تفاعلات المشهد السياسي التونسي عقب تشكيل الحكومة

تشير التغييرات التي أُدخلت على النسخة الثانية لحكومة الصيد إلى تغيير المنطق الذي أسست عليه بداية، ولا يمنع انقسام النداء حيال مشاركة النهضة من الاتجاه نحو مرحلة تفاهم متوسطة الأمد بين الحزبين الأولين، ليبقى التحالف خاضعًا لعوامل داخلية للحزبين؛ في وقتٍ يعتبر تأمين الوضع التونسي حاجة إقليمية.
20152197214196734_20.jpg
لا يمنع انقسام النداء حيال مشاركة النهضة في الحكومة من الاتجاه نحو مرحلة تفاهم متوسطة الأمد بين الحزبين الأولين (أسوشيتد برس)

ملخص
أحدث الحبيب الصيد خمسة عشر تغييرًا على التركيبة الأولى؛ مما يشير إلى أنه لم يقع تغيير التشكيلة فقط؛ وإنما تغيير المنطق الذي أُسِّست عليه، ويبدو أن حزب نداء تونس يمرُّ بصعوبات عديدة؛ بدأت في التأثير على تجانس هياكله بسبب تصارع وجهتي نظر بإزاء تشريك حركة النهضة في الحكومة، وتتجه البلاد نحو مرحلة تفاهم متوسطة الأمد على الأقل بين الحزبين الأولين رغم حدة الحملات الدعائية التي وضعت أنصارهما في عداء طوال الفترة السابقة. ونجحت حركة النهضة في تسويق نفسها كحركة قادرة على تقديم كل التنازلات من أجل المصلحة الوطنية، بما في ذلك التخلي عن الحكم، وبدا حزب نداء تونس -وبالأخص زعيمه السبسي- وفيًّا لتعهداته ومعترفًا بالجميل للغنوشي لإصراره على الحياد في معركة الرئاسيات الأخيرة؛ رغم اندفاع قواعد حركته في دعم المرزوقي.

يبدو أن تأمين الوضع التونسي حاجة إقليمية أكيدة تزعمت تحقيقها الولايات المتحدة في ظل انكفاء واضح للدور الفرنسي التقليدي في تونس، وافترضت هذه التفاهمات تخلي الحزبين الرئيسين عن التحالفات السابقة، ويتعلق الأمر هنا بحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بالنسبة إلى حركة النهضة، وبالجبهة الشعبية بالنسبة إلى نداء تونس. إن المنطق الذي أسس عليه التحالف الجديد لا يلغي أية إمكانيات لتطور الأمور في اتجاهات أخرى تحت تأثير عوامل خاصة بالحياة الداخلية للحزبين الرئيسين.

بعد شهر من التكليف الرسمي وأكثر من ثلاثة أشهر من إجراء الانتخابات التشريعية استطاع رئيس الحكومة التونسية الحبيب الصيد تقديم تشكيلته الوزارية والتقدُّم بها إلى مجلس نواب الشعب لنيل الثقة، وأطلق على هذه التشكيلة اسم النسخة الثانية؛ باعتبار أنه وقع الإعلان عن تشكيلة أخرى قبل ذلك؛ لكنها أثارت اعتراضات كبيرة؛ مما أدَّى إلى سحبها قبيل تمريرها أمام البرلمان، وقد أحدث الحبيب الصيد خمسة عشر تغييرًا على التركيبة الأولى؛ مما يشير إلى أنه لم يقع تغيير التشكيلة فقط؛ وإنما تغيير المنطق الذي أُسِّسَتْ عليه.

يبدو أن حزب نداء تونس الفائز في الانتخابات التشريعية والرئاسية يمرُّ بصعوبات عديدة؛ بدأت في التأثير على تجانس هياكله بسبب تصارع وجهتي نظر بإزاء تشريك حركة النهضة في الحكومة، ويؤكد كثيرٌ من المراقبين أن إسقاط التشكيلة الأولى قبل وصولها جلسة الثقة لم تكن سوى عملية ليِّ ذراع للجناح المتشدِّد في حزب النداء الرافض لتشريك النهضة في التركيبة الحكومية؛ حيث تعمَّد رئيس الحكومة بتأثير مباشر من القصر الرئاسي تقديم تشكيلة كان واضحًا أنها لن تحصل على ثقة المجلس؛ مما يعني تحميل الجناح نفسه مسؤولية الفشل؛ لذلك فإن أهم عنصر اختلاف بين التركيبتين ليس سوى دخول حركة النهضة، وإنْ تمَّ هذا الدخول بطريقة رمزية.

وما عدا ذلك -خاصة فيما يتعلَّق ببيان الحكومة أو برنامجها- فإنه لم يشهد أي تحوير يُذْكَر؛ على الرغم من التغيير الكبير الذي طرأ على التشكيلة الحكومية، ودخول أحزاب جديدة فيها، وهو ما يعني أن البرنامج لا يطرح أية مشاكل حقيقية؛ ومما يؤكد أن نقطة الصراع الأساسية كانت في استمرار عملية إدخال النهضة للحكومة؛ وذلك بناء على تعهدات سابقة بين رئيسي الحزبين الكبيرين؛ الشيخ راشد الغنوشي، والسيد الباجي قايد السبسي.

دلالات التركيبة الحكومية الجديدة على السلطة والمعارضة

بعد الوصول إلى الاتفاق الذي سمح بتشكيل الحكومة؛ فقد ضمَّت الحكومة الجديدة أربعة أحزاب؛ وهي: حزب نداء تونس، وحزب الاتحاد الوطني الحر، وحزب آفاق تونس، وحركة النهضة. ومكَّن ذلك حكومة الحبيب الصيد من حصد ثقة 166 نائبًا في جلسة منح الثقة التي امتدَّت يومين، وإذا كانت التشكيلة الأولية قد ضمَّت الحزبين الأولين وعددًا من المستقلين المحسوبين في معظمهم على التيار اليساري؛ فإن دخول حزب آفاق تونس وحركة النهضة قد عدَّل نسبيًّا التشكيلة النهائية؛ مما جعل الحكومة تبدو كحكومة وحدة وطنية "لم تُقْصِ إلاَّ مَنْ أراد إقصاء نفسه"، مثلما يحلو لرئيس الحكومة وشركائه أن يردِّدُوا منذ فترة(1).

لا يبدو حضور الأحزاب الأربعة المشكلة للائتلاف الجديد متناسبًا مع عدد النواب الممثلين لها في مجلس نواب الشعب؛ حيث فضَّل حزب نداء تونس التعويل على أكبر عدد ممكن من المستقلين، وإن كان معظمهم قد ناضل في السابق ضمن التيارات اليسارية؛ وذلك في حين أن حركة النهضة لم تشارك سوى بوزير وثلاثة كتَّاب دولة؛ على الرغم من أنها القوة الثانية في البرلمان بتسع وستين نائبًا، في حين أن حزب آفاق تونس الذي يحضر في البرلمان بثمانية مقاعد فحسب قد نال ثلاث حقائب وزارية، ويبدو أن المنطق الذي وُزِّعت على أساسه الحقائب هو منطق سياسي وليس تمثيليًّا؛ فبالرغم من ضعف حضورها في الحكومة الجديدة، فإن دور حركة النهضة في تمرير التركيبة أمام المجلس كان رئيسيًّا؛ ذلك أنه لولا التصويت الكثيف لنوابها لفائدة منح الثقة للحكومة لعجز الحبيب الصيد عن نيل الثقة؛ حيث تميز نواب الحركة بانضباط أكبر أثناء التصويت من نواب الحزب الأغلبي الفائز بالانتخابات تجاه حكومة هي في الأصل حكومته.

رفع زعيم حركة النهضة الفيتو في وجه عدَّة أسماء، بعضها من نداء تونس خاصة، وينسب إليه اختيار الحبيب الصيد لتشكيل الحكومة عوضًا من الطيب البكوش؛ الذي كان يفترض أن يقع تكليفه بالمهمة؛ بل إن مقرَّ حركة النهضة أصبح -قُبيل الإعلان عن التركيبة النهائية- مزارًا لعدد من وجوه حزب نداء تونس بهدف "رفع سوء التفاهم"، وإقناع زعيم الحركة برفع تحفظاته عليهم. ويتأكد من خلال تصريحات الحزبين الرئيسين أن التشكيلة الأولى كانت عملية سياسية هدف من خلالها للقضاء على الاعتراضات على دخول النهضة للحكومة؛ حيث لاقت تلك التشكيلة اعتراضات شديدة تزعَّمها بصفة خاصة حزب آفاق تونس؛ الذي أُقصي في آخر لحظة من تلك النسخة التجريبية بهدف دفعه لمعارضتها وعدم منحها ثقته، وبدا للجميع أن الحزب الأغلبي سيكون عاجزًا عن منح تلك النسخة ما تحتاجه من أصوات لنيل الثقة، ليتم الاتجاه مباشرة إلى النسخة الثانية؛ باعتبار أنه لا مناص من تشريك النهضة من أجل تشكيل الحكومة.

تبدو البلاد متجهة نحو مرحلة تفاهم متوسطة الأمد على الأقل بين الحزبين الأولين، على الرغم من حدَّة الحملات الدعائية التي وضعت أنصارهما في عداء طوال الفترة السابقة؛ خصوصًا أثناء الانتخابات الأخيرة، أمَّا حركة النهضة فقد نجحت في تسويق نفسها كحركة قادرة على تقديم كل التنازلات من أجل المصلحة الوطنية؛ بما في ذلك التخلي عن الحكم، وبدا حزب نداء تونس -وبالأخص زعيمه السيد قائد السبسي- وفيًّا لتعهداته، ومعترفًا بالجميل للشيخ راشد الغنوشي لإصراره على الحياد في معركة الرئاسيات الأخيرة على الرغم من اندفاع قواعد حركته في دعم المرشح المنصف المرزوقي، وشكَّل لقاء "البريستول" في باريس الذي نسقه رئيس حزب الاتحاد الوطني الحر نقطة فاصلة في مسار التفاهمات بين الحزبين؛ وهي تفاهمات ستتواصل في المدى المتوسط على الأقل.

وتقوم هذه التفاهمات على حاجة كلا الحزبين إليها، وعلى نوع من الرعاية التي تقوم بها سفارات بعض الدول الكبرى الحريصة على نجاح تجربة الشراكة بين الطرفين، وتُشير أخبار متواترة ومُؤَكَّدة إلى الدور النشيط الذي أدَّاه السفير الأميركي بتونس في تحقيق التفاهمات المذكورة، وهو دور جعله في صلب هندسة الحكومة الجديدة(2)، وقبل يومين من الاقتراع في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، وحين كانت قواعد حركة النهضة وكوادرها الوسطى مندفعة في دعم الدكتور المرزوقي، حدث لقاء بين السفير الأميركي وزعيمي النهضة ونداء تونس، أسفر عن تصريحات اعتُبرت في جانب كبير منها تخليًا من النهضة عن المنصف المرزوقي(3).

وقد تواصل دور السفير الأميركي في رعاية التفاهمات بين الحزبين من خلال الضغط على الحزب الفائز لتشريك النهضة في التركيبة الحكومية، وينطلق الدور الأميركي من قناعة بأن أي استقرار سياسي وأمني في البلاد يفرض التحالف بين الحزبين وإقصاء الأحزاب الرافضة لهذا التحالف من المشهد الرسمي، وبالنسبة إلى الأميركيين فإن حركة النهضة قد طوَّرت من أدائها السياسي بطريقة تجعلها شريكًا معتدلاً يمكن التعويل عليه عند الضرورة؛ أما مؤدَّى هذه التفاهمات؛ فهو تلافي أية توترات كبرى قد تُؤَدِّي إلى العنف؛ خاصة في ظل هشاشة الوضع الأمني العام، وتهديد الأحداث في ليبيا بالانتشار السريع في المنطقة.

يبدو أن تأمين الوضع التونسي حاجة إقليمية أكيدة تزعمت تحقيقها الولايات المتحدة في ظلِّ انكفاء واضح للدور الفرنسي التقليدي في تونس، وافترضت هذه التفاهمات تخلِّي الحزبين الرئيسين عن التحالفات السابقة مع أحزاب مصنفة متشددة وثورية أكثر من الحدِّ المسموح به في السياق الجديد، ويتعلق الأمر هنا بحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بالنسبة إلى حركة النهضة، وبالجبهة الشعبية بالنسبة إلى نداء تونس.

الاتجاهات الكبرى الممكنة بعد تشكيل الحكومة

رفض ثلاثون نائبًا فقط منح ثقتهم لحكومة الحبيب الصيد؛ وهي نسبة ضئيلة تدلُّ على الوعود الكبيرة التي منحها التقاء الحزبين الرئيسين للحكومة الجديدة؛ حيث تبدو البلاد متجهة نظريًّا إلى مشهد رسمي يسيطر فيه الائتلاف الحكومي الرباعي بشكل كبير، وبحضور معارضة ضعيفة ومشتتة يستحيل التقاؤها؛ ومن هذا المنطلق يبدو أن الضمانات النظرية لعمل سهل أمام الحكومة متوفرة؛ ولكن مراقبين كثيرين يعتقدون أن التحولات الأساسية ستحدث داخل الحزبين الكبيرين، وهي تحولات ستنعكس لاحقًا على كل المشهد السياسي، وتعيد تشكيل التوازنات وفق مقاييس أخرى؛ وينبغي فهم الضرورات التي دفعت بالحزبين إلى التحالف بغض النظر عن الرعاية الدولية حتى يمكن فهم ما سيحصل.

وبالنسبة إلى حركة النهضة، فإن قبول المشاركة بحجم لا يعكس قوتها في مجلس نواب الشعب وراءه أجندة لم يعد بالإمكان إخفاؤها. وتقوم نظرية المشاركة الضعيفة على مبدأين بالنسبة إلى قيادة حركة النهضة، التواجد الضروري داخل الحكومة؛ بما يعطيها مراقبة لأدائها وعدم الدخول في مسار الإقصاء الذاتي من المشهد الرسمي؛ الذي يمكن أن يتطور -تحت تأثير عوامل طارئة مستقبلية- إلى سياسة استئصال منهجية ضد الحركة. أما المبدأ الثاني فهو إطلاق مسار سياسي هادف إلى فصل الجناح اليساري عن الجناح المعتدل داخل حزب نداء تونس عن طريق اقتراح تحالف إسلامي-ندائي أصلب وأوسع أفقًا؛ لذلك فإن ما تطرحه حركة النهضة على النداء يتجاوز موضوع المساهمة في التركيبة الحكومية إلى مساندتها في المجلس، واتباع سلوك متزن في الميدان يسمح بتمرير السياسات، وعدم نشوء توترات كبيرة على الأرض في فترة يبدو أنها ستتسم باتباع الحكومة سياسات غير شعبية.

يمكن القول: إن مسار الفصل بين نداء تونس وحلفائه السابقين في الجبهة الشعبية يسير في الطريق الصحيح؛ حيث بدأت العلاقات بين الحليفين السابقين -اللذين قاوما الترويكا دون هوادة طوال السنوات الثلاث السابقة- تدخل فترة من التوتر والعداء المعلن؛ تجسَّد في دعوة الجبهة الشعبية لعدم التصويت لحكومة الحبيب الصيد، وإعلان معارضتها لها، وستتصيد الجبهة الشعبية لاحقًا المناسبات الممكنة لإبراز الشعبية السياسات المتبعة، بما في ذلك استعمال الشارع للاحتجاج، أما داخل نداء تونس، فإن التململ الذي أحدثه التحالف بين النهضة والنداء يبقى مرشحًا للتطور؛ حيث لم يكن ممكنًا إخفاء حالة الحرج التي وجدت فيها قيادات النداء نفسها، خاصة من المحسوبين على الشق اليساري، تجاه الناخبين الذين صوتوا لهم في التشريعيات من أجل إزاحة الإسلاميين تمامًا من المشهد. وأحيى ذلك الانقسام الأولي الذي ميَّز نداء تونس منذ نشأته باعتباره التقاء بين وجوه من اليسار غير المهيكل، وبين وجوه من النظام القديم.

وبالنسبة إلى قيادة حركة النهضة فإن مستقبل مشاركة الإسلاميين في المشهد السياسي هو رهين النتيجة التي سيسفر عنها الصراع بين شقي حزب نداء تونس. على هذا المستوى -أيضًا- فإن الطريق الذي تسير فيه الأمور تبدو واعدة، حيث تدعم هذا الانشقاق، وأصبحت قيادات نداء تونس من الشقين تتبادل الاتهامات في وسائل الإعلام وبأقل قدر ممكن من التحفُّظ، ولم تنجح تدخلات مؤسس نداء تونس لحدِّ الآن في لجم اندفاع الزعامات اليسارية إلاَّ قليلاً.

ومن المتوقع أن تزداد حدة التنافر بين الشقين إلى حدود الصيف القادم، حيث يفترض أن يعقد نداء تونس مؤتمره الأول؛ بانتقال السيد الباجي قائد السبسي إلى سدة الرئاسة، وتركه رئاسة حزبه بمقتضى الدستور، ويدرك يساريو النداء أن المجال أصبح مفتوحًا أمامهم من أجل السيطرة على قيادة الحزب الأغلبي، وهو ما يقنعهم بالصبر والتماسك داخل الحزب إلى حدود المؤتمر الموعود على الأقل. وذلك ما سيمنع الشق اليساري من مغادرة النداء إلى حد الآن، وإلى اتباع اتزان معقول في التصريحات ضد الحكومة الجديدة بعد أيام من الهجمات المركزة عليها؛ لكن بيد الشق المقابل ضمانات كثيرة ستمنع اليساريين من الاستئثار بالحزب، وهو تركيز الباجي قائد السبسي عناصر موالية له مباشرة في المواقع الحساسة داخل الحزب.

بالمقابل تعيش حركة النهضة أزمة داخلية كبيرة هي أيضًا؛ حيث يعتبر الكثير من كوادرها أن التوجه للتحالف مع نداء تونس هو ترسيخ للتطبيع مع المنظومة القديمة، ووأد نهائي لقيم الثورة وأهدافها، وقد عبر عن ذلك استقالة مسؤول الهياكل في الحركة؛ عبد الحميد الجلاصي؛ حيث اتهم قيادة النهضة بعدم الجدية في الإصلاح(4)، من جهة أخرى فإن تململاً واسعًا قد ساد قواعد الحركة الإسلامية بسبب المشاركة في الائتلاف الحكومي، ثم بسبب ضعف هذه المشاركة لاحقًا، وأدَّى ذلك إلى انطلاق قيادات الحركة في تنظيم اجتماعات بالقواعد في كل جهات البلاد من أجل تفسير موقف القيادة والإقناع بالضغوط التي أدَّت إلى اتباعها، وهو ما خفف من التوترات إلى حد كبير؛ لكن قيادة حركة النهضة ستكون مجبرة أخيرًا على تحديد موعد لعقد مؤتمرها الذي نجحت في تأجيله لحد الآن، وهو ما سيشكل مرحلة صعبة بالتأكيد؛ حيث ستستغل الكوادر الوسطى المناسبة لفتح سجلات المحاسبة للقيادات.

ومن منطلق موضوعي، فإن الهزات التي يُقدم عليها نداء تونس أكبر جدَّا من تلك المتوقع حدوثها في صفوف الحركة الإسلامية؛ حيث ستساعد الهيكلة التنظيمية المحكمة للنهضة وطابعها العقائدي إلى تجاوز صعوبات كثيرة لن يكون بمقدور النداء تجاوزها. ونظريًّا؛ ولكن بضمانات واقعية جدًّا، فإن التناقضات داخل الحزبين ستنعكس على المشهد العام في الأشهر القادمة، وهو ما يشكِّل تهديدًا للانسجام داخل التحالف الحكومي الناشئ. وسيدخل كل حزب في معاركه الداخلية انطلاقًا من أدائه الحكومي، فالوجوه اليسارية الندائية داخل الحكومة ستحافظ على نبرة مرتفعة تجاه التحالف مع النهضة، وهو ما ترجمته تصريحات وزير الخارجية الجديد الطيب البكوش، الذي قال: إنه سيواصل معارضة التحالف من داخل الحكومة ومن خارجها. من جهة أخرى، فإن أحداث العنف الذي اندلعت يوم الأحد 8 من فبراير/شباط بمنطقة ذهيبة الحدودية مع ليبيا؛ التي أسفر تدخُّل الأمن فيها عن سقوط قتلى وجرحى كان فرصة لبعض قيادات حركة النهضة للتحفظ على أداء السلطات، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين علن إطلاق النار على المحتجين؛ حيث سيكون المشهد إزاء حكومة غير متآزرة، مما يعد بإشكاليات في التعامل ستعوض من ضعف المعارضة.

وفي غضون ذلك يستعد الرئيس السابق المرزوقي لإطلاق مشروع "حراك شعب المواطنين"، وهو مشروع ائتلاف حزبي مدني قد يكون له دور بارز في الأشهر القادمة. ويعرف الناشطون والمتابعون للوضع حدة الانقسام الذي أسفرت عنه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو انقسام لم تنجح التفاهمات المنجزة بين الحزبين الرئيسين في تجاوزه، وأغلب الظن أنها ستعجز عن تجاوزه باعتباره انقسامًا اجتماعيًّا ومناطقيًّا وثقافيًّا، كما أن أحداث ذهيبة ليوم الأحد 8 من فبراير/شباط وأحداث أخرى سوف تؤدي إليها بعض السياسيات غير الشعبية المنتظرة ليس من شأنها التطبيع مع تفاهمات النهضة والنداء، بما يعطي لحراك المرزوقي أفقَ عمل واسعًا.

فيما عدا ذلك، فإن المعارضة ستكون مشتتة وغير قادرة على الالتقاء حتى حول الحد الأدنى، بالإضافة إلى ضعفها في البرلمان، ويضعنا ذلك في مواجهة واقع يجد فيه الذين صوَّتوا للمرزوقي في الدور الثاني من الرئاسيات أنفسهم دون تمثيل في المؤسسات المنتخبة، وإن كان عدد مهمٌّ من هؤلاء هم من أنصار حركة النهضة؛ وذلك ما يفسِّر توجس الحركة الإسلامية من مشروع الحراك، واعتباره تهديدًا لتحكمها في قواعدها؛ مثلما صرح بذلك عدد من قياداتها(5). أما الجبهة الشعبية التي تضم عددًا من الأحزاب اليسارية المتشدِّدة، فقد دخلت في مسار من الصراع الداخلي خاصة بين شق حزب العمال وشق الوطنيين الديمقراطيين، حيث تنافرت المواقف وساد الاعتقاد بأن نداء تونس قد تخلى عن حلفائه السابقين بعد أن ساعدوه على الإطاحة بالترويكا والفوز بالرئاسة، بل قام بتحميله المسؤولية السياسية عن تحالف الندائيين مع الإسلاميين بمواقفه الرافضة للمشاركة في أي تشكيلة حكومية.

لا يُنتظر من الجبهة الشعبية أن تنجح في أية تحركات احتجاجية كبرى مهما كانت شعبية سياسات الحكومة الجديدة؛ ذلك أنها فقدت أخلاقيًّا القدرة على تزعم المعارضة باصطفافها القوي والمعلن إلى جانب النداء في معركة الرئاسيات؛ كما أن النقابات التي كانت تمنح الجبهة الشعبية جزءًا كبيرًا من قوتها أصبحت من أقوى الأطراف المساندة للحكومة، بالإضافة إلى أطراف الرباعي الراعي للحوار الوطني الأخرى؛ مثل اتحاد الأعراف، وهي مساندة لعب السفير الأميركي دورًا كبيرًا في تحصيلها.

خاتمة

على العكس تمامًا من الهدف الذي من أجله نشأ تحالف الأحزاب المشكلة للحكومة وبخاصة النهضة والنداء، وهو الاستقرار، فإن المنطق الذي أُسِّس عليه التحالف الجديد لا يلغي أية إمكانيات لتطور الأمور في اتجاهات أخرى تحت تأثير عوامل خاصة بالحياة الداخلية للحزبين الرئيسين. وينظر بعض المراقبين إلى أن الحكومة الحالية تبقى هشة على الرغم من الأغلبية المريحة جدًّا التي نالتها في جلسة منح الثقة؛ ذلك أنها قامت على تحالف بين حزبين مقبلين على تحولات داخلية كبيرة. من هنا فإن اعتبار أن هذه الحكومة لن تعيش إلى أبعد من الانتخابات البلدية القادمة المزمع تنظيمها في بداية الربيع القادم على أقصى تقدير، هو اعتبار واقعي جدًّا. وموازاة لذلك، فإن الحكومة الجديدة بدأت في مواجهة المشاكل العويصة التقليدية، وخاصة مشكل التنمية الذي انفجر في منطقة ذهيبة خلال يومين فقط بعد تنصيب الحكومة الجديدة.

وبالإضافة إلى الإرهاب الذي يبقى تهديدًا كبيرًا للاستقرار، وقرب الساحة الليبية المتوترة من الحدود التونسية وبداية ملامح حرب دولية ضد داعش في ليبيا، فإن أكبر مشاكل الحكومة تبقى بلا شك قضية الاقتصاد؛ حيث تواجه تونس مشكلاً نقديًّا كبيرًا جَسَّمه انهيار الدينار بصفة غير مسبوقة، وسيتوجب على الحكومة الإيفاء بالتزاماتها الدولية؛ التي تعني تسديد أصل الديون التي تحصلت عليها تونس طوال السنوات القليلة الماضية؛ وهي التزامات ستواجهها -فيما يبدو- بمفردها، وتُلقي الأزمة الاقتصادية بظلالها على أوروبا، وهو ما تجسم في انكماش الاستثمار الأوروبي في تونس إلى حدٍّ غير مسبوق، كما أن انهيار أسعار النفط يعني من ضمن ما يعنيه أن كثيرًا من الوعود الخليجية بمساعدة تونس بعد الانتخابات ستذهب أدراج الرياح، في غضون ذلك فإن التحولات التي بدأت السلطات الجديدة في المملكة العربية السعودية في انتهاجها يضعف من موقف الحزب الأغلبي نداء تونس، وينضاف إلى ذلك النتائج الضعيفة التي أسفرت عنها الزيارة الأخيرة للرئيس قايد السبسي للجزائر بحسب عدد من المراقبين؛ يعني ذلك ضمن ما يعنيه تناقصًا في حجم السيولة المتاحة للحكومة في مواجهة التحديات التنموية الكبيرة، وهذا ما يدركه الحزب الأغلبي جيدًا، وهو قد حسم أمره في اتباع منطق ائتلافي في التشكيلة الحكومية يتيح الاختباء أمام الصعوبات وتوزيع المسؤوليات على أكبر قدر ممكن من الشركاء؛ اتقاء لتصويت عقابي قاسٍ في الانتخابات البلدية المنتظرة.
________________________________
عدنان منصر: أكاديمي ومحلل سياسي تونسي.

المصادر
1- انظر تصريحات رئيس الحكومة المكلف قبيل إعلان التشكيلة الأولى في الصحافة التونسية؛ خاصة غداة فشل المفاوضات مع الجبهة الشعبية وانسحاب حركة آفاق تونس.
2- معلومات خاصة.
3- حوار راشد الغنوشي على قناة نسمة بتاريخ السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول، وهو حوار عمل فيه على تحطيم الأسس التي قامت عليها حملة المنصف المرزوقي.
4- خطاب استقالة مسؤول الهياكل في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي بتاريخ الثامن والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني.
http://www.atouf.net/?p=6642.
5- تصريحات القيادي لطفي زيتون بين دورتي الانتخابات الرئاسية ردًّا على دعوة الدكتور المرزوقي "شعب النهضة" للتصويت إليه، ثم بعد الدور الثاني تصريحات القيادي عبد الفتاح مورو لإذاعة جوهرة بتاريخ الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، وتصريحات القيادي عبد الكريم الهاروني، ثم مقال الفيلسوف (أبو يعرب المرزوقي) "حتى لا يكون الإسلامي تياسا".
https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com/category/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA/ 

نبذة عن الكاتب