الانتخابات الرئاسية السودانية: المتغيرات والتداعيات

تنعقد في السودان منتصف الشهر الجاري انتخابات رئاسية، سيربحها بلا شك الرئيس عمر البشير، وسط عزلة داخلية متزايدة للنظام الحاكم، وتراجع في قدرته على تحمل الأعباء الاقتصادية والاجتماعية.
201549115450620734_20.jpg
رئاسيات بلا رهان (رويترز-أرشيف)

ملخص
تجري الانتخابات العامة في السودان منتصف إبريل/نيسان 2015 على المستوى الرئاسي والتشريعي القومي والولائي وسط جدل واسع بين القوى الفاعلة حول السياق الذي تجري فيه، وجدواها السياسية على مستقبل الأوضاع في البلاد.

تستند حُجَّة الرئيس السوداني عمر البشير، في إصراره على إجراء الانتخابات، على اعتبارها استحقاقًا دستوريًّ مجدولًا لا مناص منه، وأن عدم إجرائها في موعدها بحلول إبريل/ نيسان 2015 سيخلِّف فراغًا دستوريًّا يُفقد مؤسسات الحكم الحالية شرعيتها.

تقوم حُجَّة قوى المعارضة الرئيسة في دعوتها لتأجيل الانتخابات لما بعد لحوار الوطني، على أن الانتخابات ليست غاية في حدِّ ذاتها، وأنها يجب أن تكون آلية من آليات تحقيق الشرعية المفضية إلى استدامة السلام والاستقرار.

أضحى قيام الانتخابات وفق المعطيات الراهنة عملية أحادية خاصة بالحزب الحاكم، تمضي كما هو مخطط لها لتحقيق هدف البشير في تمديد شرعية سلطته بغضِّ النظر عن مدى نزاهتها والشكوك المثار حولها، وعن جدواها السياسية.

المقدمة

تجري الانتخابات العامة في السودان منتصف إبريل/نيسان 2015 على المستوى الرئاسي والتشريعي القومي والولائي وسط جدل واسع بين القوى الفاعلة حول السياق الذي تجري فيه، وجدواها السياسية على مستقبل الأوضاع في البلاد التي تعاني من مخاطر جمَّة وسط استمرار نزيف نزاعات المسلَّحة واضطراب سياسي، ومصاعب اقتصادية، واحتقان اجتماعي، في ظل تراجع احتمال حدوث تسوية شاملة وشيكة للأزمة الوطنية.

بروز عامل الانتخابات العامة كمتغير حاسم في المعادلة السياسية أفرز تأثيرًا سالبًا على مسار مبادرة "الحوار الوطني"(1) التي أطلقها الرئيس عمر البشير في مطلع العام 2014، وأصبحت محور الحراك السياسي، والتي طرح فيها إطارًا لحوار وطني، تضمن جدول أعمال يخاطب جذور الأزمة السودانية في قضايا السلام والوحدة الوطنية، والاقتصاد، والحقوق، والحريات الأساسية، والهوية الوطنية، بغرض تأسيس تعاقد اجتماعي جديد للدولة السودانية المتبقية بعد انفصال جنوب السودان يضع حدًّا للنزاعات والصراع على السلطة والثروة والهوية التي أدت إلى تقسيم البلاد.

أصبح مستقبل الاستقرار في السودان عالقًا بين إصرار الرئيس عمر البشير على إجراء الانتخابات المجدولة حسب الدستور، دون اعتبار للكُلفة السياسية المترتبة على إهدار فرصة الحوار الوطني، وبين مطالبة قوى المعارضة الرئيسة بفصائلها المختلفة المدنية والمسلحة بتأجيلها لحين التوصل إلى اتفاق سياسي بين الفرقاء على مستقبل الحكم في البلاد عبر حوار قومي يفضي إلى فترة انتقالية تقودها حكومة يتراضي عليها الأطراف "تهيئ المناخ القانوني والسياسي لانتخابات تتوفر لها شروط الحرية والنزاهة"، وأسهم تشدد المعارضة في اشتراطاتها أيضًا في عرقلة مسار الحوار.

ويزيد من تعقيد الحالة السودانية المتغير المتعلق بضعف الدور الإقليمي والدولي وعدم فاعليته من خلال تواضع مردود وساطة الاتحاد الإفريقي التي تقودها الآلية رفيعة المستوى برئاسة ثابو مبيكي، المدعومة من قبل مجلس الأمن الدولي ومجموعة الترويكا التي تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج؛ ذلك أنها لم تُثبت بعد جهود دامت قرابة السنوات العشر، قدرتها على تحقيق تقدم ذي قيمة يضع حدًّا للصراع السوداني، حتى بدا أن جهود التسوية التي تقودها عملية لا نهاية لها غير استدامة نفسها.

ويأتي ضمن المتغيرات المؤثرة في المعادلة السودانية التطورات التي شهدتها أخيرًا خطوة المحكمة الجنائية الدولية بتخليها عن ملف انتهاكات دارفور المحال إليها من مجلس الأمن الدولي، منتقدة عجزه خلال عشر سنوات من تمكينها من تنفيذ أوامر التوقيف التي أصدرتها بحق الرئيس البشير وعدد من المسؤولين. وهو تطور مهم حيث ظل ملف "الجنائية الدولية" يشكِّل عاملًا مهمًّا في حسابات البشير منذ صدور قرار توقيفه في العام 2009.  

الانتخابات: جدل الدستور والسياسة

تستند حُجَّة الرئيس السوداني عمر البشير، في إصراره على إجراء الانتخابات، على اعتبارها استحقاقًا دستوريًّ مجدولًا لا مناص منه(2)، وأن عدم إجرائها في موعدها بحلول إبريل/ نيسان 2015 سيخلِّف فراغًا دستوريًّا يُفقد مؤسسات الحكم الحالية شرعيتها، فحسب دستور السودان الانتقالي لعام 2005 "يكون أجل ولاية رئيس الجمهورية خمس سنوات تبدأ من يوم توليه لمنصبه"(3)، وأنه لا يمكن تأجيل الانتخابات إلا لأجل محدود عند تعذر انتخاب رئيس الجمهورية لأي سبب "شريطة ألا يتجاوز ستين يومًا من اليوم الذي كان مقررًا فيه إجراء الانتخابات"(4)، وتنطبق الآجال نفسها على البرلمان بغرفتيه، المجلس الوطني ومجلس الولايات، وعلى المجالس التشريعية للولايات.

تقوم حُجَّة قوى المعارضة الرئيسة في دعوتها لتأجيل الانتخابات لما بعد لحوار الوطني، على أن الانتخابات ليست غاية في حدِّ ذاتها، وأنها ليست مجرد عملية فنية تفرضها نصوص قانونية تجري تلقائيًّا خارج سياق تحديات الوضع السياسي، وأنها يجب أن تكون آلية من آليات تحقيق الشرعية المفضية إلى استدامة السلام والاستقرار.

نصوص دستور السودان الانتقالي للعام 2005 التي يؤسس عليها الحزب الحاكم موقفه هي في الواقع تقنين لاتفاقية السلام الشامل(5) الموقَّعة في العام نفسه بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان؛ حيث جرى تبني نصوصها كاملة في الدستور الذي نصَّ صراحة على اقتسام السلطة بين الحزبين بحكم أنهما طرفا الاتفاقية، وبالتالي فإن ذلك الدستور أسس لوضع انتقالي محدد وفق معطيات معيَّنة وضعت وحدة البلاد نفسها على المحك.

أفضت الاتفاقية إلى تقسيم البلاد عبر الاستفتاء الذي أُجري في العام 2011، وأدى إلى ميلاد دولتين محل السودان الموحد، وأصبحت هناك حاجة موضوعية لإعادة تأسيس الدولة السودانية وفق عقد اجتماعي وسياسي جديد، خاصة أن التقسيم وانفصال جنوب السودان لم يكن ثمنًا كافيًا، على الرغم من كلفته الباهظة، ليحقق استدامة الأمن والسلام والاستقرار فيما تبقى من السودان.

فقد جرى إعادة إنتاج الصراع باندلاع حرب جديدة في الجنوب الجديد للسودان، في منطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق في العام نفسه الذي جرى فيه تقسيم البلاد، كما أن الحرب في دارفور لا تزال مستمرة مع كل جهود التسوية السلمية التي بُذلت. فضلًا عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية جرَّاء تبعات التقسيم بعدما فقدت البلاد ربع مساحتها ونحو ذلك من سكانها وأكثر من ثلثي مواردها النفطية ونسبة مقدرة من مواردها الطبيعية، وقد أدت الصدمة الاقتصادية للتقسيم إلى اندلاع اضطرابات شعبية في عامي 2012، و2013.

وقد تأسست الشرعية القانونية لمؤسسات الحكم الحالية وفق الانتخابات العامة السابقة التي جرت في إبريل/نيسان 2010(6)، والتي فاز فيها البشير بالرئاسة وسيطر بموجبها المؤتمر الوطني على أكثر من 90% من مقاعد البرلمان، في ظل مقاطعة القوى المعارضة لها قبيل مرحلة الاقتراع، وقد حصلت على قبول المجتمع الدولي بنتائجها رغم التجاوزات التي شهدتها لضمان تنظيم الاستفتاء على تقرير المصير لجنوب السودان بدون عراقيل.

واصل الحزب الحاكم تمتعه بتلك الشرعية القانونية بفضل تسوية "نيفاشا" حتى بعد أن انتهى الإطار السياسي المؤسِّس لها باستيفاء اتفاقية السلام الشامل لآخر استحقاقاتها، وزاد عليها بسعيه لتجديد شرعيته عبر انتخابات 2015 خارج سياق هذه التطورات التي أحدثت تغييرات عميقة في بنية وتركيبة الدولة السودانية، وعبر التشريعات والآليات نفسها التي كانت تعبِّر عن أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة كليًّا.

كما أن حُجَّة القيود الزمنية للانتخابات، ثبت من قبل إمكانية خضوعها للتفاهمات السياسية؛ حيث قادت مساومات بين شريكي اتفاقية السلام إلى تأجيل الانتخابات من موعدها المنصوص عليه في الدستور في نهاية السنة الرابعة للفترة الانتقالية(7)، لتجري نهاية السنة الخامسة في إبريل/نيسان 2010، قبل بضعة أشهر من إجراء الاستفتاء على تقرير المصير، أي قبل عام واحد من نهاية الفترة الانتقالية. مع العلم بأن إجراء انتخابات عامة عند منتصف الفترة الانتقالية(8) وفق الاتفاقية يهدف إلى معالجة الصيغة الثنائية المحتكِرة لعملية السلام وتعزيز التحول الديمقراطي باعتباره أحد أهم مخرجات التسوية السلمية.

 الحوار الوطني: مسار متعثر

طرح الرئيس البشير، قبل عام ونَيف على موعد الانتخابات، مبادرة دعا فيه كل القوى السياسية والمجتمعية، بما في ذلك المعارضة المدنية والمسلحة، للمشاركة في "حوار وطني" يستشرف مرحلة جديدة في تاريخ السودان، وأقرَّ البشير بأن مبادرته تأخرت لأن سنوات الفترة الانتقالية الست "كانت فترة تمهُّل في الوثوب إلى المرحلة الجديدة، ريثما يقرر الجنوبيون مصيرهم، ولذلك لم يكن ممكنًا الإقبال على وثبة سودانية كاملة تشمل الجنوب". وقال البشير: إن اختيار الجنوب للانفصال أدى إلى امتداد التمهُّل ثلاثة أعوام أخرى، وعزا ذلك إلى "عدم انخراط مفاوضي الجنوب في محادثات منتجة بعد الانفصال، وكان لابد من التأني، حتى لا تضع صعوبة هذه المحادثات، الدولتين على بداية مسار مغاير لا يتوافق مع غايات السلام والاستقرار اللازمين للدخول في تحدي النقلة النوعية"(9).

أثار إطلاق الرئيس البشير لتلك المبادرة جدلًا كثيفًا في الساحة السياسية، وسط شكوك حول جديتها أو أنها مجرد مناورة من الحزب الحاكم لشراء الوقت بما يمكِّنه من تمرير أجندته للاحتفاظ بالسلطة عبر بوابة الانتخابات. وتباينت ردود الفعل على المبادرة بين تيارين وسط المعارضة؛ حيث تجاوب معها بادئ الأمر حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، وتيارات الحركة الإسلامية المنشقة عن الحزب الحاكم وفي مقدمتها المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي، إضافة إلى بعض فصائل التيارات العروبية واليسارية.

وتحفظت على المبادرة الجبهة الثورية السودانية التي تضم حركات التمرد المسلحة في دارفور، والحركة الشعبية/شمال، وتحالف قوى الإجماع الوطني المعارض، وفي مقدمته: الحزب الشيوعي وتيارات من الناصريين والبعثيين، ورفعت هذه القوى مطالب وشروطًا لتهيئة المناخ للدخول في الحوار، من بينها: إطلاق حرية العمل السياسي الحزبي، وحرية التعبير، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وهي مطالب دعت لها أيضًا القوى التي تجاوبت مع المبادرة إلا أنها لم تجعلها شروطًا لازمة للانخراط في الحوار.

أثبتت مجريات الأمور بعد ذلك على مدار العام الذي انصرم منذ أن أطلق البشير مبادرته أنها لم تتوفر على خطوات عملية تقود إلى تحقيق ما دعا إليه؛ فعلى الرغم من إلحاح عنصر الزمن، فإن أول اجتماع (10) بين القوى التي قررت المشاركة في الحوار للاتفاق على آلياته لم تنعقد إلا بعد مرور أكثر من شهرين على خطابه لتختار لجنة لإدارة الحوار عهدت إلى البشير برئاستها، وضمت سبعة ممثلين لحلفاء الحكومة، وسبعة ممثلين لأحزاب المعارضة فيما بات يُعرف بلجنة (7+7).

وفي محاولة للاستجابة لمطالب القوى المقاطعة للحوار ولحثها على المشاركة، أصدر البشير مرسومًا رئاسيًّا(11) يرفع القيود عن النشاط السياسي وحرية التعبير، ولكن عادت السلطات بعد أسابيع معدودة لتُشدِّد قبضتها تحت مبرر التوازن بين الحرية والمسؤولية، في حين أن الدستور يفرض على الحكومة في "وثيقة الحقوق" الالتزام بحماية الحريات وتعزيزها وتنفيذها، وأنه لا يجوز لها أن تصادر القوانين الحقوق والحريات المكفولة في الدستور أو تنتقص منها(12).

غير أن الخطوة التي كانت أكثر تأكيدًا للشكوك في جدية دعوة الحوار جاءت عندما اعتقلت السلطات زعيم حزب الأمة القومي، الصادق المهدي، في منتصف مايو/أيار 2014 على خلفية انتقاده لما يُعرف بـ"قوات الدعم السريع" بحسبانها ميليشيا مسلحة غير نظامية، وظَّفتها الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة. انتقاد المهدي لعدم دستورية وضع هذه القوات خارج إطار المؤسسات النظامية قاده للمعتقل، لأول مرة، في الخمسة عشر عامًا الماضية.

شكَّل اعتقال المهدي صدمة كبيرة لعملية الحوار، خاصة أن مشاركته أعطت وزنًا نوعيًّا للحوار في ظل أن أغلب المشاركين هم من تيارات الإسلاميين الخارجين من عباءة الحزب الحاكم، فاعتقاله تم بتبرير لم يكن مقنعًا للكثيرين، خاصة أن انتقادات مسلك هذه الميليشيا لم يقتصر عليه، وأثار تساؤلات إن كان أمرًا مقصودًا من السلطات لعرقلة مسار الحوار خشية أن يُفضي إلى استحقاقات لا يبدو أن الرئيس البشير كان مستعدًا لدفعها أو تعرقل أولوية مسار الانتخابات.

لم يخرج المهدي بعد شهر من الاعتقال من عملية الحوار فحسب، وكان حزبه أحد أعضاء مجموعة السبعة الممثلة للمعارضة، بل غادر البلاد ليقيم في منفى اختياري بالقاهرة، ثم يمَّم شطر فرنسا ليوقِّع مع الجبهة الثورية في 8 أغسطس/آب "نداء باريس"(13) في خطوة مفاجئة على خلفية التباين في المواقف بين المهدي المعارض للحلول العسكرية والجبهة الثورية التي تتبنى تغيير النظام بالقوة، وانتقدت الحكومة الخطوة بشدة، غير أن بعض القوى المشاركة في الحوار ثمَّنت خطوة المهدي واعتبرها تصب في دعم الحلول السلمية بتخفيف اللهجة المتشددة التي كانت تتبناها الجبهة الثورية في "إعلان كمبالا"(14) الداعي لإسقاط النظام بالقوة وتفكيك مؤسسات الحكم الحالية بما فيها القوات المسلحة.

خريطة الطريق: تعهُّدات بلا تنفيذ

مرَّت سبعة أشهر على إطلاق المبادرة، وأربعة أشهر على اجتماع المائدة المستديرة، قبل أن تتمكن لجنة (7+7) من الاتفاق على خريطة طريق لـ"الحوار الوطني"(15) تضمنت تحديد مبادئه وغاياته وأهدافه، ومطلوبات تهيئة المناخ، وإجراءات بناء الثقة، وأجندة وهياكل وآليات المؤتمر؛ ومن بين أهم القضايا التي خاطبتها خريطة الطريق الجدل المحتدم حول موضوع الانتخابات، قيامها في موعدها كما يصرُّ الحزب الحاكم، أو أن تعقب الحوار الوطني وتكون نتيجة له حسب رؤية المعارضة، لتنصَّ على "التوافق على التشريعات والإجراءات الضرورية لقيام انتخابات عادلة ونزيهة تحت إشراف مفوضية مستقلة سياسيًّا وماليًّا وإداريًّا" دون أن تجيب مباشرة على الخلاف المثار، واحتفظ كل طرف بتفسير النص حسب فهمه وأجندته.

الوساطة الإفريقية تتبنى مسار الحوار

نجح الوسيط ثامبو مبيكي، في جمع ممثلين عن لجنة (7+7) وممثلين عن اتفاق "نداء باريس" في العاصمة الإثيوبية ليتم التوقيع على وثيقتين منفصلتين مع حزب الأمة القومي والجبهة الثورية (16). تكمن أهمية تفاهمات أديس أبابا تلك في أنها مهَّدت لإعادة المهدي إلى الحوار، وللحركات المسلحة التي التزمت، حسب مبيكي، بقضيتين أساسيتين، هما: التوصل لاتفاق لوقف الأعمال العدائية، والمشاركة في الحوار الوطني المطروح، وذلك عبر إجراء محادثات تمهيدية تهيئ الأجواء لمشاركة الجميع في الحوار الوطني بالداخل.

حصل مبيكي على رد فعل من الرئيس البشير بشأن تفاهمات أديس أبابا، اعتبره كافيًا ليتبنى مجلس السلم والأمن الإفريقي خريطة طريق للحوار الوطني (17)، تضمنت تحفيزًا للحكومة السودانية بدعوة المجتمع الدولي للعمل على الإعفاء من تسديد الديون، وضرورة تخفيف العقوبات الأميركية على الخرطوم. ودعا مبيكي لمحادثات في مسارين منفصلين مع الحركة الشعبية/شمال حول المنطقتين، وحركات دارفور المسلحة بغرض ترتيبات وقف الأعمال العدائية وتوفير ضمانات مشاركة الحركات في الحوار الوطني بالخرطوم، غير أن تصريحات للبشير(18) قبل أيام من انطلاقها أعادت خلط الأوراق حين طالب المهدي بالتبرؤ من "إعلان باريس"، وحدَّد سقف الحوار المطروح لحركات دارفور بالانضمام لاتفاقية الدوحة لسلام دارفور، وللحركة الشعبية بتنفيذ الترتيبات الأمنية حسب اتفاقية نيفاشا. وبعد جولتي تفاوض وصلت جهود عقد الملتقى التحضيري إلى طريق مسدود.

الدور الدولي: ترحيب وتشجيع حذر

على الرغم من تردي علاقات السودان مع العواصم الغربية وتجنُّبها التعامل مع الرئيس البشير منذ إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة التوقيف بحقه في مارس/آذار 2009، إلا أن إعلانه مبادرة الحوار وجد ارتياحًا في الأوساط الدبلوماسية الغربية التي رأت فيها فرصة للخروج من مأزق الاضطراب السياسي الذي يعانيه السودان، خاصة في ظل تعقيدات النزاع في جنوب السودان، وبات تماسك السودان نفسه مطلبًا ملحًّا في إطار جهود إعادة الاستقرار للجنوب.

رحَّبت واشنطن بمبادرة البشير، وقال المبعوث الأميركي دونالد بوث (19): "بصرف النظر عن اعتبار البعض أن الخطاب بلاغي أجوف، فإن الالتزام بإجراء الحوار الوطني وتحديد التحديات الجوهرية التي ستتم معالجتها بذلك الحوار مرحب بها وجديرة بالاهتمام". معوِّلًا على أن الحالة الاقتصادية، وتكلفة الحروب المستمرة، وديناميات حزب المؤتمر الوطني، والانتخابات المجدولة قد توفر بعض الفرص لحوار ذي مغزى "إن لم يكن الغرض الوصول إلى انتخابات غير عادلة يمدد بها شرعيته".

ومضى خطوة أبعد حين أكد على "مسؤولية المؤتمر الوطني بشكل رئيس عن ابتدار حوار تتوفر له المصداقية"، ولكنه طالب المعارضة المسلحة بـ"أن تنخرط بشكل بنَّاء في عملية تستهدف الحلول السياسية وليس العسكرية"، وقال بوث: "لقد شجَّعنا المعارضة المسلحة وغير المسلحة على مناصرة الحوار بنفسها بدلًا من انتظار الحكومة أو انتقادها على عدم حراكها، إذ يتوجب على المعارضة أن تنتهز هذه الفرصة الثمينة للتعبير عن الأجندة المشتركة وبناء الإجماع الوطني حول الحلول الشاملة".

كما أعلنت الترويكا (20) رؤيتها حول مباديء حول السلام والحكم الديمقراطي بالسودان، أكدت فيها أنه ليس هناك حلٌّ عسكري لنزاعات السودان، وأنه يتوجب على الحوار أن يعالج القضايا الجوهرية الخاصة بالحكم، وتقاسم الموارد، والهوية، والمساواة الاجتماعية على المستوى القومي، وأن تتوفر البيئة المشجعة لنجاح أي حوار، وأن تقود مخرجات الحوار لترتيب يتيح المشاركة بالمؤسسات الديمقراطية، والاتفاق "على برنامج زمني ومؤشرات خاصة بإجراء انتخابات قومية شرعية".

ثم جاءت المبادرة الألمانية لإعادة الحياة لفكرة الملتقى التحضيري التي تعثرت بانهيار المحادثات بين الحكومة والجماعات المسلحة أواخر العام المنصرم، ونجح لقاء برلين(21) أواخر فبراير/شباط في إقناع المعارضة بالعودة لمسار الحوار، غير أن الرئيس البشير اعتبر، في موقف مفاجئ، لقاء برلين "فاشلًا وكأن لم يكن"(22) بعد أيام قليلة من إعلان المكتب السياسي لحزبه الحاكم ترحيبه بالجهود الألمانية وقبوله بنتائجها(23). فيما يبذل الوسطاء محاولة لعقد اللقاء التحضيري بأديس أبابا ليستبق الانتخابات غير أنه لم ينجح في تأجيلها كما تطالب المعارضة.

مسار الانتخابات أولًا

على الرغم من الحراك الداخلي والخارجي الذي أحدثته مبادرة الحوار والتعويل عليها من الأطراف كافة، فقد آثر الرئيس البشير أن يمضي في اتجاه آخر، معطيًا الأولوية في أجندته لمسار الانتخابات متجاوزًا مبادرته للحوار واستحقاقاتها، واتخذ خطوات حاسمة نحو تعبيد الطريق للانتخابات؛ حيث بادر إلى إجراء تعديلات على قانون الانتخابات(24)، وتعيين رئيس لمفوضية الانتخابات في خطوات أحادية تجاهلت ما تم الاتفاق عليه في خريطة الطريق بين القوى المشاركة في الحوار، ثم سارع إلى إجراء ثمانية عشر تعديلًا على بنود الدستور(25)، في غياب تام للأطراف السياسية الأخرى حول قضايا هي من صميم الأجندة المطروحة في طاولة الحوار، وهي تعديلات جوهرية زادت من تعزيز صلاحيات الرئيس بما في ذلك إلغاء انتخاب ولاة الولايات، الذي كان يُعد أحد أهم مكاسب الحكم الاتحادي، ليتم تعيينهم من قبل الرئيس في خطوة هدفت إلى تحجيم استقلالية الولاة، وكانت الحجة لإلغاء انتخابهم هي "محاربة تفشي الصراعات القبلية".

لم تجد قوى المعارضة الرئيسة، في ظل مُضيِّ الرئيس البشير قُدمًا في مسار الانتخابات، سبيلًا غير مقاطعتها، في إعادة لسيناريو مقاطعتها لانتخابات 2010، بيد أنها قاطعت هذه المرة العملية كليًّا من بدايتها بينما كانت شاركت في المرة السابقة حتى مراحل متقدمة ولم تنسحب إلا في مرحلة الاقتراع؛ مما أعطى تلك الانتخابات قدرًا من الحيوية والتنافس، وهو ما تفتقده الانتخابات الحالية بشدة، فقرار المقاطعة على سلبيته كشف الغطاء عن حملة انتخابية باهتة غاب فيها التنافس، وبدا انصراف الرأي العام عن الاهتمام بالانتخابات واضحًا في تعليقات الصحف ومحل تندر في وسائط التواصل الاجتماعي، وما زاد من صعوبة مهمة الحزب لحاكم الساعي إلى حشد أكبر قدر من المشاركين كمؤشر على نجاح الانتخابات أن أثر المقاطعة تجاوز فعل المعارضة السياسية إلى تنامي الإحساس الذاتي لدى المواطنين بعدم جدوى الانتخابات واعتبارها من باب "تحصيل الحاصل"، وفي ظل ضغوط اقتصادية واجتماعية جعلتهم يرون أنه كان ينبغي على الحكومة إنفاق المصروف على الانتخابات، المقدَّر بما يعادل مائة وخمسين مليون دولار، في تحسين الخدمات المتردية.  

واللافت أن البشير، الذي ترشَّح معه للرئاسة أكثر من عشرة أشخاص لا يكاد أحد يُحسُّ بأثر لهم، أقرَّ في حوار صحافي(26) بأن مشاركة أحزاب لها وزن تاريخي "كان من شأنه أن يمنح الانتخابات بُعدًا"، مضيفًا: "الانتخابات الآن أمر يخص من يشاركون فقط، ولم يكن هناك ما يحرم الناس من رؤية مفاجأة، لأن موعد الانتخابات كان معروفًا"، معتبرًا "قرار الذين امتنعوا من دخول الانتخابات أمرًا يخصهم".

ما بعد الانتخابات: السيناريوهات المحتملة

أضحى قيام الانتخابات وفق المعطيات الراهنة عملية أحادية خاصة بالحزب الحاكم، تمضي كما هو مخطط لها لتحقيق هدف البشير في تمديد شرعية سلطته بغضِّ النظر عن مدى نزاهتها والشكوك المثار حولها، وعن جدواها السياسية. وبات السؤال المطروح: ثم ماذا بعد الانتخابات؟

تعتمد الإجابة على طبيعة أجندة الرئيس البشير لما بعد هذه المرحلة، وعلى أجندة المعارضة وردود فعلها:
سيناريو استدامة الأزمة: أن تراوح الأزمة الوطنية مكانها إن اقتصرت أجندة الرئيس على اعتبار أن هذه الانتخابات منحته شرعية جديدة لمواصلة نهجه في الحكم، ولاستمرارية النظام مع إدخال بعض التغيرات الشكلية التي لا تؤثر على طبيعته وتركيبته؛ وهو ما ينعكس بالضرورة على خيارات المعارضة باتجاه التصعيد.

سيناريو التحرر من الضغوط: أن يقود حصول الرئيس البشير على "تفويض انتخابي" إلى تحرير أجندته من الخضوع لحسابات فرضت عليه هذا المسار منها الصراعات داخل حزبه، ومن أن يستمد مشروعيته من معارضيه الذين دعوا لحكومة انتقالية يترأسها، والأهم التحرر من ضغوط المحكمة الجنائية الدولية بعد إعادتها الملف لمجلس الأمن مع تضاؤل فرص اتخاذه قرارًا ضده في ضوء معادلات الساحة الدولية الراهنة.

هذا التحرر من مجمل هذه الضغوط قد يوفر أرضية جديدة للرئيس البشير للتفكير بنهج مختلف يجعله أكثر استجابة للتحديات التي يواجهها السودان، وأن يكون مهيئًا للانفتاح على مبادرة أكثر جدية للدخول في عملية تسوية سياسية شاملة للأزمة السودانية، مع استعداده لدفع استحقاقاتها. وهو خيار من شأنه أن يشجع المعارضة، أو أطرافًا مؤثرة منها، متى ما تبيَّنت جديته على التجاوب معه، خاصة في ظل محدودية قدرتها على تغيير موازين القوة الراهنة.

سيناريو تفاقم الأوضاع: إجراء الانتخابات وفق المعطيات الراهنة قد يقود عمليًّا إلى إسدال الستار على مبادرة "الحوار الوطني" بوصولها إلى طريق مسدود، وهو ما يعني أن كل الجهود التي بُذلت حتى الآن لم تعد ذات جدوى لتسوية الأزمة السودانية وأن الصيغة المطروحة حاليًا استتفدت غرضها، وفي حالة غياب أية آفاق جديدة أمام تسوية سياسية، فإن ذلك سيشجع خيار تصعيد المواجهات العسكرية من قِبل المعارضة المسلحة في محاولة للتشويش على العملية الانتخابية نفسها، أو حرمان الحزب الحاكم من فرض الأمر الواقع، في حرب استنزاف تزيد من تفاقم الأوضاع ومن احتمالات إضعاف وتفكك الدولة السودانية، مقرونًا بعجز فاعلية دور المجتمع الدولي عن فرض تسوية سلمية.

ويبدو أن السيناريو الأول، استدامة الوضع، هو الأرجح لأن السياسات القائمة منذ فترة لا يمكن فصلها عن البنيات السياسية والهياكل الإدارية التي تقوم عليها، ولا يمكن إحداث تغيير في أحدهما إلا ويحدث تغيير في الثاني.

رجحان هذا السيناريو قد يؤدي إلى ترجيح عوامل تفاقم الأزمة حتى وإن كانت مشاركة الحكومة السودانية في "عاصفة الحزم" قد توفر دعمًا اقتصاديًّا خليجيًّا مؤقتًا يخفِّف أعباء النظام السوداني المالية.
____________________________________
خالد التيجاني - باحث في الشؤون السياسية السودانية
 
المصادر والمراجع
(1) حكومة السودان، خطاب رئيس الجمهورية للأمة السودانية "نداء الوثبة"، الخرطوم، 27 يناير/كانون الثاني 2014.
(2) حكومة السودان، دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005، رئيس الجمهورية المادة 52.
(3) المصدر السابق، أجل ولاية رئيس الجمهورية، المادة 57.
(4) المصدر السابق، تأجيل انتخابات رئيس الجمهورية، المادة 55–أ.
(5) حكومة السودان، اتفاقية السلام الشامل, بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان/الجيش الشعبي لتحرير السودان، نيروبي-كينيا، 9 يناير/كانون الثاني 2005، الجزء-ب عملية الانتقال، المادة 22-1- و, الجزء د - هياكل الحكم، القانون الأعلى، المادة 3-1-2.
(6) أبو شوك, (أحمد إبراهيم)، الانتخابات القومية في السودان، مقاربة تحليلية في مقدماتها ونتائجها، (مركز الجزيرة للدراسات، الدار العربية للعلوم ناشرون, بيروت 2012)، ص53.
(7) مصدر سابق، الدستور الانتقالي، موعد الانتخابات، المادة 216.
(8) مصدر سابق، اتفاقية السلام الشامل، الفصل الثاني-اقتسام السلطة، التعداد السكاني والانتخابات والتمثيل، المادة 1-8 -3.
(9) مصدر سابق، خطاب رئيس الجمهورية في 27 يناير/كانون الثاني 2014.
(10) حكومة السودان، اجتماع المائدة المستديرة التشاوري للقوى السياسية، الخرطوم، 6 إبريل/نيسان 2014.
(11) حكومة السودان، مرسوم جمهوري رقم 158 لسنة 2014.
(12) مصدر سابق، الدستور الانتقالي، الباب الثاني، وثيقة الحقوق، حُرمة الحقوق والحريات، المادة 48.
(13) إعلان باريس، وثيقة اتفاق بين حزب الأمة القومي والجبهة الثورية، باريس، 8 أغسطس/آب 2014.
(14) إعلان كمبالا، "ميثاق الفجر الجديد" لقوى المعارضة السودانية، كمبالا، 5 يناير/كانون الثاني 2013.
(15) آلية الحوار الوطني، خريطة الطريق لتصور ترتيبات مؤتمر الحوار الوطني، الخرطوم، 9 أغسطس/آب 2014.
(16) الآلية الإفريقية رفيعة المستوى، وثيقتا إعلان مبادئ الحوار السوداني، بين وفد آلية الحوار الوطني وكل من الجبهة الثورية وحزب الأمة القومي، أديس أبابا، 5 سبتمبر/أيلول 2014.
(17) Communiqué of the 456th meeting of the AU Peace and Security Council on Sudan’ national dialogue.
(18) المؤتمر الوطني، خطاب الرئيس عمر البشير أمام المؤتمر العام لولاية الخرطوم، 27 سبتمبر/أيلول 2014.
(19) “U.S. Policy on Sudan and South Sudan: The Way Forward” Donald Booth, US Special Envoy for Sudan and South Sudan.The Atlantic Council –Washington, DC 9 October 2014.
(20) Joint Troika Statement by the United States, the United Kingdom and Norway on National Dialogue in Sudan.18 September 2014.
(21) German Federal Foregin Office, press release, Foreign Minister Steinmeier welcomes Sudanese opposition’s Berlin Declaration on National Dialogue. 26.02.2015
(22) صحيفة الرأي العام، حوار مع الرئيس عمر البشير، الخرطوم، الأحد 15 مارس/آذار 2015، العدد 6234.
(23) المؤتمر الوطني، بيان للقطاع السياسي يرحب بجهود الحكومة الألمانية، الخرطوم، 9 مارس/آذار 2015.
(24) المجلس الوطني، قانون الانتخابات لسنة 2008- تعديل سنة 2014، الخرطوم 2 يوليو/تموز2014.
(25) المجلس الوطني، دستور السودان الانتقالي لسنة 2005- تعديل سنة 2014، الخرطوم، 5 يناير/كانون الثاني 2015.
(26) مصدر سابق، صحيفة الرأي العام، حوار مع الرئيس البشير.

نبذة عن الكاتب