الجزائر: تعقيدات تجديد بنية السلطة وتحديات البيئة الأمنية

تواجه الدولة الجزائرية تحدي تجديد بنية السلطة عبر الإصلاحات السياسية، كما لم تعد الخيارات الاقتصادية الكبرى حكرًا على الدولة، بل للمجتمع المدني دور فيها؛ وهو ما يفسر رفض استغلال الغاز الصخري. كما تواجه سياسة "صفر مشاكل خارج الحدود" تحديات إزاء التعامل مع بيئة أمنية معقدة.
201553110113358734_20.jpg
تتبنى السلطة في الجزائر عددًا من الإصلاحات في سياق استراتيجية تجديد بنيتها. وتعتبر المؤسسة العسكرية اللاعب الرئيسي في المشهد السياسي (الأوروبية)

ملخص
تتبنى السلطة في الجزائر عددًا من الإصلاحات في سياق استراتيجية تجديد بنيتها. وتعتبر المؤسسة العسكرية اللاعب الرئيسي في المشهد السياسي؛ حيث إن العلاقة العسكرية المدنية جدُّ معقدة. وفي حين تعكس الانقسامات بين الرئاسة ووزارة الدفاع وجهاز المخابرات تضارب المصالح والصراع الدائر حول طبيعة ونوعية الإصلاح المطلوب لإخراج النظام من أزمته، فإن مدى الصراع يصل حتى إلى أحزاب السلطة بما في ذلك المحسوبة على المعارضة، وقد عرف حزب جبهة التحرير الوطني في الآونة الأخيرة توترات مع التجمع الوطني الديمقراطي؛ وهو ما يؤشر حقيقة على وجود رؤيتين متعارضتين لإدارة شؤون الدولة في المراحل القادمة.

ولم تعد الخيارات الاقتصادية الكبرى للبلاد حكرًا على الحكومة، بل للمجتمع المدني الناشئ دور فيها. وربما هذا البُعد الجديد العابر للفئات والمصالح الفئوية الضيقة هو الذي يفسر امتداد حركة رفض استغلال الغاز الصخري إلى شمال البلاد؛ حيث إن الدلالة الأقوى لهذه الاحتجاجات هي حق الشعب في المشاركة في صناعة القرارات الاقتصادية الاستراتيجية للبلاد. أمَّا خارجيًّا فتبقى دبلوماسية "صفر مشاكل" التي تسعى الجزائر لتبنيها حُلمًا رومانسيًا في ظل بيئة أمنية تتسم بتهديدات متعددة.

ليس من السهل فكُّ شفرة المشهد السياسي الجزائري، فما زالت الدولة مصدر مفاجآت مستمرة؛ مما أدى اليوم إلى غياب الإجماع في الجواب عن سؤال: إلى أين تتجه الجزائر؟ حيث تُعتبر الجزائر لغزًا للمحللين وحتى لساستها وللشعب (1). والدولة أمام مجموعة خيارات أحلاها مُرٌّ؛ حيث تندرج مبادرات الانتقال الديمقراطي فيها ضمن النمط التحولي (2)؛ ذلك أن الإصلاحات جاءت بقرار فوقي وتهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم وتجديد قواعد السلطة. إن الهاجس الوحيد الذي يواجه النظام هو قدرته على البقاء والاستمرار، دون الدخول في مواجهات عنيفة مع المجتمع، وهو لا يمانع في تبني إصلاحات تحافظ على ركائزه الأساسية، ويبرز من خلال ذلك أن مشكلته الأساسية تنحصر في المطالب المنادية بالتغيير الجذري وتقسيم السلطة وإعادة توزيع الثروة.

لدى الحديث عن الانتقال الديمقراطي من الضروري التمييز بين مفهومين عادة ما يتم استعمالهما كمترادفين: التحول الليبرالي أو (التحرر السياسي) الذي يعني توسع الفضاء العام لصالح المجتمع المدني ونطاق الحريات المسموح به للأفراد، في حين يعني التحول الديمقراطي (ديمقراطية سياسية) إنجازَ إصلاحات سياسية ضمن دائرة صنع القرار في سياق مؤسسي. وإذا كان التحول الليبرالي شرطًا أساسيًّا ومقدمة للتحول الديمقراطي، فإنه يمكن أيضًا تصوره كبديل للديمقراطية السياسية، وذلك من خلال إحداث إصلاح محدود لاحتواء الضغوط الاجتماعية المطالبة بتغيير سياسي أعمق (3).

تندرج مبادرات السلطة الجزائرية في سياق التحرر السياسي؛ إذ إن كافة الإصلاحات التي تبنَّاها النظام تدخل ضمن استراتيجيات البقاء؛ حيث تعتبر حالات التعددية وتنامي القوى الاجتماعية والاقتصادية والمالية تكتيكًا لمواجهة الأوضاع الإقليمية والدولية، في محاولة لتجديد نفسه (4). وفي محاولة لامتصاص موجة الاحتجاجات ومنع انتشارها، أعلن الرئيس بوتفليقة عن عزمه تعديل الدستور وإصدار حزمة من القوانين من شأنها تعزيز الديمقراطية، غير أنه لم يضع حدودًا زمنية واضحة؛ مما يجعل الجزائر تعيش اليوم حالة انسداد سياسي لا يخلق البيئة الملائمة لتحديث بنية السلطة ضمن مسار ديمقراطي صار يفرض نفسه بإلحاح.

1- الانسداد السياسي: معوقات التحول الديمقراطي

‌أ. عدم اكتمال البناء المؤسسي الديمقراطي
تعتبر الأزمة في الجزائر سياسية، ولها جذور في التحولات الاقتصادية الصعبة في الثمانينات، وفي السياسات التعليمية والاجتماعية في فترة ما بعد الاستقلال، التي فشلت في إعداد الجيل الجديد (5) حيث تشكِّل فئة الشباب عبئًا ثقيلًا ومصدر قلق وعدم استقرار في حالة استمرار انكماش الاقتصاد الوطني، خاصة مع تذبذب أسعار النفط وانخفاض صادرات المحروقات، في الوقت الذي شهد فيه الطلب المحلي ارتفاعًا متزايدًا؛ حيث فشلت الحكومات المتعاقبة في تحقيق اقتصاد متنوع ومنتج. وما زال قطاع المحروقات يمثل أكثر من ثلث (حوالي 30%) الناتج المحلي الإجمالي، وثلثي (حوالي 70%) الإيرادات الحكومية، وما يقارب 98% من الصادرات. وهو رغم ذلك لا يوفر سوى نسبة تقل عن 5% من فرص العمل (6). إن الاقتصاد الجزائري يعاني اختلالات هيكلية تتجسد في التبعية للمحروقات وتدني قطاع الأعمال بشكل لا يسمح بالاستثمار وروح المبادرة ويتسم بضعف البنى التحتية والبيروقراطية، وعدم استقرار القوانين في هذا المجال وتوسع دوائر الفساد والمحسوبية. يضاف إلى ذلك تدني جودة الخدمات الاجتماعية وارتفاع نسبة البطالة في فئة الشباب.

لا تزال الجزائر في مرحلة التعافي من آثار الأزمة التي هزَّت البلاد خلال التسعينات؛ حيث يُنظر إلى الحالة الجزائرية في سياق بناء ديمقراطية ما بعد الحرب الأهلية، وما يمثله ذلك من تكاليف وتحديات إعادة بناء الاقتصادات المدمَّرة وكيفية استعادة سيادة القانون وحلِّ القضايا الاجتماعية مثل الأقليات في الحكم ودور العدالة الانتقالية. ولا يبدو مؤكَّدًا إمكانية التغلب على هذه التحديات بسهولة (7)؛ حيث يعتمد الانتعاش الاقتصادي على قدرة البلد على تنفيذ إصلاحات سياسية كبيرة (8).

إن الانخراط في مسار المصالحة والعدالة الانتقالية بحاجة إلى نموذج للحكم والعلاقات الاجتماعية يسمح بتمثيل جميع فئات المجتمع؛ فالمجتمعات بحاجة إلى إعادة بناء اقتصاداتها واستدراك التكاليف الضخمة للحرب؛ كما أنه ينبغي تطور الديمقراطية على نحو أن الفاعلين الرئيسيين في المجتمع ينظرون إلى المؤسسات الحكومية التي بُنيت حديثًا على أنها شرعية وفعالة وكفوءة (9)؛ إلا أن المصالحة في الحالة الجزائرية كانت مجرد آلية للحفاظ على الوضع القائم.

‌ب. طبيعة العلاقة المدنية-العسكرية
يشكِّل الجيش الجزائري نمطًا خاصًّا في علاقته بالسلطة لا يشبه الأنماط التي سادت في أميركا اللاتينية أو شبه القارة الأيبيرية أو التجربة التركية (10). ورغم مبادرات وجهود توسيع دائرة الحكم، إلا أن المؤسسة العسكرية بقيت اللاعب الأساسي المسيطر على المشهد السياسي، وإن كانت تميل لإقامة تحالفات مع فئات أخرى (أهمها: البيروقراطيون والتكنوقراط) لإضفاء مشروعية أكثر على نظام الحكم وإعطائه طابعًا مدنيًّا. وتلعب المؤسسة العسكرية دورًا مهمًّا في السياسة، إمَّا بطريقة مباشرة أو باختيار وتزكية القيادات السياسية. لكن رغم وزنها هذا في تحديد التوجهات الكبرى وقواعد اللعبة السياسية، فإن العلاقة العسكرية-المدنية جدُّ معقَّدة؛ فالظاهرة العسكرية في هذا البلد نشأت وتطورت على مراحل وتغذَّت من أوضاع سياسية وأمنية متعددة وهي تراكمية مرتبطة بظروف نشأة وتطور الدولة الجزائرية؛ حيث إن إلغاء المسار الانتخابي ليس المظهر الوحيد ولا السابقة الأولى في تدخل الجيش في الحياة السياسية الجزائرية. وكان اللجوء إلى عبد العزيز بوتفليقة عام 1999 رغبة في نزع الثوب العسكري للجمهورية وإعطاء وجه مدني للنظام.

تراجع تأثير الجيش في السياسة في السنوات الأخيرة؛ فقبل أسابيع من إجراء انتخابات إبريل/نيسان2004 ، أعلنت المؤسسة العسكرية التزام الحياد إزاءها، وهذا ما أكده الرئيس بوتفليقة خلال لقاء رسمي جمعه مع قائد أفريكوم الجنرال وليام ورد يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2009، حسب وثيقة ويكيليكس التي سرَّبت مضمون الاجتماع. وفي المدة الأخيرة رفض الجيش الزجَّ به في الشأن السياسي، ورفض أن يكون محل استغلال للطعن في شرعية مؤسسات الدولة، وذلك في إشارة إلى قوى المعارضة. ولولا حالة عدم الاستقرار الداخلي والاضطرابات الأمنية في الجوار الجيوسياسي للجزائر لكان تأثير الجيش أقلَّ بكثير. بالمقابل، فإن انسحاب الجيش من القرار السياسي قد يسبِّب فراغًا في السلطة يصعب ملؤه من طرف مجتمع مدني هش وأحزاب منقسمة حتى حول القضايا الجوهرية. وهذا ما يطرح حالة من التناقض؛ إذ إن وجود الجيش في قلب السلطة لا يسمح بتعزيز وترسيخ الديمقراطية، ومن ناحية أخرى، من غير المرجح أن يؤدي انسحابه التام الى تعزيز بديل ديمقراطي تلقائي (11).

‌ج. غياب معارضة فعلية
تعكس الانقسامات بين الرئاسة ووزارة الدفاع وجهاز المخابرات تضارب المصالح والصراع الدائر حول طبيعة ونوعية الإصلاح المطلوب لإنقاذ النظام. ويصل مدى الصراع إلى أحزاب السلطة بما في ذلك المحسوبة على المعارضة، حيث عرف حزب جبهة التحرير الوطني (FLN) في الآونة الأخيرة توترات مع التجمع الوطني الديمقراطي (RND) وهو ما يؤشر حقيقة على وجود رؤيتين متعارضتين لإدارة شؤون الدولة في المراحل القادمة؛ فالجزائر تشهد اليوم انقراض جيل الثورة الذي لم يعد يشكِّل نسبة 1% من السكان، لكنه بالمقابل ما زال يتحكم في زمام الأمور.

بالمقابل، يعيش الشارع الجزائري منذ أكثر من عقد توترًا جرَّاء تواصل احتجاجات شبه يومية متفاوتة التعبئة والانتشار، وعرفت الآونة الاخيرة توسعًا في نطاقها حتى بلغت ما يقارب عشرة آلاف احتجاج في السنة؛ مما يعكس غياب آليات التواصل بين الدولة والمجتمع. ولم تتخذ هذه الاحتجاجات يومًا بُعدًا وطنيًّا، وبقيت بغضِّ النظر عن المنطقة التي اندلعت فيها، محصورة في بؤرها الجغرافية الأصلية. وتأتي في غالب الأحيان متقطعة في الزمان والمكان، وتتكرر هذه الاحتجاجات في ظل استمرار ضعف أشكالها التنظيمية وغياب الطبقة الوسطى وأدوار المثقفين والإعلام. إلا أن الحركات الاحتجاجية في جنوب البلاد ضد استغلال الغاز الصخري تمثل قفزة نوعية، ليس فقط من حيث مضامين المحتجين ومطالبهم، ولكن أيضًا من حيث التوزيع الجغرافي للحركات الاحتجاجية.

2- الدولة والسلم الاجتماعي

أحدثت التحولات التي شهدتها الدول العربية ارتباكًا لدى دوائر الحكم في الجزائر، خاصة أن الاحتجاجات التي عرفتها أبانت عن نقص اكتمال البناء المؤسسي للدولة وقدرتها المحدودة على مواجهة المشكلات والتحديات. ولا يزال شبح الحرب الأهلية راسخا في الأذهان مما جعل الجزائريين أقل حماسا للانخراط في إحداث تغييرات جذرية تحقق مطالبهم الاجتماعية والاقتصادية. وتزيد وقائع الثورات العربية من تعميق هذا الشعور، خاصة أن الإعلام الدولي بات ينقل المشاهد المأساوية التي أعقبت التغيير الثوري.

لقد اعتمدت الجزائر سياسة دعم مبنية على معادلة "شراء السلم" عديمة الفعالية اقتصاديًّا وغير العادلة اجتماعيًّا والخطيرة سياسيًّا وأمنيًّا، بدون تحديد استراتيجية واضحة للتنمية؛ فالإنفاق العمومي ارتفع بنسبة 50% خلال السنوات الثلاث الماضية، وارتفعت رواتب الموظفين المدنيين. وستكون السلطة مجبرة على إيجاد حلول جذرية للأزمات المتراكمة، لأن شراء السلم الاجتماعي من خلال رفع وتيرة ضخ النفط غير مجدية إلى الأبد، خاصة أن الجزائر استهلكت منذ استقلالها ثلثي احتياطياتها القابلة للاستغلال من النفط الخام، ونصف احتياطيات الغاز الطبيعي. علاوة على ذلك فاحتجاجات منطقة الجنوب ضد استغلال الغاز الصخري تمثل متغيرًا جديدًا في رفضها استغلال الغاز لأسباب بيئية. وهو ما يمثِّل مشكلة للسلطة السياسية، لصعوبة تلبية هذه المطالب بالإغراءات الاجتماعية بضخِّ أموال معتبرة في برامج اجتماعية وشراء السلم الاجتماعي.

لم تعد الخيارات الاقتصادية الكبرى للبلاد حكرًا على الحكومة، بل للمجتمع المدني الناشئ دور فيها. وربما هذا البعد الجديد العابر للفئات والمصالح الفئوية الضيقة هو الذي يفسر امتداد حركة رفض استغلال الغاز الصخري إلى شمال البلاد؛ حيث إن الدلالة الأقوى لهذه الاحتجاجات هي حق الشعب في المشاركة في صناعة القرارات الاقتصادية الاستراتيجية للبلاد، مما يفتح صفحة جديدة متوترة في الغالب في العلاقة بين السلطة والمجتمع (12).

أ‌. قدرة النظام على المناورة: إصلاح مقيد
سارعت الجزائر إلى تبني إصلاح سياسي مقيد، أتى بنتائج عكسية في حالات عديدة، لكن قدرة النظام على المناورة وإدارة الاحتجاجات بشكل يحول دون تعميمها يُعتبر عاملًا حاسمًا في العملية الانتقالية؛ حيث تتصور السلطة أنها أخضعت كل أطياف المعارضة لسلطتها، ومن ثم فلا خوف من إجراء سياسي أو اقتصادي مقيد. ويسمح هذا النوع من الانفتاح للمعارضة بالتعبير في حدود ضيقة ترسمها السلطة، مع استبعاد كلي لفكرة التداول على السلطة؛ ذلك أن الهدف المنشود من خلال التنازلات هو الحفاظ على السلطة والبقاء في الحكم، بعد أن أصاب الشلل شرعيتها نظرًا إلى عجزها عن مواجهة التحولات السياسية والأمنية. وتتيح هذه السياسات احتواء الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والتكيف مع الضغوط الداخلية والخارجية من أجل التغيير، دون أن يؤدي ذلك إلى تقاسم السلطة. لقد طغى على الإصلاحات الأخيرة البعد الأمني، ولم يرافقها إجراءات إعادة الثقة بين المواطن والسلطة، وبغض النظر عن محدوديتها سيبقى تطبيقها مرهونًا بإرادة النظام.

ويعتبر إسناد مهمة الاشراف على الإصلاحات إلى وزارة الداخلية تأكيدًا على هيمنة الهاجس الأمني على مقاربة السلطة تجاه العملية السياسية. ذلك أن البعد الداخلي ليس غائبًا عن ذهن السلطة فيما يخص العصرنة والتحديث المستمر للجيش الجزائري.

إن التركيز على تأمين الحدود الجزائرية ضروري لكنه سيُبعد الدولة عن أولوياتها التنموية ودفع عجلة الاقتصاد وتقليص نسبة البطالة، ذلك أن جزءًا كبيرًا من الميزانية سيُخصَّص للإنفاق العسكري. وسيزيد الانتشار العسكري الجزائري على طول الشريط الحدودي، نظرًا لتكلفته، الضغط على النظام، خاصة في ظل الأزمة المالية العالمية وتذبذب سوق النفط.

3- تأمين الحدود: التحديات الأمنية

تعتبر مسألة تأمين الحدود الجزائرية معضلة أمنية فرضتها الاضطرابات المتنامية في الجوار الجغرافي المغاربي-الساحلي، وهي متنوعة ومتعددة، وذات مسارات غامضة وأحيانًا متعارضة. وقد أكد الجيش الجزائري أن ضمان أمن واستقرار المنطقة يعتمد على تأمين الحدود مع دول الجوار بنشر وحدات عسكرية بهذه المناطق ومن خلال نشاط دبلوماسي يعتمد على الوساطة لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة (13). لقد كانت العلاقات بين الدول سابقًا السبب في المشكلات على الحدود، لكن التهديدات غير الدولتية حاليًا هي سبب الاضطرابات على الحدود، نتيجة هشاشة الدولة أو غيابها. وفي أية بيئة عملياتية يجب الأخذ بعين الاعتبار وجود وانتشار البؤر الإجرامية، مع إمكانية وجود تداخل متزايد بين النشاطات الإجرامية والنزاعات الداخلية والأنشطة المسلحة المحتملة.

يتطلب تأمين الحدود اتفاقًا بين طرفين لضمان تنسيق المهام والأعباء الأمنية، وبسبب غياب الطرف الآخر في المعادلة الأمنية الساحلية، فإن السياسة الجزائرية تَعتبر معالجة الاختلالات الوظيفية الأمنية في الدول المجاورة ذات أولوية قصوى؛ حيث تمر تونس بمرحلة انكشاف أمني بسبب طبيعة الفترة الانتقالية، خاصة أن الجيش التونسي محدود في موارده وتجهيزه وتنقصه الخبرة في التعامل مع الجماعات المسلحة. أمَّا جنوبًا، فإن تأمين الحدود مع مالي مرهون بالتوصل إلى تسوية سياسية لأزمة حركة أزواد، حتى لا تتحول إلى ملاذ ومعقل للجماعات المسلحة. أمَّا ليبيا فإنها على وشك أن تتحول إلى حاضنة استراتيجية لانتشار الأزمات، فهي تعاني من غياب الدولة وتفكك المجتمع وتعدد الميليشيات المسلحة، وظهور نموذج الحرب بالنيابة، خصوصًا تلك التي تغذي الحرب الأهلية فيها. وهذه كلها معطيات جعلت من تأمين الحدود الجزائرية مسألة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، وفي نفس الوقت فرضت على الجزائر تحمل الجزء الأكبر من جهود تأمين الحدود مع جيرانها.

في هذه البيئة الأمنية المضطربة، بإمكان المغرب دعم الجهود الجزائرية، لكن من غير المحتمل أن يحدث ذلك نظرًا لعلاقتهما المتوترة بسبب أزمة الصحراء الغربية والتنافس من أجل الهيمنة الإقليمية، ودخولهما في سباق للتسلح لضمان التفوق العسكري أو على الأقل تحقيق توازن استراتيجي، وكل منهما يسعى إلى تحييد مبادرات الأخر.

4- خلل أم شلل الدبلوماسية الجزائرية؟

تحسن الوضع الأمني في الجزائر كثيرًا مقارنة بالعشرية السوداء، لدرجة وصف المسؤولين الجزائريين للجماعات المسلحة ببقايا الفلول. وقد أصبح العنف في الجزائر ظاهرة محدودة لكنها مثيرة للقلق ولم تعد الجماعات المسلحة بمختلف أنواعها وأسمائها وولاءاتها تشكِّل تهديدًا سياسيًّا للنظام الجزائري لافتقارها لقاعدة شعبية، حتى إن القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي لم تعد تمثل تهديدًا سياسيًّا، لكنها مصدر قلق أمني مهم لا يمكن تجاهله رغم أن قدراتها تآكلت في السنوات الأخيرة. إذ إنَّ الجماعة منقسمة داخليًّا، وقيادتها المركزية المتمركزة في الجزائر فقدت قسطًا كبيرًا من قدراتها مقارنة بالماضي. وتعتبر فصائل الساحل الأكثر خطرًا على الأمن الجزائري، وتمثِّل تهديدًا أمنيًّا كبيرًا لبلدان الساحل؛ حيث أصبحت المنطقة مسرح عمليات رئيسي لها. فتجربة وقدرات دول المنطقة في هذا المجال محدودة بالمقارنة مع الجزائر مما قد يفتح لها الطريق لزيادة نفوذها الإقليمي، وتعزيز دورها كـمُصدِّر للأمن في المنطقة وجعله أداة لتحقيق طموحاتها الخارجية.

السياسة الخارجية، والاستراتيجيات الأمنية الجزائرية القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام الشرعية الدولية، وتفضيل الحلول السياسية على الحلول العسكرية ما زال هو الخيار المفضَّل. لكن بشكل متناقض، لا تتردد الجزائر في استخدام قواتها العسكرية داخل حدودها، وخلال حادثة منشأة للغاز في عين أمناس، أنهى الجيش الجزائري المواجهة مع المسلحين بشكل سريع. ونشرت الحكومة القوات البرية التي قضت تقريبًا على المسلحين. إن أحداث العنف في الساحل أظهرت تناقض الدبلوماسية الجزائرية وعقيدتها الأمنية. وكشفت عن مدى عمق أزمة النظام السياسي وتعدد مراكز القرار بهرم الدولة الذي يعوق عمل الدبلوماسية الجزائرية ويحدُّ من فعاليتها.

تبقى دبلوماسية "صفر مشاكل" التي تسعى الجزائر لتبنِّيها حُلمًا رومانسيًّا في ظل بيئة أمنية تتسم بتهديدات متعددة؛ فالسياسة الخارجية عادة ما تتطلب اتخاذ خيارات صعبة، خاصة أن مستقبل الوساطة الجزائرية في ليبيا يبقى غامضًا نظرًا لظهور نموذج الحرب بالنيابة في هذا البلد، بسبب وجود قوى عربية تخوض حربًا ضد الإسلاميين في ليبيا كامتداد لصراعها مع إسلامييها في الداخل. وتسعى لإعطاء طابع إقليمي لهذا الصراع وشرعنة التدخل من جديد في ليبيا لمساندة حلفائهم. ويزيد سعي قوى غربية، وبالتحديد فرنسا، إلى التدخل عسكريًّا في ليبيا من تعقيد مهمة الجزائر خاصة إذا ما استمرت تدفقات الهجرة إلى أوروبا؛ مما يجعل باقي الدول الأوروبية أكثر استعدادًا للتدخل عسكريًّا، ودعم الموقف الفرنسي (14). وأصبحت الهجرة مسألة أمنية بحتة من المنظور الأوروبي، يعقبها تصدير سياسات وتقنيات الاتحاد الأوروبي إلى الدول المجاورة التي انحصر دورها في المناولة الأمنية لصالح أوروبا؛ فحذت الجزائر حذو الاتحاد الأوروبي وجرَّمت هي أيضًا مسألة الهجرة، وهذا من شأنه أن يزيد الضغط على الجزائر (15).

خلاصة

عرف مسار التحول الديمقراطي منذ الاستقلال تقدمًا في بعض المحطات وتراجعًا في أخرى، صاحبه في التسعينات موجة من العنف، ويشهد اليوم ديمقراطية شكلية. وتدخل الإصلاحات التي تبناها النظام الجزائري ضمن استراتيجية البقاء في محاولة امتصاص موجة الاحتجاجات الجماهيرية ومنع انتشارها. وقد عرفت فترة حكم الرئيس بوتفليقة جمودًا سياسيًّا وتراجعًا عن المكاسب التي تحققت بفضل الانفتاح السياسي الذي كرَّسه دستور عام 1989 .
__________________________________
توفيق هامل - باحث وأكاديمي جزائري في فرنسا

مراجع
1- William B. Quandt, Between Ballots and Bullets: Algeria’s Transition from Authoritarianism, The Brookings Institution, 1998 http://people.virginia.edu/~wbq8f/Algbook.html
2-  حدَّد هنتنجتون ثلاثة أنماط رئيسية في سياق التحول نحو الديموقراطية: (1) نمط التحول: حيث تتخذ النخبة الحاكمة داخل النظام التسلطي زمام المبادرة في عملية التحول الديمقراطي.(2)  نمط الإحلال: وينتج التحول في هذا النمط من خلال تصاعد نفوذ القوى المعارضة، ويحدث مقابل ذلك انهيار في قوة النخبة الحاكمة التي يتم الإطاحة بها في نهاية المطاف. (3) نمط الإحلال التحولي: يتم هذا النمط عن طريق حدوث توافق على التغيير السياسي بين الحكومة والمعارضة، يفرضه التوازن في معادلة القوة بينهما؛ فتوافق الحكومة على التفاوض مع المعارضة لتغيير طبيعة النظام السلطوي إلى نموذج ديمقراطي.
Samuel Huntington, Political Order in Changing Societies, Yale University Press, New Haven, 1968; Samuel P. Huntington, The Change to Change: Modernization, Development, and Politics. Comparative Politics, vol. 3, n. 3, Apr., 1971
3- Rex Brynen, Political Reform in the Maghreb”, delivered at a conference on Political Reform in North Africa, Virginia, March 2007, p; 2
4- Daniel Brumberg, “Democratization in the Arab World? The Trap of Liberalized Autocracy”, Journal of Democracy, vol. 13, n°. 4, octobre 2002, pp. 56-68 ; Daniel Brumberg, “Beyond Liberalization?” Wilson Quarterly 28, no. 2 (Spring 2004): 47–56
5- William B. Quandt, “Algeria”, In Robert Chase & Emily Hill & Paul Kennedy (éd.), “The Pivotal States: A New Framework for U.S.Policy in the Developing World”, Norton, New York, 1998, pp. 195-214 : Craig S. Smith, “Letter From North Africa; Islam and Democraty: Algerians Try to Blaze a Trail”, The New York Times, 14 avril 2004
6- « The Report: Algeria 2010 », Oxford Business group, London, 2011
7- J. Joseph Hewitt & Jonathan Wilkenfeld & Ted Robert Gurr, Peace and conflict 2010, Center for International Development and Conflict Management, University Maryland, p. 1, 19 ; Jochen Hippler, “Democratization after Civil Wars - Key Problems and Experiences”, Democratization, 15, 3, juin 2008
8- Anke Hoeffler & Marta Reynal-Querol, “Measuring the Costs of Conflict”, Centre for the Study of African Economies, 1 mars 2003, p. 22
9- Charles Lerche, “Peace Building Through Reconciliation”, International Journal of Peace Studies, 5, 2, Autumn/Winter 2000
10- William B.QUANDT, Société et pouvoir en Algérie, CASBAH Edition, Alger, 1999, p.203
11- Le diagnostic de Réda Malek sur l’état du pays, « Bouteflika, l’armée et la transition», El Watan, 3 octobre 2010
12- عبد النور بن عنتر: دلالات الاحتجاجات في جنوب الجزائر، العربي الجديد، 31 يناير/كانون الثاني 2015.
13- جاء في افتتاحية مجلة الجيش أن "ضمان أمن الجزائر واستقرار المنطقة كلها وتجنب المخاطر والتهديدات, يعتمد على محورين أساسيين: أولهما: أمني يعتمد على نشر وحدات عسكرية وقوات أمنية مدعمة بكل الوسائل والتجهيزات الضرورية لتأمين الحدود مع دول الجوار ومنع أي تسلل لعناصر مسلحة أو تنقل السلاح. أمَّا المحور الثاني فيتمثل في الدبلوماسية باعتماد الوساطة التي انتهجتها الجزائر لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة، وتحقيق المصالحة الوطنية بهذه الدول والتنسيق والتعاون معها في مجال مكافحة الإرهاب بالتركيز على تبادل المعلومات، افتتاحية مجلة "الجيش"، العدد 619، فبراير/شباط 2015، http://www.mdn.dz/site_principal/sommaire/revue/images/Eldjeichfev2015Ar.pdf
14- عبد النور بن عنتر، الجزائر وامتحان الأزمة الليبية ، العربي الجديد، 20 سبتمبر/أيلول 2014.
15- عبد النور بن عنتر، الاستراتيجية الأوروبية لمحاربة الهجرة، العربي الجديد، 3 مايو/أيار 2015.
16- http://studies.aljazeera.net/reports/2013/12/2013121292312157655.htm

نبذة عن الكاتب