الإصلاحيون المغاربة: هل تغلب أولوية الاستقرار منطق الإصلاح؟

جرعات الإصلاح السياسي في المغرب مهمة لكنها ليست كافية، وحتى لا تتغلب أولوية الاستقرار على منطق الإصلاح فهنالك حاجة لحزمة إصلاحات أخرى تدعم هذا المسار، في ظل تحديات أمنية ضخمة تُقبِل عليها المنطقة العربية. وتبقى المهددات الحقيقية لهذا المسار تتمثل في تأخُّر الحلول الاقتصادية لمعالجة هشاشة المجتمع.
2015713122155783734_20.jpg
جرعات الإصلاح السياسي في المغرب مهمة لكنها ليست كافية، وحتى لا تتغلب أولوية الاستقرار على منطق الإصلاح فهنالك حاجة لحزمة إصلاحات أخرى تدعم هذا المسار (أسوشيتد برس)
ملخص
مثَّلت معادلة "الإصلاح في ظل الاستقرار" وعيًا اجتماعيًّا قبل أن تكون مطلبًا سياسيًّا، أو تنظيرًا يخص جزءًا من الطبقة السياسية. وقد أربك مُعطى الوعي الاجتماعي هذا حسابات عددٍ من القوى السياسية من الإسلاميين مثل العدل والإحسان ومن غيرهم في تلك اللحظة، سواء تلك التي انسحبت من الحراك عام 2011 أو التي ظلت تنزل إلى الشارع لفترة معينة. ويبدو أن القوى المعارضة لهذا المسار لديها تقدير بأن الإصلاحات السياسية وتنزيل مضامين الدستور الجديد لعام 2011 لا يخدم مصالحها على المدى البعيد، وهي ضد الإصلاحات سواء الاقتصادية التي تقوم بها الحكومة، أم مساعي ترسيخ ثقافة سياسية جديدة مثل طبيعة ودور مؤسسة رئاسة الحكومة التي تعرف تقاليد جديدة في كثير من ممارساتها. وإذا كان مسار الإصلاح والاستقرار قد أسهم في تشكيل وترويج فكرة "نموذج مغربي"، وأضاف جرعات من المصداقية على العمل السياسي أدَّتْ إلى ارتفاع منسوب التسييس بالمجتمع بشكل ملحوظ، فإنّ فشله يعني بالضرورة بروز سيناريو الاضطراب وتوقف مسار التحسُّن والتعافي الاقتصادي.

هنالك قوى في المغرب يهمُّها الاستقرار، وذلك بالنظر لما آلت إليه الأوضاع في دول الجوار والمنطقة العربية عمومًا، وبسبب النتائج المشجعة لهذا المسار على المستوى الاقتصادي(1)، لكن هذه القوى التي تتشكل غالبًا من أطراف في الدولة العميقة التي كانت تتطلع إلى ممارسة أدوار سياسية مباشرة قبل عام 2011 وانضافت إليها قوى سياسية أخرى، لا تريد أن تمضي بعيدًا في مجال الإصلاح السياسي؛ لما يشكِّله ذلك من تقويض لمصالحها ومشروعها السياسي. وتجد نفسها أمام معادلة صعبة؛ لكونها تفترض إمكانية تحقيق الاستقرار دون القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية، هي بالأساس ضمانة هذا الاستقرار. وبالنسبة لهذه القوى، فإن الحلقة الأهم في تعثُّر مسار الإصلاح في ظل الاستقرار يمر بالضرورة عَبْر ضعف علاقة الإسلاميين الإصلاحيين بالمؤسسة الملكيَّة.

وهنالك قوى متردِّدة تقع في "المنزلة بين المنزلتين" مثل جماعة العدل والإحسان إحدى الجماعات الإسلامية الكبيرة، فلا هي مضت في تبنِّي خيار المشاركة في المسار الإصلاحي في ظل الاستقرار، ولا هي مارست التغيير بمفهومه الثوري كما نظرت له منذ نشأتها. ولا يرجح على المدى القريب أن تخرج الجماعة من حالة العزلة الإرادية، وهو وضع لا شك أنه يُحرم "الحركة الإصلاحية المغربية" عمومًا من كثير من مساحات الفعل والتأثير.

وهنالك الإصلاحيون الإسلاميون وشركاؤهم من عددٍ من أحزاب الأغلبية، والذين قرّر حزبهم "العدالة والتنمية" الرهان على خطة الإصلاح في ظل الاستقرار، وهو الخط الذي يجنِّب -حسب رؤيتهم- مآلات الثورات العميقة وما قد يعقبها من انهيارات في بنية الدولة والمجتمع. وقد برز هذا الخط تاريخيًّا مع فكرة الإدماج السياسي للإسلاميين، وظهرت تطبيقاته إبّان حراك عام 2011 كمَخْرجٍ لتجنيب المغرب سيناريو الاضطرابات السياسية والاجتماعية. وهؤلاء الإصلاحيون الإسلاميون يعتبرون وافدين جددًا على مواقع السلطة والقرار. وإذا كانت الملكيَّة قد تحملت مسؤولية تاريخية في تواجدهم بدوائر السلطة، فإنّ تفاهمهم مع أطراف أخرى داخل السلطة يتطلب -بدون شك- وقتًا. وهذه الأطراف الثلاثة وإن كانت تلتقي عند محور الاستقرار في رُؤَاها السياسية، إلا أنها تختلف في النظر إلى قضية الإصلاح السياسي من حيث ماهيته وأدوات تحقيقه على أرض الواقع.

"الإصلاح في ظل الاستقرار" معادلة اجتماعية وسياسية

لا يمكن فصل تجربة العدالة والتنمية من حيث دراسة السياق التاريخي لفكرة الإصلاح في ظل الاستقرار عن تجربة حكومة التناوب التي تزعَّمها عبد الرحمن اليوسفي نهاية التسعينات، إلا أنه لم يتوفر لها السياق الاجتماعي والسياسي والإقليمي الذي يحكم تجربة حزب العدالة والتنمية، الذي استفاد من تحوُّلات إقليمية وداخلية كبيرة دفعت الملكية باتجاه تبنِّي عدد من التغييرات، وأحسن من خلالها حزب العدالة والتنمية قراءة تلك اللحظة السياسية لولوج عالم السلطة. أما على المستوى الاقتصادي فلم تتمكن تجربة التناوب السابقة من تحقيق إنجازات اقتصادية والاستفادة من المداخيل المالية الكبيرة التي وفّرتها سياسة الخصخصة في القطاع العام، لكنها بقيت تمتلك رمزية في المشهد السياسي والحقوقي المغربي، رغم الانتكاسة السياسية التي أعقبتها بعودة التكنوقراط على حساب السياسيين.

في الحالة المغربية لم يكن خيار الإصلاح في ظل الحفاظ على الاستقرار اختياريًّا فقط، فقد أملته الظروف والسياق الاحتجاجي الذي كان له سقف واضح من حيث طبيعة المطالب السياسية والاجتماعية للناس، وهذا يشير إلى مضمون اجتماعي مهم، وهو المطالبة بالتغيير في حدود المحافظة على النظام، وهو مُعطى يدل على أن "الإصلاح مع الاستقرار" كان وعيًا اجتماعيًّا قبل أن يكون مطلبًا سياسيًّا، وقبل أن يكون كذلك تنظيرًا يخص جزءًا من الطبقة السياسية. ومعطى الوعي الاجتماعي هذا قد أربك حسابات عددٍ من القوى السياسية من الإسلاميين مثل العدل والإحسان ومن غيرهم في تلك اللحظة، سواء تلك التي انسحبت من الحراك عام 2011، أو التي ظلت تنزل إلى الشارع لفترة معينة.

إضافة إلى دور المعطى الاجتماعي المغربي الذي نادى من خلال الحراك عام 2011 بالإصلاح في ظل الاستقرار، فإن فلسفة الإصلاح والاستقرار استفادت من وجود هامش واسع لدى الملكية لإيجاد توافقات سياسية تحفظ توازن أداء مؤسسات الدولة، أثناء عملية إدخال الإصلاحات السياسية والقانونية في بنية النظام وَفْق منطق متدرج لا يؤدي إلى إرباك هذه المؤسسات. لقد اشترك في العملية الإصلاحية في التجربة المغربية، الملكية والمجتمع والفاعلون السياسيون، وفقًا لمنطق التراكم والاستمرار والشراكة التي لا تعني بالضرورة التساوي في الصلاحيات والمواقع.

بعد أربع سنوات من تجربة الإسلاميين الإصلاحيين في السلطة برز معيار تتبناه رؤية حزب العدالة والتنمية لقياس نجاح خط "الإصلاح في ظل الاستقرار"، ويتمحور حول المنجزات الاقتصادية التي تم تحقيقها، وبشكل خاص في المجال المتعلق بـ"الحكامة الجيدة" وكيفية التعامل مع الفساد. غير أن أحد التحديات الأساسية التي تواجهها معادلة الإصلاح في ظل الاستقرار هي الاعتقاد بكفاية الإنجازات الاقتصادية، والقبول بأقل قدر من الإصلاحات السياسية في مقابل الحفاظ على الاستقرار، وتركيز المشروع الإصلاحي كله حول قاعدة الإنجاز الاقتصادي، وحل المشاكل الاجتماعية؛ إذ عاجلًا أو آجلًا سيكون الجواب عن سؤال الإصلاح السياسي أمرًا ملحًّا. وهو ما وجدت بعض التجارب القريبة نفسها مدفوعة إلى القيام بإصلاحات تمسّ بنية الدولة سياسيًّا.

لا شك أن عنصر الاستقرار الذي صار محورًا لجاذبية المغرب اقتصاديًّا، سيكون فاعلًا وموجِّهًا للسلوك السياسي المغربي مستقبلًا. وهو عنصر يفترض أن يقلِّل من فرص وفعالية أي اتجاهات مُغامِرة بتوازنات الدولة بشكل غير محسوب من الفاعلين السياسيين. فلم يعُدْ مفهوم الاستقرار مقتصرًا على البُعد السياسي، إذ هو في عمق المعايير الفاعلة اقتصاديًّا.

إن الحاجة الاقتصادية والسياسية لعنصر الاستقرار يفترض أن تدفع كل الأطراف السياسية والفاعلين الاقتصاديين إلى تقبُّل مستويات من جرعات الإصلاح السياسي، وإن على مَضَضٍ؛ بسبب التكلفة الاقتصادية العالية لغياب الاستقرار السياسي والاجتماعي. وبهذا المعنى يصبح عنصر الاستقرار ممهدًا وموجهًا لعملية الإصلاح السياسي، الذي قد ترفضه أطراف وقوى عديدة بالنظر لتضاربه مع مصالحها الحيوية التي راكمتها عبر الزمن.

تحديات صعبة لمعادلة الإصلاح والاستقرار

هنالك جرعات من الإصلاح السياسي شهدتها المغرب منذ عام 2011 بدأت بإنجاز دستور جديد. ومع ما يحتويه من مضامين سياسية ذات أهمية لتحديث وتطوير منظومة الحكم، إلا أن ذلك لم يمنع من تركيز الجدل طيلة السنوات اللاحقة لإنجاز الدستور حول الشقّ المتعلق بالصلاحيات، باعتبار أن وضع الصلاحيات والأدوار السياسية بين الملك وباقي المؤسسات لم يصل بعدُ إلى صورته المطلوبة.

لا تنتمي مسألة الصلاحيات المتعلقة بالملك أو رئيس الحكومة فقط لمجال تنظيم الفعل الدستوري، وإنما تحمل أبعادًا تنافسية وصراعية داخل منظومة الحكم، تنطوي على احتمالات النجاح والفشل في العملية التوافقية برُمَّتها. وهي ليست عملية أحادية تقوم بها الحكومة بمعزل عن الفاعلين الآخرين، كما أن المعطيات الخاصة بإدارة الصلاحيات تختلف حسب النظر إليها من موقع السلطة، أو من موقع المعارضة، أو من موقع التنظير السياسي.

من حيث الأهمية هنالك محطات أساسية تتعلق بالإصلاح السياسي، أهمها المنهجية السياسية التي تم بها إدارة الانتخابات البرلمانية عام 2011، ثم الصورة الجديدة للعلاقة بين مؤسسات الدولة، وعلى رأسها العلاقة بين الملكية ومؤسسة رئاسة الحكومة، وما تفرزه هذه التجربة من تقاليد سياسية يُعتبر كثير منها جديدًا على الممارسة والثقافة السياسية في المغرب.

وارتباطًا بالتحليل السابق، هنالك سؤال يتطلب إجابات من الأطراف المتشبثة بفكرة "الملكية الأقل تنفيذية"، وهو هل يتوقف تطوير البناء السياسي المغربي على التوصُّل إلى إيجاد ملكية برلمانية أم تنفيذية؟ يبدو أن محور الإجابة عن هذا السؤال يتمثل في مدى جاهزية وقابلية المجال السياسي المغربي والفاعلين بداخله على التعامل مع أدوار وصلاحيات أقل للملك. وما هي التداعيات الممكنة لمثل هذا الوضع؟ خصوصًا أن ممارسات سياسية لكثير من الفاعلين السياسيين ما زالت تشي بعدم استيعاب -على الأقل- المتغيرات التي عرفها المغرب بعد عام 2011، وغير قادرة على تكييف سلوكها السياسي بما يتناسب مع المشهد الحالي. وإذا تأملنا سلوك المعارضة -على سبيل المثال- فهي تُبدي كثيرًا من ضعف التكيُّف والقابلية لتنزيل مضامين الدستور الجديد، وكذلك في ممارسات بعض الأطراف الحكومية؛ فسلوك الفاعلين ما زال يعكس الحاجة إلى تطوير الأداء والخطاب السياسي وتأهيل الحقل السياسي برُمَّته.

قوى متضررة من الإصلاح وأخرى يطرح عليها تحديًا

اختارت القوى المتضررة حيال المسار الإصلاحي البطيء سياسيًّا، إيجاد معارك مختلفة، وبشكل خاص من بوّابة منظومة القيم الثقافية والاجتماعية، وخلق كثير من الجدل الاجتماعي حول قضايا الهويّة، التي تعتبر قاعدة لخلق استقطاب اجتماعي يعقبه عادةً استقطاب سياسي تنقسم خلاله خيارات المجتمع. وقد ظهر مدى تأثير وقدرة عنصر الاستقطاب الاجتماعي في إضعاف مشاريع التحوُّل السياسي في المنطقة العربية، بعد أن يجعل خيارات الناس السياسية تبعًا لخياراتهم الأيديولوجية، وليس على أساس طبيعة المشاريع السياسية ومدى قدرتها على حل مشاكل الدولة والمجتمع.

ويرجح أن تشهد المرحلة القادمة مزيدًا من المعارك حول هذا المحور، باعتبار أن معارك الهوية هي الأكثر إحراجًا وإبرازًا لتناقضات الإسلاميين الإصلاحيين بإظهار عدم قدرتهم على مواجهتها أمام مناصريهم ومعارضيهم على السواء. وهو ما عكسه -على سبيل المثال- النقاش والجدل في مواقع التواصل الاجتماعي حول ما وُصِف بأنه تجاوزات أخلاقية لإحدى القنوات الإعلامية بالمغرب بعد عرضها مشاهد وُصِفت بأنها مخلّة، في سهرة غنائية ضمن إحدى فعاليات مهرجان فني سنوي مثير للجدل السياسي والاجتماعي.

سياسيًّا هنالك سعي إلى إعادة بناء تحالفات سياسية تأثرت بفعل حراك عام 2011 تمهيدًا للانتخابات القادمة البلدية والبرلمانية لاحقًا. والمتتبع لتصريحات أمين عام حزب العدالة والتنمية يدرك وجود تحركات لعودة قوى سياسية أضرَّ بها واقع ما بعد عام 2011؛ لتأمين ما أمكنها من مواقع تتيح لها مواجهة مشروع الإسلاميين، وهي تمتلك رؤية مغايرة للاستقرار، لكن من خلال ممارسات سياسية تنتمي لمرحلة ما قبل 2011. وقد تمكّنت من التأثير في قوى سياسية أساسية، بما أدى إلى إفقادها استقلالية المشروع السياسي وتحوُّلها تدريجيًّا إلى قوى مُلحَقة بمشروع مواجهة إسلاميي الحكومة، مثل حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال اللذيْن يشتركان في نفس الخط المعارض لخطة الإصلاحيين الإسلاميين.

لدى عدد من قوى المعارضة تقدير بأن الإصلاحات السياسية وتنزيل مضامين الدستور الجديد لعام 2011 لا يخدم مصالحها على المدى البعيد، وهي ضد الإصلاحات سواء الاقتصادية التي تقوم بها الحكومة، أم مساعي ترسيخ ثقافة سياسية جديدة مثل طبيعة ودور مؤسسة رئاسة الحكومة التي تعرف تقاليد جديدة في كثير من ممارساتها. وقد راهن كثيرون في المعارضة على تأثر الاتجاه الإصلاحي عقب رحيل أحد منظِّري هذا المسار ورموزه الأساسيين الوزير عبد الله بها، وحدوث خلل في توازن أمين عام حزب العدالة والتنمية عبد الإله بن كيران على مستوى الأداء السياسي. وقد ظهر بعض من ذلك من خلال الطريقة التي واجه بها رئيس الحكومة المعارضة في البرلمان في إحدى الجلسات الصاخبة التي أثارت كثيرًا من الجدل حول نوعية الخطاب السياسي الذي استخدمه رئيس الحكومة والمعارضة على حد سواء، لكن يبدو أنها كانت سحابة عابرة.

هذه القوى تتأثر سلبًا بمسار "الإصلاح في ظل الاستقرار" الذي يقوِّض نفوذها الاقتصادي والسياسي، وقد كانت قُبيل الاحتجاجات الاجتماعية لعام 2011 تصوغ المشهد السياسي وَفْق رؤية تسعى للاستفراد وإقصاء الإسلاميين من العملية السياسية وإضعاف باقي الفاعلين السياسيين. ولم تكن هذه القوى التي يعتبر كثير من رموزها من المقربين من السلطة لتخرج من المشهد السياسي، لكنها خرجت من بعض مواقع السلطة، في حين تبقى مؤثِّرة لتواجد عددٍ من رموزها الفاعلة في بنية نظام الدولة وفي خياراتها السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية. وهي مواقع تتيح لها المناورة من بوّابة معارضة الإسلاميين الذين يقودون الائتلاف الحكومي الحالي.

في نفس السياق حدثت تحولات سياسية مهمة في مسار أهم أحزاب المعارضة التاريخية مثل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وقد كانا تاريخيًّا نهاية التسعينات قُطْبَي عملية التناوب السياسي التي نتجت عن التفاهم مع الملك الراحل الحسن الثاني، وتبنَّيا مبكرًا مطالب إصلاح الدستور ومنظومة الحكم عمومًا. وهي نفسها الآن التي تعمل في تماهي مع القوى التي نادت الاحتجاجات عام 2011 بمحاسبة عدد من رموزها، على إرباك المنطق الجديد لعلاقة الملكية بالمشهد السياسي، والعلاقة بين مؤسسة رئاسة الحكومة والمؤسسة الملكية، وإقحام الملك في جزئيات العمل الحزبي. وكان آخرها الشكوى التي تقدَّمت بها هذه الأحزاب للملك ضد رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران، تتهمه بتوظيف الملك في خطاباته السياسية، وطلبها التدخُّل الملكي في هذا الأمر.

من القوى التي يطرح عليها خط "الإصلاح في ظل الاستقرار" تحديًا حول مفهوم وأدوات التغيير السياسي التي أسست لها، ومدى قدرتها على الإجابة على التحولات الجارية، هي جماعة العدل والإحسان. وقد أتاح لها الحراك الاجتماعي عام 2011 -كما أتاح لحزب العدالة والتنمية ولغيره من القوى- الفرصةَ لامتحان مفاهيمها ورؤيتها التغييرية في التعامل مع تلك التحولات التي عرفها المغرب وغيره في المنطقة العربية. وعملت جماعة العدل والإحسان بداية على مسايرة الخط المتصاعد للاحتجاجات، لكنها انسحبت منه في النهاية؛ لإدراكها السقف والحدود التي وصلتها مطالب المجتمع، وهو ما طرح عليها تحديًا بالنسبة لرؤيتها التغييرية؛ فلا هي مضت في الخط الثوري وتحمَّلت نتائجه حتى النهاية، ولا هي تبنَّت الخط الإصلاحي بنتائجه أيضًا، لتستقر على معادلة "التردد السياسي"، مع ما يعنيه من انتظارية سياسية قد يطول أمدها، وبقائها بعيدة عن المعطيات المتعلقة بالحكم والسلطة؛ نتيجة خيارات التهميش الذاتي الذي إذا صادف رغبة في إبعادها لدى أطراف في الدولة، فإن الجماعة لا تكذِّبه من خلال طرح مبادرات سياسية فعليّة في اتجاه المشاركة؛ لاعتقادها بأن "لا إصلاح تحقق في المغرب"(2).

خاتمة

جرعات الإصلاح السياسي الحالية في المغرب مهمة، لكنها ليست كافية، وحتى لا يتغلب منطق البحث عن الاستقرار على منطق الإصلاح فسيظل هنالك حاجة لمزيد من الإصلاحات. ومن دون شك فإن الانتخابات القادمة تمثِّل مناسبة مهمة لاختبار المنحى الإصلاحي، وقياس المدى الذي وصل إليه. وتبقى المهددات الحقيقية لمعادلة الاستقرار والإصلاح تتمثَّل في تأخُّر الحلول الاقتصادية الكبرى لمعالجة هشاشة المجتمع، ذلك أن التركيز على عنصر الاستقرار فقط على حساب الإصلاح قد يُربِك المعادلة بأكملها.

لقد أسهم مسار الإصلاح والاستقرار في تشكيل وترويج فكرة "نموذج مغربي"، وأضاف جرعات من المصداقية على العمل السياسي؛ أدت إلى ارتفاع منسوب التسييس بالمجتمع بشكل ملحوظ. لكن فشل هذا المسار يعني بالضرورة بروز سيناريو الاضطراب، وتوقف مسار التحسُّن والتعافي الاقتصادي.

ورغم أن أحد المؤشرات المهمة في قياس مدى الاستقرار هو تراجع مستويات الاحتجاج في القطاعات الحكومية في السنوات الأخيرة من جهة، وفي الحالة الأمنية المستقرة في الجبهة الداخلية، نتيجة الكفاءة الواضحة لجهاز الاستخبارات وقدراته الاستباقية في منع أي اضطرابات أمنية، إلا أن التجربة المغربية باتت في حاجة إلى حزمة إصلاحات جديدة، والرفع من وتيرة القرارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الداعمة لمسار الاستقرار؛ في وقت يبدو فيه أن المنطقة العربية مُقبِلة على منعطفات شديدة الاضطراب من الناحية الأمنية.
____________________________________
كمال القصير - باحث في مركز الجزيرة للدراسات- مسؤول منطقة المغرب العربي.

مصادر
1- قراءة في عوامل نجاح التجربة الإصلاحية المغربية الراهنة، موقع أخبارك.
http://www.akhbarak.net/news/2015/02/10/5876363/articles/17702773/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D9%88%D8%A7%D9%85%D9%84-%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%86%D8%A9
2- العدل والإحسان المغربية: لا إصلاح مع وجود الاستبداد، موقع عربي 21، بتاريخ: 23 يونيو/حزيران 2014.
http://arabi21.com/story/757614/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%A7-%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%85%D8%B9-%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%AF

نبذة عن الكاتب