بالجزائر وأمنها القومي ودورها القاري، ومن هذه الاعتبارات حساسية النظام الجزائري من انفصال أزواد أو حصوله على حكم ذاتي موسع وهو الذي يمثل امتدادًا لنفس النسيج الاجتماعي في الجنوب الجزائري الغني بالنفط والغاز، وتاريخ التحفظات الجزائرية على أزواد معروف لدى مالي وحلفائها، أما الاعتبار الثاني فيتعلق بالدور الدبلوماسي الجزائري على المستوى القاري؛ حيث يسيطر محور الجزائر-أبوجا-بريتوريا، على رسم توجهات الاتحاد الإفريقي، وبالتالي على الجزائر تهدئة مخاوف حلفائها الأفارقة في ملف الأزمة المالية-الأزوادية، من أجل استمرار تماسك المحور الدبلوماسي الفاعل قاريًّا والذي خدم الجزائر كثيرًا في ملف آخر مهم بالنسبة لها هو ملف الصحراء الغربية والنزاع المستمر بين البوليساريو والمملكة المغربية. وإلى جانب الاعتبارات السابقة يتناغم الدور الإقليمي الجزائري في هذه المرحلة -كما يتجلى في الأزمة المالية- مع الرؤية الفرنسية المتطلعة للعودة بقوة للمنطقة لاعتبارات جيوستراتيجية كبرى تتخذ من قضايا مثل: محاربة الإرهاب وصناعة الاستقرار عبر الحفاظ على الكيانات القائمة، أوراق جذب فاعلة لحشد حكومات الإقليم ضمن الأجندة الاستراتيجية الفرنسية.

مالي وعتبة التحول

ينعقد مسار الجزائر التفاوضي حول الأزمة، عقب خروج جمهورية مالي من إحدى أكثر المنعرجات التاريخية خطورة في تاريخها السياسي الحديث بفعل تراكمات الفساد وديمقراطية الواجهة وتحديات الإرهاب بالإضافة إلى العلاقة المتوترة بين شمال البلاد وجنوبها التي طبعت العقود الخمسة من عمر الدولة الوطنية الحديثة.

كما يأتي المسار في ظل خفوت حالة الزهو والانتشاء التي عاشتها الطبقة السياسية في جمهورية مالي عقب التدخل الدولي مطلع 2013؛ ما أتاح تقوية للموقع السياسي والدبلوماسي وحتى العسكري لمالي بفعل الدعم الإقليمي والدولي -الذي حشدته المصالح المشتركة المتمثلة في الخشية من عدوى الانفصال وتحديات الإرهاب- غير أن واقع وتفاعلات الأزمة المزمنة بين سكان أزواد وحكومات المركز في باماكو تبدو أكثر تعقيدًا وأبعد من أن يتم تجاوزها أو طمرها في أي ملفات أخرى، فمالي وحلفاؤها الإقليميون والدوليون يدركون أن مياها كثيرة قد جرت في نهر العلاقة المالية-الأزوادية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وأن المسكنات التي دأبت مالي على تقديمها للأزواديين كلما تململوا أو امتعضوا من سياساتها لم تعد مجدية بل صار لها مفعول عكسي، فحالة الحراك التي عرفها الإقليم منذ العام 2011، مثَّلت علامة فارقة لها ما بعدها، وتداعيات عدم الاستقرار في الإقليم صارت همًّا إقليميًّا ودوليًّا لارتباطها بقضايا جيوستراتيجية حساسة،(2) وقد سبق أن نبَّه "بيار مسمار" آخر حاكم استعماري لموريتانيا ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، أن «أزواد» هو كردستان إفريقيا، وهو القنبلة الموقوتة التي ستفجر منطقة الساحل.(3)

غير أن مالي، ولحسن حظها، تعي أن مشكلة أزواد والمجتمعات البيظانية القاطنة فيه (طوارق، عرب) تمثل هاجسًا سياسيًّا وأمنيًّا للعديد من دول الإقليم التي توجد امتدادات من نفس النسيج الاجتماعي داخل أقطارها، كما هي حال الجزائر والنيجر والمغرب، وهو ما يحرم الأزواديين من سند إقليمي لقضيتهم، لا يقل قوة وتأثيرًا عن الإجماع الإفريقي الذي أرسته مواثيق منظمة الوحدة الإفريقية عشية تأسيسها في مطلع الستينات واستمر الاتحاد الإفريقي في رعايته والدفاع عنه والمتمثل في احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار من أجل الحفاظ على الكيانات القائمة، حتى ولو خالف الاتحاد الإفريقي هذا العُرف عندما وقف مؤيدًا لانفصال جنوب السودان عن شماله، سنة 2011 لاعتبارات مشابهة في وجاهتها السياسية لقضية أزواد.

تشخيص متطور للأزمة

ورغم كل ما سبق فقد استطاعت الأحداث والتطورات التي عرفها مسار الأزمة المالية-الأزوادية في السنوات الثلاث الأخيرة فرض واقع سياسي جديد حيث نجحت في لفت أنظار القوى الإقليمية والدولية المهتمة إلى عمق الأزمة وأحقية التوجع الأزوادي من ظلم وحيف ممارسات أجهزة الدولة المالية خلال العقود الخمسة الأخيرة، تقول وثيقة الوسطاء: "بعد القيام بتحليل معمق للوضع في مالي بصفة عامة، والأقاليم الشمالية، والتي يسميها البعض باسم (أزواد) بصفة خاصة، والتي عرفت بشكل خاص عنفًا دوريًّا، ومضاعَفًا بسوء الحُكم، الذي لم يسمح للسكان المحليين بالمشاركة الفعلية في إدارة شؤونهم الخاصة؛ مما أدى إلى الهجرة الجماعية للسكان، وكذلك الفقر المدقع، وتأخر كبير في التنمية الاقتصادية مقارنة ببقية الدولة، مما سبَّب معاناة تفوق الوصف، وأدى إلى سوء التفاهم بين السكان؛ وإذ نعترف بضرورة حُكم يتوافق مع خصائص الجغرافيا التاريخية والاجتماعية والثقافية لهذه الأقاليم".(4)

الخلاف الجوهري

ومع الاتفاق حول تشخيص أسباب الأزمة، والاعتراف بفشل وقصور الاتفاقات السابقة، والقناعة بوجوب وضع حلول لها على أسس الحكم الرشيد وحقوق الإنسان والعدالة ووفق المواثيق الدولية والقارية؛ فإن الخلافات تبرز بشكل جدي حول مبادئ الحل كما تقدمها وثائق التفاوض؛(5) حيث أكدت وثيقة الوسطاء التي تعتبر أكثر ميلاً لموقف الحكومة المالية عن مبادئ من قبيل: 

  • احترام الوحدة الوطنية، والوحدة الترابية، وسيادة دولة مالي، وكذلك الشكل الجمهوري والعلماني لها.
  • احترام والحفاظ على التنوع الثقافي والحفاظ على التنوع الثقافي واللغوي، وتعزيز مشاركة كل مكونات شعب مالي خاصة النساء والشباب في مشروع بناء الوطن. 
  • قيام السكان بإدارة فعلية لشونهم الخاصة عن طريق نظام حكم يأخذ بعين الاعتبار آمالهم وحاجاتهم الخاصة.
  • القيام بتنمية متوازنة في جميع أقاليم مالي مع الأخذ بعين الاعتبار أوضاعها الخاصة.

ومع العبارات العامة والفضفاضة التي تسترت خلفها وثيقة الوسطاء، فإن وثيقة منسقيَّة الحركات الأزوادية قد حزَّت المفصل عندما طرحت، عبر جملة من التعريفات والمبادئ، رؤيتها لمستقبل العلاقة بين أزواد ومالي؛ حيث تقول الوثيقة:

  • أزواد: يُعرَّف أزواد -خارج نطاق التعريف المادي- بأنه إقليم جغرافي سياسي في الحدود الترابية الإدارية الحالية لولايات تينبكتو، وقاوا، وكيدال، وتاودني، ومنكه، ودائرتي: بوني، وهومبوري.
  • الدولة الاتحادية: يُعتَرف بإقليم أزواد الموصوف على النحو المحدد أعلاه من قبل دولة مالي باعتباره دولة اتحادية تشكَّل معها اتحاد مالي.
  • الدولة المتحدة: دولة أزواد الاتحادية، ودولة مالي الاتحادية تشكِّلان معًا دولة اتحاد مالي.

الخلافات التفصيلية

وعلى المستوى السياسي والمؤسساتي يستمر الاختلاف العميق حول التصورات المقدمة للحل السياسي بين كل من وثيقة الوسطاء ووثيقة منسقية القوى الأزوادية؛ حيث جاءت المقاربات المقترحة منسجمة مع الاختيارات السياسية والاستراتيجية الكبرى التي انتهج كل فريق؛ فقد جاءت المقترحات الأزوادية متناسقة مع رؤيتهم المتشبثة بالحل القائم على أساس كيانين فيدراليين في إطار دولة مالي المتحدة، تقول وثيقة الأزواديين:
"عبر هذا الاتفاق يتفق الطرفان على نموذج سياسي من النوع الفيدرالي، وإقامة اتحاد يتكون من أزواد ومالي. إن مواطني دولة أزواد الاتحادية يديرون شؤونهم بحرية بواسطة المؤسسات التالية: 

  • دستور "متناغم" مع دستور الدولة الفيدرالية يتم إعداده من قبل مجلس انتقالي يتأسس فور التوقيع على الاتفاق.
  • جهاز تنفيذي يقوده رئيس منتخب حسب المواصفات التي يحددها دستور أزواد.
  • برلمان مكلَّف بالتصويت على القوانين مع احترام مجال اختصاصات دولة أزواد، ويضمن شرعيتها.
  • سلطة قضائية تضمن دولة القانون على كامل تراب الكيان الاتحادي، وتأخذ في الاعتبار الخصوصيات الثقافية والدينية لمواطني أزواد".

أما وثيقة الوسطاء فهي لا تطرح على طاولة النقاش خيار الدولة الفيدرالية، لكنها تقترح اتفاق ا?طراف (الحكومة المالية والقوى الأزوادية) على وضع هندسة مؤسسية وتنموية تسمح لسكان الشمال بإدارة شؤونهم الخاصة على قاعدة مبدأ الإدارة الحرة مع ضمان أكبر نسبة من التمثيل لهؤلاء السكان في المؤسسات الوطنية.

وفي هذا الصدد تقترح على مستوى الإطار السياسي والمؤسسي، جملة مقترحات منها:

على المستوى المحلي

  • مجالس إقليمية مدعومة بمؤسسات يتم اختيارها انتخابيًّا، وتحظى باختصاصات واسعة، كما تتمتع بالسلطات القانونية والإدارية والمالية الضرورية، وفي هذا الإطار سيكون للإقليم جمعية إقليمية يتم اختيارها عن طريق الاقتراع المباشر، وتختار بدرها رئيسها، وهو الذي سيكون رئيس السلطة التنفيذية والإدارية للإقليم.
  • منطقة تنموية في الأقاليم  الشمالية لمالي، يكون لها مجلس استشاري بين الأقاليم  مكون من ممثلي المجالس الإقليمية المعنية ومهمته خاصة بتنسيق الجهود الرامية إلى الإسراع بعجلة التنمية الاجتماعية الاقتصادية المحلية، والمسائل الأخرى ذات الارتباط.
  • هذه المنطقة ستكون لها استراتيجية خاصة للتنمية يتم تداولها بين الأطراف بدعم من الشركاء الدوليين، وممولة بشكل خاص من صندوق للتنمية المستدامة، وستتم الدعوة مباشرة بعد توقيع الاتفاق لمؤتمر للمانحين من أجل تمويل هذه الاستراتيجية".

وفي خطوة التفافية على استماتة المفاوض الأزوادي في الدفاع عن مبدأ قيام كيان أزوادي ضمن دولة مالي المتحدة، تقترح وثيقة الوسطاء، في أعلى سقف تصل إليه ضمن حزمة مقترحاتها المتعلقة بالوضع الخاص للأقاليم الشمالية (أزواد)، إمكانية قيام تنسيق مؤسساتي بين مجموعة أقاليم لأهداف تنموية، تقول وثيقة الوسطاء: "يمكن لإقليمين أو أكثر في شروط محددة بالقانون أن يكون لها قيادة مشتركة، وتقيم مؤسسات عامة بهدف القيام بتنمية اقتصادية واجتماعية لهذه الأقاليم وفي حدود اختصاصها في هذا المجال على النحو المحدد في الاتفاق".

وعلى مستوى المؤسسات السياسية الوطنية تقترح وثيقة الوسطاء جملة إصلاحات سياسية تحظى بإجماع الأطراف المتفاوضة من قبيل:

  • إنشاء غرفة ثانية (مجلس الشيوخ) ممثلاً للمجالس الإقليمية والنبلاء التقليديين والدينيين، ويشكِّل مع الجمعية الوطنية "البرلمان المالي" (يُراعَى في تشكيله احترام التوازن المتوافَق عليه في الاتفاق، والخصائص الثقافية والإقليمية).
  • تحسين مستوى التمثيل في الجمعية الوطنية من خلال أكبر نسبة تمثيلية لسكان شمال مالي. ستتحول حصة (نائب/سكان) الحالية من 1/60000 ساكن إلى 1/30000 ساكن، أو على الأقل نائب لكل دائرة انتخابية في أقاليم الشمال.
  • التمثيل العادل لأبناء المجتمعات الشمالية لمالي في المؤسسات والأجهزة الكبرى للدولة (الحكومة، الدبلوماسية، شركات الدولة...). فضلاً عن أن عددًا أدنى متفقًا عليه من الحقائب الوزارية، بما في ذلك المؤسسات السيادية للدولة، يجب أن يعود إلى شخصيات تنحدر من الشمال.

تقاسم السلطات والاختصاصات
وفي ملف تقاسم السلطات والاختصاصات تقترح وثيقة الوسطاء ضرورة تقسيم قانوني للمهام والمسؤوليات بين الدولة والمجالس الإقليمية لضمان المستوى المطلوب من الفاعلية... وتؤكد على جملة من الأمور المهمة، من بينها:

  • تحويل الخدمات اللامركزية إلى المجالس الاقليمية التي تدخل في مجال اختصاصها.
  • جعل الخدمة العامة الاقليمية أكثر فاعلية مع إعطاء الاولوية للأقاليم الشمالية.
  • عدم تركيز التوظيف في الوظيفة العمومية الإقليمية؛ بحيث سيخصص منها 50% لسكان الأقاليم  الشمالية.
  • وتتعهد الحكومة من هنا إلى 2018 بوضع آليات لتحويل 30% من إيرادات ميزانية الدولة إلى المجالس الإقليمية على قاعدة المساواة مع اهتمام خاص بالأقاليم  الشمالية.

وفي محاولة لطمأنة الأزواديين حول مستقبل استفادتهم من الخيرات الكامنة في باطن إقليمهم وفق المؤشرات الاستكشافية، تشير وثيقة الوسطاء إلى التأكيد على الحقوق الثابتة للأقاليم في عائداتها الاستخراجية، تقول الوثيقة: "تقوم الدولة بالتحويل إلى الأقاليم الشمالية المعنية نسبة من المداخيل الناتجة عن استغلال موارد تلك الأقاليم  الطبيعية خاصة المنجمية وفق شروط سيتم تحديدها باتفاق عام".

وبالرغم من عرض اللامركزية الموسعة الذي تقدمه وثيقة الوسطاء على نحو غير مسبوق في تاريخ الاتفاقات المالية–الأزوادية السابقة، إلا أن التجربة المُرَّة لسكان شمال مالي تدفع المفاوض الأزوادي لرفض هذه العروض والإصرار على تقاسم السلطة والاختصاصات على أساس مقاربة الحل الفيدرالي.

تقول وثيقة منسقية القوى الأزوادية: "إن اختصاصات دولة أزواد الاتحادية التي ستتحدد لاحقًا، تنقسم إلى اختصاصات حصرية، واختصاصات مشتركة مع الدولة المتحدة... ومن الاختصاصات الحصرية لدولة أزواد الاتحادية:

  • الإدارة الإقليمية، والأمن الداخلي، والميزانية والحسابات الإدارية، والضرائب، واستراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.......).
  • منح تراخيص (الاستكشاف والاستغلال) للموارد المعدنية، وتوقِّع على عقود الاستغلال.
  • الدولة الاتحادية تشارك حسب مبدأ التراكب بين السلطات في الهيئات السياسة، والمؤسسية للدولة المتحدة: الحكومة والبرلمان (حسب حجم المساحة، والتركيبة السكانية).

حول الدفاع والأمن

اختلاف وجهات النظر حول مقاربات الحل السياسي بين أطراف التفاوض انسحب بدوره على ملف الدفاع والأمن تبعًا لأجندة كل طرف، سواء من حيث تدابير الثقة أو بنية الأجهزة وتبعيتها المؤسسية والقانونية.

وفي الوقت الذي تؤكد وثيقة الوسطاء أن "عملية التجميع في معسكرات، والتجريد من السلاح، والتسريح، وإعادة الاندماج والإدماج تتم بالتزامن مع جمع المقاتلين على حسب جدول زمني تضعه اللجنة الوطنية لهذا الغرض، وهذه العملية ستتم في مدة زمنية أقصاها سنة ابتداء من توقيع الاتفاق، ويجب أن تسمح إما بالاندماج في الهيئات المكونة للدولة بما في ذلك القوات المسلحة والأمن، وإما بإدماجهم في الحياة المدنية في إطار برامج تنموية مختارة". يرد الطرف الأزوادي بإعطاء مفهومه الخاص للبرنامج المذكور: "إن برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج والاندماج يعني فقط مقاتلي أزواد الذين لا يندمجون في قوات الدفاع والأمن الأزوادية".

وفي مجال الجيش والأمن تدعو وثيقة الوسطاء إلى القيام بإصلاحات تضمن قيام مؤسسة عسكرية على أسس مهنية وتمثيلية تراعي التنوع الوطني، ويقترح الوسطاء إنشاء شرطة تخضع لسلطة المجالس الإقليمية في إطار سلطتهم الشرطية، فيما ستحافظ الدولة على قوات أمنية داخلية خاصة بها (الحرس الوطني، الدرك،  الشرطة).

وفي مقابل العرض السابق تطرح وثيقة منسقية الحركات الأزوادية رؤيتها الخاصة المتناغمة مع مقاربتها المتشبثة بالكيان الفيدرالي؛ ففي مجال الأمن تقول: "وسيتم إنشاء هذه الأجهزة الخاصة للأمن الداخلي لأزواد تحت سلطة أزواد ضمن إطار اختصاصاتها، وسيتم تحديد طبيعتها، وأعدادها، ومهامها، وتشكيلاتها، وإمكانياتها من قبل سلطات أزواد مع الامتثال الصارم لاختصاصات دولة أزواد الاتحادية".

وفي موضوع الجيش تؤكد: إن الجهاز العسكري الاتحادي المكلف بمهمة الدفاع الخارجي، والدفاع الإقليمي في أزواد سيتكون أساسًا من جنود وضباط من مواطني أزواد (90% من مواطني أزواد)، وسيتولى قيادته ضابط سام من أزواد.

واقع التفاوض حاليًا

في جولات التفاوض الجارية في الجزائر منذ أشهر بذلت الجزائر والمجموعة الدولية الراعية للمفاوضات جهودًا مضنية في تقريب وجهات النظر بين أطراف النزاع وبجدية أكبر مما هو معهود سابقًا غير أن المواقف الإقليمية والدولية كانت شديدة الانحياز للحكومة المالية، ويمكن لمس هذا الانحياز من خلال وثائق التفاوض -ناهيك عن ما يجري خلف الغرف المغلقة- حيث لا توجد وثيقة رسمية معبِّرة عن موقف الحكومة المالية على غرار وثيقة منسقية القوى الأزوادية، فمواقف حكومة مالي تم تضمينها بالكامل في وثيقة الوسطاء التي تقول الجزائر والمجموعة الدولية إنها بمثابة تلخيص لآراء ومواقف ومطالب الطرفين: المالي والأزوادي، وهو ما لا يقرُّ به الطرف الأزوادي الذي ردَّ على وثيقة الوسطاء بوثيقة أخرى تعبِّر عن مواقف وطموحات الأزواديين وترفض إعادة إنتاج تجارب سابقة فاشلة.

لا يزال الخلاف الجوهري في جولات مفاوضات الجزائر مستمرًّا حول نقطة مركزية تشكِّل تهديدًا للمسار التفاوضي برمته وتتمثل في طبيعة العلاقة الجديدة بين مالي وأزواد والهندسة الدستورية والمؤسسية التي ستقوم عليها هذه العلاقة؛ فالطرف الأزوادي يعتبر أنه تنازل، من أجل المصالحة والسلم وعلاقات التاريخ والجوار، عن فكرة الانفصال رغم الضغط الشعبي الذي يقع عليه، لكنه يصر في المقابل على قيام دولة مالي المتحدة التي تضم كيانين فيدراليين، هما: فيدرالية مالي وفيدرالية أزواد، وأن هذا الحل يحقق الوحدة والانسجام ويضمن سيادة دولة مالي على كامل ترابها الوطني، في نفس الوقت الذي يلبي بعض طموحات الأزواديين ويضع حدًّا لعذاباتهم المريرة.

غير أن مالي مدعومة بشكل خفي من مجموعة الوسطاء تصر على رفض خيار الفيدرالية أو إعطاء حكم ذاتي لأزواد، لكنها لا تمانع في لا مركزية موسعة وإصلاحات سياسية ودستورية تلبي بعض طموحات الأزواديين السياسية والتنموية، وهو ما يعني بالنسبة للأزواديين أن الحكومة المالية ليس في جعبتها ما تقدمه لهم غير الوعود بتجسيد سياسات اللامركزية التي خبر الأزواديون -من خلال تجربتهم في الاتفاقيات السابقة- المضمون الذي تعطيه حكومات باماكو لها.(6)

السيناريوهات المتوقعة

لا تزال تحديات كبيرة تحيط بمسار الجزائر التفاوضي لحل الأزمة المالية-الأزوادية؛ فرغم الاهتمام الاقليمي والدولي، الذي أسهم بفاعلية في تثبيت وقف إطلاق النار والجلوس على طاولة التفاوض بل وإحراز تقدم نسبي في مجالات مختلفة خلال جولات الحوار الماضية، إلا أنه من السابق لأوانه الجزم بإمكانية التوصل إلى حل سريع على نحو ما أشار إليه وزير الدفاع الفرنسي "جان ايف لورديان" في مقابلته الأخيرة مع (جون آفريك) حيث توقَّع أن تسفر مفاوضات السلام المالية التي تجري بوساطة جزائرية عن اتفاق في شهر يناير/كانون الثاني المقبل.(7)

ومن خلال رصد جملة من المؤشرات يمكن استشراف عدة سيناريوهات متوقعة لمفاوضات الجزائر، وهي:

  1. سيناريو الحل الفيدرالي: أي: التوصل الى حل سياسي يقوم على أساس قيام دولة مالي المتحدة، والتي تضم كيانات فيدرالية من بينها كيان أزواد، وهو حل يُبقي على مالي موحَّدة ويلبي طموحات الأزواديين، وستجد مالي نفسها في هذه الحالة مرغمة على القبول بهذا الحل في ظل إصرار الأزواديين وتماسك صفوفهم وفشل الخيار العسكري في الحسم.
  2. سيناريو فرض حل اللامركزية الموسعة: أي: ممارسة الضغط على القوى الأزوادية للقبول بالأمر الواقع في ضوء ميزان قوة مختل سياسيًّا ودبلوماسيًّا، مع أن الحل المقترح في الاتفاق المرتقب يمثل أعلى سقف حصل عليه مفاوض أزوادي عبر مراحل تاريخ الصراع.
  3. سيناريو الضغط المزدوج: ويمكن لهذا الضغط أن يفضي إلى التوصل لهندسة دستورية وسياسية خاصة أعلى من سقف اللامركزية الذي تطرح مالي ولكنه دون سقف الدولة الفيدرالية التي تنادي بها منسقية القوى الأزوادية، وقد أشار وزير الدفاع الفرنسي إلى هذا المعنى في مقابلته مع جون آفريك "الاحتمال هو يناير/كانون الثاني مع ممارسة الضغط الضروري ليتم التوصل إلى ذلك؛ الأمر لا يتعلق بالمجال السياسي وحده فهناك أيضًا بُعد اقتصادي وتنمية ضرورية لشمال مالي... ذلك يتطلب أن تتمثل المجموعات المسلحة الموقعة بأعلى مسؤوليها في مفاوضات الجزائر والأمر نفسه ينطبق على باماكو. على الجميع أن يدركوا أن ساعة الحقيقة تقترب".(8)
  4. انهيار المفاوضات: في ضوء رفض مالي وحلفائها لخيار الفيدرالية وتشبث منسقية القوى الأزوادية بها، يُتوقع انهيار المفاوضات مؤقتًا دون الرجوع للقتال مع بقاء احتمال حدوثه واردًا، إلى حين إنضاج أرضية جديدة للتفاهم بين أطراف التفاوض.

_________________________________
سيدي اعمر بن شيخنا - باحث وكاتب موريتاني

الإحالات
1 - تضم منسقية الحركات الأزوادية التي تمثل سكان الإقليم في مفاوضات الجزائر ثلاث قوى رئيسية، هي: الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والحركة العربية الأزوادية، والمجلس الأعلى لوحدة أزواد، الذي يمثل القوى الاجتماعية التي كانت منضوية تحت حركة أنصار الدين من قبائل ايفوقاس وغيرهم.
2 - انظر: مالي وعودة الاستعمار القديم، مجموعة أبحاث، منشورات منتدى العلاقات العربية والدولية، مطبعة الكركي، بيروت، ط1، سنة 2014، ص132.
3 - السيد ولد اباه: حرب شمال مالي، الخلفيات والآفاق، جريدة الاتحاد الإماراتية بتاريخ 3 ديسمبر/كانون الأول 2012، على الرابط التالي:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=69513
 4 - من مقدمة وثيقة مجموعة الوسطاء.
5 - تعتمد هذه الدراسة على الوثائق التالية: وثيقة الوسطاء المقدمة لأطراف التفاوض وهي وثيقة التفاوض الرئيسية، وهي عبارة عن رؤية الوسطاء لأطروحات أطراف الأزمة ومعالم الحل الأنسب، أما الوثيقة الثانية فهي عبارة عن رد منسقية الحركات الأزوادية على الحل المقترح في وثيقة الوسطاء.
6 - انظر: مالي وعودة الاستعمار القديم، مجموعة أبحاث، مرجع سابق، ص133.
7 - موقع صحراء ميديا، على الرابط التالي:
http://www.saharamedias.netD8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85_a24506.html
8 - موقع صحراء ميديا على نفس الرابط السابق.

نبذة عن الكاتب