الانتخابات النيابية القادمة في مصر: برلمان بلا أغلبية ولا معارضة

يطرح الظرف السياسي الذي تعيشه البلاد والبنية القانونية للعملية الانتخابية تساؤلات عديدة عن إمكانية أن تفرز الانتخابات البرلمانية المرتقبة في مصر خلال شهري مارس/آذار وأبريل /نيسان القادمين، برلمانا قويا ومتماسكا وممثلا في الوقت نفسه لكل المصريين؟
201512710576823734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تناقش هذه الورقة الانتخابات البرلمانية المرتقبة في مصر والمقرر إجراؤها خلال شهري مارس/آذار وإبريل/نيسان القادمين والأجواء المحيطة بها سياسيًّا وقانونيًّا، والأهمية التي تكتسبها هذه الانتخابات على ضوء الصلاحيات الكبيرة التي يحظى بها مجلس النواب القادم في الدستور الحالي والتي تتضمن سلطات غير مسبوقة، وأهمها: مساءلة رئيس الجمهورية وإمكانية سحب الثقة منه. وتستعرض الورقة العقبات القانونية والسياسية التي قد تحول دون أن يكون هذا البرلمان القادم ممثلًا للمصريين بمختلف فئاتهم السياسية والاجتماعية، وعلى رأس هذه العقبات القوانين المنظمة للعملية الانتخابية مثل قانون انتخاب مجلس النواب وقانون تقسيم الدوائر.

وتخلص الورقة إلى أن الانتخابات النيابية المقبلة، رغم الأهمية التي تكتسبها بالنظر لحالة الفراغ التشريعي التي تعيشها البلاد منذ ما يقارب العامين ورهان السلطة على أنها ستُسهم في تدعيم الاستقرار السياسي في البلاد، فإن عدم التمثيل العادل والحقيقي للمصريين في هذا البرلمان، كما هو متوقع، لن يمكِّن البرلمان الجديد من استيعاب حالة السجال والسخونة السياسية الحالية ونقلها من الشارع إلى البرلمان.

مقدمة

تشهد مصر خلال شهري مارس/آذار وإبريل/نيسان المقبلين أول انتخابات برلمانية منذ الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي؛ التي يُنتظر أن تتم على مرحلتين لاختيار أعضاء مجلس النواب الجديد، ووفقًا لما أعلنته اللجنة العليا للانتخابات ستجرى المرحلة الأولى من الانتخابات يومي 22 و23 من مارس/آذار، وتشمل أربع عشرة محافظة؛ بينما تجرى المرحلة الثانية يومي 26 و27 من إبريل/نيسان في ثلاث عشرة محافظة، وتعتبر هذه الانتخابات الاستحقاق الثالث والأخير من استحقاقات ما سُمِّيَ بخريطة المستقبل؛ التي أُعلنت عقب قيام الجيش بعزل مرسي في الثالث من يوليو/تموز 2013. وسيتألف مجلس النواب الجديد من 567 نائبًا؛ يتم انتخاب 420 منهم بالنظام الفردي، و120 نائبًا بنظام القوائم المغلقة المطلقة؛ بينما يُعَيِّن رئيس الجمهورية 27 عضوًا أي نسبة 5% من إجمالي المقاعد، ومن المفترض أن تُنهي هذه الانتخابات حالة الفراغ التشريعي التي تعيشها البلاد منذ إبريل/نيسان عام 2012، عندما أصدرت المحكمة الدستورية حكمًا بحلِّ مجلس الشعب؛ وذلك باستثناء فترة قصيرة تولَّى خلالها مجلس الشورى الذي كان قائمًا آنذاك إصدار التشريعات. مع العلم أن الرئيس عبد الفتاح السيسي يتولى حاليًّا سلطة التشريع لحين انتخاب البرلمان الجديد، الذي سيكون عليه فور انعقاده مراجعة كل القوانين التي صدرت في غيبته.

ويرى كثيرون أن الانتخابات البرلمانية المقبلة على الرغم من الظروف السياسية غير المواتية -التي تعيشها البلاد، وحملات التضييق والملاحقة لخصوم النظام ومعارضيه- تكتسب أهميتها بالنظر إلى عاملين أساسيين:

  • العامل الأول: الصلاحيات الكبيرة وربما غير المسبوقة لمجلس النواب القادم؛ فوفقًا للدستور المعدل لعام 2014 سيكون للبرلمان الجديد إضافة إلى سلطتي التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، صلاحيات أخرى واسعة من بينها المشاركة مع رئيس الجمهورية في اختيار رئيس الحكومة، وكذلك إمكانية تشكيل الحزب أو الائتلاف الفائز بالأغلبية للحكومة، كما يحق لمجلس النواب مساءلة رئيس وأعضاء الحكومة، وسحب الثقة من رئيس الحكومة أو أحد الوزراء أو نوابهم(1). ولأول مرة يعطي الدستور مجلس النواب حق مساءلة رئيس الجمهورية وتوجيه الاتهام إليه في حالة انتهاكه للدستور أو الخيانة العظمي؛ وذلك بناء على طلب موقَّع من أغلبية أعضاء مجلس النواب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس(2). كما يجور لمجلس النواب اقتراح سحب الثقة من رئيس الجمهورية وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة بناء على طلب مسبَّب وموقَّع من أغلبية أعضاء مجلس النواب وموافقة ثلثي الأعضاء(3). وعلى الرغم من أن بعضهم قد يرى أن هذه الصلاحيات تبقى نظرية ومجرد نصوص قد لا تطبق على أرض الواقع في ظل الظروف السياسية الراهنة في البلاد؛ فإن ذلك لا يقلل من أهميتها، لاسيما إذا ما تغيرت هذه الظروف.
  • العامل الثاني: المسؤولية الكبيرة التي سيتعين على البرلمان القادم التصدِّي لها؛ خصوصًا ما يتعلق بإصدار عشرات التشريعات والتعديلات القانونية بما يتوافق مع الدستور، وسيكون على هذا البرلمان إصدار العديد من التشريعات والقوانين المكملة للدستور، ومن أبرزها القوانين الخاصة بتنظيم شؤون الإعلام ومكافحة الإرهاب والعدالة الانتقالية والتظاهر وتنظيم التجمعات العامة، وأمن الفضاء المعلوماتي، وقانون الصحافة والبث الإعلامي، وقانون الأحزاب، والحد الأدنى والأقصى للأجور والمعاشات، ومنع الممارسات الاحتكارية، وتطوير المناطق الحدودية والمهمشة، وقوانين خاصة بالأزهر والنقابات، وقانون محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء(4).

لكن السؤال: هل الظروف والبيئة السياسية التي ستجرى في ظلها هذه الانتخابات ستفرز برلمانًا يعكس تمثيلاً حقيقيًّا وصادقًا لجموع المصريين بمختلف أطيافهم السياسية والاجتماعية؟ وهل القوانين والإجراءات المنظمة لهذه الانتخابات يمكن أن تقود إلى برلمان قوي وقادر على القيام بواجباته السياسية والتشريعية والرقابية، وممارسته صلاحياته التي جاءت في الدستور؟ وهل السلطة الحالية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي راغبة وجادة في إيجاد برلمان قوي وفاعل وقادر على مراقبة ومساءلة السلطة التنفيذية؟

نظام انتخابي يفتقد العدالة ويُضعف الحياة الحزبية

تنبئ المؤشرات والمقدمات بأن البرلمان القادم لن يكون ممثلاً لكل مكونات الشعب المصري السياسية والاجتماعية، كما أن الأجواء السياسية التي تجرى فيها الانتخابات لا تساعد على فرز نواب قادرين على القيام بمهامهم التشريعية والرقابية على الحكومة، فضلاً عن تحقيق التوازن بين السلطات؛ بل إن الدلائل تشير إلى أن مجلس النواب القادم سيكون ضعيفًا ومشرذمًا، وسيضم خليطًا غير متجانس من النواب، ولن تكون فيه أغلبية برلمانية قوية ومتماسكة بشكل يمكِّنها من فرض رؤيتها السياسية والتشريعية، وفي هذا الإطار يمكن التوقف عند مجموعة من العقبات والقيود التي تحول دون أن تؤدي الانتخابات البرلمانية المرتقبة إلى برلمان قوي وقادر وفاعل سياسيًّا وتشريعيًّا.

القوانين المنظمة للانتخابات
تثير القوانين المنظمة للانتخابات -ولاسيما قانون مجلس النواب أو قانون تقسيم الدوائر الانتخابية وما تضمنهما من قواعد ونصوص- الكثير من التساؤلات والشكوك، فيما إذا كانت توفِّر الشروط اللازمة لإجراء انتخابات برلمانية تنافسية وعادلة تفضي في النهاية إلى تشكيل برلمان قوي وقادر على القيام بدوره المنشود.

ففيما يتعلق بقانون مجلس النواب فإنه على عكس قانون الانتخابات لعام 2011 الذي نص على انتخاب ثلثي مقاعد البرلمان بنظام القائمة، والثلث على أساس النظام الفردي، جاء قانون الانتخابات الجديد الذي أصدره الرئيس المؤقت السابق عدلي منصور، منحازًا إلى النظام الفردي على حساب القوائم الحزبية؛ وذلك على غير رغبة القوى السياسية المختلفة، وعلى الرغم من تحفظاتها ومعارضتها له؛ إذ ينص القانون على أن يكون انتخاب ثلث النواب بنظام القوائم المغلقة المطلقة؛ بينما يكون الثلثان بالنظام الفردي. ولم يكتفِ القانون بذلك بل إنه فرض على الأحزاب السياسية أن تخصص حصة من قوائمها الانتخابية لفئات معينة مثل الشباب والمرأة والأقباط والعمال والفلاحين؛ بينما لم يتطرق القانون إلى تمثيل هذه الفئات على المقاعد الفردية. وبينما ترى الأحزاب والقوى السياسية أن هذا النظام الانتخابي من شأنه أن يعمِّق ضعف وتهميش الأحزاب، ويفتح الباب أمام سيطرة أصحاب المال والنفوذ العائلي والقبلي من فلول الحزب الوطني المنحل على البرلمان القادم، فإن السلطة والمدافعين عن القانون يرون أن نظام الانتخاب الفردي هو الأكثر ملاءمة لثقافة وتجربة المصريين الانتخابية وظروف البلاد السياسية بالنظر إلى ضعف وهشاشة الأحزاب، واعتياد المواطنين على التصويت لمن يعرفونهم بشكل مباشر من المرشحين، وليس وفقًا لبرامج أو قوائم. كما يرى المؤيدون لهذا القانون أنه سيقلِّل من فرص بعض المحسوبين على الإخوان المسلمين في الفوز. لكن المبررات التي تسوقها السلطة للدفاع عن القانون وإن كان فيها بعض المشروعية، فإنها تحمل أيضًا حججًا واهية؛ لأن بناء نظام ديمقراطي حقيقي يتطلب مشاركة الجميع دون استثناء، أما فيما يتعلق بضعف الأحزاب السياسية فإن النظام الانتخابي الحالي من شأنه أن يكرس هذا الضعف؛ بل ويزيده ويعمقه، فهذا النظام -كما يرى كثير من القوى السياسية- يفتح الباب أمام عودة شبكات المصالح القديمة من خلال استغلال نفوذ المال السياسي ونفوذ العصبيات العائلية والقبلية ونفوذ رجال الأعمال، وهو ما يعني تكريسًا لفساد الحياة النيابية عن طريق سيطرة رأس المال السياسي ورجال الأعمال على العملية الانتخابية(5). وتتزايد المخاوف في الأوساط السياسية من أن تقود الانتخابات المقبلة -وفقًا للقواعد الحالية- إلى إعادة إنتاج برلمانات ما قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وهيمنة ما كان يسمى في عهد نظام مبارك بنائب الخدمات الذي يعيش في كنف الحكومة، ويسعى للحصول منها على خدمات لأهل دائرته الانتخابية، وهو ما يعني أن مجلس النواب القادم سيكون برلمانًا خدميًّا أكثر منه سياسيًّا قادرًا على ممارسة دوره في التشريع والرقابة والمحاسبة(6). فالنظام الانتخابي الفردي من شأنه أن ينزع السياسة من البرلمان القادم من خلال إبعاد وتهميش الأحزاب السياسية؛ بل إن هناك مَنْ يرى أن هذا النظام يهدف إلى الإتيان بمجلس نواب ليس له لون سياسي وغير قادر على القيام بمهامه(7)، ولا تقف نواقص قانون الانتخابات البرلمانية عند إضعافه للأحزاب السياسية؛ بل إنه في رأي عديد من القانونيين والسياسيين يهدر 49% من أصوات الناخبين من خلال اعتماده لنظام القائمة المغلقة المطلقة وليس النسبية، وهذا النظام يعني حصول الائتلاف أو الحزب الذي يحصل على 51% من الأصوات على جميع المقاعد؛ وبالتالي تصبح 49% من الأصوات بلا قيمة؛ وذلك خلافًا لقانون انتخابات 2011؛ الذي اعتمد نظام القائمة النسبية؛ حيث فازت كل قائمة بعدد من المقاعد بما يتناسب مع عدد الأصوات التي حصلت عليها، واللافت للانتباه أن مختلف الأحزاب السياسية التي أعلنت تحفظها وانتقادها للقانون قررت مع ذلك المشاركة في الانتخابات النيابية؛ وذلك بمنطق التعامل مع الأمر الواقع؛ بينما برر بعضهم هذا الموقف بأن الظروف السياسية التي تمر بها البلاد تستدعي تجاوز هذه التحفظات، والذهاب إلى الانتخابات وتشكيل البرلمان، وعندها يمكن تعديل هذا القانون داخل البرلمان.

المال السياسي ومعركة البرلمان القادم
جاء قانون تقسيم الدوائر معززًا لما تضمنه قانون الانتخابات من انحياز للنظام الفردي؛ حيث قسم محافظات الجمهورية إلى 232 دائرة انتخابية للانتخاب الفردي، وإلى أربع دوائر فقط للانتخابات بالقائمة، ومن شأن هذا التقسيم -كما يرى كثيرون- الحيلولة دون وجود أي تجانس بين المرشحين، وإضعاف قدراتهم على التواصل مع ناخبيهم؛ وذلك بالنظر إلى قلة عدد الدوائر الانتخابية، خصوصًا لنظام القائمة مع اتساع المساحة الجغرافية، كما أن هذا التقسيم -الذي يوسع الدوائر لتشمل مناطق شاسعة- يحرم الكفاءات السياسية والشبابية التي لا تملك الإمكانيات المادية من الوصول إلى البرلمان في مقابل فتح المجال لعودة فلول الحزب الوطني المنحل من أصحاب العصبيات العائلية والقبلية في الريف والصعيد، ولا يقتصر التفاوت الكبير بين الدوائر الانتخابية الفردية على المساحة؛ حيث إن هناك دائرة يمكن أن تمتد على مساحة 600 كيلو متر، وأخرى لا تتجاوز عشرة كيلو مترات؛ بل إن التفاوت يشمل عدد النواب لكل دائرة، فهناك 119 دائرة فردية تمثل بمقعدين، و77 دائرة بمقعد واحد، بينما هناك 35 دائرة تمثل بثلاثة مقاعد. ويمهد هذا التقسيم -في رأي بعضهم- الطريق أمام سيطرة مرشحي الحكم المباشرين ومرشحي المصالح الاقتصادية والمالية الكبرى(8)، وقد حذَّر البعض من سيطرة رجال الأعمال على مجلس النواب القادم؛ لاسيما على ضوء تقارير تتحدث عن أن هناك مليارات الجنيهات تم رصدها من قبل أحزاب وشخصيات ورجال أعمال لدعم مرشحين مستقلين بهدف السيطرة على الانتخابات القادمة(9). ومن شأن ذلك أن ينزع عن الانتخابات المرتقبة معايير العدالة والمساواة بين المرشحين، حتى إن كانت نزيهة بمعنى غياب التزوير المكشوف المباشر، وفي محاولة منها لمواجهة تأثير المال السياسي ورجال الأعمال على الانتخابات القادمة، أعلنت اللجنة العليا للانتخابات عن عدة إجراءات من بينها شطب أي مرشح يخالف قواعد الإنفاق المالي على الدعاية الانتخابية، وتشكيل لجان مراقبة لرصد المخالفات؛ لكن هذه الإجراءات على أهميتها لا تبدو واقعية، لاسيما أن اللجنة لا تملك الإمكانات المادية ولا البشرية اللازمة لمراقبة ورصد المخالفات التي قد تقع من قبل المرشحين على مستوى الجمهورية، وهذا من شأنه أن يفتح الباب لتعاظم دور المال السياسي في تشكيل الهيئات السياسية.

برلمان لا يمثل كل المصريين

وإلى جانب القيود والعقبات التي تفرضها القوانين المنظمة للعملية الانتخابية أمام تكافؤ الفرص بين المصريين في خوض المعركة الانتخابية، وفي الوصول إلى برلمان قوي وقادر على القيام بمهامه، فإن الأجواء السياسية التي تجرى فيها الانتخابات تفرض قيودًا أخرى لا تجعل من هذا البرلمان ممثلاً تمثيلاً حقيقيًّا لجموع المصريين بمختلف تياراتهم السياسية وفئاتهم الاجتماعية؛ وعلى الرغم من أن هناك بعض التقديرات بأن يحظى الإسلاميون بنحو 10% أو أكثر قليلاً من البرلمان المقبل؛ سواء من خلال مشاركة حزب النور السلفي، أو بعض الشخصيات المستقلة القريبة من الإخوان والمتعاطفة معهم، فإن الظرف السياسي الذي تجرى فيه الانتخابات لا يسمح بإجراء انتخابات تنافسية يشارك فيها كل المصريين وتنتج برلمانًا معبرًا عنهم؛ إذ تجرى هذه الانتخابات في ظل حملة شرسة تشنها السلطة لإقصاء جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من المشهد السياسي بشكل كامل، عبر محاصرتها أمنيًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا، واعتبارها جماعة إرهابية محظورة؛ لكن غياب الإخوان عن المشهد الانتخابي لا يعود فقط إلى سعي السلطة الحالية لإقصائهم وتغييبهم؛ بل يعود إلى قرار واضح من قيادة الجماعة بمقاطعة هذه الانتخابات التي تعني مشاركتهم فيها اعترافهم بالعملية السياسية التي أفرزتها مرحلة ما بعد 3 من يوليو/تموز، وهي العملية التي يعتبرونها انقلابًا عسكريًّا على رئيس منتخب، ويتمسكون بشرعية الدكتور محمد مرسي، وعودة باقي المؤسسات التي كانت قائمة قبل عزله. كما أن حقائق الواقع تمنع الإخوان من خوض هذه الانتخابات؛ حتى إن أرادوا بالنظر إلى الملاحقات القانونية والأمنية، وحملات التخوين والكراهية التي تمارَس ضد الجماعة وقياداتها وكوادرها. واللافت أن الإصرار على منع وإقصاء الإخوان سياسيًّا لا يقتصر على السلطة الحاكمة؛ بل تشارك هذا الموقف غالبية الأحزاب المدنية التي تطالب بمنعهم من مشاركتهم في الانتخابات؛ بل إن أحد أسباب انتقادات هذه الأحزاب لقانون الانتخابات هو تخوفها من أنه يفتح الباب أمام احتمال نجاح بعض عناصر الإخوان في الوصول إلى البرلمان، وهو ما يجعل الإخوان المسلمين الغائب الحاضر بقوة في هذه الانتخابات.

ولا يعود سبب الغياب المتوقع للتمثيل الحقيقي والعادل للمصريين في البرلمان القادم إلى الأبعاد السياسية والموقف من الإخوان فحسب؛ بل ثمة أبعاد اجتماعية تعزز ذلك؛ فالقواعد التي تُجرى على أساسها الانتخابات تحرم الفئات التي لا تحظى بإمكانيات مادية كبيرة سواء من العمال والفلاحين أو الشباب والمرأة من التمثيل الحقيقي في البرلمان القادم. وعلى الرغم من أن قانون الانتخابات يلزم القوائم الانتخابية بترشيح أعداد محددة من تلك الفئات ضمن قوائم المرشحين(10)؛ لكن ذلك لا يضمن تمثيلاً عادلاً ومناسبًا وحقيقيًّا بما يعكس الوزن النسبي أو الوزن الديمغرافي لهذه الفئات؛ فعلي سبيل المثال لا تبدو فرص تمثيل الشباب قوية على الرغم من أنهم يمثلون نحو 50% من المصريين؛ لكنهم يفتقدون الإمكانيات المادية الضخمة التي تفرضها الانتخابات، فضلاً عن أن الأجواء السياسية تبدو معادية للشباب بصفة عامة، لاسيما أن المئات منهم الآن داخل السجون(11).

ولا يقتصر الأمر على الشباب وحدهم؛ بل يشمل باقي القوى الاجتماعية الضعيفة مثل المرأة وغيرها من محدودي الموارد المادية؛ وذلك بالنظر إلى اتساع الدوائر الانتخابية التي تجعل من الصعب تمكين جميع الانتماءات والفئات الاجتماعية من التمثيل العادل داخل البرلمان، وقد أصدرت عدة منظمات نسائية بيانًا انتقدت فيه قانون الانتخابات، واعتبرت أن انحياز القانون للنظام الفردي يمنع العناصر النسائية الأقل تمكينًا من فرصة الفوز في الانتخابات الفردية؛ لأنه يتطلب إمكانيات مادية ضخمة لا تتوافر لكثير من النساء، لاسيما في ظل الاتساع الهائل لبعض الدوائر الانتخابية، فضلاً عن غلبة العصبيات العائلية والقبلية، ووجود مزاج عام لا يحبذ دعم النساء، وهذا من شأنه أن يجعل فرص المرأة منحصرة في النسبة المقررة لها ضمن القوائم الانتخابية، أو الحصة التي تخصص لها ضمن النواب المعينين، ولا ترى الأوساط النسائية أن ذلك يعكس تمثيلاً عادلاً لها(12).

برلمان بلا أغلبية ولا معارضة

لا تعزز القوانين الناظمة للعملية الانتخابية فرص الوصول إلى برلمان قوي ومتجانس؛ بل من شأنها -حسب كثير من التحليلات- أن تؤدي إلى برلمان مفتت وغير متجانس، ويضم خليطًا وأطيافًا متباينة من فلول الحزب الوطني المنحل مع شخصيات مستقلة ورجال أعمال وغيرهم؛ بينما لن تتمكَّن القوى والأحزاب السياسية من الحصول على أكثر من 20% وفقًا لتقديرات الكثير من الخبراء، ومن شأن ذلك أن يحول دون قدرة أي تيار أو حزب سياسي من تشكيل أغلبية برلمانية قوية ومتماسكة تمكنها من أن تقود البرلمان القادم وتفرض رؤيتها السياسية والتشريعية، أو أن تشكل الحكومة القادمة كما ينص الدستور، وعلى الرغم من التحالفات والتكتلات التي يتم الإعلان عن قيامها بين القوى السياسية المختلفة استعدادًا لهذه الانتخابات فإن هذه التحالفات تبدو هشة، ويتوقع أن تنهار وتتفكك بمجرد إجراء الانتخابات وانعقاد مجلس النواب؛ ذلك أن بعض هذه التحالفات يضم أطيافًا متباينة ومتضادة في توجهاتها السياسية والاقتصادية؛ حيث تجمع خليطًا من الأحزاب الليبرالية واليسارية التي تسعى للحصول على تمثيل في البرلمان أكثر من سعيها لتشكيل تحالف سياسي متماسك، كما أن هذه القوى تتنازعها أزمة ثقة واضحة، ويغلب عليها صراع الزعامات الشخصية والانتهازية السياسية، وليس لديها رؤية موحدة؛ سواء في توجهاتها السياسية أو في أجندتها الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يجعل حصول أي من هذه القوى على أغلبية برلمانية تمكنها من تشكيل الحكومة الجديدة أمرًا مستبعدًا(13). ولعل أبرز هذه التحالفات هو التكتل الذي يقوده رئيس الوزراء السابق كمال الجنزوري باسم الجبهة المصرية في مواجهة قائمة ائتلاف الوفد المصري، وتحالف انتخابي آخر يقوده السياسي البارز عبد الجليل مصطفى باسم التحالف المدني الديمقراطي أو تحالف صحوة مصر(14). وإلى جانب هذه التحالفات هناك حزب النور السلفي الذي حلَّ ثانيًا في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2011؛ حيث أعلن أنه سيخوض الانتخابات بشكل منفرد بعد أن رفضت القوى السياسية الأخرى التحالف الانتخابي معه، وهناك حزب مصر القوية الذي يتزعمه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، القيادي السابق في الإخوان المسلمين؛ الذي أعلن أنه سيخوض الانتخابات على المقاعد الفردية، وأنه مستعد لضم كل معارضي نظام ما بعد 30 من يونيو/حزيران لقوائمه. وفي مقابل عدم قدرة القوى السياسية على تشكيل أغلبية برلمانية، يتوقع أن تكون الغلبة في البرلمان للمرشحين المستقلين والمنتمين للقوى المؤيدة للنظام؛ سواء المنتمون للحزب الوطني المنحل، أو رجال الأعمال، أو أبناء العائلات الكبيرة في الريف؛ لكن هذه القوى التي تساند السلطة انطلاقًا من حسابات ومصالح مختلفة تفتقد التجانس أو الرؤية الموحدة. في المقابل سيكون الصوت المعارض أضعف من أن يؤثر على مسار صناعة القوانين والقرارات داخل البرلمان، وهو ما يعني أننا سنكون أمام برلمان بلا أغلبية برلمانية واضحة ومتماسكة، وبلا معارضة قوية ومؤثرة، ولا شك أن مثل هذه التشكيلة المتوقعة للبرلمان تحول دون أن يكون برلمانًا قادرًا على محاسبة ومراقبة الحكومة، أو أن تكون له أجندته التشريعية والرقابية المستقلة.

وعلى الرغم من تأكيدات الرئيس السيسي على أهمية البرلمان المقبل ودوره في الحياة السياسية، وحثه المواطنين على حسن اختيار ممثليهم في هذا البرلمان، فإن الممارسات الفعلية لا تشير إلى حرص حقيقي من قبل السلطة الحالية على أن تفرز الانتخابات القادمة برلمانًا قويًّا. وليس أدل على ذلك من إصرارها على إصدار قانوني انتخابات مجلس النواب وتقسيم الدوائر بالشكلين اللذين صدرا بهما ودون تشاور مع أي من الأحزاب السياسية، ودون التفات منها إلى مطالب هذه القوى بتعديل بنود القانون أو التحذيرات المتكررة من مخاطر النظام الانتخابي على مستقبل الحياة السياسية والحزبية في مصر، وعلى شكل البرلمان القادم؛ بل إن السيسي لم يلتقِ مع ممثلي الأحزاب السياسية إلا بعد سبعة أشهر من توليه السلطة، وبعد أن انتهت الحكومة من إعداد كل التشريعات والخطوات الخاصة بالانتخابات بالشكل الذي تريد.

ويرى البعض أن إجراء الانتخابات المقبلة التي تنظم لأول مرة دون أن يكون الرئيس منتميًا رسميًّا لأي من الأحزاب المتنافسة، يعتبر نقطة إيجابية ربما تسهم في تحقيق الحياد الإيجابي للدولة ومؤسساتها في هذه الانتخابات؛ فقد نُقل عن السيسي تأكيده خلال لقائه الأحزاب السياسية أنه لا يدعم أي حزب أو تحالف انتخابي بعينه؛ لكن ذلك يشكِّل من ناحية أخرى تحديًا سياسيًّا كبيرًا، فغياب الانتماء الحزبي للسيسي يمكن أن يفتح الباب أمام صراع حاد بين التحالفات والمجموعات السياسية؛ التي تتنافس على إعلان ولائها للسيسي، وهو الأمر الذي يرى البعض أنه سيكون على حساب قيام مجلس النواب القادم بمسؤولياته التشريعية والرقابية(15). وقد برز ذلك جليًّا في الدعوات التي أطلقتها أحزاب وشخصيات سياسية بضرورة تشكيل ظهير سياسي للسيسي في البرلمان القادم، وضمان أن يكون برلمانًا مؤيدًا للرئيس؛ لكن هناك من يرى أن السيسي يتعاطى مع هذه الدعوات بقدر من الاستعلاء والاستغناء؛ ليس فقط إدراكًا منه لضعف وقلة تأثير هذه الأحزاب، وإنما لأنه منحاز لمنطق الزعيم الشعبي الذي يرى أنه ليس بحاجة لقوى وسيطة كالأحزاب والمؤسسات المنتخبة للتواصل مع الجماهير؛ لكن خطورة هذه الرؤية هي أنها لا تلتفت إلى أن تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد يكون بتشكُّل تحالف سياسي عريض ذي شعبية؛ وهو أمر يبدو غير واضح حتى الآن(16).

الخلاصة

رغم  أهمية  الانتخابات النيابة القادمة لاسيما لجهة انهاء حالة الفراغ التشريعي التي تعيشها مصر منذ ما يقر من عامين  فإن البيئة السياسية الراهنة وكذلك قوانين العملية الانتخابية، لاتوفِّر الشروط اللازمة لإجراء انتخابات تنافسية وحقيقية تتوافر لها معايير المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين القوى المتنافسة، وعلى ضوء ذلك لا يتوقع أن تفضي إلى برلمان قوي وفاعل من ناحية، أو يعكس تمثيلاً حقيقيًّا لمختلف الأطياف السياسية والاجتماعية للمصريين من ناحية أخرى. ولا شك أن برلمانًا بهذا الشكل لا يلبي طموحات وتوقعات كثير من القوى السياسية، لن يكون بمقدوره استيعاب حالة السجال والسخونة السياسية الحالية، ونقلها من الشارع ومن وسائل الإعلام إلى البرلمان، وهذا يعني أن التفاعلات السياسية ستبقى تُصْنَع بعيدًا عن هذا البرلمان، وعلى الرغم من أنه سيكون في أغلبيته الساحقة -كما هو متوقع- مؤيدًا للسلطة؛ فإن البرلمان الجديد لن يكون عاملاً  لدعم  الاستقرار السياسي في البلاد؛ طالما مالم يكن  ممثلا لمختلف القوى  الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي يرجح ، كما يرى كثيرون، بقاء الحالة الاحتجاجية في الشارع الذي سيصبح ساحة لكل القوى التي لن تجد نفسها ممثلة في هذا البرلمان. أما النتيجة الأخرى المتوقعة للانتخابات القادمة فهي أنها ستؤدي إلى مزيد من إضعاف وتهميش الحياة الحزبية، وهو ما يعني مزيدًا من موات وتراجع الحياة السياسة في مصر بعد الانتعاش الكبير الذي شهدته عقب ثورة 25 من يناير/كانون الثاني، وتحرير المجال العام من قبضة نظام مبارك، وهو المجال الذي تسعى السلطة الحالية لإعادة السيطرة عليه مجدَّدًا.
_____________________________
المصادر والهوامش
(1) نص المادة 131 من دستور عام 2014.
(2) نص المادة 159 من الدستور.
(3) نص المادة 161 من الدستور.
(4) مجلس النواب المقبل ملزمٌ بإصدار 92 مشروع قانون استجابة لمتطلبات دستور 2014، صحيفة اليوم السابع، 14 من يناير/كانون الثاني 2014.
(5) قانون مجلس النواب الجديد: أي مستقبل ينتظر الأحزاب في مصر؟، صحيفة الشروق، 22 من يونيو/حزيران 2014. 
(6) سياسيون: قانون مجلس النواب يعيد برلمان مبارك، الجزيرة نت، 8 من يونيو/حزيران 2014.
(7) نور فرحات: الأحزاب السياسية ستكون خارج حسابات مجلس النواب المقبل، موقع شبكة الإعلام العربية محيط، 30 من ديسمبر/كانون الأول 2014. 
(8) عمرو حمزاوي: عن تقسيم الدوائر، صحيفة الشروق، 16 من ديسمبر/كانون الأول 2014.
(9) المال السياسي يحسم معركة مجلس النواب.. رجال أعمال رصدوا ثلاثة مليارات جنيه لخوض الانتخابات، موقع البوابة نيوز، 4 من يناير/كانون الثاني 2015. 
(10) ألزم قانون الانتخابات الجديد الأحزاب السياسية بأن تخصص على قوائمها الانتخابية مواقع لفئات الشباب والفلاحين والعمال والمرأة والأقباط، وقد حدد قانون مجلس النواب 21 مقعدًا للمرأة، و24 مقعدًا للأقباط، و16 للشباب ومثلها للعمال والفلاحين، في حين تخصص 8 مقاعد لذوي الاحتياجات الخاصة والمصريين في الخارج؛ وذلك بشكل استثنائي هذه الانتخابات فقط تطبيقًا للنصوص المكملة للدستور الحالي.
(11) قوى شبابية: البرلمان سيكون نسخة من مجلس عز وسرور، شبكة الإعلام العربية محيط، 5 من يناير/كانون الثاني 2015.
(12) ورقة نقدية حول قانوني مجلس النواب ومباشرة الحقوق السياسية: من أين يأتي تمثيل النساء سياسيًّا؟، مركز نظرة للدراسات النسوية، 13 من يوليو/تموز 2014.
(13) الأغلبية البرلمانية حلم بعيد المنال للقوى السياسية بعد فشل تشكيل تحالف انتخابي موسع، صحيفة اليوم السابع، 10 من يناير/كانون الثاني 2015.
(14) التحالفات الانتخابية في مصر تدخل مرحلة الحسم مع إعلان موعد الاستحقاق الانتخابي، صحيفة الشرق الأوسط، 9 من يناير/كانون الثاني 2014. 
(15) الأفراد قبل الأحزاب في الانتخابات المصرية، أحمد مرسي، سلسلة صدى، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 15 من يوليو/تموز 2014.
(16) د. عماد شاهين: النظام المصري بين السلطوية المستحيلة والديمقراطية المستبعدة، مركز الجزيرة للدراسات.